إسلام ويب

تفسير سورة مريم [16-21]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى قصة مريم حين اعتزلت قومها وتفرغت لعبادة ربها، فجاء رسول ربها يبشرها بغلام كريم، ففزعت من ذلك الرسول الذي يدخل عليها فجأة، فلما هدأت بشرها بغلام زكي، وهو عيسى عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم ...)

    قال الله تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:16-17].

    كنا مع زكريا عليه السلام ومع ابنه يحيى حين استجاب الله دعاء الوالد على كبر سنه وعقر زوجته، ورزقه الله الولد كما طلبه، فكان ذلك من علامات قدرة الله في مخالفة العادة والإتيان بكل ما لا يخطر على بال، ولا يقدر على ذلك إلا الله جل وعلا.

    أما قصة عيسى فقد قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ [مريم:16] أي: اذكر يا محمد! في القرآن مريم ، ومريم قد مضت قصتها وتحرير خدمتها لبيت الله عندما ولدتها أمها وقالت: إنها نذرت ما في بطنها محرراً للخدمة وللعبادة ولتنظيف بيت الله، ولكنها عندما ولدتها بنتاً أخذت تتحسر وتقول: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].

    فأم مريم جدة عيسى دعت لابنتها ولحفيدها ولد مريم بأن يقيه الله، وبأن يحفظه من نفث الشيطان ووسواسه وإيذائه لبني آدم، فاستجاب الله دعاءها وحقق لها رغبتها، فكانت مريم من القانتات العابدات الصالحات، وآتاها الله ماطلبت حسب رغبتها ورجائها في ربها.

    قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [مريم:16] أي: اذكر يا محمد! ما أنزل الله عليك في كتابه الموحى إليك من قصة مريم عندما انتبذت وابتعدت وانفردت عن قومها في مكان شرقي عن بلد أهلها، وعن مكان تجمعهم وتكتلهم، فاذكر ذلك يا محمد! واتبع ما يتلى عليك عن الأنبياء السابقين من فضائل ومزايا ومحاسن.

    قال تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم:17] .

    أي: عندما اختلت دونهم وابتعدت عنهم واتخذت مكاناً تخلو فيه لعبادة ربها، وجعلت بينها وبين قومها حجاباً من ثوب أو من حائط، أو حجاب البعد عنهم فلا تجالسهم ولا تخوض في خوضهم ولا تشتغل بفسادهم، وإنما هي العبادة لله وحده قائمة راكعة ساجدة.

    قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، فعندما كانت مريم في خلوتها لعبادة ربها أرسل الله إليها شاباً جميلاً أمرد فدخل عليها، فإذا بها تفزع وتنزعج وأصبحت في غاية الهلع، فقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18] أي: يا هذا الذي دخلت علي خلوتي دون إذن مني ولا سابق حرمة أو صلة، لست من محارمي فكيف تبيح لنفسك أن تدخل علي خلوتي وأنا أنثى وأنت ذكر؟ وكان الذي دخل عليها هو روح الله جبريل عليه السلام جاء رسولاً من الله إليها، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17].

    أرسل إليها جبريل بالبشرى وبالأمر الغريب العجيب الذي لم تكن تتوقعه، أرسله إليها بما لم تطلبه ولم تتخذ له سبيلاً ولا طريقاً، فهي ليست كخالتها عقيماً، ولم تتزوج ولم تتشوق إلى ذلك، ومع ذلك رأت هذا الشاب الجميل الأمرد يدخل عليها منتهكاً خلوتها وحجابها.

    فجبريل هو روح الله كما سماه الله، فتمثل لها في صورة بشرٍ سوي تام التقاطيع والحواس، جميل الشكل كامل القامة، وإذا بها عندما رأته خافت وبادرته بالتعوذ بالله منه، فقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18] أي: أتحصن وأتوسل وأستغيث بالله وأجعله مرجعي ومآلي أن يحفظني منك ومما يمكن أن يحصل منك من سوء وشر، فظنته جاء لسوء، أي: ظنته جاء للفاحشة فأخذت تتعوذ بالرحمن منه وتقول: (إِنْ كُنتَ تَقِيًّا) أي: إن كنت ممن يقبل التعوذ والرجاء، وإن كنت صالحاً تؤمن بالله وتبتعد عن الفواحش وعن السوء وعن البلايا.

    قالوا: فعندما سمع جبريل ذلك التعوذ من هذه العابدة الصالحة القانتة اهتز اهتزازاً ارتجت له الأرض حتى عاد لصفته الملائكية، ثم أكد لـمريم أنه ليس ببشر، فلا خوف من ذلك، والملائكة عباد الله المعصومون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون، ولا يلدون ولا يتوالدون من باب أولى، فلما اطمأنت أخذت تعجب بعد ذلك: كيف ستلد وليس لها زوج، ولم تكن بغياً، أي: زانية في يوم من الأيام؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما أنا رسول ربك ...)

    قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19].

    قال لها: لا تخافي ولا تتعوذي مني؛ فإنما جئت إليك رسولاً من ربك أبشرك بأنك ستلدين ولداً يكون نبياً ومعجزة، ويكون علامة من علامات قدرة الله على كل شيء، فأنا لم آت للهوى، ولست بشراً وما بي ذلك، وليس لي قدرة على ذلك، وإنما أنا عبد الله ورسول الملائكة إلى الرسل من الناس.

    اختلاف العلماء في كون مريم وغيرها نبيةً

    من هذه الآية وأشباهها قال من قال بأن مريم كانت نبية؛ إذ جبريل لا يرسل إلا إلى الأنبياء والرسل، وهذا رأي طالما اختلف فيه الأئمة واختلفت فيه المذاهب، ولكن من يقول بأنه قد كان في النساء نبيات أدلتهم ظاهرة من القرآن وقصصه وآياته، ومريم قد جاءها جبريل رسولاً من عند الله، فخاطبها وخاطبته وكلمها وكلمته، وبلغها رسالة ربه فكانت بذلك نبية، وليس من النساء رسول، وفرق بين النبي والرسول، فالنبي عبد لله أمر بشرع في نفسه ولم يكلف بتبليغه للناس، والرسول نبي أمر بشرع وكلف بأن يبلغه لغيره.

    فعلى ذلك فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ومريم نبية وليست برسول.

    قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ [مريم:19] وفي القراءات السبع: ليهب لك، فسواء كان التعبير عنه أو عن ربه فالمعنى واحد، أي: ليهب لها ويعطيها ويكرمها، لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19] أي: تقياً صالحاً ونبياً مباركاً، زكت أخلاقه وأعماله وعباداته وطاعته، وكان من أكرم الناس وأتقاهم وأكملهم، فقالت مريم إذ ذاك بعد أن اطمأنت: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20].

    أي: يا أيها الرسول كيف سيكون لي ولد وأنا امرأة لستُ ذات زوج ولا بغيًّا فأزني، ولم يسبق أن مسني بشر لا بحلال ولا بحرام، والولد لا يتكون إلا من نطفة الرجل وأنا لا أعرف في حياتي زوجاً ولا خليلاً، والخليل لا يليق بي؟!

    فقوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم:20] أي: لم يتصل بي ولم يجامعني رجل بزواج أو كتاب أو عقد، فأنا لا أزال عذراء بكراً (ولم أك بغياً)، ولا يليق بي ذلك، فكيف سيكون هذا الولد ومن أي شيء سيتكون؟!

    وإذا بجبريل يجيب: قَالَ كَذَلِكِ [مريم:21] أي: كما تعتقدين أن الله سيرزقك وسيهب لك غلاماً بلا مس من رجل ولا من حرام ولا حلال، كذلك ستلدين وأنت عذراء ومحسنة وصالحة وبريئة.

    قال تعالى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:21] فكونك ستلدين بلا زوج ولا خليل ولا نطفة رجل فذاك الذي سيحصل، والله قادر على كل شيء وهو عليه هين، وهذا قد مضى في قصة زكريا عندما دعا ربه بأن يرزقه غلاماً على كبر سنه، وعلى بلوغ زوجته السن الفانية، بحيث رق عظمه ووهى، وتساقطت أسنانه، وأصبح جلداً على عظم، وامرأته مسنة عاقر، فلما دعا ربه استجاب له ربه فقال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40]، فقال له جبريل: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9].

    وكذلك يجب أن تعلمي يا مريم أن الله خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وهو قادر على أن يخلق ولداً بلا أب، وذاك من قدرته وبديع صنعته وعالي أمره جل جلاله وعز مقامه، فإذا أراد شيئاً لا يكلفه أكثر من أن يقول له: كن فيكون.

    قوله: (كذلكَ) هذه الكاف ليست من اسم الإشارة، فاسم الإشارة ذا، لكن هذه الكاف تضاف إليها وتكون حسب المخاطب، فإن كان المخاطب ذكراً مفرداً فيقال: ذاكَ، وإن كان المخاطب مذكرين أو مؤنثين فيقال: ذاكما، وإن كان مؤنثاً مفرداً يقال: ذاكِ، وإن كان جمع ذكور يقال: ذالكم، وإن كان جمع إناث يقال: ذالكن، واسم الإشارة بحاله لا يتغير وهو (ذا).

    فهذا الذي تتعجبين منه يا مريم سيكون، فهو من قدرة الله، وأعجب منه أن أباك الأول آدم وأمك الأولى حواء قد كان آدم بلا أب ولا أم، وكانت حواء من أب بلا أم، وهذا سيكون من أم بلا أب، وقدرة الله صالحة لكل شيء جل جلاله، فهو الذي يصنع العادة.

    قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً [مريم:21] أي: علامة على قدرة الله وبديع صنعه، ورحمة من الله للخلق، حيث سيأتيهم فيدعوهم إلى الله الواحد؛ ليفردوه بالعبادة، وليخصوه بالطاعة.

    قال تعالى: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21] أي: سبق ذلك في علم الله وقضائه أنه لا بد منه، وسبق أن قلنا في أكثر من مناسبة: إن اللوح المحفوظ لوحان: لوح من قبل الله لا يراه إلا هو، ولوح من قبل جند الله الملائكة يراه الله وملائكته، فما كان في اللوح الذي من قبل الملائكة فهو الذي يقول الله فيه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، أما اللوح المحفوظ الذي لا يراه إلا هو فيقول عنه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، فاللوح الذي من جهة الملائكة يعتريه المحو والإثبات، ويرد فيه الدعاءُ القضاءَ، ويرده البر والطاعة خاصة دعوة الأبوين عن ظهر غيب، فتزيد السن وتنقص، ويزيد الرفق وينقص، ويتغير ما في اللوح.

    أما اللوح الذي من قبل الله الذي لا يراه إلا هو فهو ما يقول عنه: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، وهو ما حدث في الإسراء النبوي عندما أمر صلى الله عليه وسلم بخمسين صلاة في اليوم والليلة، فعندما نزل إلى موسى قال له موسى: ما الذي أمرك به ربك وأمر أمتك؟ قال: أمرني بخمسين صلاة، قال: ارجع إليه فإن أمتك لا تستطيع ذلك، وبقي يصعد وينزل، والله ينقص له خمساً، ثم خمساً، ثم خمساً إلى أن أصبحت خمساً فقط من خمسين، فقال له عند ذاك: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29] أي: تلك الخمسة هي المكتوبة في أم الكتاب، فاللوح المحفوظ من قبل الله الذي لا يعتريه محو، ثم قال الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: هي خمس في الأداء وخمسون في الأجر والثواب، والحسنة بعشرة أمثالها.

    قال تعالى: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21].

    أي: وكان هذا من القضاء الثابت: أن نفخ جبريل في جيب قميصها نفخة وصلت إلى فرجها ودخلت في رحمها، فكان من تلك النفخة الحمل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767986770