يقول الله تعالى عن هؤلاء المشركين الضائعين: إنهم إذا أصابهم ضر وبلاء نسوا شركاءهم وأصنامهم وأوثانهم ودعوا ربهم راجعين إليه منيبين إليه وضارعين راجين له.
ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً [الروم:33]، أي: أصابهم بالرحمة وأجاب دعاءهم وأزال ما بهم من ضر، إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم:33]، أي: إذا طائفة وجماعة منهم يشركون بربهم، وكأنه لم يصبهم يوماً بلاء أو فتنة، ونسوا ما كانوا فيه من ضر وبلاء، وعادوا إلى الشرك والكفر، فهذا شأن الناس في جحودهم وكفرهم، إذا أصابهم الضر والبلاء تضرعوا إلى الله ودعوه راجين رحمته وإنقاذه، حتى إذا أنقذهم واستجاب لهم إذا فريق منهم -وهم الكافرون بالله- يعودون بعد ذلك إلى الشرك والكفر والجحود وعلى ما تربوا عليه ونشئوا عليه.
أي: جعلوا ذلك ليكفروا، وهذه اللام عند النحاة هي: لام العاقبة، أي: لتكون عاقبتهم الشرك والكفر والجحود، أي: أنهم بعد أن أنقذوا استجيب لهم فبدلاً من أن يشكروا الله تعالى ويحمدوه على ما أعطاهم إذا هم يشركون بربهم ويكفرون بما آتاهم من إنقاذهم.
فتوعدهم الله وتهددهم بقوله: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل:55].
أي: مهما عشتم وطالت أعماركم فمآلكم إلى الله ورجوعكم إليه، فسوف تعلمون ما سيصيبكم إذ ذاك مما أنذركم به رسلكم وأنبياؤكم وما تهددوكم به من عقاب ربكم الأليم.
فقوله تعالى: (فتمتعوا) أي: اصنعوا ما شئتم، فليس هو أمراً بأن يتمتعوا بالخير، ولكنه وعيد وتهديد بعد أن لم يستجيبوا، فمآلهم إلى الله، وسيعلمون ما هيئ وأعد لهم من نار وعذاب أليم.
أي: هؤلاء الذين أشركوا بالله هل لهم دليل على ذلك الشرك من عقل أونقل؟ فهؤلاء الكفار يتصرفون كما لو أنزل عليهم سلطان ودليل وبرهان من ربهم، والسلطان: الدليل والبرهان.
فهم يفعلون ذلك وكأن الله أمرهم بذلك، ومعاذ الله له أن يأمر بالفواحش والمناكر، أو أن يأتي عنه ما يدعو إلى الكفر والشرك به، ولكن ضياع عقولهم أفهمتهم ذلك بدون دليل أو برهان يتكلم على لسانهم بكفرهم وبشركهم.
فهؤلاء الناس أمرهم عجب، إذا أصابتهم رحمة الله وذاقوها، وذاقوا الخصب والرفاهية، فرحوا بذلك وبطروا، وأخذهم التيه والخيلاء والتعاظم على الله؛ لما أعطاهم من الأعمار وقوة الأبدان والأرزاق والرفاهية.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الروم:36].
أي: إذا أصيبوا ببعض أعمالهم وذنوبهم وجرائمهم، إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36].
وإذا: للفجاءة، أي: إذا بهم يفاجئون أنفسهم والناس بأنهم قد قنطوا ويئسوا من رحمة الله ومن الرجوع إليه، فتجدهم دائمي التشتت واليأس والتبرم من الحياة والقنوط مما هم فيه، فإذا جاءت الرحمة والخصب والغنى والجاه والرخاء فرحوا وبطروا وتكبروا وأخذتهم الخيلاء على الناس، وإن أصابتهم مصيبة ببعض ما قدمت أيديهم -والباء للسببية، أي: بسبب ذنوبهم ومعاصيهم- إذا بهم يفاجئونك بالقنوط واليأس.
أي: ألم يعلم هؤلاء من ذواتهم وعقولهم وفهومهم وواقع حياتهم: أن الله رزق أقواماً وأغناهم وبسط لهم الرزق والنعم والخيرات، وآخرين قدر عليهم رزقهم فعاشوا في ضيق وفقر، وقد فعل ذلك لحكمة هو يعلمها، ويعلمها من أكرمه بالفهم والوعي والإدراك.
إِنَّ فِي ذَلِكَ [الروم:37]، أي: في غنى الغني وفقر الفقير، لَآيَاتٍ [الروم:37] ودلائل وبراهين على معجزة الله وقدرته ووحدانيته لقوم آمنوا به وأسلموا وجوههم له.
وفي الأثر النبوي: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم) وكثيرون هم الذين يكونون على حالة طيبة مرضية على فقرهم، فإذا استغنوا تعاظموا وتكبروا على خلق الله، وقد يتركون الأوامر والواجبات، بل وقد يشركون إن لم يكونوا قد أشركوا فعلاً، فكان الغنى بالنسبة لهم ضرراً عليهم وعلى إيمانهم ومستقبلهم.
وكثير من الناس الآخرين الذين في غاية الفقر والضيق وقلة الدين إذ أغناهم الله تعالى إذا بهم بعد ذلك يئوبون إلى الله ويعودون إليه، فيكثرون من الصدقات ومن العبادات ومن فعل الخيرات، ولكن هؤلاء قليل ما هم، والمعروف ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: وزع ماله وفرق فضول أمواله للقريب والبعيد والسائل والمحروم في صدقات ونفقات واجبات، وصدقات تطوع ونوافل، وأما غير ذلك ممن كثرت أموالهم فقد أمسكوا أيديهم عن العطاء والبذل، فهؤلاء يا ويلهم! فقد هلكوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلكت أديانهم، هلكت حياتهم، هلكت سعادتهم)، فقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الروم:37]، أي: ألم يروا واقع الناس رجلاً غنياً وآخر فقيراً، ودولة غنية وأخرى فقيرة، وإذا كانت في فقرها تكون إلى المسكنة والطاعة أقرب، وإذا استغنت تتكبر على خلق الله وتستعمر البشر وتأخذ أموالهم بغير حق، فالله الذي يبسط الرزق والعطاء والخيرات يرزق بعضهم كثرة وبعضهم قلة، ولا يعطي بعضهم إلا القليل القليل مما يسد الرمق، وفي ذلك آيات بينات لمن آمن بالله.
يقول تعالى آمراً: آت ذا القرابة من أرحامك وأقربائك الأقرب فالأقرب، أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ممن هم في حاجة لك فآته من العطاء والنفقات والزكوات والصدقات ما يكفيه ويغنيه عن الناس، وعن مد اليد إليهم، وذاك حق من حقوقه، فحق على القريب ألا يدعه يمد يده للناس إذا احتاج، فإن أحوج أقاربه وأرحامه بأن يمد يده للغير وكان غنياً ساءت حاله وهلك دينه، وعليه أن ينتظر العذاب والنقمة من الله؛ لأنه قد أذنب وأساء.
والمسكين هو: الذي لا يجد ما ينفق، والمحتاج هو: من ليس له طعام يومه ولا كفايته فيما يطعم ويشرب ويلبس ويسكن، فهذا المسكين له حق على أغنياء الناس بأن يعطوه حقه، فـ (إن في المال حقاً سوى الزكاة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].
فمن صفة المؤمن حقاً أن في ماله حقاً للسائلين المحتاجين وللمحرومين المساكين، فإن لم يكن كذلك فإما أن يكون ناقص الإيمان، أو عديمه البتة.
وأما ابن السبيل فهو: ابن الطريق العابر الذي ليس من أهل البلد، وإنما هو سائح لمصلحة من المصالح فاحتاج ولو كان غنياً في بلده، ولكن بلده بعيدة عنه وماله ليس تحت يده، فله حق على من كان عنده غنى وفضول مال، فيجب أن يعطى ما يغنيه عن الناس طعاماً وشراباً وسكناً ولباساً إلى أن يعود إلى بلده.
وبعضهم فسر ابن السبيل: بالضيف الذي نزل عليك، فهو ابن سبيل؛ لأنه ليس مقيماً البتة ولا فرداً من العائلة، وإنما هو عابر، وللضيف حقوق، وقد كان ذلك عند العرب في الجاهلية، وكان ذلك من محاسنهم ومن مكارم أخلاقهم، فجاء الإسلام بتأكيد ذلك والإلزام على التمسك به ديناً وخلقاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهذه من مكارم الأخلاق التي أتى النبي عليه الصلاة والسلام ليتممها ويكملها؛ حتى تصبح ديناً وخلقاً للمسلم.
وحق الضيف ثلاثة أيام بلياليها، وعلى المضيف في الثلاثة الأيام ألا يسأل الضيف عن اسمه ولا عن عشيرته، وإنما ذلك للضيافة في حقها، وأما السؤال فيأتي بعد ذلك، فإن وجده -ولم يكن قد ذكر له اسمه قبل- ذا عشيرة ماسة ورحم قريبة زاد من صلته، وكذلك يزيد من صلته إن كان ذا جوار سابق أو ذا صلة بالآباء والأجداد.
ومن الود أن يكرم الرجل أهل ود أبيه، فالضيف وعابر السبيل لهما حقوق مضاعفة وواجبات مترادفة، والله يعلمنا في هذه الآية الكريمة وأمثالها مكارم الأخلاق ومحاسن المعاملات مع القريب والبعيد، وقد أخبر تعالى بأن الرزق رزقه في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الروم:37].
والذي بسط له رزقه أوجب عليه فيه واجبات من صلة الأرحام والمساكين والصدقات لعابري السبيل، وأوجب في ماله حقاً للقريب.
ذَلِكَ خَيْرٌ [الروم:38]، أي: لا يريد بذلك إلا الدار الآخرة والثواب من عند الله، لا رياء ولا سمعة، ولا للصلة الماسة فقط، ولكنه يفعل ذلك لأن الله أمر به ودعا إليه وحض عليه، فهذا خير له، والخيرية المقصودة هي رضا الله عنه، وهي رحمته التي هي دخول الجنان يوم القيامة.
ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38]، أي: لأولئك الذين يريدون بأعمالهم وجه الله والإخلاص له دون رياء أو سمعة أو ثواب هدية أو مبادلة ومقارضة في الهدايا والعطايا والصدقات، فهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله والدار الآخرة وامتثال أمر الله.
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38]، أي: الذين أفلحت وجوههم بالرضا الإلهي وبالرحمة الإلهية وبالدخول إلى الجنان، خالدين فيها أبداً سرمداً.
وهذا الربا هو الربا الحلال، وقد قال السلف: الربا ربوان: رباً حلال، ورباً حرام، والربا الحلال هو: أن تهدي لأحد هدية وتقصد بذلك ثوابه، ومقارضته، وتسمى في الفقه: هدية الثواب، وعطية الثواب، وهذا يسمى بأسامٍ مختلفة في كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية بحسب لهجاتهم الخاصة، فبعضهم يقولون له: نقود، وبعضهم: صواف، وبعضهم: هدية مناسبة، وهو: أنه إذا تزوج صديق أو قريب لك ذهبت تهدي له وتعطيه ولا تريد بذلك إلا ثوابك في المستقبل بأن يهدي لك في هذه المناسبة مثل ما أهديت له، وأن يعطيك مثل ما أعطيته، فهذه تسمى هدية الثواب والفضل، تريد بذلك مجاملته، ليجاملك في المستقبل بهدية أكثر وعطاء أكبر، وقالوا: إن هذا العطاء ليس حراماً ولا حلالاً، ولا ثواب فيه ولا إثم؛ لأنك أعطيته من أجل شخص من الأشخاص ولم ترد بذلك الله والدار الآخرة، فإن أعطاك مثله فذاك، وإلا فتلك على نفسك.
وبعض الفقهاء يقولون: هذه حقوق وعطايا مرجوعة، بمعنى: أن من أهدى هدية ثواب وكان من أعراف وتقاليد البلد إنك أهديت له ثم جاءتك مناسبة ولم يعطك مثلها أن لك أن ترفع ضده قضية بأن يعيد لك الهدية التي أهديتها له فهذه حقوق مرجوعة، ولكن الفقه المالكي يقول: لا يحكم له برد الهدية إلا بليد، ولكن يحكم له بأنه ذميم إن كان ذلك عرفاً، وهو عرف في الأوساط العربية والإسلامية، فتجد الشخص يعطي هذا وهذا إلى المناسبات، ويتوق أن تأتيه مناسبة عرس أو ولادة أو عقيقة أو ما أشبه ذلك؛ حتى تتجمع له تلك العطايا؛ لأنها تكفيه وزيادة.
وبعض هؤلاء قد يعطون مثل هذه العطايا ولا ترجع لهم ولا يثابون عليها، فإن أرادوا رفع قضية فبعض الفقهاء يحكمون لهم بها مع دناءة، وليس لهم أجر من الله؛ لأنهم لا يفعلون ذلك لله، ويسمى ذلك ربا الثواب، وقالوا: إنه رباً حلال، فهو يعطيك عشرة مثلاً وينتظر منك غداً أو بعد غد عشرين، وليس هذا بيعاً، والربا الحرام إنما هو في البيوع، وأما المعاملات كأن يكون عليك عشرة ديناً وترد أحد عشر أو أكثر من ذلك فليس هو من الربا الذي تهدد الله فاعله بحرب منه.
قال ابن عباس : حرب الله للمرابي أن يقتل، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
وفي قوله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا [الروم:39] سماه الله رباً ولم يحرمه ولم يذكر عليه ثواباً ولا أجراً، ومن هنا قال السلف: الربا ربوان: رباً حلال، وهو الذي يسمى في الفقه بعطية الثواب، وبهدية الثواب، ورباً حرام.
وقوله: وَمَا آتَيْتُمْ [الروم:39] قرئت هكذا، وقرئت: ( وما أتيتم)، والمعنى واحد.
وقوله: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ [الروم:39].
أي: مهما أعطيتم من مال تريدون بذلك أن تزداد أموالكم، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39].
أي: فلا ثواب عليه عند الله، ولا يزداد عنده شيئاً ما دام الذي فعله لم يرد بذلك إلا ثواب الناس ووجههم، ولم يرد بذلك الله ولا الدار الآخرة ولا وجهه الكريم.
وقوله: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ [الروم:39] قرئت هكذا، وقرئت: (لتِرْبُوا في أموال الناس)، والمعنى واحد، أي: لتكثروا أموالكم بذلك، فهذا الذي يكون أساسه ذلك، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39] أي: لا ثواب عليه، كما لم يذكر عليه إثماً وعقوبة.
قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].
أي: وما أعطيتم من عطية، والعطية تسمى زكاة وهبة وصدقة وهدية، فإذا أراد بزكاته وجه الله الكريم وثوابه وأجره وامتثال أمره في النفقة والإنفاق والعطاء، (فأولئك هم المضعفون) أي: هم الذين يضعف الله أموالهم وحسناتهم، بمعنى: يضاعف لهم العطاء الواحد إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله من الأضعاف، وهو الربا الذي يقبله الله ويثيب معطيه، فمن أعطى عطية لا يريد بها إلا الله والدار الآخرة فذاك الذي يقبل الله منه، ويكثر أمواله وينميها ويكون من المضعفين ومن الذين يثيبهم الله على زكاتهم وعطاياهم رحمات وبركات من عنده في الدنيا والآخرة بما لا يعد ولا يحصى كما يريد الله ويعلم من نية المعطي، وهل أعطى ذلك راجياً فضل الله وكرمه وامتثال أمره، أو قصد بذلك الرياء والسمعة؟ فلا يقبل الله إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر