يقسم إبراهيم بالله الكريم، يقال: والله وتالله وبالله، والواو والباء تدخل على أسماء الله في الأيمان والأقسام كلها، تقول: والرحمن، وبالرحمن، والرزاق وبالرزاق.
أما التاء لا تكون إلا في اسم الجلالة الله، فلا تقول: تالرحمن، ولا تقول: تالرزاق.
يقسم إبراهيم بالله ربه وخالقه فاطر السماوات والأرض فيقول: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57].
يقسم بأنه سيمكر بهذه الأصنام، وسيكسرها، وسيبطلها ويزيلها من مكانها.
قوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57] أي: بعد أن يبتعدوا عنها، وتأتيه فرصة وخلوة لينفرد بها ويصنع بها ما شاء.
قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] أي: أدبروا، وتركوا الأصنام في المعبد مفردة دون حارس ولا رقيب، وإذا بإبراهيم يأتيها ويبر قسمه، فينزل عليها ضرباً باليمين.
وتمام القصة في البيان والشرح: أنه كان لـنمرود وقومه عيد سنوي يخرجون إليه كلهم وتبقى الأصنام وحدها ويضعون لها طعاماً، حتى إذا عادوا أكلوا من ذلك الطعام متبركين بها.
فجاء إبراهيم وقد أدبروا عنها، فوجد الطعام فقال للأصنام: ألا تأكلون؟ فلما لم تجب قال لها: ألا تنطقون؟ ثم يحمل الفأس بيده ويأتي عليها ضرباً باليمين، وكانت سبعين صنماً، فنزل عليها وضربها ضرباً بحيث أصبحت قطعاً كما قال تعالى: (فجعلهم جذاذاً)، والجذاذ جمع مفرده: جذيذ كخفاف وخفيف.
وحرف الجيم يثلث: وجُذاذاً وجَذاذاً وجِذاذاً، أي: قطعاً قطعاً وكسراً كسراً، وكل قطعة لا تكاد تبين من شدة التكسير والتحطيم.
فَجَعَلَهُمْ [الأنبياء:58] والتعبير بالجمع باعتبارهم يعبدونها آلهة، وهي عندهم أعقل منهم، فسخر منهم فجعل ذلك كأنه لعاقل بحسب زعمهم.
قوله: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] أي: جاء إلى الصنم الكبير بعد أن كسر التسعة والستين صنماً، وكان الكبير وسطها، وصفوه أنه كان من ذهب، وكانت عيناه ياقوتتان، فجعل الفأس في عنقه وذهب.
لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] أي: لم يكسر الصنم الكبير، ووضع الفأس في عنقه لعلهم يرجعون إليه يسألونه: لم صنعت هذا؟ أو: لعلهم يرجعون لدينه ويؤمنون بربه ويصبحون مسلمين، ويرون أن هذه الآلهة التي عجزت عن حماية نفسها لا تستحق عبادة ولا أن يطلب منها الحياة والموت والرزق والعافية والصحة؟!
لعلهم بعد أن يروا ذلك يرجعون إليه إما مؤمنين أو سائلين؛ ليزيدهم توبيخاً ودعوة وتعليماً.
أي: رجعوا من نزهتهم وعيدهم فذهبوا إلى الآلهة المزيفة وهم يريدون أن يتبركوا بالطعام الذي وضعوه إليها، وإذا بهم يجدونها مكسرة مقطعة؛ فذهلوا وانزعجوا وأخذوا يتساءلون: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59] أي: إنه لمن المجرمين، المذنبين المسيئين.
فبينما هم يتساءلون: من فعل هذا بآلهتهم؟ وإذا بقوم سمعوا إبراهيم وهو يقسم بالله: تالله لأكيدن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين، وسمعوه يعيب آلهتهم ويشتمها ويتنقصها، فأجاب هؤلاء القوم الذين تساءلوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59].
قال آخرون: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].
قال قوم يجيبون المتسائلين: سَمِعْنَا فَتًى [الأنبياء:60] شاباً صغيراً، يقال للصغير من الشباب: الفتى، ويقال للصغيرة من الشابات: الفتاة، ومعنى ذلك: أنه كان شاباً صغيراً عندما صنع ذلك ودعا إلى الله، وهذا يؤكد المعنى الذي قلناه من قبل: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51] آتى الله إبراهيم رشده، آتاه هدايته، آتاه العقل الكامل من قبل أن ينبأ ويرسل، وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] أي: عالمين بأهليته للنبوات والرسالة.
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] يسمونه إبراهيم، ومعنى ذلك: أنه لم يشتهر بعد الشهرة الكبيرة التي تجعلهم يلتفون حوله مؤمنين أو كافرين، فلا تزال دعوته في بدايتها وهو بعد شاب صغير، قالوا: لم يتجاوز ستة عشر عاماً، وقيل أربعة وعشرين عاماً.
قال عبد الله بن عباس : ما أرسل الله نبياً إلا شاباً في الأربعين عند تمام النضج، وما تعلم العلم ويصبح عالماً إلا شاب، وأما بعد الشيب فلا سبيل إلى التعلم، إلا أن يتابع التعلم الذي ابتدأه صغيراً وشاباً.
وطلب العلم من المهد إلى اللحد، والإنسان ما دام حياً يطلب العلم ويدعو الله أن يزيده علماً، والعالم أو طالب العلم الذي يقول: قد وصلت، معناه أنه قد جمد، وإلا فالعلم لا نهاية له، ومهما علمت فالله تعالى جعل فوق كل ذي علم عالماً وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
مهما كنت عالماً فغيرك أعلم منك، ومهما كنت إماماً فغيرك أكثر إمامة منك، وهكذا إلى أن ينتهي العلم في خاتم الأنبياء، وبالنسبة للعلوم البشرية إلى أن ينتهي العلم لصاحب العلم جل جلاله الذي لا يحيط بعلمه أحد من خلقه.
فتى يذكرهم: أي: يعيبهم ويشتمهم ويتنقصهم وينفر منهم.
صدر أمر نمرودهم وجبارهم وطاغيتهم النمرود وأعوانه وأنصاره: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61].
مروا به على الناس ليروه وليكونوا عليه من الشاهدين، أصحيح هذا الذي يذكرهم؟ أصحيح هذا الذي يعيبهم؟ يريد النمرود ألا يسرع بعقوبته؛ لأنه زور في نفسه عقوبة عظيمة لا يكاد يتحملها إنسان.
وهذا يدل على أن إبراهيم كان من بيت كريم، وكان من أسرة لها سلطانها وجاهها، فعقوبته بأشد أنواع البطش لا يتم إذا كان هذا العمل متأكداً ومتيقناً، فقال لهم: مروا به على أعين الناس أي: على مرأى من الناس. لعلهم يكونون شاهدين على ظلمه، وشاهدين على عيبه الأصنام وكسرها وفعله به ما فعلها من جعلها جذاذاً وقطعاً.
حضر إبراهيم وإذا بهم يسألونه: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62].
سألوه وكان من تمام الدعوة أن يحضر الناس من كل فج عميق ليشهدوا هذا، ولتكون المعجزة، ولتكون الدعوة إلى الله من إبراهيم كاملة يحضرها القوم، كما جمع فرعون السحرة والناس من البلاد قاصيها ودانيها؛ ليشهدوا ذله وخسارته، وإيمان السحرة بموسى.
وهكذا هنا النمرود طلب أن يحضر الناس ليشهدوا عقوبته، ويشهدوا عمله، ويكونوا مع ذلك مقتنعين بما يريد أن يصنعه به، ولكن ذلك كان من السر الإلهي، وهو: أن تكون دعوة إبراهيم أمام هذا الملأ من الناس، ليبين ضعف أصنامهم ويعترف بأنه كسرها وقطعها، وإذا بالله الكريم ينصره على الجميع.
ثم إن إبراهيم أراد أن يستخرج الحجة على فساد وبطلان آلهتهم منهم، وهذا في المحاورة والمذاكرة من أبلغ القول في إثبات الحجة بأن ينطق بها الخصم فتلزمه بها.
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] وهو قد جعل الفأس في عنق الكبير، ومعناه: أنهم أحضروه في مكان الأصنام وهي مكسرة قطعاً وجذاذاً، والصنم الكبير في عنقه الفأس، قال إبراهيم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] لقد قال هذا القول وكما قلنا غير مرة: وجود الشرط لا يلزم منه الوقوع. نعم هذا الذي فعل فاسألوه إن كان ينطق، واسألوا مَن كُسر منها إن كانت تنطق.
قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: كذبتين في ذات الله، وكذبة من أجل
والكذبة الثانية عندما ذهبوا لعيدهم وأتوه وقالوا له: يا إبراهيم! اذهب معنا وكانوا قد خافوا على آلهتهم وأصنامهم منه، فذهب قليلاً ثم توقف وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] إني مريض لا أستطيع الذهاب معكم، ولا يحملني بدني، فرجع ليبيت الأصنام ما عزم عليه.
والثالثة: عندما هاجر من العراق إلى الشام، ثم إلى مصر، وعاد للشام، كان جبار مصر لا يكاد يسمع بامرأة حسناء إلا ويطلبها للفاحشة، فقيل لجبار مصر: رجل جاء من العراق معه أجمل النساء، فأرسل إليه وقال: من هذه منك؟ قال: أختي. قال: دعها عندي.
وإذا بالجبار أراد أن يمسها فرآها بين عينيه ثوراً يكاد يفترسه، وشلت يده عندما حاول أن يمسها، وانزعج، ودارت به الأرض، حاول ثانية فوقع له مثل ذلك، وثالثة فوقع له مثل ذلك، وإذا بالجبار يقول لإبراهيم: ما هذه بإنسان ولكنها شيطان، أبعدوها عني.
وفي حديث الشفاعة أيضاً عندما تأتي الأمم تمر على الأنبياء وقد اشتد بهم الكرب حال العرض على الله، فيأتون إلى إبراهيم فيقول: (نفسي نفسي، لقد كذبت كذبات لا أدري ما سيفعل الله بي منها).
هذه كذبات في اللفظ، وليست كذبات في نفس الأمر، وهي من النوع الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).
فمثلاً: سئل صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة إلى المدينة وقد نذرت قريش: أن من أتى به حياً أو ميتاً فله مائة من الإبل، دية قتيل. وإذا به يخرج في وجهه أعراب فيسألونه من أين أنت؟ فيقول: (من ماء) وماء كانت قبيلة من قبائل العرب.
والنبي لا يقصد أنه من القبيلة، فهو هاشمي قرشي، ولكنه خدعهم، والحرب خدعة، والنبي في حرب عليه الصلاة والسلام، فعرض في كلامه، وهم فهموا أنه من قبائل ماء، وهو يقصد أنه خلق من ماء دافق كما يخلق كل إنسان.
والنبي عليه الصلاة والسلام يصنع ذلك ويأمر به لمن اضطر ألا يقول الحقيقة؛ لكيلا يستغلها الأعداء فيصلوا إليه بعداوتهم، وكان هذا فعل إبراهيم عندما قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63].
فهو أراد ذلك، وقد قال رسول الله: (كان ذلك في ذات الله) عليهما جميعاً الصلاة والسلام، فهو قصده من ذلك أن يأخذ الحجة منهم في ذاتهم.
إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فنقول إنهم آلهة على الأقل في المناظرة، وإن كانوا حقاً فسينطقون، ويدافعون عن أنفسهم، أراد عندما يقولون ذلك أن يلزمهم: كيف تعبدون أحجاراً لا تضر ولا تنفع، ولم تدفع عن نفسها هذا القطع والكسر، ولم تستطع النطق وتكشف من فعل بها ذلك؟ فإذا قالوا ذلك قال لهم: وكيف تعبدون ما لا يضر ولا ينفع؟!
وهذا الذي سيحدث عندما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وليس إنسان في الأرض إلا وفيه نوع من أنواع السقم، لو جاء طبيب وحاول أن يفحصنا جميعاً ولا بد وأن يجد في كل واحد منا شيئاً من المرض منذ الولادة، منذ الطفولة فهو سقيم، ولو لم يكن سقيماً تلك الساعة سيسقم بعد، وهذه صفة الإنسان التي فطر عليها منذ الولادة.
أما الثالثة فقوله: هذه أختي، فقد قال لها: أنت أختي في التوحيد والإيمان، وأخيراً أخته في البشرية، كلنا من آدم وحواء ، فنحن البشر جميعاً إخوة بعضنا لبعض.
فإذاً: هي كذبات باعتبارها معاريض، وليست كذبات في واقع الأمر، وهذا هو الذي أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول، وأما قول إبراهيم عن نفسه في يوم الشفاعة العظمى فذلك هضم لنفسه وتواضع.
وقد رأى من نفسه هناك من هو أهم منه لأن يقوم بهذه الشفاعة، وهو يعني بذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام الذي عندما أسكن إسماعيل وأمه في هذه الأرض المقدسة دعا الله تعالى أن يبعث لهذه الأمة -العرب- نبياً منهم بشيراً ونذيراً، يعلمهم آياته، ويرشدهم إلى هدايته، وقد كان كل ذلك.
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] وهو بذلك أراد إعجازهم وأخذ الحجة منهم، وكما قال: فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر