الكلام هنا على أكثر الناس وهم الكفار، على الروم المتحدث عنهم في أول السورة المسماة باسمهم، قال تعالى عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
وهذه الآية من أكبر معجزات القرآن في عصرنا لمن عاش عصرنا، ولمن رأى رؤيتنا، ولمن رأى هذه المخترعات الطويلة العريضة في مختلف أقطار الأرض عند الروم، فغرتهم، وذهبت بفهمهم وإدراكهم، فأضاعت دينهم أو كادت، وزلزلت عقيدتهم أو كادت، والكثيرون خرجوا من دين الله أفواجاً كما دخلوا فيه في عصر النبوة أفواجاً؛ اغتراراً وضلالاً بذلك، وذهاباً بعقولهم إليهم وهم لا يعلمون.
قوله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6] يعدل: ولكن الكافرين لا يعلمون، فعاد بالضمير لأكثر الناس فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7].
وكيف نسب لهم العلم ثانياً وقد نفاه عنهم أولاً فقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:6-7].
هنا نكتة وحكمة انتبه لها الزمخشري ونقلها عنه المفسرون بعده قاطبة، فقال: كيف نسب لهم العلم أخيراً ونفاه عنهم أولاً؟ قال: هو علم أقرب للجهل، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7].
و(ظاهراً) نكرة مطلقة، أي: شيئاً حقيراً وشيئاً قليلاً من هذه الدنيا، ولا يعلمون باطنها، ولا يحرصون على معرفة باطنها، فحتى الحياة الدنيا جهلوها فضلاً عما يجب أن يعلموه، ويدينوا به، ويقوموا على أساسه، وبه كانوا بشراً ذوي عقول، وذوي رسالات، وذوي كتب سماوية.
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] أي: يعلمون الظواهر من الدنيا، فيعلمون كيف يزرعون، وكيف يحرثون، وكيف يتجرون، وكيف يصنعون الباخرة، وكيف يصنعون الطائرة، وكيف يصنعون سلماً، وكيف يتفننون في الأبنية فما هو مكون من طابق واثنين إلى سبعين وثمانين طابقاً، ولا يعلمون أكثر من ذلك.
فهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ولكنهم يجهلون باطنها، فلم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا أنفسهم: من أنا؟ وكيف خرجت لهذا العالم؟ ولماذا جئت؟ وإلى أين المعاد؟ وما الحياة وما الممات؟ ومن الذي خلق هذه السموات؟ وسينبه الله عن هذا في الآية الثانية، وسنشرحه هناك.
فالدنيا نفسها لا يعلمون إلا جزءاً من ظاهرها وليس جميع الظواهر، فلا يعلمون بواطن الدنيا، ولا يعلمون كيف صعدوا بالطائرات إلى الأجواء، ولا كيف مخروا البحار بالبواخر؟ وكيف قامت هذه الأبنية ذات السبعين والثمانين والمائة طبقة في أجواء الفضاء؟ وكيف عاشوا هم في هذه الدنيا؟ وهل الطعام والشراب يعطي روحاً؟ وما هو العقل؟
وما هي هذه الجوهرة التي بها يكون التدبير، ويكون الوعي، ويكون التذكير، ومن إذا فقدها لا يستطيع شراءها ولو بملء الأرض ذهباً؟ فتلك عطية الله إذا أخذها لا يستطيع أحد أن يأتي بها أو بمثلها، كل ذلك عن الروح، وقل ذلك عن العقل، وقل ذلك عن النفس، وقل ذلك عن البصر، وقل ذلك عن الكلام.
والأطباء كل ما يفعلونه أنهم إذا وجدوا في العين عروقا تالفة فإنهم يربطونها كما يربط الكهربائي الأسلاك إذا انقطعت وذهب الضوء، وأما إذا ذهبت الأسلاك وليست عنده أسلاك فلا سبيل إلى أن يأتي بالنور، وطبيب العيون إذا ذهبت العروق التي خلقها الله فلا يستطيع أن يأتي بالنور، ولا بالإبصار، وإذا ذهبت عروق الصوت من الحلق لم يستطع أن يعطيك صوتاً، ولن يستطيع أن يعطيك كلاماً، وهكذا قل عن كل ظاهر، فلم يعلموا من الدنيا إلا ظاهرها، وأما باطنها فهم أبعد الناس عن علمه، ومعرفة حقيقته وكنهه، فهم جهلاء بكل شيء، وعلمهم لا يتجاوز علم القطة وعلم الكلب وعلم الخنزير، فيهمه أن يأكل وأن ينكح وأن يشرب وأن يفر من عدو، وأن يضرب عدواً، وأما ماذا وراء ذلك فهيهات هيهات.
اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، فإذا لم يعط الله أحداً من نوره لم تزدد القلوب إلا ظلمة على ظلمة، فالله يهب نوره لمن يشاء، فإذا وهب نوره وهب علمه ووهب هدايته، ولا يكون ذلك إلا بالرسل والكتب المنزلة عليهم.
وأما الخواطر والأفكار والفلسفات وما يخطر على بال الإنسان فغير محفوظ، فهو لا يزيد على أنه كلام أقرب إلى الهذيان أقرب، وفساد دليل الفلسفة وجميع الفلاسفة لا يخفى، فلا تكاد تجد فيلسوفين من القدامى أو المحدثين اتفقوا على حقيقة الحقائق -الذات العلية- على العطاء الدائم، على الحقيقة التي لا أول لها ولا آخر، عن الله الحق خالق كل شيء، ورازق كل شيء، ومعطي الحياة ومعطي الممات.
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7].
هذا الذي يعرفونه لا يتجاوز الظاهر، منذ سنين قالوا: نريد الصعود للقمر، لنرى كيف بدأ الخلق في الأرض وما هي الخلية الأولى؟ وما هي المادة الأولى؟ وكيف كان ذلك؟ فملاحدة العصر وكل الملل سوى ملة الإسلام كفرة ملاحدة لا دين لهم، فالكتابيون أصبحوا وثنيين يعبدون اثنين وثلاثة، والذين يعبدون الأحجار هم على حالهم، فليس إلا المؤمن الموحد المسلم، ومع هذا فهؤلاء المسلمون قد ضل الكثيرون منهم عندما دانوا بدينهم، وأخذوا حضارتهم، ودانوا بفلسفاتهم وأخذوا يطبقون ذلك على دينهم، فضلوا وأضلوا وخرجوا عن الإسلام.
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7].
فمنذ سنوات قالوا: نريد أن نصل إلى فلك من هذه الأفلاك التي نراها في الأجواء، فوصلوا للقمر فوجدوه كجزء من الأرض لا يختلف عن صحاريها وعن جبالها وعن وهادها، فأنزلوا منه حجارة وتراباً ووزعوه على معامل الدنيا فحلل ذلك فوجدوه من نفس مادة حجارة الأرض وترابها، وقد بذلوا في هذا الملايين من المال، وأجاعوا الكثير من الخلق، ونشروا الفتنة بين الكثير من الخلق، وكل ذلك قد علمه المسلمون منذ ألف وأربعمائة عام، ونطق به الوحي الذي لا يأتي بباطل، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30].
يخاطب الكفار -وكأن الآية أنزلت الآن- أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: متصلة وجزءاً واحداً وقطعة واحدة، ثم شاء الله في عصر من العصور وزمن من الأزمان فتق بعض هذه عن هذه، فتق هذه الأفلاك التي نراها فوق فتقها من الأرض التي هي جزء منها، فهي حجارة وتراب وجبال ووهاد، وجدوا الهواء هو الهواء على أنهم لم يجدوا هواءً، والشيء الموجود لا يكاد يذكر، وقالوا: لا حياة فيه، ولا يزالون يبحثون في أفلاك أخر هل يجدونه، ولا تظنوا أنهم وصلوا إلى السماء فهيهات ذلك، فالمصباح المعلق في السقف ليس هو السقف، وقد قال الله عن هذه الأفلاك: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5].
فهي زينة السماء الدنيا، وأما السماء التي يسري إليها خاتم الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم فبيننا وبينها خمسمائة عام، وهي مغلقة، وهي طبق على طبق، وهيهات أن يستطيع أحد أن يصل إليها، فالشياطين يحاولون أن يقتربوا ليسترقوا السمع من الملائكة، فيسمعون كلمة واحدة يعطونها للسحرة وللكهنة، ويزيدون في الكذبات عليها تسعة وتسعين كذبة، فتضيع هذه الكلمة إن صحت بين تلك الكذبات، ولكن لا يكادون يقتربون من ذلك المكان إلا وتأتيهم شهب حارقة تحرقهم جميعاً وكأنهم لم يكونوا ولم يولدوا ولم يخلقوا.
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
أكد الله ذلك بـ(هم) مرتين، وبالجملة الاسمية مرتين، فهم غافلون عن الآخرة ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، ولا يكلفون أنفسهم بمعرفة شيء عن الآخرة، وهذا شأن الكافرين الضالين والعصاة المتمردين، والآخرة لا تعرف إلا عن طريق الوحي وعن طريق كتب السماء، وعن طريق الرسالات، فكان الله يرسل في كل أمة رسولاً فضلاً منه وكرماً، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
ولكن الله لم يذكر في الكتاب المنزل إلا أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين من الأنبياء، وقد قال وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78].
فمنهم من قصه وذكره في الكتب كآدم وإدريس ونوح ومن بعدهم.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78] فلم نذكره ولا بكلمة عنه، وقد أشير إلى البعض.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الرسل والأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً ورسولاً، ولم يذكر الله ويتكلم إلا عن خمسة وعشرين حيث أخْذ العبرة والحكمة بما يهدي المؤمنين، ويهدي الناس أجمعين، ومن حجرت عنه الهداية، فستكون حجة الله عليه بالغة، فقد أرسلت إليه الرسالات، وجاءه الأنبياء، وأعلن له من الحق ما أعلن.
ثم فصل الله تعالى فقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم:8].
يحكي الله عن هؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بظاهر الحياة الدنيا، فتجد الرجل الطويل العريض منهم يسمونه بالأستاذ الكبير، ويسمونه بالعالم الكبير، ويكتبون له من المؤلفات العشرات والمئات، وإذا أخذ يحدثك عن الله والدار الآخرة حدثك حديث حيوان أعجم، ولذلك نفى الله عنهم العلم البتة، فقال: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فأكثر الكفار لا يعلمون، ثم عاد فنسب لهم علماً هو إلى الجهل أقرب.
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، فيعلمون كما تعلم الدابة: كيف يأكلون، وكيف يشربون، وكيف يخزنون هذا الطعام، وكيف يخزنون هذا الشراب، ومع ذلك كم عجزوا فتمضي سنوات ويموت مئات الملايين من الخلق جوعاً، فلم يستطيعوا توفير الطعام والشراب لهم على كثرة خيرات الأرض، وكثرة الغيث من السماء على الأرض، وما في البحار من حيتان ولحوم وأرزاق، وما في الأجواء والغابات من أنواع الطيور، وما فيها من أنواع الحيوانات والصيد، ومع ذلك الناس يموتون جوعاً.
ففي إفريقيا يموت ملايين من الخلق جوعاً، وفي الهند يموت كل سنة ما يزيد على عشرة إلى خمسين مليون جوعاً، وفي الصين كل سنة يموت ما بين خمسين إلى مائة مليون جوعاً، وهذا ما يقول الله عنه: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، فلا ينبغي لمؤمن أن يكبروا في عينه، وأن يحسب لهم حساباً، فهم لا يزيدون فهماً على ما تفهمه الدابة من السعي لطعامها، وعلى ما يفهمه الكلب من السعي وراء فريسته، وعلى ما يعلمه الخنزير من البحث عن طعامه في المزابل والقاذورات والأوساخ، ومن يحاول أن يأخذ علمه وهدايته وحضارته منهم فقد ترك النور الحق وذهب إلى الضلال، وترك الرحمن وذهب للشيطان، وترك الدين الحق دين التوحيد وذهب إلى هؤلاء الذين لا يعلمون شيئاً، وحتى ما يعلمونه من الحياة ظاهراً لا يكاد يذكر، ولا تكاد يعتبر، فلا تجاوز طعاماً في بطن، وشراباً، ولبسة على الظهر، وليس ذلك لكل الخلق والبشر في الأرض.
ثم بعد ذلك: كيف الإبصار؟ وكيف الذوق؟ وكيف الهضم؟ وكيف الإنسان ما دام حياً يبقى كما هو، فإذا مات ففي اللحظات الأولى يتفطر وتخرج روائحه، فأقرب الناس إليه يذهبون به مسرعين ويخفون جيفته في الأرض وإلا فر منها الناس جميعاً؛ لشدة كراهتها؟
فمن الذي أمسك الروائح الكريهة عن الخروج والإنسان حي، فإذا لم يستطيعوا الجواب عن ذلك وسكتوا، فهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51] وهم كذلك إذ لم يكلفوا أنفسهم التفكير في ذلك.
فالله يلفت أنظارهم ويقول لهم: أولم يفكر هؤلاء الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، فهم لا يعلمون، وهم بلقاء ربهم كافرون، هؤلاء لِمَ لا يفكرون في ذواتهم، فلم نطلب منهم أن يضربوا في الأرض، ويسافروا الآلاف من الأميال جواً أو بحراً أو براً، ولكن يفكروا في أنفسهم.
ولن يستطيعوا الوصول إلى الحقيقة إلا بدلالة نبي ورسول، ولم يكن دليل الخلق إلا محمداً صلى الله عليه وعلى آله، والكتاب المرشد الهادي خاتم الكتب، وبسوى القرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم لن يصل أحد للحق لا فرد ولا جماعة، وسيبقون في ضلال يتبعه ضلال إلى الهلاك إلى أن يصبحوا يوماً بين يدي الملكين السائلين في القبر وهما يسألانهم بإزعاج وقلق: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ حتى إذا عجز عن الجواب أخذته المرازب، فيضربه الملك ضربة إلى أن يصل إلى الأرض السابعة، ثم يأخذونه بعنف.
وهكذا يبقى إلى يوم العرض على الله يوم القيامة وروحه تعذب ويزداد عذابها وتمتحن ويزداد امتحانها، وهكذا كل كافر عاش كافراً ومات كافراً.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم:8]، فليتفكروا بعد أنفسهم في هذه السموات ما هي؟ وكيف رفعت بغير عمد؟ وما الذي فيها؟ ولم كانت؟ وكيف كونت؟ ومن خلقها؟ وهذه الأرض التي نحن عليها من حملها؟ وكيف حملت؟ وأين العمد التي حملت عليها؟ وكيف جاء هذا الخلق الكثير من الإنس والجن والطير والحيوانات؟ وما هو البر؟ وما البحر؟ وما في البحر من غرائب وعجائب من أشكال زاحفة وماشية ومفترسة وصغيرة وكبير يأكل الصغير فمن خلقها؟ وما الحكمة من خلقها؟ وكيف هذه المياه لا تفيض على اليابسة وتغرقها كلها كما غرقت أيام طوفان نوح؟ وكيف تسير هذه السفن الصغيرة في البحر وهي كالرياش في مهب الرياح؟ وكيف تقطع المسافات الطويلة من شرق إلى غرب ومن شمال إلى جنوب؟ وما بين السماء والأرض خلق لا يحصيهم إلا الله، كهذه الكواكب وهذه المجرات التي تعد بالملايين.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى:29]، فمن آيات قدرة الله ووحدانية الله وجلال الله خلق السموات والأرض، وكل ما علاك فهو سماء، فالأفلاك العلوية سماء بهذا المعنى، وما سفل فهو أرض، فما تحتنا هو أرض إلى سبع أرضين، وَمَا بَثَّ فِيهِمَا [الشورى:29] أي: في الأفلاك العلوية وفي الأفلاك السفلية من دابة، والدابة: هي كل ما يدب على وجه الأرض برجلين أو أربع أو يزحف على بطنه، وحتى الطائر الذي يطير فهو في البر يمشي على رجليه، ومعنى ذلك: أن في الأفلاك العلوية كذلك دواب تمشي كما تمشي دواب الأرض، لأنه قال: وَمَا بَثَّ فِيهِمَا [الشورى:29] أي: في الأفلاك العلوية وفي الأفلاك السفلية.
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ [الشورى:29] وأعاد الضمير جمع عقلاء مما يدل أن من بين هذه الدواب دواب عاقلة كعقلاء بشر الأرض.
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29] (إذا) عندما تدخل على المضارع يصبح بمعنى الماضي، وإذا دخلت على الماضي حولته مضارعاً مثل: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1] فمعناه: عندما تقع، فهي لم تقع بعد، والواقعة: القيامة.
(إذا يشاء) إذا شاء، أي: سبق في علم الله أنه مقدر ذلك وأراده وشاءه، وسيكون يوماً من الأيام، هل نحن الذين سنلتقي بهم عندهم أم هم عندنا؟ أم أولادنا أم أسباطنا؟ الله وحده العليم بذلك.
والله يلفت أنظارنا في الكثير من آيات القرآن عند ذكره للسماء والأرض، فعلينا أن نتدبر السموات والأرض وما بينهما من هذه النجوم وهذه الأفلاك كالشمس، والقمر، والمشتري، والزهرة، وعطارد وغيرها، وهي ملايين الملايين لا يحصي عددها إلا الله، فكيف حملت في الفضاء؟ ومن حملها؟ كل هذا لم يفكروا فيه.
فالطائرة التي نركبها لو ذكرت قصتها لأجدادنا الذين لم يروها لما صدقوها، ولقالوا: إنك مجنون كيف يطير الحديد في الهواء؟ وكيف يطير بقليل من الماء؟ فهذا لا تقبله العقول ولكنه حدث، فآمنا به لرؤيتنا له.
وإذا سألتهم: كيف كان ذلك؟ فإنهم يذكرون لك خزعبلات وفلسفات، فيقال لهم: وكيف أحياناً تقع الطائرة ما دام الأمر كذلك؟ فهو كلام اخترعوه وحاولوا أن يذكروا فيه جهلهم، وما زادهم الجهل إلا عماية وضلالة على ضلال.
فلم يخلق ذلك إلا بحق وعلى حق، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالعبرة والغاية من خلق هذا العالم أن نعبد الله، فإذا خرجنا ولم نعبده فلم حياتنا؟ ولم وجودنا؟ ولم نضيّق على عباد الله المحتاجين؟ فموت هذا الذي لا يعبد خير من حياته، فعيشته في الأرض سبهللاً، فحياته إنما تكون حجة عليه في عذابه ومحنته وانتقام الله منه.
وما سخر الله هذه الأكوان إلا لهذا الإنسان العاقل، فأباح له ما في الأجواء وما في البحار وما على البراري وما بينهما، فكان سيد الأرض وخليفة الله في الأرض، والله عندما أراد خلق آدم أبينا قال لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وقال لداود نبي الله: إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26].
فالإنسان خليفة الله في الأرض يحكم بحكمه، فإذا خرج عن العدل زاغ وضل واستحق العقوبة، وما هذه الأرزاق التي يمتع بها إلا له، فإن حمد الله عليها زيدت عليه وزاده الله الجنة، وإن كفر بها انتزعها فعذبه الله في النار دواماً وسرمداً، فلم يخلقه إلا بالحق وللحق وللعدل، وبالحق نزل القرآن، وبالحق أرسلت الرسل، وبالحق خلق الإنسان، ولعبادة الله خلق.
فلا يبقى إلا وجهه جل جلاله، فالكل ميت والموت لا بد منه، وقد خاطب الله سيد الخلق فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، البر والفاجر، والصالح والطالح، والنبي والرسول، إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم:8].
كثير من الناس، أي: الكفار كلهم، وأكثر الناس كافرون بلقاء ربهم وبالبعث بعد الموت وبالجنة والنار، وبالحساب والعقاب، وبالعرض على الله.
فهؤلاء الذين علموا ظاهراً من الحياة الدنيا كفروا بكل ما سوى الدنيا، فكفروا بالآخرة، وهم غافلون عنها وعن علومها ومعارفها، والدنيا لم يعلموا إلا شيئاً من ظاهرها، وسيقص الله علينا بعدُ أن الأمم التي مضت كانت أشد قوة من هذه الأمم، وأعظم سلطاناً، وأكثر حضارة، وأكثر قوة، وأكثر زراعة، وأكثر بناء.
فهم يريدون اليوم أن يقولوا للناس: بلغت الدنيا اليوم ما لم تبلغ بعصر من العصور، كذبوا على الله وأفكوا، بلغت اليهودية في ظلمها وطغيانها منتهاها، بلغت الصليبية بلغت الشيوعية بلغ الكفر بكل أشكاله وملله ونحله، أقصى ما يمكن أن يصل إليه هو ما ادعوه من حضارة ومن مخترعات ومن مستحدثات كل ذلك ليس إلا جزءاً قليلاً مما كان عليه الأمم السابقة والشعوب الماضية من حيث قوة البدن، وقوة العمل، وسلطان السلاح، والتغلب على الخلق والبشر.
فالله تعالى في هذه الآية يأمرنا بالتفكير في أنفسنا وبالتفكير في هذه السموات العلا، وذلك رحمة بنا لعلنا نؤمن ولعلنا نصْدُق مع أنفسنا، فليس في الدنيا كل شيء، فهناك علوم أخر لا يعلم هؤلاء عنها شيئاً، فيمرون عليها وهم عنها غافلون، وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198]، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179]، ولهم قلوب لا يعقلون ولا يفقهون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل، فالأنعام تستفيد من حليبها ومن أولادها ومن شعرها، ويركب على ظهورها للسفر وقطع الآفاق، وأما الإنسان الكافر والإنسان الضال فموته خير من حياته، فهو يضيق على الناس أرزاقها، ويضيق على الناس مساكنها، فلا يظهر من دون الخلق إلا الشر والأذى، وإلا الطغيان والجبروت وإعلان الكفر ومحاربة الإسلام وأحباء الله من الدعاة إلى الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر