إسلام ويب

تفسير سورة الروم [40-45]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لكن الناس يعملون بخلاف ذلك فتجد الفساد قد ظهر في البر والبحر، ولذا ينبغي أن يتمسك المرء بالدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم...)

    قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].

    يقول ربنا جل جلاله: الله رب الأرباب وإله الخلق، وهو الذي انفرد بهذا الاسم الكريم وانفرد بالوحدانية والقدرة والإرادة، وهو الذي خلقنا يوم خلقنا وليس لنا من الدنيا ولا من الفهم شيء، بل خلقنا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله يخلق الوليد من بطن أمه يوم تلده وهو أحمر لا كسوة عليه ولا رزق له)، ثم بعد خلقه وخروجه إلى الدنيا يرزقه ويكسوه ويعطيه.

    وفي الأحاديث النبوية: إن الله يخلقنا في بطون أمهاتنا خلقاً بعد خلق، فبعد أربعين يوماً تنفخ الروح، ثم بعد ذلك يأتيه الملك فيسأل ربه: أشقي أم سعيد؟ ويسأله عن رزقه وحياته وأجله، فيكتب رزقه قبل خروجه إلى الدنيا، فهو يخرج عارياً فيكسوه الله، ويخرج جائعاً فيرزقه الله وينعم عليه، فالله هو الذي انفرد بخلقنا، فقد خلقنا من تراب، ثم من ضلع أعوج من صدر أبينا آدم حين خلق أمنا حواء ، ثم بعد ذلك من نطفة من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من عظام، ثم كسا العظام لحماً، ثم أخرجنا بشراً سوياً، وبعد أن نخرج إلى الدنيا فإنه هو الذي ينفرد برزقنا وعطائنا، فيبسط الرزق لمن يشاء منا ويقدره على من يشاء، ثم بعد الحياة طالت أم قصرت، وبعد الغنى والفقر طال أم قصر يميتنا بآجالنا، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49].

    ثم بعد الموت يبعثنا بعثة أخرى، ويحيينا حياة ثانية، وهي حياة الآخرة والعرض على الله، فهذه أطوار ثلاثة من الخلق: الأول: من العدم إلى الوجود، والثاني: من الحياة إلى الموت، والثالث: من الموت إلى الحياة.

    ثم قال الله للمشركين: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40].

    أي: هل يوجد أحد ممن أشركتموه واتخذتموه إلهاً ورباً بلا دليل ولا منطق من يفعل كفعل الله من خلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم؟!

    والجواب واضح في تسبيح الله وتنزيهه لجلاله وعظمته في قوله تعالى: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].

    أي: تعالى الله عن شركائهم، وتنزه وتمجد وتقدس وتعظم من أن يكون له شريك أو وزير أو معين، فهو القادر على كل شيء وحده، وليس محتاجاً إلى معين أو شريك، فسبح نفسه ومجدها وعظمها عن هذا القول، وتعالى الله عن قول المشركين والكافرين.

    وهو يعلمنا أن نقول كذلك: سبحان الله وتعالى الله عن الشركاء وعن كذب الكاذبين وشرك المشركين وفجور الفاجرين!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر...)

    قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

    يقول ربنا جل جلاله: الفساد لم يبق خفياً أو مضمراً أو بين الإنسان وبين نفسه، بل تكاثر وظهر في البر والبحر.

    والآية بينة لا تحتاج إلى بيان، ومع ذلك اختلفوا في معناها خلافاً طويلاً لا معنى له، فقالوا: ظهر الفساد في البر: نزل القحط والجدب فلم تعد الأرض تعطي من خيراتها ومعادنها وأرزاقها.

    وقالوا: البر: الصحاري والفيافي، والبحر: المدن والقرى المشرفة على البحار، أي: الموانئ والمرافئ، وتركوا البحر مع أن الله ذكر البحر، ولم يذكر شاطئاً ولا مرفأ، والشاطئ هو: المدينة نفسها، وهي البر، فكلمة البر شملت الشواطئ والجبال والصحاري والأرض الخصبة والجدبة سواء، وكل ما يطلق عليه بر، وذلك ظاهر لا يحتاج بيان، وليس هو من عصرنا والعصور الماضية فقط، بل هو من أيام آدم عليه السلام، عندما قتل قابيل هابيل وأزهق حياته ظلماً وعدواناً وحسداً؛ لأن الله قبل من هابيل ولم يقبل من قابيل ، فهو عندما قتل أخاه من أبيه وأمه ظلماً وعدواناً وحسداً من نفسه كان قد ظهر فساده ولم يبق سراً، وبقي أخوه مقتولاً على الأرض إلى أن جاف وانبعثت منه الروائح الكريهة حتى بعث الله غراباً يبحث في الأرض؛ ليري ذلك الظالم كيف يواري أخاه ويدفنه.

    فمنذ ذلك الوقت ظهر الفساد في البر، ثم توالى بعد ذلك إلى أن جاء نوح وبقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بينهم بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة أخرى، وكان قد بعث وهو ابن خمس وأربعين عاماً، فعاش بينهم نحواً من ألف وخمسمائة عام.

    وانتشر الفساد بينهم وطال وامتد إلى أن استحقوا بجرائمهم أن يفيض الله عليهم البحار فتغمرهم وتقتلهم غرقاً، وما ذلك إلا لظهور الفساد.

    وقد قص الله علينا قصص عاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم وقوم موسى وهارون وفرق بني إسرائيل مع جميع أنبيائهم، وفي كل ذلك كان الفساد ظاهراً واضحاً يراه القريب والبعيد، ويراه الصغير والكبير، ويراه من يعلم ومن لا يعلم، وقد ظهر الفساد في البحر، فالبحار فيها السفن التي تقطع الشواطئ والقارات مشارق ومغارب، وقد حكى الله لنا في ذلك قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي قيل عنه: نبي، وقيل عنه: ولي، وذلك عندما خرق السفينة فاستنكر ذلك موسى عليه السلام وقال له: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71]، وبعد أن غضب ولم يصبر وحكم على نفسه إن سأله بعد ذلك فلا يعود إلى مصاحبته وقد فعل، أخذ يحكي له حكم ما صنع، فقال عن هذه السفينة: إنه كان في البحر ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فإذاً: كان الغصب واللصوصية وقتل الأرواح في البحر، وكان هذا منذ العهد الساحق، ثم تطاول ذلك وامتد، وهو في عصرنا أكثر مما كان في عصر نوح.

    والله عز وجل وعد نبينا صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك أمته بما كان يهلك به الأمم السابقة من الغرق والمسخ والصرع والزلازل والصواعق، على الرغم من أن الأرض قد استحقت ذلك منذ زمن سحيق؛ لكثرة ما عليها في براريها وأقطارها وبحارها من الظلم والفساد، ومنه فساد الشرك بالله وفساد إزهاق الأرواح ظلماً وعدواناً وفساد أكل أموال الناس بالباطل وفساد تكبر الجبابرة والطغاة على عباد الله المؤمنين من أكل أموالهم وسفك دمائهم وقتل شبابهم واستحياء نسائهم، إلى غير ذلك من أنواع الفساد من كل شر.

    وهو في البحر كما هو في البر، فمن الفساد في البحر أنه عندما يركب الناس في هذه السفن الماخرة ويقطعون البحار مشارق ومغارب فإنهم في البواخر وعلى ظهر البحار يمارسون أنواعاً من الفساد، فتجد السفن ممتلئة بالخمور والحشيش والزنا وكل أنواع الباطل، وفي الأجواء كذلك فإنهم وهم في الطائرات يشربون الخمور ويأكلون الحشيش ويظلمون ويعتدون ويفعلون من المنكرات ما الله به عليم.

    فالله يفسد عليهم دنياهم وأجواءها وبراريها وبحارها ومشارقها ومغاربها، حتى إن الإنسان لا يكاد يجد رقعة في الأرض فيها عدل وحكم للشريعة ودين يرجع إليه ويستكين له، وما ذلك إلا عقوبة للخلق؛ ليعاقبوا ببعض الذي عملوا، ومع ذلك فإن فيها فئة صالحة لم تنقرض ولن تنته ما دامت الدنيا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).

    والطائفة أفراد، وقد تكون جماعة متكتلة باسم دولة، وقد تكون جماعة متفرقة باسم أفراد وجماعات أحدهم في المشرق والآخر في المغرب، ولكنهم على كل حال حجج الله في الأرض على أن الحق قائم، وأن حجة الله دائمة، وبأن كلام الله يتلى على البر والفاجر؛ لتبقى حجة الله البالغة يوم القيامة، ولا يدعي أحد عندما يسأل في القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ أنه لا يعلم ولم يسمع بدينه ولا برسوله ولا بكتابه؛ لأنه يكون قد سمعه سواء كان في المشرق أو في المغرب وفي أي مكان من أرض الله من برار وبحار وأجواء.

    والباء في قوله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ [الروم:41] للسببية.

    وقوله: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41].

    أي: لينزل بهم بعض أعمالهم وليس كل أعمالهم من ظلم وكفر وشرك، مثل عذاب الله لقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، فإن الله تعالى لم يعاقبهم إلا ببعض أعمالهم لا بها كلها، وهذا العذاب إنما هو في الحقيقة نقمة لمن يفهم عن الله.

    قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

    أي: يفعل ذلك بالناس لعلهم يوماً يتفكرون ويقولون: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    ومن الغافر والراحم والمتجاوز عن سيئات عبيده وخلقه غيره سبحانه، وهذه فيها التهديد والوعيد لعلهم ينتبهون ويتيقظون ويعودون عما هم فيه، فهي لطمات ولكمات إلهية للناس؛ لعلهم يعودون إلى الله ويقولون: ربنا اغفر لنا وتب علينا، إننا إليك راجعون وإليك منيبون، ولكن مع كل ذلك طالت الجرائم وطال الكفر والفساد، ولا يزيدهم الله عذاباً وامتحاناً إلا وزادوا كفراً وفسقاً وعصياناً، فعندما كنا مستعمرين للنصارى في مشارق الأرض ومغاربها بكى من بكى وتضرع من تضرع وجاهد من جاهد، فإذا بالله الكريم يستجيب لدعوة داع وصلاح صالح؛ رحمة منه.

    ثم بعد أن استقلينا من عدونا وملكنا المال والسلاح والجيوش والدول وغير ذلك وعدنا القهقرى إلى أقبح ما كنا أيام الاستعمار كفراً وشركاً بالله ونشراً للمنكرات بكل أنواعها من زناً وفساد وحكم بغير ما أنزل الله، وتركنا كتاب الله وراء ظهورنا، وعدنا لأحكام الكفار وقوانينهم وأخلاقهم ولغاتهم، وكل ما كنا نفعله قهراً في وجودهم أصبحنا نفعله عن ارتياح وبهجة وسرور، وظننا أننا قد تحضرنا وارتقينا وتجددنا وأصبحنا كذا وكذا بعد أن لعب بنا الشيطان وسخر منا، فأصبحنا عبيداً له.

    ثم كان البلاء الأخير استعمار ألعن الأمم وأذلها، وهو استعمار اليهود، يقتلون من يقتلون، ويستبيحون أعراض من يستبيحون، ويهدمون البيوت على ساكنيها، ويدوسون المسلمين بسياراتهم ودباباتهم، والعالم كله معهم يصفق لهم ويساعدهم حتى العرب، أفليس هذا ذلاً وهواناً وعقوبة سماوية جعلها الله على أيدينا مكراً بنا وعقوبة لنا؟

    والقرآن الكريم ما ترك شيئاً يعود علينا نفعه إلا ولفت أنظارنا إليه ونبهنا عليه، وما من شيء يضرنا في حاضرنا ومستقبلنا إلا وبينه لنا وكشف لنا حقائقه، ولكننا نعيش بأذان صماء وبقلوب غلف، مثل عيشة البهائم أو أقبح وأذل.

    وفي قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].

    أي: بسبب كسب الناس وبسبب جرائمهم، والكلام صريح ولا يحتاج إلى بيان أكثر من هذا البيان، أي: بسبب ظلم الناس وفجورهم وفسقهم وكفرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قادهم إلى العز ألف عام متصلة متوالية، فلما تركوا قيادته وإمامته وذهبوا يجرون خلف كل يهودي ونصراني ومنافق، بدل الله حالهم إلى غفلة وضياع وزيغ وضلال، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

    اللهم لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أعدنا إليك، اللهم وعليك بكل ظالم زائغ، أنهه واقض عليه، واسلبه حياته وأخلده في النار.

    إذاً: فقوله: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

    أي: ليصيبهم ببعض ذنوبهم، وببعض الذي فعلوه من المعاصي، لا نقمة منهم، ولكن لعلهم يرجعون إلى الله، فعندما لم يرجعوا بالبيان وبالبلاغ وبدعوة الرسل والعلماء فليأتوا قهراً بتسلسل العذاب والآلام والمصائب والفتن من الأرض والسماء ومن كل جهة من جهات الأرض ومن كل البشر من يهود ونصارى ومنافقين، بل ومسلمين كذلك، و(لعل) في القرآن للتحقيق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا...)

    قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم:42].

    يقول تعالى: اسمعوا بآذانكم، فإن لم تكن لكم آذان فانظروا بأعينكم، وسيروا في الأرض وسيحوا وابتغوا من فضل الله، واعلموا أن هذه الأرض قد كان عليها قبلكم خلق من خلق الله، أشد أبداناً وأقوى سلطاناً وأطول أعماراً، لهم من الحول ومن الطول ومن القوة ما ليس عندكم جزء منه، فانظروا إلى آثارهم وإلى مساكنهم وأين هم؟ فقد ذهبوا بجمالهم وبحطامهم وبقوتهم وأصبحوا تراباً، وعادوا إلى التراب كما كانوا، فأصبحوا وكأنه لم يكن هناك جاه ولا سلطان ولا مال ولا تيه ولا جبروت ولا طغيان.

    فانظروا إلى ذلك وخذوا منه العظة والعبرة، واعلموا أن الذي فعل ذلك بأولئك هو الله، وهو لا يزال قادراً على أن يعذبكم ويعاملكم معاملة أولئك، فتوبوا إلى الله ما دمتم أحياء، وانتهزوا حياتكم قبل موتكم.

    وقال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم:9].

    أي: عاقبة السابقين الأولين الذين كانوا قبلكم وما الذي جرى عليهم؟ وما هي الزلازل التي زلزلت أقدامهم؟

    فقد نزلت عليهم الصواعق من فوقهم وجاءتهم الصيحات من كل جهة فأصبحوا في مكانهم جاثمين، وكأن لم يغنوا بالأمس، فقد عم البلاء البر والفاجر، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، أي: إن هناك قلة ليست بمشركة، ولكن عمهم البلاء لمجاورتهم ومساكنتهم ومخاللتهم.

    وقوله: كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم:42]، أي: كفرة بالله متخذين مع الله الشريك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم...)

    قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43].

    أي: اجعل وجهك لله وأقبل به وبنفسك وبروحك له.

    والدين القيم: الدين المستقيم، وهو الإسلام دين العوالم كلها الذي اختاره الله للبشر، منذ ظهر نبينا في هذه البطاح المقدسة يدعو الناس للإيمان بالله خالقاً، وبه عبداً ورسولاً وخاتماً، فمنذ ذلك الحين والخلق كلهم إنسهم وجنهم مكلفون ومأمورون من الله أن يدينوا بالإسلام ويتخلقوا بأخلاقه، وأن يعبدوا الله الواحد ويدينوا بالدين الذي أرسله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

    وأما ما سوى ذلك من يهودية ونصرانية ومجوسية ومختلف ملل الأرض فإنها قد غيرت وبدلت وحرفت من قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام بدين الإسلام، ثم أصبح كل الخلق إنساً وجناً مأمورين باتباعه، والله يقول لهم: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الروم:43].

    واليوم الذي لا مرد له هو يوم الآخرة، يوم يدعونا من الأرض فننتصب قياماً حفاة عراة غرلاً، أي: حتى الجلدة التي قطعت عند الختان تعود، فنقف أمام الله ننتظر الأمر والنهي والحساب، في يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، وقد قال الله عن ذلك اليوم: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    فهذا اليوم الذي لا مرد له إذا وصلناه وكان منا المقصر ومنا المشرك ومنا العاصي ومنا الكافر فلا ينتظر أن يرد ويعود إلى الدنيا؛ لعله يتدارك ما ضيع وما عصى فيه وخالف، ولن يكون ذلك أبداً، وإذا قامت الآخرة وكان العرض على الله فذلك اليوم الآخر، الذي لا مرد له من الله، وهو يوم يحاسب فيه كل إنسان على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

    قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43].

    أي: يفترقون، فريق في الجنة وفريق في السعير، فلا يبقى مؤمن مع كافر، ولا كافر مع مؤمن، ولكنهم يفترقون كل طائفة مع جنسها ومثيلها، ومنه الصداع الذي هو نوع من المرض يكون في الرأس في جانب منه فقط وليس فيه كله، ويكون أشد أنواع صداع الرأس وألمه، فهم هكذا يصدعون ويتفرقون ويوزعون، فيميز المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره...)

    قال تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44].

    فالكافر الذي سيأتي يوم القيامة في اليوم الذي لا مرد له من الله يكون كفره عليه، فيحاسب عليه وحده ويخلد في النار وحده.

    وقوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44].

    أي: والذين جاءوا بالصالحات فلأنفسهم يمهدون، أي: يفرشون ويتبوءون المنازل ذات الفرش العاليات والأرائك المتقابلة في روضات الجنة الدائمة، دواماً مستمراً دهر الداهرين وأبد الآبدين، ولا موت في الحياة الآخرة، بل حياة دائمة خالصة، فمن كفر فكفره يحاسب عليه وحده، ومن آمن فإيمانه ورضاه ومغفرة ربه تعود عليه، فهو بإيمانه وبصلاح أعماله يكرس لنفسه القصور العلا في الجنان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات...)

    قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم:45].

    أي: يفعل ذلك ربنا بالمؤمنين الذين لأنفسهم وبعملهم الصالح يمهدون؛ ليجازيهم ويكافئهم من فضله، بمعنى: أنه سيعطيهم جزاء أعمالهم، ويفضل عليهم الكثير الكثير، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا حد له مما يشاء الله من الإضعاف.

    وقوله: (إنه لا يحب الكافرين)، وما لا يحبه الله ملعون محرم، وما لا يحبه الله فله اللعنة والعذاب والنار خالداً فيها أبداً دائماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953930