يذكر الله جل جلاله مننه على نبيه ورسوله موسى عليه السلام، فكما أنه كلمه وشرفه واستجاب دعوته وحقق رغبته في جعل أخيه هارون نبياً معه ووزيراً، يقول الله له: ولقد فعلنا بك ذلك قبل أن تخرج لهذا الوجود، وقبل أن تلدك أمك، وبعدما ولدتك أمك وكنت رضيعاً، وعندما صرت غلاماً يافعاً، وعندما تركت مصر خائفاً، وعندما ذهبت إلى أرض مدين، فابتدأ الله بقوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37].
وهذه المرأة الأخرى كانت قبل سنين، وكانت هي الأصل من حيث العدد لا من حيث الترتيب الزمني.
فقوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:37-38].
كان المن والإكرام، وكان الحفاظ والرعاية والعناية وهو لا يزال في بطن أمه، ثم عند ولادته، وكيف كان ذلك؟ قيل لفرعون الطاغية: إن بني إسرائيل يعتقدون أن منقذاً سيولد لهم، وقد كانوا يظنونه يوسف، وإذا بهم ينتظرونه هذه الأيام ويقولون: سيكون هلاك ملكك وإزالة سلطانك على يده.
فإذا بفرعون يقرر أن يقتل كل وليد يولد لبني إسرائيل منذ اليوم الأول، وإذا بقوم فرعون لا يقبلون ذلك منه، وردوه عليه وقالوا: إذاً يهلك بنو إسرائيل وهم عبيدنا وخدمنا، فمن يتولى خدمتنا بعد فنائهم؟
فاتفق معهم على أن يقتلهم عاماً ويتركهم عاماً، فولد قبل موسى هارون في العام الذي لا يقتل فيه الأطفال من بني إسرائيل، وإذا بموسى يولد في العام الذي يقتل فيه أطفال بني إسرائيل، فمنذ حملت أمه به واسمها مريم ، وكانت من فضليات المؤمنات العابدات من بيت النبوءة من بني إسرائيل، فعندما حملته وتوقعته ولداً ركبها من الغم والهم ما الله به عليم.
وإذا بالخوف الذي كانت تخافه أم موسى قد تحقق، فولدت ولداً، وكان الذباحون يتنقلون بين الأزقة والدروب لقتل كل من يبلغهم أنه ولد لبني إسرائيل.
قوله: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:38].
قال جمع من المفسرين: المعنى: إذ ألهمنا أم موسى ما ألهمناها، ووفقناها لما وفقناها.
ولا حاجة لهذا التكلف، فنقول: أوحى الله لها وهي نبية وليست برسول، والعمل الذي عملته لا يكفي فيه الإلهام، فلو جاءنا إنسان وقال: سألقي هذا الولد في البحر، فلو مات الطفل لقتلناه به ولو ادعى أنه ألهم.
إذاً الإلهام لا يصل إلى أن يهلك بسببه ويمات بسببه ويدمر بسببه، والذي منع الله منه أن تكون المرأة رسولاً، فإن الله جل جلاله لم يوح لامرأة أن تكون رسولاً إلى الناس، وأما النبوءة والوحي الذي لا رسالة فيه ولا تكليف معه فلا مانع يمنعه، وقال بذلك جمهور من علماء العقائد وعلماء الكلام وعلماء التفسير في شريعة الإسلام.
أوحي إليها أن تأخذ طفلها ووليدها وأن تجعله في تابوت، وأن تغلق سداده وشقوقه بإحكام حتى لا يتسرب له الماء، وهو لا يطول بقاؤه في الماء.
فأخذت الوليد وصنعت له تابوتاً وقذفته في بحر النيل، وما كادت تفعل حتى لم يبق لها فؤاد، وأصبح فؤادها فارغاً، حتى لقد كادت تبدي به وتظهر سرها من ولهها على وليدها، وأن تعلن أنها قتلت الوليد وقذفته في البحر، فألهمها الله الصبر، وأوحى إليها بأن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في اليم.
قوله: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طه:39].
هذا إخبار من الله أنه عندما أوحى إلى أم موسى أن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في البحر أنه سيقذفه بعد ذلك اليم في ساحل البحر، وكان قصر فرعون على ساحل بحر النيل، وإذا به على الشاطئ ومعه زوجه آسية بنت مزاحم وجوار من القصر، وإذا به يرى الماء آتياً بتابوت متجهاً إلى شاطئ قصره فأمر بفتحه، وإذا به يجد طفلاً جميلاً أحبه من أول نظرة إليه، وقد قال الله له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39].
قوله: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه:39].
وكان العدو الذي أخذه هو فرعون، فهو عدو لله بكفره، وعدو لموسى بظلمه واعتدائه على قومه، قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي . [طه:39].
لولا هذه المحبة لقتله فرعون عندما وصل إليه، لأنه يجد أنه من أطفال بني إسرائيل قذفوه لعله يقع في يد من يعتني به ويصونه عن القتل فيقتله، ولكن الحب الذي ألقي على موسى وهو لا يزال طفلاً كان سبباً في كف يد فرعون عن قتله وذبحه وإيذائه وظلمه وهو لا يزال طفلاً لا يستطيع الكفاح ولا الدفاع عن نفسه.
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39].
أي: ولتنشأ ولتكبر ولتربى ولتعيش طفلاً ورضيعاً وحابياً ويافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً على علم الله وعنايته ورعايته وحفظه، فكان من تمام رعاية الله أن ربي هذا الوليد وغذي في بيت عدوه الذي يخاف من قدومه، والذي أمر بذبح الأطفال بسببه، ولكن الله ساقه حيث سيحفظه عدوه بنفسه.
وكيف كان ذلك؟ فموسى عندما تركه فرعون ولم يذبحه ألقيت محبته في نفس آسية بما يزيد أضعافاً على حب فرعون له، وكانت آسية عقيماً لا تلد، فاستلمت الولد وتبنته ورعته وأخدمته وبعثت له المرضعات وإذا به لم يقبل ثدي واحدة منهن حتى خافت هلاكه وموته، وإذا بالأم الحنون التي فرغ فؤادها من الصبر أرسلت أخته وقالت لها: تتبعي آثاره وانظري أين سيصل به النيل، وهكذا فعلت وأدركت أنه وصل إلى شاطئ الفرع الذي يكون باتجاه قصر فرعون، فأخذت تنتظر من بعيد ماذا ستكون النتيجة؟
وإذا بها تسمع الناس يدخلون ويخرجون والمرضعات يدخلن ويخرجن، وكل واحدة تخرج متأسفة متألمة لعدم قبولها في رعاية ابن فرعون التي كانت تنتظر خدمته، وإذا بأخت موسى تتقدم إليهم وتقول لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12].
قالوا: وما أدراك بنصحهم؟ قالت: أليس الوليد رضيع فرعون؟ أليس كل الناس ترجو رعايته؟ فهؤلاء كذلك، فذهبوا معها إلى البيت وجاءوا بالأم فدخلت على آسية زوج فرعون فمدت إليه بثديها وإذا به يبادر لامتصاصه وأخذه بكلتا يديه، فقرت عين الأم، وسرت آسية كما سر فرعون، وبهذه الفرحة نسوا أن يتساءلوا: هذه التي ترضع ألها وليد ترضعه، وأين هو، ومن هي؟ فنسوا ذلك وأغفلوه ليحفظ الله موسى من بطشهم.
والحذف في القرآن يكون فيما يدل عليه السياق كما يقول إمام النحاة ابن مالك في الألفية:
وحذف ما يعلم جائز.
ومعنى ذلك: أنها عرضت عليهم من ترضع فوصلت فأرضعته فاكتفوا، وكان بذلك قد رجع الولد إلى أمه فزال حزنها وزال غمها، وجمع الله الشمل في أسرع وقت.
قوله: وَلا تَحْزَنَ [طه:40].
أي: لا تحزن عليك، ولا تحزن كيف ستحفظك وتصونك وترضعك، ولو لم يكن الذي تم قد تم فستبقى خائفة من جواسيس فرعون أن يبلغوا عنها، فيرسل من يذبح الوليد.
وقد رزق الله أم موسى فأعاد إليها ولدها وأعطاها أجرتها على إرضاع ولدها فهي التي ترضعه وتأخذ أجرة على إرضاعها له.
قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ [طه:40].
يذكر الله منَّه وإفضاله على موسى ليزداد شكراً لله، ويزداد عبادة لله، ويزداد طاعة لله، وهو يعدد عليه مننه وأياديه وإحسانه من مكالمته ونبوءته واستجابة دعوته في نبوءة أخيه وإنجائه من ذبح فرعون وعودته إلى أمه لترضعه، ثم قتل نفساً فاهتم وحزن وخاف من فرعون أن يقتله به، فقال: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ [طه:40].
بأن فررت بنفسك وذهبت إلى أرض مدين فقابلك شعيب وقال: لقد أمنت فلا حكم لفرعون هنا، وأزال خوفك وهلعك، وعدت من الفقر إلى الغنى، ومن الانفراد إلى الزواج، ومن كونك لا ولد لك إلى الولادة والذرية؛ كل ذلك قد أكرمك الله به.
قال: استقبل اليوم يا ابن جبير، فإن حديثها طويل، ولا تكفي فيها هذه الفترة من العشي.
ومع الصباح الباكر جاءه سعيد وقال: أنجز وعدك، والقصة رواها النسائي في سننه وحكم عليها بالغرابة وأن أكثرها إسرائيليات مروية عن كعب الأحبار ، والمرفوع منها قليل وهو مذكور بنص القرآن.
قال ابن عباس : وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40] جمع فتنة، والفتنة الابتلاء والاختبار وكما تكون الفتنة بالشر تكون الفتنة بالخير، كما قال ربنا جل جلاله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35].
فكل ذلك فتنة، وقد فتن أحمد بن حنبل رضوان الله عليه بالمحنة وفتن بالضرب والسجن فتقبل ذلك راضياً، وبعد ذلك فتن بالمال وبالجاه، وفتن بتقرب الخلفاء، فوجد في نفسه ألماً، ومال بعض أولاده للخلفاء فهجرهم وقاطعهم.
والفتنة هنا كانت لموسى مجموعة من البلايا والمحن، فلا تكاد تنتهي فتنة حتى تأتي فتنة أخرى، وفي كل تلك الفتن ينجيه الله جل جلاله ويبعده عنها وينقذه منها.
يقول ابن عباس : وكان أول ذلك عندما قيل لفرعون: إن بني إسرائيل ينتظرون منقذاً ينقذهم من طغيان فرعون فأمر فرعون بقتل كل من يولد لهم، وبعد ذلك اصطلح معه قومه على أن يقتلهم عاماً ويستحييهم عاماً، فولد موسى في العام الذي يقتلون فيه، وكانت فتنة للوليد وهو لما يخرج للدنيا بعد، فأنقذه الله وأزال فتنته، وأوحى إلى أمه أن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في البحر، وأن البحر سيقذف به إلى ساحل فرعون، وهكذا بقي عند فرعون زمناً.
وذات يوم أراد فرعون أن يداعب الوليد فأجلسه على حضنه، فأخذ بلحيته وجره إليه حتى آلمه، وإذا بفرعون يقول: لاشك أن هذا من أعدائي بني إسرائيل، أين الذباحون؟ فنودي بهم وكادوا يذبحونه لولا تدخل زوجته آسية ، وانتهت القصة بأن يمتحن على طفولته، فأتي بجمرة ولؤلؤة، فأخذ الجمرة فوضعها على رأس لسانه فأحرقت لسانه وجعلت فيه عقدة تدعه بذلك ذا عاهة دائمة، ولذا عندما كلمه ربه وأرسله إلى فرعون وهامان وقارون وقومه من بني إسرائيل: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28].
وكان قد وجد إسرائيلياً وقبطياً في خصومة ومضاربة، وإذا بالإسرائيلي يستنصره على القبطي فوكزه موسى فقضى عليه، أي: ضربه موسى ضربة كانت سبباً في موته والقضاء عليه.
فجاء من بلغه أن القوم يأتمرون به ليقتلوه، ونصحو بأن يفر ويترك البلد، فذهب وهو خائف يترقب ويتحسس هل هناك من يتبعه أو يلحقه؟ إلى أن وجد نفسه في بئر يستقي الناس عليها في أرض مدين، ووجد امرأتين تذودان تريدان أن تسقيا غنمهما، فسقى لهما ثم أوى إلى الظل، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
وبعد برهة جاءت إحدى البنتين اللتين سقى لهما: تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
وذهب موسى إلى شعيب وتعرف إليه فقال له: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، فهذه الأرض ليست تحت حكم فرعون.
ثم فاوضه على أن يكون أجيراً له لمدة ثمان سنوات يرعى له غنمه مقابل تزويجه بإحدى البنتين، وقال له: إن أتممت عشراً فمن عندك، فزاد العشر وأتمها، ثم خرج بزوجته، وضل الطريق وكان البرد شديداً، وكانت المرأة حاملاً، وإذا به يرى ناراً من بعيد في جبل الطور، فجاءها يريد جذوة يستدفئ بها وزوجته لتذهب عنهما شدة البرد، وإذا به ينادى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12].
يقول ابن عباس : وهكذا كانت المحن والفتن آخذ بعضها برقاب بعض.
وبعد ذلك فر من فرعون بقومه، وأوتي العلامات التسع والآيات التسع ودخول البحر وغرق فرعون، وامتناع أتباعه من أن يعملوا عملاً، ثم بعد ذلك ردة من ارتد من السامريين ومن أكثر قومه عندما ذهب لميقات ربه أربعين يوماً، وكانت في الأرض ثلاثين، فقالوا إن موسى أخلف وعده، وهكذا كانت أيام موسى كلها فتن آخذ بعضها برقاب بعض، ولكن العاقبة للمتقين والنصر لموسى.
أي: فلبثت بعد ذلك يا موسى سنين في أهل مدين، أي: أقمت إلى أن بلغت سن الأربعين، والنبوءة عادة تأتي الأنبياء وهم على رأس الأربعين.
ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، جئت على موعد بيني وبينك قدرته في الأزل، ولم يكن لموسى علم، ولكن القدر الذي قدره الله في تنبيء موسى وإرساله إلى فرعون كان موافقاً لخروجه من عند شعيب.
قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41].
أي: اخترتك لتبلغ عني رسالتي وأوامري ونواهي، وأنشأتك وربيتك كما أريد أدباً وحسن سلوك وأخلاق ورسالة ونبوءة وعبادة وطاعة ودعوة إلى الله.
فهيأه الله جل جلاله ليكون المبلغ عنه كما صنع بجميع الأنبياء، فكانوا رسلاً إلى الناس كل منهم إلى قومه، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل إلى الناس كافة، ولا نبي بعده.
أي: وبما أني اصطنعتك لنفسي فاذهب أنت وأخوك لتبليغ رسالتي.
وكانت آياتهما من آيات الله ودلائله وقدرته في العصا وفي اليد، وفي الضفادع والقمل والدم، وفيما سلط الله على فرعون وقومه منذ أرسل لهم موسى وهارون إلى أن غرق في النيل هو وقومه.
فقوله: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي [طه:42].
أي: بدلائلي ومعجزاتي على صدقكما.
وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42].
أي: ولا تضعفا ولا تملا ولا تعجزا ولا تتراخيا عن ذكري.
أي: قولا لفرعون قولاً ليناً لطيفاً ولا تعنفا عليه ولا تقولا له قولاً جارحاً مؤلماً، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
وقد قال يحيى بن معاذ : هذه رحمة الله لمن قال: أنا إله، فكيف برحمته لمن قال: أنت الإله وأنا العبد!
أرسلهما نبيين كريمين إلى الطاغية المتأله، ومع ذلك وجههما أن يقولا له كلاماً ليناً مهذباً بأن يكنياه مثلاً: يا أبا فلان وأن يقولا له أنت لم تقصد سوءاً ولكنك جهلت الحق، فنحن رسولا ربك إليك جئنا لخيرك وجئنا لسعادتك وجئنا لتعليمك، فاقبل منا تسعد في الدنيا والآخرة.
وقد قال المفسرون: وعد موسى فرعون بأن يحفظ الله عليه شبابه ما دام حياً، وأن يبقى ملكاً ما دام حياً، وأن يمتع بلذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنكح، ومع ذلك أبى وتمرد وطغى ففقد دنياه وآخرته.
قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
أي: لعله يفكر ويعود إلى نفسه فيراجعها في ادعاء الألوهية، فيخشى الله ويخشى العواقب، ويخشى النار التي أنذره بها موسى وهارون.
كان لا يزال خوف فرعون متمكناً من نفس موسى وهارون، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].
أي: أن يفرط بأن يبادرهما بالعقوبة وبالبطش وأن يبادرهما بالقضاء عليهما بالقتل، أو أن يطغى بتجاوز الحد في عقوبتهما والتمثيل بهما بعد ذلك.
فكان جواب الله لهما: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
أي: لا تخف يا موسى، ولا تخف يا هارون؛ إنني معكما بسمعي، إنني معكما بتسديدي لكما عندما تتكلمان وتسألان أو تجيبان، أو ترغبان أو تهددان، فأنا معكما بالتسديد ومعكما بالتوفيق ومعكما بالحفظ، فأنا أراكما وأرى الذين معكما فأحفظكما من طغيان وجبروت وإفراط وظلم وفرعون.
قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47].
قال الله لهما: اذهبا إليه وادعواه إلى الله وعبادته وقولا له: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه:47].
أي: جئناك رسولين عن ربك نبلغك أمره ونهيه، ونبلغك تهديدك بالبطش بك إن بقيت على عنادك وطغيانك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر