أي: الذين كفروا بالله رباً، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وكفروا بكون القرآن كلام الله، وكفروا بالمؤمنين إخوة، وبالكعبة قبلة، ثم كذبوا آيات الله وكذبوا قدرته وكتابه ودلائل وحدانيته والمعجزات التي أتى بها أنبياؤه، وكذبوا بيوم القيامة ولقاء الآخرة ولقاء الخلق مع الله يوم القيامة ويوم العرض عليه -مع أن الإيمان به أصل من أصول كل دين سماوي حق- فهم لم يؤمنوا بيوم البعث والقيامة وأننا نبعث بعد الموت بأجسامنا وأرواحنا بأعمالنا الصالحة وغيرها؛ ليرحم من عمل الصالحات وآمن بالله، ويعاقب ويعذب من كفر بالله وعمل الطالحات، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:16]، فهؤلاء الذين أشار إليهم من الكافرين والمكذبين والمنكرين ليوم البعث يحضرون للعذاب يوم القيامة ويجمعون للعذاب في النار، ومن هنا قيل عن الميت وقت موته: المحتضر، أي: يحتضر للموت، ويحتضر لحقائق الأشياء، وتحضره ملائكة الموت؛ لينقل إما إلى الرحمة وإما إلى العذاب، فإن كان في الجنة فقد أحضر للنعيم، وإن كان في النار فقد أحضر لعذابه.
فالله جل جلاله يسبح نفسه ويعظمها، وهنا يعلمنا جل جلاله كيف نسبحه ونقدسه ونعبده ونمجده، فهو سبحانه له الملك والألوهية والربوبية، وهو خالق كل شيء والمنفرد بالعبادة جل جلاله، وهذا خبر في معنى الأمر، فهو يسبح نفسه ويمجدها وينزهها عن كل النقائص ويعزها ويجلها، وهو العزيز الجليل جل جلاله وعز مقامه؛ لنتعلم كيف نعزه ونمجده، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وقال: حسن صحيح عن جماعة من الصحابة: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بمثل ما أتى إلا أحد قال مثل قوله أو زاد عليه).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام -وهو آخر حديث من صحيح البخاري -: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فسبحان الله وبحمده أي: إنه يحمد نفسه في السموات وفي الأرض وعشية وحين نظهر، فهو يحمد نفسه ويعلمنا كيف نحمده، ويسبح نفسه ويعلمنا كيف نسبحه، وقد روي: (أنه خرج يوماً صباحاً صلى الله عليه وسلم وترك أم المؤمنين
وكتب نافع الأزرق الخارجي إلى ترجمان القرآن عبد الله بن عباس يسأله: يا ابن عباس ! هل الصلوات الخمس مذكورة في القرآن؟ قال: نعم، ثم تلا قوله تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17]، قال: حين تمسون: صلاة المغرب، وحين تصبحون: صلاة الفجر.
وعشياً: صلاة العصر، وتظهرون: صلاة الظهر، وصلاة العشاء مذكورة في آية ذكر العورات وإخفائها، في قوله تعالى: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58] فالصلوات الخمس مذكورة في القرآن إجمالاً ومذكورة تفصيلاً، وقد أجملها الله في آيات أخرى مثل قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فالصلوات الخمس أمر بحفظها وبرعايتها وبالقيام بأركانها.
واختلف الأئمة في الصلاة الوسطى من الصبح إلى الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وقال الشافعية: هي العصر، والنص معهم ولا عبرة ببقية الآراء؛ لأنه جاء في صحيح مسلم في غزوة بني قريظة قوله صلى الله عليه وسلم عن اليهود: (ملأ الله قبورهم ناراً، شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر).
وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً فليس لأحد معه قول من صحابي فمن دونه، وثبت في صحيح مسلم : (أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر).
فقوله تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم:17]، أي: وقت المساء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17]، أي: وقت الصباح، والمساء من المغرب إلى الليل، ولذلك بعض الأئمة أدخل في المساء المغرب والعشاء، وأما الإصباح فقد ذكره الله في قوله: وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17]، أي: حين الصباح ويكون ذلك في الذكر والمذاكرة والصلاة، ولما كان التسبيح صلاة سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة: (سبحة)؛ لأنها تشتمل على التسبيح والتحميد والذكر والتلاوة، وعلى الحركات من قيام وركوع وسجود وجلوس وقيام، وعلى التكبير في الحركات، وعلى الذكر في كل حالات، فهي تسبيح لله ثم هيئة المصلي هي تسبيح بلا خلاف.
وقد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً فلم يقرأ فاتحة ولم يقرأ سورة، فقيل له: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال: ألا يستكفى في العبادة أني سبحت فقد قمت وركعت وسجدت وجلست فتلك في حد ذاتها تسبيح لله؛ لأن الركوع والسجود لا يليقان إلا بالله، فلا يركع ولا يسجد إلا لله، ولا توضع الجباه ولا الأنامل ولا الركب ولا الأيدي ولا أصابع الرجلين وخاصة إن وضعت مجتمعة إلا لله الواحد.
قال تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18].
وتقديم المعمول على العامل يفيد أن الحمد الكامل المطلق الحقيقي له تعالى، ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة أئمة ومأمومين كما هو المذهب الحق، ولا تجوز الصلاة إلا بفاتحة الكتاب، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج .. خداج .. خداج، أي: ناقصة غير كاملة، ولا تجزي ولا تكفي ولا تصح ولا تقبل إلا بفاتحة الكتاب.
وأيضاً في تقديم المعمول على العامل إفادة الحصر، أي: حصر الحمد في الله وانفراده به؛ إذ هو صاحب النعم الظاهرة والباطنة وليس لغيره نعمة.
إذاً: ففي قوله سبحانه: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ [الروم:18] يحمد نفسه جل جلاله وهو على عرشه استوى، وتحمده ملائكته وأنبياؤه في السموات كما يحمده كل من على الأرض جناً وبشراً وحيواناً وطيراً، فالكل يسبحه ويحمده ويعبده، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن الملائكة في السماء: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم).
ولله الحمد في السموات والأرض فلا تخلو الأرض مشارقها ومغاربها من مخلوق من إنسان أو جن أو ملك إلا وهو يعبد الله، وتجده إما مسبح باللسان أو عابد بالأركان.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا [الروم:18] والعشي: ما بعد الظهر إلى غروب الشمس، والمساء: ما بعد المغرب إلى الشفق.
وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:18] والإظهار هو: وسط النهار، ونحن نسميه الظهر، ووقت الظهر يسمى عشياً، وقالوا: هو صلاة العصر، وتظهرون قالوا: صلاة الظهر، وهي كذلك، ولكن المعنى أعم؛ والعبادة لله تستحب فيه وتكون أقرب للقبول سواء التسبيح باللسان أو التسبيح بالطواف أو التسبيح بالسعي أو التسبيح بالصدقات أو التسبيح بكل أنواع العبادات، فهي في حد ذاتها مطلوبة ومستحبة، ويزداد استحبابها عشياً وآصالاً وصباحاً وعشياً وفي الأوقات التي ذكر الله، وهي أوقات الصلوات الخمس، ولله الحمد.
فقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم:19].
أي: ومن يقدر على ذلك إلا هو، فهو الذي يخرج الإنسان من النطفة وهي ميتة، ويخرج الدجاجة من البيضة وهي ميتة، ويخرج النبت والشجر من الأرض وهي ميتة.
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم:19]، أي: ويخرج الجنين ميتاً من رحم أمه وهي حية، ويخرج الكافر من بطن أمه وهي مسلمة وهو كافر، ويخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج الحبة من السنبلة، ويخرج الزرع والحبة والقمح من السنابل ومن الأشجار والنباتات وكلها حية.
فالله وحده القادر على ذلك، هذا من حيث المحسوس، ومن حيث المعنى: خرج أنبياء الله الصالحون وخرج الصحابة الكرام والتابعون من بطون كانت في جاهليتها غير مؤمنة، وخرج كفار من أرحام مؤمنة. ومن قدر له الله الخير أدركه، سواء كان البطن الذي احتواه بطن مؤمن أو بطن كافر، قال تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:19]، فتجد الأرض وقت الشتاء قد يبس نبتها وتحات شجرها وأصبحت جدباء، فإذا بالله الكريم يمطرها ويغيثها بالمطر، فإذا بها تهتز وتربو وتنبت أشكالاً وألواناً ومن كل زوج بهيج، فهذا أخضر وهذا أحمر وهذا أصفر وهذا أبيض، ومع أن الماء واحد إلا أن الزهر ألوان، ولو كان ذلك من الطبيعة فكيف يخرج من ماء واحدة وتربة واحدة أنواعاً من الثمار والأشجار والنباتات والطبيعة من خلقها؟ ولكن الكفر ألوان وأنواع.
وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم:19].
أي: كما أخرج الحياة من الأرض الميتة وجعلها تربو وتهتز حياة، فبعد أن كانت يابسة وجدباء إذا بها تدخلها الحياة فتنبت أشجاراً ونباتات وبراعم وزهوراً وثمرات خضراء، وكما أخرج من الحبة الميتة الحياة فسيخرجكم ويبعثكم بعد موتكم أحياء كذلك مرة ثانية لتعرضوا عليه للحساب إما إلى جنة وإما إلى نار.
أي: ومن آياته ودلائل قدرته ومعجزاته ووحدانيته وعلامة إرادته ووحدانيته بالإرادة.
قوله: أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الروم:20].
فقد خلق آدم من تراب وهو أصلنا وأبونا الأعلى، ثم جعلنا منه، فكنا في الأصل تراباً، ثم خلق منها زوجها، وخلق منهما نطفة ومن النطفة علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظاماً ثم كساها لحماً، ثم أخرجها بشراً سوياً إلى هذه الدنيا، وكان جسماً ضعيفاً لا يعقل ولا يعي ولا يبصر ولا يدرك، ثم إذا بهذا الإنسان الذي أصله تراب وماء مهين يتجبر على الله ولا يذكره ويسفك الدماء الحرام ويستبيح الأعراض الحرام، ويقول: أنا ربكم الأعلى، وينسى أنه بعد ذلك سيعود إلى شيب وضعف، ثم إلى تراب، ثم يحيا مرة أخرى ويعرض للحساب فيعاقب أو يكرم حسب عمله من الصالحات أو الطالحات.
وقوله: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20]، ونحن قد انتشرناها في الأرض مشارق ومغارب، جبالاً ووهاداً، أجواء وتراباً، ونحن على ما نحن عليه، فمن أكرمه الله عاش مؤمناً ومن سبق عليه كتاب الله في الأزل وغضب عليه كفر بكل ذلك وأشرك.
ومعنى الحديث: إن التراب الذي خلق منه آدم صنعه الله جل جلاله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعل تربته وطينته من تراب جميع الأرض، أي: من تربة خصبة منبتة وتربة جدباء لا تنبت، وتربة نتنة، وتربة صحراوية لا تكاد تبنت شيئاً، وتربة حمراء، وتربة سوداء، وحين ولد لآدم خرج أولاده على مقدار ذلك الجنس، فما كان من جنس التراب الأسود كان أسود، ومن كان من جنس التراب الأجدب الذي لا ينبت بليداً، ومن كان من جنس الأرض الخصبة المنبتة كان زكياً، وهكذا، فاختلاف بني آدم في ألوانهم وألسنتهم وعقولهم وفهومهم وذكائهم حسب التربة التي ورثوها عن أبيهم آدم، فآدم جمع في تربة خلقه وقيامه ووجوده جميع أنواع تربة الأرض، وقال في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيرهم في الجاهلية خيرهم في الإسلام إذا فقهوا)، فالأرض التي فيها المعادن من الذهب والفضة من ملكها ملك الثروات الأموال الطائلة، وأرض ليس فيها معدن ولا نبات لا خير فيها.
وإما إن كان قارون عصره يجمع أنواع الزكوات والكنوز والثروات والأموال ثم يتخذ طغياناً وجبروتاً وتألهاً على الله ويأكل مال هذا زيادة على ماله ويطغى على ذاك وماله لا يستفيد منه فقير ولا قريب ولا محتاج ولا سائل فإنه عند الله لا وزن له أمام ذاك، والنبي صلى الله عليه وسلم مر أمامه في المسجد مسلم مروراً عابراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضرين: إذا طلب هذا الصهر أتصاهرونه؟ وكان يملك قامة وشكلاً ولوناً وهيئة ولباساً حسناً، قال: إذا طلب المعاملة أتعاملونه؟ قالوا: نعم، ثم مر غيره رجل مسكين عليه آثار الوهن والاحتياج في ملابس بالية لا يكاد يرفع رجله من الأرض إلا زحفاً فقال لهم: وهذا؟ قالوا: إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، وإذا طلب الصهر لم يصاهر، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لهذا خير من ملء الأرض من مثل ذاك)، وهذا كما يقال في المثل: واحد كألف وألف كواحد.
إذاً: فهؤلاء الكفار المشركون بالله بأجمعهم لا يساوون قدم مسلم أسود مصل يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بل قدمه أشرف منهم كلهم بملايينهم وملياراتهم. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام منافقاً.
وقد حضرت مرة محاضرة لطبيب كيماوي قال فيها: إنه حلل إنساناً تحليلاً كيماوياً بعد أن وزنه وأتى بوزنه تراباً، ثم حلل ذلك التراب، فوجد ذلك الجسم الذي وزن ذلك التراب نفس المعادن التي في التراب من مياه وكبريت وملح وسكر وماء.
إذاً: فنحن تراب وإنما تغيرنا فقط، وهذا كما يأتي شخص إلى حب القمح فيطحنه فيصبح القمح دقيقاً ثم يعجنه فيصبح عجيناً ثم يخبزه فيصبح خبزاً أو حلوى أو غيره على ما يريد، وأصله تلك الحبة وتلك الزرعة وليس سواها، وهكذا الإنسان، ومن هنا قال الحكيم العربي:
خفف الوطء يا صاح ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد
أي: يا من تتعاظم على الله وتمشي في الأرض خيلاء متعاظماً خفف وطأك وامش قليلاً قليلاً ولا تتكبر وتتعاظم؛ فإن هذه الأرض التي تدوسها وتمشي عليها بقدمك هي من تراب آبائك وأجدادك، وكم فيها لك من أب وأم أصبحوا تراباً؟ يوشك أن تصبح أنت تراباً مثلهم، ويأتي أولادك بعدك فيدوسون عليك في خيلاء وتعاظم، فلم التعاظم وأنت من تراب وعائد إلى التراب.
وفي هذه الآية تتجلى القدرة الإلهية المفردة، فهذا التراب قد أصبح إنساناً سوياً وبشراً عاقلاً ورسولاً كريماً وعالماً صالحاً وصاحباً تابعاً وإماماً مرجحاً مرفوعاً إليه، وقد يكون العكس، فيصبح بطاشاً فرعون الأرض متكبراً خائناً، والكل من أصل واحد ومن تراب واحد.
أي: ومن آيات الله وقدرته أن خلق لنا من أنفسنا زوجة لنجد السكون والطمأنينة والراحة بعد الشغل والتعب والعمل في الخارج، وجعل بين المرأة وزوجها مودة وهي: المحبة، ورحمة وهي الشفقة والرأفة، بعد أن لم يكن بينه وبينها نسب ولا صلة، ولا يسمح بوجودها قبل أن يتزوجها، ولا تسمح بوجوده قبل أن تتزوجه، ثم أصبحت له سكناً ومطمأناً ومرجعاً يجد عندها راحته وموضع أسراره وموضع شكواه ولا يحل محلها أحد على عظمة الأب وحرمة الأم وما يقال لها لا يقال للأب ولا للأم ولا للولد، فهي موضع السكن والمودة، فيودها وتوده، ويرحمها وترحمه، ويرؤف بها وترؤف به، ويشفق عليها وتشفق عليه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ [الروم:21]، أي: في هذا، لَآيَاتٍ [الروم:21] وعلامات على قدرة الله الواحد، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، أي: لهم عقول يديرونها في الفكر، ويفكرون بها ويخمنون ويحدثون ولا يعيشون سبهللاً كالدواب، بل يسألون أنفسهم: من خلقنا وأخرجنا إلى هذا العالم؟ وما هو أصلنا؟ وإلى أين نذهب؟ وهذا التفكر والاعتبار فرضه الله على كل إنسان، فهو في حق المؤمن واجب، وأما الكافر فلا يقبل منه إلا بعد أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد خلق الله حواء يوم خلق آدم من ضلعه الأيسر، كما في الصحيحين: (إن الله أخذ ضلعاً من أضلاع آدم وقال له: كن أنثى فكان أنثى على صورة آدم)، ولكن يفترق عنها بأنها لا لحية لها ولا شارب، وأن آلة الأنوثة غير آلة الذكورة، وما سوى ذلك فالذكر والأنثى خلقة واحدة، فلكل واحد منهما عينان وشفتان وأذنان وعقل وسمع وبصر، ثم هذا الذي خلقه من أنفسنا جعل بيننا وبينه مودة ورحمة، وكل ذلك من علامات قدرة الله وآياته الدالة على ألوهيته ووحدانيته، وأنه القادر على كل شيء.
أي: ومن علامات قدرة الله والدلائل القاطعة على وحدانيته وقدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما، ومن الذي يستطيع أن يخلق مثل هذه السماء ويرفعها بغير عمد؟ أو مثل هذه الأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وما عليها من إنس وجن وطير وحيوان، فمن خلقها وكونها غير الله جل جلاله؟
وهؤلاء البشر الذي كان أصلهم واحداً اختلفت ألسنتهم وألوانهم، ولا يشبه فيهم لون لوناً ولا لسان لساناً، فالألوان على تعدد البشر بالمليارات لا تجد أحدهم يشبه الآخر شبهاً كاملاً، بل لا بد أن يكون هناك فرق، وكذلك اللغات والألسن، فهذا عربي وهذا أعجمي وهذا فارسي وهذا أفغاني إلى غير ذلك، بل حتى اللسان الواحد في اللغة الواحدة في الأسرة الواحدة في الأب والأم والأولاد، تجد لصوت هذا لهجة خاصة ولصوت هذا لهجة خاصة، فإذا نادت الأم أو البنت دون أن تقول: أنا فلانة تعرفها بنبرة لسانها.
وهذا الاختلاف من يقدر عليه إلا الله، فنحن نصنع مصنعاً ونخرج منه ثياباً وأشياء بالملايين، وهذه الملايين كلها يشبه بعضها بعضها، بحيث إن الإنسان الخبير إذا أخذ ثوباً قال: هذا صنع إنجلترا، وهذا صنع فرنسا، وهذا صنع الشام وبلاد العرب، وهو لا يختلف عن بعضه بشيء، وفي الإنسان هذه الخطوط الموجودة في الأصابع لا تشبه أصبع أصبعاً، حتى أصبحوا يعتقدون أن التوقيع بالأصبع أصدق توقيع؛ لأن التوقيع يزور، وأما توقيع الإبهام فلا يزور.
لذلك بعض الدول أخيراً زورت جوازاتها وهوياتها فجددتها، وجعلت للقارئ ولغير القارئ أن يضع في ملفه بصمات الأصابع العشرة مع اسمه وصورته؛ حتى لا يدخلها التزوير بحال، فقد تزور الصورة ويدخلها تعديل، وقد يزور الاسم والتوقيع، وأما هذه البصمات فلا تزور.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر