إسلام ويب

تفسير سورة النور [3-5]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حفظ الله أعراض المسلمين من أن يتعرض لها بالكلام، فجعل حد القذف ثمانين جلدة، وحكم على القاذف بالفسق ورد الشهادة إلا أن يتوب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة...)

    قال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

    ينكح هنا معناها: الجماع لا الزواج، وأدخل بعض المفسرين فيها حتى الزواج، والمعنى: الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهذا طبيعي، فإنها ما طاوعت حتى كانت زانية مثله، أو كانت مشركة تحلل ذلك ولا دين لها، فإذاً: لا يقع التطاوع بين زانٍ وزانية حتى يكون كلاهما زانياً ولصاً من لصوص الأعراض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4].

    هذا هو ما يسمى بالقذف، فعندما يعف الرجل والمرأة ثم يأتيهما مجرم فيتهمهما ويقذفهما بالزنا، فقد جعل الله على القاذف إن قذف محصناً أو محصنة ثمانين جلدة.

    فمن كانت عفيفة متزوجة، أو سبق أن تزوجت، أو عفيفاً مسلماً تزوج أو سبق أن تزوج، ثم جاء هذا فقذفه وقال له: هو زان، أو قال له ما يشعر بذلك أو يؤكده، يقول تعالى: من قال ذلك وقذف به يجب أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون في آن واحد، فيقولون: رأينا مرود فلان في مكحلة فلانة، أو رأينا الذكر في الفرج، وإذا لم تكن الشهادة في وقت واحد فإنها تسقط ولا تقبل بحال، وإن نقص عن الأربعة واحد فإنه يعتبرون قذفة، ويجلد الثلاثة ثمانين جلدة.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ [النور:4] جعله الله رمياً كمن يرمى بالرصاص، وجعله قذفاً كمن يقذف بالحجارة، فشرف الإنسان وعرض الإنسان وكرامة الإنسان عادة أشرف وأعظم من حياته، فكيف يقذف ويتهم في دينه وهو محصن وزوج وأب، وقد يكون جداً، فهذا الذي فعل ذلك أتى إثماً كبيراً، لكن إذا أتى بالشهداء الأربعة ليشهدوا بذلك فذاك زان، وحق عليه الردع والزجر بإقامة الحد، وهو الرجم، فإن لم يفعل فهو عند الله كاذب، فيجب أن يؤدي جزاء كذبه ثمانين جلدة، وليشهد عذابه أو عذابهم طائفة من المؤمنين، وحضور الطائفة في حدود الله رجماً أو قتلاً أو صلباً أو تقطيعاً أو جلداً لابد منه؛ لإتمام العقوبة وزجر الآخرين ممن تحدثه نفسه في أن يرتكب مثل ارتكابه، وأن يجرم مثل جرمه، ولو لم يكن ذلك لما أفاد حد ولما أفادت عقوبة، وفي مثل هذا يقول ربنا جل جلاله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

    وذلك أنك لو لم تقتل القاتل لفعل ذلك كثيرون ممن تحدثهم أنفسهم بإزهاق الأرواح وبالقتل، فعندما يرون القاتل يقتل تجدهم ينكصون على أعقابهم، وأما لو يعلمون أنهم سيسجنون وفي يوم من الأيام سيطلق سراحهم، أو يؤدون الغرامة فهذه ليست جزاءً وفاقاً، ومن هنا امتلأت الأرض جرائم، حيث جاء هؤلاء الذين يقولون بالشفقة والرحمة وأن السجن مدرسة.

    ونحن نقول: السجن خمّارة، والسجن مدرسة للفساد، فيدخل الرجل عفيفاً لسبب من الأسباب وقد يكون سياسياً، فيخرج من أخبث خلق الله في الغالب؛ حيث يفسده من معه، فيعلمونه الحشيش والخمر والفساد بكل أنواعه، ويتركون زوجته وهي في حاجة، وقد تضل وتفسد، ويتركون أطفاله في الشوارع يحتاجون ويجوعون، لم كل هذا؟ إن قتل فاقتلوه والله تعالى يعوض على الزوجة، والأولى أن تتزوج، ويشرف على الأولاد غيره، أما وهو حي فهذا لا يتم، وليس هناك إلا الفساد ونشر الفساد، ولذلك تجد جميع قوانين الأرض غير القوانين الإسلامية لا تدعو إلا للفساد وللظلم، وهذا معنى قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].

    فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

    وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

    ظالمون؛ لأن هذه الأحكام ليست عدلاً بل هي الظلم بعينه، وليست إيماناً بل هي الفسق بعينه، وليست إسلاماً بل هي الكفر بعينه؛ لأنه خالف كتاب الله، وخالف سنة رسول الله، وألغى الحدود، ولا يفعل ذلك إلا كافر ظالم فاسق، وهكذا حدث.

    وكما ورد عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أن الناس في آخر الزمان كما دخلوا في دين الله أفواجاً فسيخرجون منه أفواجاً.

    وأحد المعاصرين من العلماء الأفاضل الدعاة إلى الله كتب بحثاً وألقى محاضرة ونشرها في غير ما قطر من أقطار الإسلام قال: ردة ولا أبا بكر لها، فالردة الأولى التي كانت عقب الموت النبوي عندما ذهب للرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، وجد لتلك الردة الخليفة الأول أبو بكر فردعها وزجرها وقضى عليها، فإما العودة إلى الإسلام أو الموت والدفن في التراب، وهذه الردة لا رادع لها ولا زاجر عنها، ولا من يهتم بها، وفي أكثر هذا تجد الرجل قد ارتد وهو متزوج مسلمة صالحة، والزوجة قد ارتدت وتتزوج مسلماً صالحاً، والزواج بينهم مفسوخ لأنه لا يصح الزواج بين كافر ومسلم.

    فالمسلمة لا تتزوج إلا مسلم، والمسلم لا يتزوج إلا مسلمة أو كتابية تحت ذمة المسلمين وتحت أحكامهم وليس تحت ذمة غيرهم، فالمسلمون اليوم يعيشون تحت الذمة، فعندما يتزوج المسلم الكافرة يعرض أولاده للكفر وللردة وللذهاب للكنائس والابتلاء بالبيع، وكم رأينا ورأيتم من هذا الكثير في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4].

    رموهم وقذفوهم ولم يؤكدوا دعواهم وقذفهم للمحصنات بالشهداء، والمحصنات يدخل فيها المحصنون.

    قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].

    هذه هي العقوبة الأولى، وهي تقع على كل عضو من أعضائه سوى القبل والدبر والوجه كما تقدم في الزنا.

    قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4].

    لأنهم أصبحوا قذفه، وأصبحوا فساقاً ولم يبقوا مزكيين ولم يبقوا عدولاً، فلا تقبلوا لهم أي شهادة، ولو شهد على بصلة فهو فاسق.

    فالعقوبة الأولى: الجلد، والعقوبة الثانية: أن تلغى شهادتهم وتزكيتهم.

    وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4].

    حكم الله عليهم بأنهم فسقة، وأصبحوا فجاراً، ولذلك لا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وعمر رضي الله عنه في أيام خلافته جاءه أربعة شهود يشهدون على فلان من أمرائه أنه زنى بفلانة، فشهد ثلاثة أنهم رأوا فلاناً على فلانة وسموه -وأنا لم اسم احتراماً لمقام الصحبة- وأما الرابع فكان شاباً في حدود العشرين، وكان يظهر من ملامحه الذكاء، وكان له شأن بعد ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، رأيت فلاناً يجهد فلانة، وهو بين شعبها الأربع، ولكنني لم أر مروداً في مكحلة، وإذا بـعمر يقول: الله أكبر! ودعا بالسياط ودعا بالجلادين فجلد الثلاثة كل واحد ثمانين جلدة، وكان أحدهم من صالحي الصحابة ومن كرامهم ومن كبارهم، وكان يجلد وهو يقول: أشهد بالله لقد رأيته فاجلدوا أو لا تجلدوا، فجلده الثمانين، ثم بعد ذلك حاول أن يجلده مرة ثانية؛ لأنه أصر، وإذا بمن كان حاضراً من الصحابة قال: يا أمير المؤمنين التهمة واحدة، وإنما كرر القول، ولذلك لا يجلد مرتين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ...)

    يقول الله بعد ذلك: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5].

    فهم فساق بحكم الله، فتمنع شهادتهم، وتزول تزكيتهم، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] لم يغلق الله باب رحمته على المؤمن مهما صدر منه، ومع هذا الحكم من الجلد ومن التفسيق ومن إلغاء الشهادة إذا هؤلاء تابوا إلى الله بعد ذلك وأنابوا وأصلحوا، ومعنى الإصلاح: ألا يعودوا لاتهام أحد، ولا لقذف محصنة ولا محصن، فهؤلاء يعتبرون قد تابوا، فإذا تابوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5] يغفر الذنوب ويرحم العصاة، وباب رحمته مفتوح باستمرار، ويمد يده في النهار لمستغفري النهار، ويمد يده بالليل لمستغفري الليل، ولكن الناس يفرون ممن يرحمهم، ويغفر ذنوبهم، وإلا فالله يغفر الشرك ويغفر الكفر به، والإسلام يجب ما قبله فكيف بغير ذلك، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم مع عصمته وجلالته يقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) يعلمنا بذلك أن نستغفر الله، ولذلك ورد في الأذكار والأوراد أن يستغفر الإنسان خلف كل صلاة، وأن يجدد الاستغفار عند كل وقت: عند النوم، وعند الصحو، وعند النهاية من الصلوات، وفي كل ما يصدر منه ويظنه معصية ولو وهماً ليستغفر الله؛ عسى الله أن يغفر ذنوبه، وعساه إن مات يموت على مغفرة، ويموت على رحمة.

    وهذه الآية للقذفة الذين يقذفون المحصنات، وأما الذي يقذف الحدث البكر العزب غير المحصن فهذا يعزر؛ لأن قذف المحصن ليس كقذف العزب المحصن، فهناك حق زوجته، وهناك حق أولاده؛ ولأن الجريمة لو ثبتت وقد أعلنها هؤلاء لكان جزاؤها الرجم وهي عقوبة شديدة، وأما العزب فالعقوبة الجلد، والتغريب عاماً، وشتان بين مائة جلدة وتغريب عام، وبين الرجم والنفي من الحياة كلها.

    لذلك فإن جزاء قذف المحصنين والمحصنات ثمانون جلدة، وقذف البكر والعزب أنثى كان أو ذكراً، جزاؤه التعزير، والتعزير لا يزيد عند بعض الأئمة على عشر جلدات، ولكن للحاكم أن يقدر مقدار ما صدر عنه من إيذائه لهذا الشاب أو لهذه الشابة، كأن يريد مصاهرة إنسان في ابنته فيأتي هذا ويقول: فلان أنا رأيته زانياً، فيفسد عليه المصاهرة التي كان يمكن أن تكون ربحاً له في الدنيا والآخرة، وقد يقذف البنت فيقول: تأخذ فلانة وأنا رأيتها مع فلان، وهو كاذب، فهذا ينظر الإمام فيه ويرى رأيه.

    وقد يكرر التعزير بمقدار ما تأذى به المقذوف، والعدل قامت عليه السموات والأرض، وبه جاء الإسلام، ولذلك كان القرآن والسنة المطهرة هما العدل المطلق بين كل البشر: مؤمنهم وكافرهم، صديقهم وعدوهم على حد سواء.

    إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [النور:5] أي: من بعد القذف ومن بعد قيام الجلد، ولو تاب قبل الجلد فذلك لا يعفيه من العقوبة، ولا يعفيه من الحد، والضابط في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعافوا قبل أن تأتوني) أي: فليعف أحدكم ذنب الآخر في حد قبل أن تصلوا إلي، أما إذا وصلت التهمة إلى الحاكم فلا عفو، فلابد من قيام الحد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768245859