بعدما قص الله علينا، وأنذر وأوعد وتهدد المشركين بأليم العذاب، وشديد المحنة، والخلود في النار بالمقامع ومع حريق وأنواع البلاء لعلهم يتعظون ويئوبون ويتوبون من شركهم، ويقولون يوماً: ربي الله، وكما هي عادة القرآن الكريم، فإنه يقرن دائماً بين العذاب والرحمة، وبين البشارة والنذارة، وبين المؤمن والكافر، حتى إذا اشتد يأس الكافر والعاصي والمخالف فإذا بالرحمة تذكر بجانب ذلك، فيتذكر ويئوب ويعود ويقول: ربي الله.
وكذلك المؤمن حتى لا يغتر ولا يستكين لمكر الله فيدخله الغرور والغلو، فيقصر في الطاعة والعبادة، فيجد من النذير والوعيد والتهديد ما يزيده طاعة وتعلقاً وإيماناً بالله.
وهكذا الطاعة والعبادة بين الخوف والرجاء؛ الخوف من غضب الله، والرجاء في رحمته.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[الحج:23] أي: الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، ثم التزموا القول بالعمل، فعملوا الصالحات، وقاموا بالأركان: شهادة وصلاة وزكاة وصياماً وحجاً، والتزموا فعل الخيرات قدر استطاعتهم، والتزموا ترك المنكرات ألبتة، ومن آمن بالله، ثم عمل الصالحات بما يصدق قوله فعله وفعله قوله، فهؤلاء يكرمهم الله بدخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والله جل جلاله دوماً يبشر المؤمنين الملتزمين المطيعين بكل رحمة ورضاً ودخول الجنان.
ثم قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا[الحج:23] أي: في الجنة يلبسون الحلية.
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا[الحج:23] أساور: جمع سوار، كما هي عادة الملوك في هذا العصر، أو في القديم يلبسون التيجان والأساور واللآلئ، خاصة في أرض الهند وما إليها، ولا يزال بعض ذلك قائماً، ولا يزال ذلك يفعلونه في حفلاتهم وندواتهم ومهرجاناتهم، واستبدلوا ذلك بساعات وسلاسل الذهب، ونياشين الذهب وأوسمة اللؤلؤ .. وما إلى ذلك.
فالمؤمنون الذين يكرمهم الله ويدخلهم الجنة يلبسهم في الجنة من أنواع الحلي والأساور من الذهب والفضة واللؤلؤ في الأيدي والأعناق والمعاصم، ويلبسون فيها الحرير.
كذلك في الجنان لباسهم الحرير والديباج، وحليتهم الذهب والفضة واللؤلؤ، ومن هنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرير على ذكور المسلمين، وقال: (من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) .
فقال قوم: لا يدخلون الجنة لأن من دخلها يلبس الحلي، وقال قوم: بلى يدخلون الجنة ولكنهم لا يلبسون هذه الحلية الذهبية، وهذا جزاء من يخالف ويعصي، ويلبس الذهب والحرير في الدنيا.
وقد حرم ذلك على ذكور الأمة المحمدية، وأحل ذلك للنساء، ويلبسه الرجال يوم القيامة في الجنان خالدين مخلدين. فهذا صفة الجنة وما فيها من حور عين.
وأعظم من ذلك رؤية الله جل جلاله التي ما بعدها لذة ولا نشوة ولا متعة، جاء في الحديث الصحيح: (أن الله يتجلى لعباده في الجنة فيقول لهم: هل أعطيتكم؟ هل ملكتكم؟ هل متعتكم؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقول: هل أزيدكم؟ فيقولون: وما تزيدنا يا رب وقد أمتعتنا بما لم تر عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلوبنا؟ قال: بلى، أريكم وجهي، فيتجلى الله لهم ويرونه؛ فيزدادون نعمة ولذة، ويزدادون بهجة) وكيف سيكون ذلك؟ الله أعلم بما هناك.
وكل ما يخطر في بالنا فربنا مخالف لذلك، ولكن الله يرى جل جلاله، وقد قال ذلك ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] .
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة: (إنكم ترون ربكم يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله! كيف نراه ونحن متعددون وهو واحد؟ قال: كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته).
ولله المثل الأعلى، فالقمر واحد ونحن نراه في الدنيا مع أعدادنا في مشارق الأرض ومغاربها، ومع الملايين من سكان الأرض نراه جميعاً وهو واحد غير متعدد، أعني: قمر الأرض.
وهكذا جل الله وعلا على سبيل المثال والشبيه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى[النحل:60].
يهدى أهل الجنة المؤمنون عندما يدخلون الجنة، ويهيئون لها قبل الدخول.
إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج:24] والطيب من القول هو: لا إله إلا الله، والطيب من القول هو: محمد رسول الله، وذكر الله، وقول: والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وجميع الذكر بأسماء الله الحسنى.
فهو الطيب من القول مع الطيب من العمل، والطيب من القول: إخلاص الشهادة لله، وإخلاص الوحدانية والعبودية والذكر، وقول لا إله إلا الله خالصة من قائلها لله، لا يشرك معه فيها أحداً.
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24] والصراط: الطريق، والصراط: الإسلام، والصراط: القرآن الكريم، والحميد: الله المحمود جل جلاله، فنهدى بفضل الله وكرمه إلى طريق الله، وما طريقه المستقيم وصراطه الواضح إلا دينه الذي أرسل به محمداً سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
وما طريق ذلك إلا القول الطيب في ذكر الشهادتين لله جل جلاله، وما الطريق المستقيم -طريق الله- إلا عمل الصالحات مع القول الطيب والإيمان بالله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:25] أي: هؤلاء الذين كفروا بالله قبل، ثم صدوا عن سبيل الله، ومن هنا صح عطف المضارع على الماضي.
كان أهل الجزيرة قبل الرسالة كافرين بالله وبرسل الله، ثم بعد أن جاء الإسلام، وكان المؤمنون لا يزالون قلة، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يأتي معتمراً لا محارباً ولا مقاتلاً بعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإذا به يأتي ويقف عند الحديبية وإذا بأهل مكة يصدونه ويمنعونه من البيت، ويمنعونه من العمرة، وأدى الأمر إلى الحرب وسل السيوف، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأتِ محارباً ولا مقاتلاً.
وقد التزم من أول مرة أن يعتمر والسيوف في قرابها، وهي ما تسمى في التاريخ النبوي والسيرة النبوية بمعاهدة الحديبية، فصدوه وأصروا على الصد، ولم يكونوا قبل معروفين بذلك ولا مشهورين به، ما كانوا يصدون العرب عن المجيء إلى مكة لا معتمرين ولا حاجين، ولكنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى بالرسالة التي أتى بها، وخافوا على سلطانهم وجاههم ونفوذهم، فظنوا أنهم بصده عن العمرة وعن قصد بيت الله الحرام سيقهرونه ويغلبونه، ولكن يأبى الله إلا نصرته، ويأبى الله إلا ذلهم وهزيمتهم.
فالله يوبخهم ويقرعهم، ويصفهم بأنهم على كفرهم وشركهم بالله كذلك يصدون عن سبيل الله، فيصدون الناس عن بيت الله، وعن طريقه ودينه، وعن الاعتمار والطواف، وعن السعي بين الصفا والمروة، وعن القيام بشعائر الله، وعن تعظيم حرمات الله بما استحقوا به من الله التوبيخ والتقريع والتهديد بالعقوبة الأبدية، والدخول إلى النار إن لم يتوبوا ويئوبوا، وقد تاب الأكثر، وخضع للإسلام ولطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكثر، وإن كان الأكثر ما آمنوا إلا بعد فتح مكة.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:25] أي: عن دين الله وعن البيت الحرام، وعن الكعبة والعمرة والسعي.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:25] أي: عن دينه والدعوة إليه، وعن الرسالة المحمدية.
قوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الحج:25] أي: كما صدوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين، ودفعوه، وقاوموه، ومنعوه من أن يدخل مكة معتمراً، طائفاً، ساعياً، ملبياً، محرماً، ذاكراً لربه بما استحقوا به من الله التوبيخ والتقريع والنذارة والتهديد والوعيد.
قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] يقول الله جل جلاله: هذا المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعاً أهل مكة وغيرهم من كل مؤمن بالله ورسوله، جعله للناس سواءً العاكف فيه المقيم الساكن المستوطن، والباد، أي: الذي أتى من الخارج ومن الأقاليم، فبدا وظهر بعد أن لم يكن فيه، ومنه البادي، فبيت الله يقول الله عنه: هذا المسجد، هذا البيت الحرام جعله الله سواءً، أي: على سوية وشركة واحدة، واستفادة واحدة للطواف والذكر والعبادة والسعي، والوقوف بعرفات، والمبيت في منى ومزدلفة، وفي المشعر الحرام، كل ذلك جعله الله سوياً مشتركاً بين المقيم فيه والخارج عنه وغير المقيم، لا فضل لأحد على أحد، فليس للمقيم حق في أن يمنع من هو خارج مكة من أن يدخلها، ويستفيد من سكناها وما فيها.
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] أي: جعل الله هذا المسجد لكل مسلم من آمن بالله وبرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولو جاء من أقاصي الدنيا.
وهنا اختلف علماؤنا ومفسرو كتاب ربنا في معنى (سواء)؟
قال الرواة: لقد كان بيت الله الحرام أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وعمر جعلت دوره ومنازله للناس سواء -أي: مشتركة- في أن ينزلوها، ويقيموا فيها للعمرة والحج.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى في أيام المواسم أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم، وأن يدعوها مشرعة لكل معتمر وحاج يجيء في الليل أو النهار؛ ليدخل البيت ويأخذ الغرفة، ويستفيد مما فيها على أنها بيته الذي يقيم فيه مدة العمرة والحج دون مقابل بتمليك الله له ملك انتفاع.
وليس لسكان هذه الدور أن يبيعوها أو يؤجروها أو يتوارثوها أو يهدوها، فهي ملك مشترك لكل مسلم، ومن أقام فيها إنما أقام انتفاعاً، قال هذا عمر وأبو بكر ، وكان هذا الأمر مدة مقامهما في الخلافة، ومدة النبوة وعصرها صلوات الله على نبينا ورضوان الله على أصحابه.
وأكد هذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقال: من أكل مال بيوت مكة أو إيجارها -سواء إيجاراً موقوتاً أو إيجاراً- فقد أكل النار في بطنه.
وهذا مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة والأوزاعي ، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد رحمهم الله ورضي عنهم.
وأكدوا ذلك بهذا النص، بقول الله تعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] قرئ: سواءً، وسواءَ؛ في القراءات السبع المتواترة.
وقال الشافعي: دور مكة لأهلها، ويجوز تملكها وإيجارها.
وأصل هذا الخلاف مبني على خلاف سابق، وهو: هل مكة فتحت عنوة؟ فإذا كانت كذلك فهي ملك مشترك للمسلمين، وغنيمة دائمة لهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أراضي السواد، وفي الأراضي التي فتحها أيام خلافته، واعتبرها ملكاً مشتركاً بين المسلمين لا تباع ولا تشترى، ولا توهب ولا تعطى ولا تورث، فهي مشترك بين المسلمين لموارد الدولة من رواتب وجيوش وإصلاح طرق، وما تحتاج إليه الدولة في جميع مرافقها.
قالوا: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة عنوة تركها لأهلها فلم يقسمها، على ألا ينفردوا بها ملكاً للرقبة، ولكنه ملك انتفاع، وعلى ألا يمنعوا منها المقيم والبادي، من داخل مكة أو خارجها من كل عابد أو طائف ورد من الخارج لها.
بل عمر رضي الله عنه كان يمنع أهلها أن يغلقوا أبواب دورهم أيام المواسم على المعتمر والحاج.
وأما الشافعي فقال: فتحت صلحاً، وما كانت من دماء أريقت في الجانب الذي قاد جيوشه خالد بن الوليد فلم تكن حرباً بمعنى: الفتح والقهر، وإنما كانت مناوشات لردع هؤلاء الذين أبوا إلا أن يعارضوا الجيش النبوي.
وأكد الإمام الشافعي ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء فاتحاً وأسرت جيوشه كبير الكفر إذ ذاك وقائده أبا سفيان بن حرب ، فجاءه العباس عمه عليه الصلاة والسلام وقد ترك عنده أبا سفيان أسيراً، فقال العباس : (يا رسول الله! إن
قال الشافعي : وبذلك أعلن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يريد أن يدخل مكة وهي مفتوحة له دون مقاومة ولا معارضة ولا مجابهة. قال: فكان له ذلك في أكثرها.
وما اعتبر المناوشات التي وقعت تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلا شيئاً لا يكاد يذكر كحرب كانت نتيجتها الغنائم، وأخذ الأرض، واستعباد من في البلدة.
وعلى كل اعتبار: سواء قلنا بالرأي الذي قاله الصحابة أو أكثرهم رضي الله عنهم، وما دان به الإمامان الجليلان أو الأئمة الأجلاء مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ، أو قلنا برأي الشافعي ومن معه، فكل العلماء والفقهاء قالوا: يجب على أهل مكة أيام المواسم أن يكونوا كرماء نبلاء، وأن يكونوا فاتحين بيوتهم لهؤلاء الحجيج الذين أتوا عبادة لله، فيقوموا بمساعدتهم، وخفض الجناح لهم، وفتح دورهم لهم ليأجرهم الله على ذلك ويثيبهم، كيف وقد كان هذا مسترسلاً ومتواتراً أيام أهل مكة حتى في جاهليتها، وكانوا يتفاخرون بذلك.
فكان منهم من له الرفادة ومن له السقاية ومن له الضيافة، وكانوا يجعلون ذلك عاماً شاملاً لكل وارد من الخريف للعمرة والحج.
وقال بعضهم: تفسير الآية ليس هذا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] أي: من حيث الحرمة والقدسية، ومن حيث ترك المنكرات وفعل الخيرات كما يأتي في آيتين قريباً، وهما قوله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وقوله: َمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .
قال هؤلاء في تفسير الآية: معنى ذلك: أن القدسية والاحترام والتعظيم، وفعل الطاعات وترك المنكرات، والزيادة في العبادة، وترك ما يسيء وما يعصون فيه في مكة ليس هذا مطالباً به أهل مكة فقط، بل كل من دخلها سواء المقيم فيها أو الخارج عنها من الباد، فكلهم أمروا عند دخولهم مكة أن يحرصوا على ألا يفعلوا إلا الخيرات، وأن يبتعدوا عن المنكرات جهدهم؛ لأن الحسنة في مكة بمائة ألف، والسيئة كذلك بمائة ألف.
وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه إذا جاء إلى مكة حاجاً أو معتمراً أو زائراً يضرب خيمتين: خيمة في الحرم وخيمة في الحل، فعندما يدخل الحرم يقيم في هذه الخيمة، ويلتزم الطاعة والسكوت إلا بأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله.
فإذا أراد الكلام والمحادثة، وحتى الخادم ما كان يؤدبه في مكة ولا يشجبه ولا يمسه بسوء، فإذا أراد سوى ذلك انتقل إلى الخيمة التي في الحل، ويقول: السيئة في الحل سيئة، والسيئة في الحرم مائة ألف.
وكذلك عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جاءا وأرادا سكنا مكة، ولكنهما هابا أن يقيما فيها فيصدر عنهما من السوء ما يضيع الحسنات ويبددها، فسكنا الطائف حيث قبر ابن عباس إلى الآن، وسكنها ابن عمرو بن العاص كذلك.
فكانا يأتيان إلى مكة الحين بعد الحين، وخاصة أيام الجمع، فإذا جاءا لا يتكلمان إلا بالقرآن أو بالذكر أو بالعلم أو بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولا يتكلمان في شئون النساء والبيع والشراء وشئون الدنيا عموماً إلا بعد أن يعودا إلى الطائف.
وعلى كل اعتبار: فسواء كان معنى ذلك ما نسب إلى الصحابة وإلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى جماعة من الأئمة الأجلاء، أو الرأي الثاني للإمام الشافعي ومن معه فيجب أن يهتم هذا ويحسب له حسابه، ويحسن إلى الحاج والمعتمر من حيث الإكرام والعناية والرعاية.
وأما أن يذل الحاج والمعتمر وتهان كرامته، فذلك ما ينكره الإسلام، وتنكره أخلاق العرب، وتنكره الضيافة العربية حتى في الجاهلية فضلاً عن الضيافة الإسلامية الواجبة.
قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] كل الأعمال الظالمة، وكل الجرائم المرتكبة لا يترتب عليها الذنب ولا الحد ولا العقوبة ما لم تفعل، فما دامت لم تفعل فلا حساب ولا مؤاخذة، بل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح أنه قال: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة) إلا في مكة؛ فمن هم بسيئة -حتى ولو لم يرتكبها- وعزم عليها، ومنع منها ولم يفعل لسبب من الأسباب كتبت عليه سيئات وحوسب عليها.
وإذا قبض وهو يريد جريمة، أو سرقة، أو قتلاً، أو شرب خمر، ولو لم يفعل بعد ولكنه يريد ذلك فيؤدب الأدب البليغ، ويوجع الوجع الأليم؛ لأن العقوبة في مكة لهذه الأفعال تكون بمجرد الإرادة والعزم.
وأما عند الارتكاب فالجريمة والعقوبة تكون مضاعفة، وهذا معنى الآية الكريمة في سورة الفيل، فإرهاصاً لوعد النبوءة والولادة المحمدية، عندما جاء الأحباش يريدون هدم الكعبة وصمموا عليها، وخرج أهلها خائفين على أنفسهم حيث كانوا عاجزين عن مقابلة الجيش الحبشي بما فيه من نبال وحراب ومجانيق وفيلة، ولكنهم في الطريق أخذوا على عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم نوقه وجماله، فجاء يطلبها، وإذا بـأبرهة يجتمع به فيرى جمالاً وكمالاً، ويرى وجهاً نضيراً وقامة كاملة فيقول له: ما تريد؟ قال: إبلي، فضحك أبرهة وقال: سمعت عنك وسمعت عنك، ورأيت هذا المنظر الجميل فظننتك قد جئتني لتدافعني عن قومك، وعن هدم بنيتك المقدسة الكعبة، قال: لا، أنا جئت لإبلي، فالإبل أنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه؛ فضحك أبرهة، وإذا به يأتي البيت يريد ذلك، ولكن قبل أن يفعل شيئاً سلط الله عليه وعلى جنده أضعف خلقه: الطير الأبابيل، فأتى كل طائر يحمل في فمه حجراً وفي رجليه حجرتين في مقدار العدسة.
فكان يأتي الطائر فيقف على رأس الفيال فيرميه بحجرة على قدر العدسة، وإذا بها تدخل في رأسه كما يدخل المنشار اللولبي فتخرج منه إلى عنقه .. إلى أمعائه .. إلى دبره .. إلى ظهر الفيل .. إلى بطن الفيل فتخرج وقد أصبح الفيال والفيل كالعصف المأكول، كالحشيش عندما يخرج من بطن الدواب بعراً.
وهكذا الكل أصبحوا جميعاً رماداً، هباءً تراباً بعراً، وأصبحت عظامهم إذا أمسكت كما يمسك البعر تتفتت هكذا في اليد، فكانت العقوبة على الإرادة ولم تكن على الفعل، فما مسوا الكعبة بسوء وإنما أرادوا ذلك، فبودروا بالعذاب قبل وقوعه.
وفي هذه السنة ولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما يكون كذلك قبل ولادته، أو يوم ولادته، أو أيام شبابه قبل نبوءته يسمى إرهاصاً، فهذا هو الإعداد وتهيئة النفوس والعالم لبزوغ سيد الأنبياء وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [الحج:25] قالوا: الباء هنا زائدة، أي: صلة، ولكن المبرد من أئمة اللغة أنكر ذلك، وقال: ليست زائدة، ولا هي صلة، ولكن المعنى: من يرد فيه بإلحاد، أي: ينوي بعمله أن يلحد، والإلحاد: الميل والزيغ عن الحق، كمن كان في طريقه المستقيم السوي فأخذ يميناً وشمالاً فيكاد أن يقف على الشفا، ويكاد أن يقف على طرف المكان فيهوي في مكان سحيق، وإلى هوة سحيقة لا يكاد يفلت منها إلا ممزقاً متطاير الأعضاء.
قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ [الحج:25] أي: مجرد إرادة.
قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] الظلم في الدرجة الأولى الشرك، ويأتي بعده كل معصية، وكل على حسبها، فالصغائر إذا تراكمت وتتابعت فالإصرار عليها يصيرها كبيرة، والإدمان عليها يصيرها كبيرة.
قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ [الحج:25] أي: في المسجد الحرام، وفي هذه الديار المقدسة، من يسكنها ويقيم فيها وهو يشرك أو يسرق أو يفسد أو يعصي أو يترك الصلاة أو يفعل أي منكر من المنكرات التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا إذا لم يعاقب في الدنيا فإنه يحفظ ذلك له للعقوبة في جهنم.
قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] أي: يذقه من بعض عذابه الأليم الموجع، وهيهات أن يتحمل بما يفقد به حسه ووجوده وكيانه ويتمنى الموت! ولكن هيهات من الموت! فقد ذبح الموت، فهو إلى النار خالداً فيها ولا موت، أو إلى الجنة خالداً فيها ولا موت إن كان كافراً.
وهكذا ينبغي لكل مؤمن في الحرمين الشريفين، أو في المسجد الحرام أو في الحرم المدني الذي يقول عنه راقده صلوات الله وسلامه عليه: (إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة تحريم إبراهيم لمكة أو أشد).
فأصبحت كذلك حرماً، فارتكاب الجرائم فيها تضاعف كما تضاعف الحسنة، فمن استوطن الحرمين -وخاصة في بيت الله الحرام- فينبغي أن يقيم بأدب، فيحفظ لسانه ونظره وسمعه وبطنه وفرجه عن الحرام، ويحرص على ألا يرتكب إلا كل حسن طيب.
فإذا حصل منه شيء لم يقصده فليتب وليجدد التوبة، وإن أخذ مالاً قصد أو لم يقصد فليعده إلى صاحبه، وليكثر من الاستغفار والتوبة؛ لعل الله يغفر له، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر