هذا أول طعن في كتاب الله قاله الكفرة الأولون، ولا يزال يقوله الكفرة الجدد في كل عصر، (وقال الذين كفروا) أي: المشركون الكافرون الجاحدون، قال هؤلاء: (إن هذا إلا إفك)، (هذا) إشارة للقرآن، و(إن) بمعنى: ما النافية، أي: ما هذا القرآن (إلا إفك) أي: إلا كذب ليس من الله، ولم ينزله الله؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ومن هنا كان الله ابتدأ السورة: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] هو الذي أنزله ولم يخترعه محمد، ولم يخترعه معه أحد صلى الله عليه وعلى آله، بل هو كلام الله الواحد.
قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان:4] أي: ليس إلا كذباً افتراه وولده واخترعه وأعانه عليه قوم آخرون، ومن الذي أعانه؟ قالوا: كان في هذه البلدة حداد أعجمي لا يكاد يبين، وكان في الطائف عبد رومي لـعتبة وعتيبة ابني شيبة، كذلك كان لا يكاد يستطيع الكلام بالعربية فضلاً عن أن يأتي بقرآن بمثل هذه البلاغة والإعجاز، وقالوا: هؤلاء أعانوه، ثم قالوا: اليهود الذين كانوا في المدينة أعانوه، واليهود حاربوا النبي وألبوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هم أعجز من أن يقولوا هذا، وكيف يعينونه ولا يؤمنون به ويحاربونه عليه؟ وقد رأينا شعر الشعراء منهم، وقول الكاتبين منهم، هيهات أن يقولوا مثل هذا من قريب أو بعيد! ولكنه الكفر عندما يستولي على النفوس والقلوب، وينطق اللسان بالظلم والكفر والإفك، وهذا الكلام هو الذي لا يزال يقال إلى الآن، فلا تجتمع بيهودي إلا ويقول هذا، ولا بنصراني إلا ويقول هذا، أو بمرتد يزعم أنه مسلم إلا ويقول هذا، من استولى على عقولهم الكفرة من اليهود والنصارى وجامعاتهم، فيشككون المسلمين في صدق القرآن وصدق نبوات نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقولون عن أنفسهم: تقدميون، وهم رجعيون! هذا الكفر قد ذكر منذ ألف وأربعمائة سنة، فهم يرجعون إلى هذا الكفر، ويكررون هذا الكفر، فمن المجدد إذاً؟ المجدد هو المسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على كل رأس مائة سنة من يجدد لها دينها) فسماه المجدد، وهكذا التجديد: هو الإسلام، والمجدد هو المسلم، والرجعي: هو الكافر، والداعي إلى الكفر هو الرجعي!
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4] أي: إن هو إلا كلام ولده النبي واختلقه، (وأعانه عليه قوم آخرون) أي: من رومي ويهودي ونصراني، فالله أتى بهذا الكلام ليدحضه، ولينشر كل كلام الكافرين؛ ليكون الرد عليه، وقد قيل: يؤمن الناس عن يقين وعقيدة، وعن دليل وبرهان قاطع، ماذا عسى أن يقول الكافر في القرآن أكثر مما قاله الكفرة، وقد ذكره الله كله؟! ولكن من الذي يخاف من الرد والنقد؟!
قديماً قيل: من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس بالحجارة، فالإسلام كالجبال الرواسي، وكالفولاذ الذي لا يؤثر فيه إلا الله، وهو الذي أتى به وقواه وناصره وثبته وخلده إلى أبد الآبدين، فمنذ ألف وأربعمائة والكفار المعاصرون لنبينا ومن جاء بعدهم وإلى يوم القيامة يقولون عن القرآن ويقولون عن النبي المنزل عليه القرآن ما شاءوا من كذب وافتراء وأضاليل وأباطيل، وما زال القرآن هو القرآن.
كناطح جبلاً يوماً ليوهنه فلم يضره وأعيى قرنه الوعل
فذهبوا إلى جهنم، وسيذهب من جاء بعدهم، وسيبقى القرآن هو القرآن منذ ألف وأربعمائة عام على كثرة الكافرين والجاحدين، فما نقرؤه نحن اليوم ويقرؤه غيرنا حتى من الكفرة عندما يريدون مجرد المطالعة هو القرآن الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام سورة وآية، وحركة ومدة، بنفس اللغة والمنطق، وبنفس التجويد والحركات فيما كان يقرؤه هنا تجاه الكعبة المشرفة، وفي مسجده النبوي في المدينة، وقل جميع من جاء بعده كذلك وإلى عصرنا، هؤلاء حاولوا أن يغيروا وأن يبدلوا على الأقل، وأن يصنعوا بالقرآن ما صنعوه في توراتهم وإنجيلهم، وهذه من المعجزة الخالدة التالدة؛ لأن الله قد تعهد بذلك، وهذه من المعجزات الأبدية التي يكفي أن تذكر، ويكون فيها الرد البليغ على كل كافر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وهذا واضح حيث لا نزال نراه، فالنبي كذبوا عليه وافتروا عليه والأحاديث المكذوبة كثيرة ومعروفة، ولكن الله تعالى حفظاً للقرآن وصيانة للإسلام وللبلاغ النبوي هيأ من الأئمة من مثل مالك وأحمد والشافعي وسفيان بن عيينة وعلي بن المديني والمئات ممن نافحوا عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فميزوا وغربلوا، وأسقطوا المكذوب، وأثبتوا الصحيح، حتى إنه ما من إنسان قال يوماً: حدثني فلان عن فلان قال رسول الله إلا وسألوه من أنت؟ من أبوك؟ من أسرتك؟ من شيوخك؟ ما هي دراستك؟ فيقبلونه إن ثبت صدقه، وثبتت أمانته، وذكر شيوخه في هذا الحديث، وهؤلاء الشيوخ أيضاً يجب أن يكونوا معلومين معروفين بالعلم والضبط والصدق والأمانة، وهكذا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكونوا كذلك خلدوا مع الكاذبين، وقالوا عنه: فلان كذاب! فلان ضعيف! فلان وضاع! وهكذا كتب السلف؛ فصحت السنة، وأمنت من الزيغ، وأما القرآن فـلا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]؛ لأن الله هو الذي تعهد بحفظه جل جلاله، وهذه أكبر معجزة للإسلام، فقد غيرت التوراة مع أنها من عند الله، وغير الإنجيل مع أنه من عند الله؛ لأن الله لم يتعهد بحفظهما، ووكل حفظهما إلى علمائهم، فلم يستطيعوا الحفظ فضلوا وأضلوا، وحرفوا وبدلوا وغيروا، وكل ما يذكرونه في دينهم وعن أئمتهم الضالين في التوراة والإنجيل أكاذيب وأضاليل يجري بعضها خلف بعض، ولا يؤخذ من ذلك إلا ما هيمن عليه القرآن وأكده.
قوله: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان:4] أي: جاء هؤلاء الكفرة بالظلم فظلموا أقوامهم، وستروا عنهم الحق، مع أن أولئك الذين قالوها كانوا في أنفسهم من أعرف الناس بصدق النبي، وأن ما قاله ليس إلا الحق، ولكنهم حسدوه وبغوا عليه، ولما عاش بينهم أربعين سنة ما كانوا يلقبونه إلا بالأمين والصديق، فهذا الذي لم يكذب على الناس مدة أربعين سنة أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً! كلا.
ثم هم يعلمون من أين له هذه المعارف والعلوم التي كانت مجهولة للعوالم كلها وإلى الآن؟! فالقرآن ليس معجزاً باللفظ فقط، فهو معجز باللفظ والمعنى، وفي كل ما أتى به من معارف سماوية وأرضية، وما كان وما يكون إلى قيام الساعة على كثرة الأعداء، وعلى كثرة الكفار لم يستطع أحد أن يثبت يوماً نقصاً في القرآن: لا في اللفظ، ولا في التعبير، ولا في المعنى، ومن أيام قريبة كتب فرنسي كتاباً يقارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقد أتى بالآيات التكنولوجية، أي: العلوم التطبيقية من علوم سماء وأرض، وطب وهندسة، وصيدلة.. وما إلى ذلك، جاء بالآيات التي تكلمت في هذا، وجعل يقارنها بما ذكر في التوراة والإنجيل، فقال: كل ما ذكر من ذلك في التوراة والإنجيل لم يكن صحيحاً من قبل، ولا يؤكده العلم اليوم، ثم جاء إلى ما يسمى بالعلم الحديث، فقال: كل ما وصل إليه العلم الحديث الآن -وهم يزعمون أنهم قد وصلوا من العلم إلى الدرجة القصوى- قد قاله القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة، والكثير منهم لا يزالون مترددين ومتشككين فيه، ولكن القرآن قد أخبر وأكد وأثبت سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، فالإيمان والهداية بيد الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، والله قد قال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18]، وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] فليس على رسول الله الهداية، فذاك أمره بيد الله، ومن باب أولى ليس على الدعاة إلى الله ولا على العلماء ورثة الأنبياء أن يهدوا الناس، ولكن عليهم أن يبلغوا رسالة نبيهم وكتاب ربهم، ويكونوا بذلك قد أزالوا العهدة عن أنفسهم، وأما الهداية فهي توفيق من الله، ونور يقذفه الله في قلب الإنسان، فإن اهتدى فهو المطلوب، ويعين على نفسه بالإكثار من الضراعة والدعاء إلى الله بأن يعلمه وينير بصيرته.
قوله: (فقد جاءوا ظلماً وزوراً) أي: ظلموا الناس، وظلموا أنفسهم بالافتراء والكذب على الحق، (وزوراً) أي: شهدوا شهادة الزور التي ما سمعتها أذن، ولا رأتها عين، ولا تأكدتها نفس، ولا علمتها معرفة، وإن هي إلا الأضاليل! وهكذا إلى عصرنا جاء من يزعم أنه فيلسوف كبير، وعالم كبير، وصرح بالكفر، فقال مثل ما قال الأميون قبل، ومثل ما قال الجهلة قبل، ومثل ما قال الكفار قبل. ثم زادوا فقالوا شيئاً آخر:
وقال هؤلاء الكفار أيضاً، وهم أنواع وأشكال، فهذا الذي قالوه قديماً هو الذي يقال حديثاً، وكأن هذه الآيات أنزلت الآن لتكون رداً على هؤلاء، قالوا: اكتتبها، أي: طلب كتابتها، وهو أمي لا يكتب، وأساطير الأولين جمع أسطورة، كأحاديث وأحدوثة، وهو من التسطير والكتابة، قال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]، فهي كتابة طلب تسطيرها وكتابتها ممن يكتب، ومن كان يكتب؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يكتبون فكتبوا للنبي هذا عليه الصلاة والسلام؟! أكتبها هذا الرومي أو هذا النصراني أو هذا اليهودي؟ ثلاثة من البسطاء السذج وهم لا يعلمون الكتابة لا بالعربية ولا بغيرها، ولا يعلمون معرفة، ولا يكادون يبينون بالفهم والمنطق والسماع.
قوله: (وقالوا أساطير الأولين) فهذه أخبار الأولين، وأين الأخبار الجديدة؟ القرآن ليس فيه أخبار الأولين فقط، بل فيه أخبار الأولين وأخبار الآخرين، وفيه الحكم والمعارف والآداب والحقائق، وفيه الحلال والحرام والعلوم، وليس فيه فقط علم السماء، وعلم الأرض، وعلم خلق البشر، وإنما في القرآن كل شيء، قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].
قالوا: هذه أساطير وأقاصيص الأولين اكتتبها، وما سوى ذلك من الذي كتبه؟ ومن كان له هذا العلم بالغيب بكل هذه الدرجة؟ ومن كانت له هذه المعارف التي أعجزت الأولين والآخرين؟! ولكن هذا فعل المجانين عندما يعجزون تجدهم تارة يضربون باللسان شتماً، وتارة باليد ضرباً.
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5] أي: يكتتبها، ثم (تملى عليه) أي: تقرأ وتتلى عليه، من الإملاء.
(بكرة وأصيلاً) صباحاً وعشياً، هكذا زعموا.
أي: قل يا محمد لهؤلاء وأمثالهم: (أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)، وهذا القرآن كله أسرار، وقد ذكر الله فيه غيباً لم يكن يعرفه أحد، ولكن الذي أملاه وأوحى به، والذي أنزله هو من يعلم السر في السموات والأرض، وأما هؤلاء فمن أين لهم علم السر أو علم الجهر؟ من أين لهم العلوم والمعارف التي لم تحدث بعد، ولم تكن بعد، ولم تخطر على بال بشر بعد، وما صحت إلا بعد ذلك بألف عام، ولا يزال يصح بعضها مع مرور الزمن؟ فالقرآن فيه ذكر اختراع السيارة، والوصول إلى القمر، وكل ما يحدث إلى الآن، كل ذلك أخذ من كتاب الله، وأخذ بياناً من حديث رسول الله، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل) هو الذي يفصل بين الحق والباطل، وهو الذي يبين الحقائق من الأكاذيب، وهو الذي يبدد الظلمات ليحل محلها النور، وهو الذي يعلم الجاهل فيزيل جهله، وهو الذي ما إن تركه جبار إلا وقصمه الله وقضى عليه في الدنيا قبل الآخرة، وعذب عذاب الدنيا ونحن نرى هذا، فمن سبقنا من الأباطرة المسلمين ممن يشبهون الأكاسرة والقياصرة، وتركوا القرآن حاكماً ماذا جرى لهم؟ الكثير عذب في حياته، فسملت عيناه بالنار إلى أن سالتا، وأصبح يتسول على أبواب المساجد ويقول: خليفتكم لا طعام له ولا خبز، وقد كان أيام حكمه طاغية من الطغاة، جبار من الجبابرة، فرعون من الفراعنة، قد كان هذا كثيراً في أيام بني أمية وأيام بني العباس وأيام آل عثمان، وأين ذهبوا؟ وما الذي جرى لهم؟ من الذي يذكر بخير؟ من الذي خلد مع الخالدين؟ الخلفاء الراشدون الذين لا يذكر أحدهم إلا ويقال مع ذكره: رضي الله عنه، ولم يذكر إلا الصالحون فنقول: عمر بن عبد العزيز: رحمه الله ورضي الله عنه، ونقول هكذا عن الحكام العادلين، وأما أولئك فلا يذكرون إلا ويذكر الظلم معهم، واللعنة تتبعهم، وقد قصمهم الله في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
قال تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6] وماذا تعلمون أنتم؟ والذي يعلم السر هو يعلم الجهر، أنزله الله جل جلاله خالق السموات والأرضين لا كما يزعم هؤلاء الكاذبون المشركون.
قوله: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6] قال الحسن البصري : أرأيتم أكرم من الله؟ أرأيتم أكثر جوداً من الله؟ أرأيتم أكثر رحمة من الله حتى مع الكافرين؟ قال الله عن هؤلاء الكافرين وقد طعنوا في كتابه وكذبوه سبحانه، وطعنوا في نبيه وكذبوه، ومع ذلك قال عنهم إن رجعوا عن ذلك فتابوا وأنابوا فإنه يغفر لمن تاب، ويرحم من تاب، ويغفر ذنوب من تاب، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام شرحاً لذلك: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما قبله.
وهكذا تجد الله في الوقت الذي ينذر ويتوعد ويهدد يعود فيذكر الرحمة؛ لأن الله قال عن نبينا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة)، ففي وقت العنف والشدة والبطش يعود فيذكر رحمته ومغفرته؛ لعله يعود إلى الله ويتوب، وقد قاله البعض ورجع وتاب وأناب، وأصبح من كبار الفاتحين وكبار الصحابة، فلا يذكرون إلا ومعهم الرضا.
والنبي عليه الصلاة والسلام أخرج من مدينة وحيه ومسقط رأسه الشريف بعد أن تحمل الشدائد من كفار مكة، وخرج وهو لا يريد الخروج، خرج فراراً بدينه، وفراراً برسالته إلى أن يتمها ولم تتم بعد، ومع ذلك عندما نصره الله وأظفره الله بمكة وأعداؤه من الكافرين فيها ماذا صنع بهم؟ إنه لم يأمر إلا بأربعة عشر فرداً منهم، حيث قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة، ومع ذلك بعض هؤلاء جاء مختفياً مستغفراً، فتاب عليه واستغفر له، وبعضهم فر منه، فتاب عليه واستغفر له، والبعض قتل، أما الآلاف فقد تجمعوا بين يديه وأخذ يسألهم: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟! فنسوا طغيانهم وظلمهم وتآمرهم في كل وقت بقتله وبسجنه وتعذيبه فيما كانوا يريدون، فأخذوا يتملقون ويتمسحون فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، وإذا بالنبي الكريم الذي كان حريصاً على هداية قومه لم يزد على أن قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسامحهم عليه الصلاة والسلام، وضرب لهم في الإسلام أجلاً أربعة أشهر، والعرب ما كان يقبل رسول الله منهم إلا الإسلام أو السيف، ولذلك فكل من يزعم أنه عربي وليس بمسلم كذاب، وانظروا الآن هؤلاء النصارى الذين يقتلون المسلمين، واليهود الذين كانوا في بلادنا وخرجوا وهم الآن يقتلون المسلمين؛ أول ما يفعلون أنهم يتبرءون من العربية، ويقولون: لم نكن عرباً يوماً! هكذا يجري الآن في لبنان وفي فلسطين، وهكذا أقباط مصر، وهو الواقع، وقد نص المؤرخون على أن النبي عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدين بعد أن فتحوا العراق والشام لم يبق عربي إلا وأسلم، فكل من يزعم العربية من غير المسلمين فهو كاذب مفتر ليس بعربي.
قال تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6].
فإن كان غفوراً للظلمة للكافرين فهو أولى بأن يغفر للمؤمنين في بعض عصيانهم ومخالفاتهم، وهم منطوون على التوحيد والإيمان بالله، وبرسول الله، وبكتاب الله الحق، فالله غفور رحيم، ولكن لا يغتر الإنسان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الكافر ما عند الله من مغفرة لطمع فيها، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من عذاب ليئس من رحمة الله)، ومعنى ذلك: يجب على المؤمن ألا يغتر، فعليه أن يستمر على العبادة والطاعة ولا يقول: الله غفور رحيم، ومن قال لك: إنه سيغفر لك أنت بالذات؟ ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن النار تجمع مؤمنين عصاة ثم يخرجون، وتجمع كافرين أبداً ولا مغفرة ولا رحمة، فمن يدرينا أن أحد هؤلاء الذين يكونون في النار واحد منا؟ إذاً: ماذا نصنع؟ نكثر من الطاعة والتوبة والاستغفار، ونقول ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (خيركم من مات على رقعه) أي: ثوبه، أي: أنه أذنب ثم رقعه -أي: تاب-، ثم انقطع ثوبه وتمزق -أي: أذنب- ثم خاطه -أي: تاب-، وهكذا خير الناس من مات على التوبة والمغفرة، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
انتقلوا من القرآن إلى النبي نفسه عليه الصلاة والسلام، فقالوا على القرآن ما سمعتم هذه المرة، وأرادوا أن ينتقصوا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، وهذا جنون آخر، فقالوا: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7].
قالوا: هذا النبي يقول: إنه نبي، وهو يأكل كما نأكل، وبطبيعة الحال من يأكل يذهب إلى الخلاء، فأرادوا أن يتنقصوه بذلك، وتصوروا أن النبي لابد أن يكون ملكاً، أو يكون نوعاً من البشر لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يلد! وهذه صفات الله وليست صفات البشر، وصفات الملائكة، فالله الذي لا يأكل ولا يشرب، والملائكة خلقهم من نور وأغناهم بالذكر عن الطعام والشراب، وقد قال النبي عن الملائكة بأن طعامهم وشرابهم هو الذكر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع) وهم يخرج الذكر منهم كما يخرج النفس منا، كما أن الإنسان منا إذا انقطع نفسه مات الملك كذلك لا يستطيع أن يقطع الذكر، فالذكر له كالنفس فإذا وقف مات، وهو لا يموت إلى آخر الدهر.. إلى يوم القيامة ثم الكل كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
فهؤلاء عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأكل ويمشي في الأسواق، فهم قد رأوا القياصرة والأباطرة من الملوك لا يرونهم في الشوارع، ولا يأتي أحدهم ليشتري خبزاً أو يشتري الزيت، ولا يفعل ما يفعله بقية الناس، هم كانوا يريدون من النبي هذا الفعل، فإذا كان بشراً لابد أن يكون مثل كسرى وهرقل ، يترفع عن أن ينزل في الأسواق، والنبي لابد له من النزول إلى الأسواق، ولابد له من أن يتكسب، ولابد له من أن يبيع ويشتري، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في بيته يذبح شاته ويسلخها، ويعين أهله في شئون البيت، وباع واشترى عليه الصلاة والسلام بما يعيش به، فهو إنسان، وعلى إنسانيته هو رسول ونبي، فقد فعل الله هذا بالأنبياء المرسلين قبله.
قوله: لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] فهم آمنوا بأنبياء سبقوا، فالنصارى وآمنوا بعيسى وبأنبياء بني إسرائيل، واليهود آمنوا بموسى وهارون وهم يعلمون كلهم أن موسى تزوج وولد، وأن هارون تزوج وولد وأكل وشرب، وذهب إلى الأسواق، ورضي وغضب، ومرض وارتاح، وأخيراً مات وفني.
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان:7] لماذا لا يكون معه ملك فيكون معه نذيراً؟ فلو جاء معه ملك ومشى معه في السوق وجعل يقول: يا جماعة! أنا ملك، ولو قال: أنا ملك لكذبوه وقالوا: أنت لست ملكاً؛ لأنهم سيتصورون أن الملك لا يرى، ولو نزل عليهم بأجنحته التي تغطي الأفق لفزعوا، ولربما جنوا، ولو نزل عليهم في سورة بشر كما حدث لجبريل حيث نزل في صورة أعرابي، ونزل كثيراً في صورة دحية الكلبي لو رأوه لقالوا: هذا دحية الكلبي أين جبريل؟ هذا بدوي أعرابي أين جبريل؟ أين الملك؟ ولذلك فهؤلاء لا يسألون عن الحقائق، وإنما هم متعنتون، هم افترضوا من الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس صادقاً، وأن القرآن ليس كلام الله، فهم كلما وصلوا إلى هذه الأكاذيب والأضاليل وعندما يطلبونها لا يقصدون الطلب، وإنما يقصدون التعنت بحيث لو أجيبوا لما طلبوا لما آمنوا، ولعلهم يزدادون كفراً، وإصراراً على الكفر.
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان:7] لو أنزل الله ملكاً يعاونه، ولم يحتج إلى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فمن هؤلاء الكفار من آمن وكانوا معه أعواناً ووزراء ومعزرين ومؤازرين، وقد توفي عليه الصلاة والسلام كما يتوفى كل الخلق والبشر، وقام بالرسالة بعده وبدولته وبأحكامه بعده خلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، والصحب الكرام من الرعيل الأول، ولم يحتج الإسلام إلى ملك، ويكفي أن ينزل الملك بكتاب الله وحياً على نبيه عليه الصلاة والسلام، وفي هذا كفاية.
قوله: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7] أي: فيعينه على النذارة والدعوة إلى الدين والإسلام، (لولا أنزل) أي: هلا نزل، فهم يطلبون ذلك ويحضون عليه.
لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7] ينذر ويبشر معه، ويهدد معه، إذاً لأصبح رسول البشر ملكاً، ولو كان ملكاً لجعله الله رجلاً لنفهم عنه ويفهم عنا، ولو جاءنا إنسان من الأفق له من الأجنحة مثنى وثلاث ورباع كما وصف الله الملائكة بأجنحتهم فكيف سنستفيد منه؟ ولو نزل أمامنا لغطانا، ولكدنا نسحق تحت أجنحته وبدنه، ولو جاءنا بشراً لقلنا: هذا بشر، فما الفرق بينه وبين بشر محمد وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه؟!
ثم قالوا كلام آخر: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ [الفرقان:8] أي: يرمي له الله من السماء بكنوز.
قال تعالى: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8].
أي: هؤلاء بقوا على ضلالهم وأكاذيبهم بجملة ما قالوا، حيث قالوا: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان:7-8] قالوا: لماذا لا ينزل عليه كنز من السماء يستغني به عن المشي في الأسواق وعن البيع والشراء؟! ولو حدث هذا لقلتم: تأتيه الأموال من كسرى وهرقل ، وهكذا يفعل هؤلاء المتعنتون الكفرة!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر