لا نزال مع عباد الله المكرمين، وأنبيائه المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا نزال مع داود وولده سليمان وهما يحكمان في قضية حرث وزرع قد نفشت فيه غنم القوم، قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78].
يقول الله: يا محمد! واذكر داود وسليمان النبيين الكريمين إذ يحكمان في الحرث.
إذ نفشت فيه غنم القوم، والنفش: الرعي ليلاً، وقد قلنا بأن قوماً أطلقوا سبيل أغنامهم ليلاً بلا حارس ولا راع، فدخلت في مزارع أقوام، فأتت عليها وجعلتها أرضاً كأنها لم تزرع، وإذا بالقوم يأتون إلى نبي الله داود، فقالوا: يا نبي الله! إن هؤلاء قد أطلقوا أغنامهم ليلاً دون حراسة ولا رعاية، فدخلت الغنم على مزارعنا، فأتت عليها رعياً، ولم تبق منها ولا تذر، فاحكم بيننا بما علمك الله.
وإذا بداود يحكم أن الأغنام تنزع ممن أطلقها من أصحابها دون رعاية ولا حراسة، ويملكها من دخلت مزرعته، ورعت أرضه، وخربت غرسه وزراعته.
وإذا بهؤلاء المترافعين المتحاكمين يخرجون من محكمة داود، وإذا بسليمان -وهو لا يزال صبياً لم يتجاوز بعد السنة الحادية عشرة- يقول لهم: بماذا حكم عليكم نبي الله داود؟ فقصوا عليه الخبر، أنه حكم بأن تملك الأغنام لمن ذهبت مزرعته، فيقول سليمان: كان أرفق بهم أن يحكم لهم بغير هذا، ثم حكم بأن الغنم يأخذها صاحب المزرعة فيعتني بها ويرعاها ويكسب لبنها، ونسلها، وصوفها، ويسلم للغرماء الأرض التي أهلكتها أغنامهم فيزرعونها إلى أن تتم تلك المزرعة مثلما كانت من قبل، وتستصلح كما كانت قبل أن تفسدها الأغنام، وعند ذلك تعود الغنم لأصحابها، وتعود المزرعة لأصحابها، وإذا بداود يبلغه الخبر فيقول: نعم ما حكمت! ورجع عن حكمه، وحكم بينهم بذلك.
قال الله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78] كان الله عالماً وهما يصدران الحكم على أصحاب الأغنام لمصلحة صاحب المزرعة، ولكن الله جل جلاله أثنى على حكم سليمان، وما عاب حكم داود فقال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] فهم القضية فحكم بالصواب، وحكم بالحق الصراح، وعاد أبوه داود إلى الحكم الذي حكم وارتأى، فذلك معنى قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].
آتى الله كلاً من داود وسليمان حكماً وأكرمهما بالعلم، وجعلهما نبيين رسولين كريمين، وعلمهما ما لم يكونا يعلمانه، ولكن مع هذا اجتهد داود فأخطأ، واجتهد سليمان فأصاب، فكان الثناء على سليمان من قبل الله بقوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]، لأنه كان المدرك لها، والفاهم لحقيقتها، ولكن مع ذلك أثنى على الأب والابن بالعلم والحكم، والمعرفة والحكمة.
وهذا قريب من قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد) فيثاب الحاكم حال اجتهاده وبذله من نفسه الجهد ليصل إلى الحق والصواب، ويؤجر على كل حال، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وفي حين غلطه يؤجر للاجتهاد والبذل، أما إصابة الحكم فلا أجر له فيها، كما أنه لا يعاب فيها؛ لأنه لا يطالب بأكثر من أن يبذل من نفسه الجهد، ليصل إلى الحقيقة.
قال الحسن البصري إمام التابعين: هذه الآية كانت بلسماً وشفاءً للحكام والقضاة، وأنهم لا يطالبون بأن يصيبوا الحقيقة؛ لأن الصواب من الله، ولكنهم يطالبون بأن يبذلوا الجهد من أنفسهم، للوصول إلى الحق والصواب في الحكم، فإن هم أخطئوا بعد الاجتهاد فلا ملام عليهم، ويثابون ويؤجرون على الجهد، وإن أصابوا فلهم أجران: أجر للصواب، وأجر للاجتهاد الذي بذلوه من أنفسهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (القضاة ثلاثة) كما في مسند أحمد والصحاح، وفي رواية: (قاض في الجنة وقاضيان في النار، قاض علم الحق وحكم به فهو في الجنة) علمه حسب اجتهاده وعلمه واطلاعه على نصوص القرآن والسنة والإجماع، فإن لم يجد فيقيس ويبذل الجهد ليصل إلى الحق بصفة عامة استنباطاً واستخراجاً من مفاهيم النصوص (وقاض علم الحق ولم يحكم به فهو في النار، وقاض لم يعلم الحق ولم يحكم به فهو في النار).
وهكذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (قاض في الجنة وقاضيان في النار) وقد سبق أن سليمان -وهو لا يزال صغيراً- حكم أحكاماً نقض بها أحكام والده، وكلٌ أوتي الحكم والعلم.
وقد جعل عنوان الحديث النسائي في السنن: باب حكم الحاكم بما يناقض الحكم ويوهم خلافه، إخراجاً للحكم واستخراجاً للحق، فسليمان لم يكن يريد أن يقسم الولد، ولكن يريد أن يكتشف ويختبر عاطفة الأمومة عند هاتين المرأتين، بأنه ستقول الأم الحقيقية: لا تقطعه، وستحرص على حياته، ولو لم يكن تحت حضانتها ولا بيدها، والأم غير الحقيقية ليس لها عليه عطف ولا بر، فتوافق على القطع؛ لأنه ليس ولدها.
وهكذا استخرج سليمان الحق بإيهامهما أنه سيقطعه قسمين، وبهذا اكتشف الأم الحقيقية، فأقر حكمه أبوه داود.
ثم أتي بالمرأة فقال لها: ما قصتك؟ قالت: أنا بريئة، ولكن هؤلاء راودوني على نفسي فامتنعت، فأرادوا أن ينتقموا مني بالقذف؛ فحكم بقتل الأربعة وبراءة المرأة، فأبوه رأى هذه التمثيلية -كما يعبر عنها اليوم- فنقض حكمه وحكم بحكم ولده سليمان.
جاء عن البراء بن عازب -كما في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك - (أن ناقة
والحكم إذا أفسدته في النهار أن الضمان على أصحاب الغنم؛ لأن الشأن في النهار أن يكون معها رعاتها، فهي محروسة، فإذا تركت لتفسد مزارع الغير فذلك بإهمال الرعاة وأصحاب الأغنام والإبل والدواب.
ومن الأصول والقواعد فيها: أن المفرط أولى بالخسارة، فعندما فرط أصحاب البساتين ليلاً من رعاية بساتينهم فالخسارة عليهم ولا ضمان، وعندما يفرط أصحاب الدواب والأغنام نهاراً وكان ينبغي ألا يفعلوا فالخسارة عليهم، والضمان عليهم.
المحققون من أهل العلم يقولون بالاجتهاد، ودليلهم هذه الآية الكريمة، فقد حكم داود مجتهداً، ولو حكم بالوحي لما مدح الله حكم سليمان وأغفل حكم داود، وجعل الفهم لسليمان لا لداود، وإذا اجتهدوا فقد يخطئون، ولكن خطأ الأنبياء لا يقرهم الله عليه، كما فعل ربنا هنا في هذا الحكم، فلم يقر داود وإن أثنى عليه بالاجتهاد، وأقر سليمان وأثنى عليه.
وهذا ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في كثير من القضايا التي لا وحي فيها، ومن أشهرها ما كان في غزوة بدر، عندما وضع خيامه ومعسكره في جانب الماء، فجاء أحد الأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه الحباب بن المنذر فقال: (يا رسول الله! هل هذا منزل أنزلك الله فيه، لا رأي لنا فيه، أم أنه الرأي والمكيدة والحرب؟ قال: بل الرأي والمكيدة، قال: ما أرى هذا بموقف، لنصعد الجبل ونمنع أعداءنا من أن يأتوا إليه فيمنعونا من الماء بنبالهم وسهامهم، فأقره رسول الله عليه الصلاة والسلام)، ولو كان هناك وحي لما رجع إلى رأي الحباب، وقد صرح: إنما هو الرأي، ويؤكد هذا قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ولا تكون المشاورة إلا في الاجتهاد، أما في أمر وحي إلهي فلا مجال للمشورة.
ومن هنا كان الله تعالى قد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام ليكون أسوة للخلفاء بعد استشارة أولي الرأي وأولي الفهم والعلم فيما لا نص فيه، فإن كان هناك نص فلا مجال للرأي، إلا إذا كان النص يحتمل ويحتمل، فتبقى المشورة قائمة.
سخر الله وأخضع الجبال والطير مع داود تسبح، وهو يفهم تسبيحها وذكرها، ويفهم عبادتها وصلاتها، الله علمه ذلك وخصه به.
وقد قال ربنا جل جلاله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] يسبحه الجن والإنس والملك والدواب والطير وحيتان البحار والهوام وكل خلق الله، جماداً ومتحركاً، وهذا يؤكد ذاك: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ [الأنبياء:79] فالجبال أيضاً كانت تسير مع داود وهي تسبح الله وتوحده وتعظمه، وكان إذا سبح سبحت معه، وإذا صلى صلت معه.
كما سخر الطير، وكان ذلك بالنسبة للطير لجمال صوت داود الذي إذا تغنى بمزاميره التي أنزلها الله عليه، وأخذ يتلوها، ويعبد الله بها، لا يبقى طائر سمع الصوت إلا ويرتمي بين يديه أو يحلق فوقه، وهو يسبح معه بلغته وصوته.
نبينا عليه الصلاة والسلام مر ليلة على دار أبي موسى الأشعري ، وإذا به يسمعه يتلو القرآن فيتوقف ملتذاً عليه الصلاة والسلام ومتفاعلاً مع جمال صوت أبي موسى ، وحسن تلاوته وتجويده، وإخراجه للحروف، فلما أصبح الصباح قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي موسى : (لقد أوتيت يا
قال أبو موسى عندما قال له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو علمتك تنصت إلي لحبرته لك تحبيراً) أي: لجملت ذلك مترنماً متغنياً مجوداً، ولكن كان على طبيعته بالنسبة إلى سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه، والله أعلم.
وأدركنا أناساً في الشام عندما ينادون بذكر الله واسم الجلالة، وعندما يتلون كتاب الله مجوداً وبحروف يخرجونها كما أنزلت مع جمال الصوت، وتكون الليالي باردة على حال برد الشام، والشبابك مقفلة بالزجاج، لا تشعر إلا والطيور تترامى على هذا الزجاج بالعنف، وقد تقع في الأرض لشدة الصدمة ميتة، وقد يكسر الزجاج فيطير الطائر ويقف بين يديه وهو ينصت، وهو عادة متوحش لا يقبل أن يحضر مع الناس؛ ولذلك هذا الطير الذي خلقه الله هو أيضاً يذكر الله، وهو أيضاً له حاسة بالتمتع والتلذذ بذكر الله وجمال صوته به، وهذا من معجزات هؤلاء الأنبياء الكرام.
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79] أي: وسخرنا له الطير تسبح معه، وتعظم معه، وتمجد معه.
وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:79] أي: فاعلين تفهيم سليمان لحقيقة الحكم، فاعلين لتسخير الجبال والطير لداود، فاعلين لفهم داود لذكر الجبال وتوحيدها وعبادتها، وذكر الطير وعبادته وتغنيه كذلك بربه، كنا فاعلين كل ذلك، فهو صاحب الأمر والنهي، وهو الفاعل المختار جل جلاله وعز مقامه.
ومما علمه داود وميزه بذلك على سليمان قبل أن يلي سليمان النبوة دون أبيه والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده: أنه علمه صنعة لبوس، واللبوس: الملبوس.
قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء:80] أي: لبني إسرائيل، لقوم داود، وهي حكاية فيما قص الله علينا مما أوحى به لداود وسليمان، وهي أيضاً ذكر لنا للشكر بأن ذلك انتفع به الأولون، وانتفع به من كان معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن.. وإلى يوم القيامة.
قوله: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80] وهو لأمة الحرب، وألبسة الحرب، تلك اللأمة التي تلبس على الصدر والظهر والرأس؛ لتقي البدن من ضرب السهام ومن ضرب السيوف، هذه اللأمة كانت تصنع قديماً من الصفائح، وتكون ثقيلة على البدن، لا يكاد يحملها إلا بمشقة، وتصنع من الفولاذ الذي هو أقوى أنواع الحديد التي لا يؤثر فيها ضرب برصاص ولا ضرب بسيوف، وقد علَّم الله داود في حروبه مع أعدائه أن يصنع اللأمة من حلق، هذه الحلقات تتسع وتضيع على البدن حسب كل جسم وما يناسبه، وتكون أخف على البدن.
لِتُحْصِنَكُمْ [الأنبياء:80] أي: لتدافع عنكم، ولتصونكم، وتدفع عدوكم وسيوفه وسهامه ونباله، فتكونون في حصن، وفي مأمن من أن تنالكم سهام الأعداء أو رصاصها أو سيوفها.
(من بأسكم) أي: من حربكم لأعدائكم.
قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80] قالوا: الخطاب حكاية عما قاله الله لداود ولقومه.
وقال البعض: إن الخطاب للمسلمين من المهاجرين والأنصار عندما أذن لهم بالحرب والقتال، فهم أيضاً استفادوا من هذا الزرد، ومن هذه اللأمة التي أول من صنعها هو داود بنص القرآن الكريم، ودائماً الفضل للمخترع الأول.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر