إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [63-72]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قضى الله تعالى أن تكون الساعة بغتة، وقد أخفاها فلم يعلم بها ملك ولا رسول، ولذلك يجب على المرء أن ينشغل بالإعداد لها، والحذر من اتباع الكبراء المضلين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله...)

    قال الله تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63] .

    سبق هذا السؤال في سورة الأعراف وهي مكية، وكثر في غير ما آية، وجاء في هذه السورة وهي مدنية، ومعنى ذلك: أن نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر ما سئل هذا السؤال من كفار ومنافقين ينكرون البعث ويوم القيامة، ويأتون لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيسألونه: متى هذه الساعة التي تتحدث عنها؟ وهل يمكن أن يعود الآباء والأجداد وقد أصبحوا رمماً وتراباً؟

    وهذا السؤال قد حصل من مسلمين كذلك، لكن أولئك المنافقون والكفار يسألون سؤال استنكار، أما المسلمون فيسألون عن قرب وقتها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد سبق أن قال لهم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي: أرسلت للناس وبيني وبين الساعة والقيامة المنتظرة ما بين السبابة والوسطى.

    والذي بين السبابة والوسطى قدر ضئيل.

    فالأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه لا يتجاوزون خمسة وعشرين، وأنبياء الله كما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم جم كثير ثلاثمائة وزيادة، وكم بين النبي والنبي، وكم بين الأمة والأمة، وإنما ذكر الله لنا قصص خمسة وعشرين نبياً؛ لأخذ العبرة والدرس، حتى إذا ارتكب المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما ارتكبه الأولون الذين دمروا، والذين زلزلوا، والذين فاض عليهم الفيضان، والذين رجموا من السماء وزلزلت بهم الأرض وكان مما فصل الله، فيحذروا أن يحصل لهم ما حصل لمن قبلهم، فيتوبوا إلى الله.

    فقوله: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الأحزاب:63] أصبحت كلمة (الساعة) إذا أطلقت تعني القيامة وتعني البعث والنشور، وتعني الحياة الثانية عندما تزرع فينا الأرواح، ونقوم للعرض على الله في أرض المحشر، فإما إلى جنة وإما إلى نار.

    وقوله: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الأحزاب:63] كلمة (الناس) هنا تشمل المؤمن والكافر، أي: كلهم قد سألوا.

    وقوله: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63] أي: قل لهم يا رسول الله: إنها مما استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل.

    فلا يعلم وقتها بالتحديد إلا الله.

    وقوله: وَمَا يُدْرِيكَ [الأحزاب:63].

    أي: إذا لم أعلمك بها أنا فلا أحد يعلم بها لا ملك ولا رسول، وإنما الذي يعلمها الله تعالى، كما قال سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

    فما يعلم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الغيب يقوله للناس، وما لا فلا.

    وقد استأثر الله بأشياء من الغيب منها علم الساعة، فقد جاء جبريل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ ما الإحسان؟ إلى أن سأله: متى الساعة؟ قال: ليس المسئول عنها بأعلم من السائل.

    يعني: أنت تسألني لتعلم وعلمي وعلمك فيها سواء، فلا تنتظر مني جواباً بعلمها.

    قال: وما أمارتها؟ ألها علامة؟ قال: نعم، إذا رأيت الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان، وإذا رأيت الأمة تلد سيدها، وذكر له عدة من الأمارات، وهذه الأمارات كلها قد حدثت، وهناك أمارات صغرى وكبرى منها: خروج يأجوج ومأجوج، والريح الحمراء، والدابة، وغير ذلك من الأمارات.

    والبدو هم الذين كانوا إذا ملك الواحد منهم جملاً أو حماراً وتمرات يسد بها جوعته وجرعة ماء يطفئ بها عطشه فكأنما ملك الدنيا، واليوم يملكون القصور والبنايات، ويعيشون في الرفاهية، والعيش الرغيد.

    وكون الأمة تلد ربتها، يعني: أن تلد الأمة الجارية ولدها فيكون عاقاً، فيذهب يسب أمه كما تسب الأمة، وقد يضربها كما تضرب الأمة، نرى هذا قد حدث ولا يزال يحدث.

    وقوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63].

    أي: لعل يوم الساعة يكون قريباً، فقريباً جاء لذكر اليوم، على أن الساعة وإن كانت كلمة فيها تاء التأنيث ولكن ليس تأنيثاً حقيقياً، وما كان كذلك يذكر ويؤنث.

    والقرآن هو أبلغ ما نطق به من لغة العرب، كيف وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

    فهذه الآية فيها إخبار من الله بقرب الساعة، وقربها بدا وظهر يوم ظهر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو نبي آخر الزمان، لا نبي بعده ولا رسول، به انقطعت الشرائع والنبوءات والرسالات السابقة، وهو كما قال عن نفسه: (بعثت والساعة كهاتين) في القرب كقرب السبابة إلى الوسطى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً...)

    قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:64-65].

    هذه الآيات تؤكد أن السائلين كانوا من المنافقين والكفار، فسؤالهم سؤال إنكار وتعجب:

    كيف يبعث الموتى بعد أن يصبحوا رمماً وتراباً؟ وكيف يعودون للحياة مرة أخرى؟

    فبين الله لهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم، وهو الذي جاء عليه الصلاة والسلام ببيان ما يجهلون.

    فقوله: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ [الأحزاب:64] أي: طرد هؤلاء المستنكرين لأمر الله وأمر رسوله من رحمته.

    وقوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب:64] أي: هيأ لهم يوم القيامة ناراً متسعرة ملتهبة محرقة مدمرة، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

    قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الأحزاب:65] أي: ناراً مستعرة ملتهبة محرقة خالدين فيها أبد الآباد، لا أموات فيستريحون ولا أحياء فيرجون، هم أحياء بالحركة والشعور والحس، وهم أموات بالعذاب والمحنة التي هم فيها، ماتوا من الراحة ومن الرحمة ومن الرضا شأن أمثالهم من الكافرين والمنافقين.

    ويوم القيامة يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح، فيقال لأهل الجنة: خلود لا موت بعده، ويقال لأهل النار: خلود لا موت بعده. وهذا من المعلوم بالدين بالضرورة، لم يختلف فيه مسلمان في الأرض.

    وقوله: لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:65] أي: هؤلاء على جبروتهم وطغيانهم واستيلائهم على المؤمنين وتعذيبهم لهم، وتظاهرهم بالتأله والطغيان، فهؤلاء الطغاة عند الموت يرمون في حفرة لا يجدون لهم من أوليائهم ومن أقاربهم، من أنصارهم، ومن جندهم من يستغيثون به، ومن ينصرهم.

    يوم القيامة يقول الله جل جلاله عند فناء الكون: أين ملوك الأرض؟ فلا جواب، فيجيب نفسه جل جلاله بنفسه فيقول: أنا ملك الملوك.

    وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن من أسماء الله: ملك الملوك، ونحن نرى من تلقب بملك الملوك كيف يذل ويهون، وكيف يصبح ألعن من خنزير وأذل من كلب وأذل من شاة، بل الشاة أشرف منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار ...)

    قال الله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66].

    أي: يوم يدخلون إلى النار مسحوبين على وجوههم يتقلبون ظهراً لبطن، تارة على الخد الأيمن وتارة على الخد الأيسر وهم يحرقون، وكلما نضجت منهم الجلود وذهبت مع لحومها جددت وأعيدت؛ ليزدادوا العذاب جزاءً وفاقاً على كفرهم بالله خالقهم ورازقهم، وعلى كفرهم بالأنبياء والرسل، وما جاءوا به من أدلة قاطعة على صدقهم، وأنهم رسل الله المتكلمون بأمر الله، ومع ذلك كذب هؤلاء فكان جزاؤهم الخلود في السعير وفي النار أبد الآبدين ودهر الداهرين، لم يجدوا ولياً يواليهم ولا نصيراً ينصرهم، فهم يقلبون ليل نهار على وجوههم في النار، فيصيحون نادمين وهيهات فقد سبق السيف العذل؛ لأنهم لم ينتهزوا الحياة قبل الموت وهم يؤمرون أو ينهون، وقبل أن يذهبوا للقبور ويسألون من منكر ونكير: ما دينكم؟ من ربكم؟ من نبيكم؟ وعندما ماتوا كفاراً لم يعرفوا جواباً.

    وقوله: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ [الأحزاب:66] أي: حال كونهم يقولون: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66] أي: عندما يرون من يهزءون بهم ويسخرون منهم ويتسلطون عليهم قد أمنوا هذا العذاب، وأبعدوا عنه، وأدخلوا الجنة آمنين سعداء متلذذين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهؤلاء الكفار يقولون يا ليتنا فعلنا فعل هؤلاء، وأطعنا الله فيما أمرنا به من طاعته وطاعة رسوله وطاعة كتابه.

    فهؤلاء يتمنون أنهم كانوا مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وآمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم وبأنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، لكن ولات حين مندم، فلو آمنوا بالله الواحد، وأنه الخالق لا صاحبة له ولا ولد، ولا أول له ولا آخر، وأنه كان ولم يكن شيء معه، وأنه يعيد الخلق كما كان جل جلاله، وهو القادر على كل شيء.

    وقوله: يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66] الألف واللام في الرسول للعهد الذهني أي: محمد عليه الصلاة والسلام، وتطلق على كل رسول أرسل إلى قومه أيام زمانهم؛ لأن هذا القول سيقوله جميع الأمم الذين كفروا بربهم وبالنبي المرسل لهم، فكل واحد يقول: ليتني أطعت الله ورسوله المرسل إليَّ.

    إذاً: قوله: (الرسولا) في هذه الآية ألف (الرسولا) يقولون عنها: ألف الفواصل؛ لأنها تفصل بين الآي والآي وبين المعنى والمعنى، ولا يصح أن تقول: أطعنا الله والرسول. وهذا من تمام فصاحة اللغة العربية وبلاغتها، ولا يوقف عليها بسكون اللام وإنما يوقف عليها كما هي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ...)

    قال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] أخذوا يعتذرون وهيهات.

    فالله لم يرسل لكم كبراءكم ولم يرسل لكم سادتكم، وإنما أرسل أنبياء ومرسلين وهم الذين أمروكم بطاعته سبحانه، كبراؤكم إنما أكبرتموهم أنتم وليسوا بحال من الأحوال كبراء، بل هم الصغراء، وسادتكم من الذي سودهم عليكم؟ أنتم الذين سودتموهم، وأنتم الذين جعلتموهم أنبياء، بل وألهتموهم دون الله، وأخذتم تطيعونهم كما تطيعون الله، وكما تطيعون أنبياءكم، فكانت النتيجة كما قال الشاعر:

    ومن يكن الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب

    أي: الذي يتخذ الغراب دليلاً، فإن الغراب لا يذهب به إلا إلى جيف الكلاب، فهذا مثل من يتبع هؤلاء الكبراء والسادة ومن سودوهم على أنفسهم، وجعلوهم زعماءهم وحكامهم وعلماءهم وفلاسفتهم، وهم بهذه الألقاب ليسوا مؤمنين ولا مسلمين.

    أما إذا كان الكبراء والسادة مسلمين فهم خلفاء النبي صلى الله عليه وعلى آله في تبليغهم أمر الله وأمر رسوله، كما هي عادة الخلفاء الراشدين وأمثالهم ممن جاء بعدهم.

    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

    فالزعيم والكبير والملك والرئيس من يدعو الناس ويقول: يا أيها الناس اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً يا أيها الناس عليكم بدين الإسلام فهو الدين الحق ولا دين بعده.

    يا أيها الناس عليكم بلغة العرب فبها نزل القرآن، وبها نطق سيد العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى تفهم القرآن وتفهم السنة إلا بتعلم لغة العرب، فمن كان غير ذلك فليسوا من السادة والكبراء.

    وكم من أناس يسمون أنفسهم بالسادة والكبراء والرؤساء وهم منافقون يدعون المسلمين إلى الجري وراء اليهود والنصارى، فهؤلاء لا دين عندهم ولا ضمير ولا شرف.

    فهؤلاء ليسوا هم سادة في حد أنفسهم ولا كبراء، ولكن هؤلاء الناس سودوهم على أنفسهم وجعلوهم كبراءهم، ولذلك يوم القيامة سيتبرءون منهم وهيهات، وسيطلبون من الله -وهم أحقر من أن يطلبوا- عقابهم مرتين.

    وقوله: وَقَالُوا رَبَّنَا [الأحزاب:67] أخذوا يقولونها وهم في النار، وعندما كانوا في الحياة ما كانوا يقولونها، كانوا يقولونها عن سادتهم وكبرائهم من المنافقين والكفرة، ممن سموا أنفسهم شيوعيين واشتراكيين وماسونيين ومجددين وتقدميين.

    وقوله: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] أي: وهم في النار؛ لأنهم تركوا طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وأطاعوا السادة والكبراء، فأضلوهم السبيل والطريق المستقيم، وعوضاً أن يذهبوا إلى طريق الجنة وإلى الصراط المستقيم الذي ليس هو صراط اليهود المغضوب عليهم، ولا صراط النصارى الضالين، ولكنه صراط الله وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

    أبوا كل ذلك، وقاوموه، وحاربوه ولا يزال هذا ديدنهم في كل عصر كل حسب كفره ووضعه، بل أخذ المسلمون يتركون كتاب الله وسنة رسول الله وجعلوهما وراءهم ظهرياً، وذهبوا إلى وضع قوانين وضعها اليهود والنصارى والمنافقون، عوضاً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي ساد المسلمون بهما في الأرض ألف عام، فعندما تركوهما ذلوا وهانوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً)

    قال الله تعالى: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:68].

    الأتباع يدعون ربهم وهم في السعير أن يعذب رؤساءهم ويذيقهم ضعفي العذاب، وفي آيات أخرى تقول الملائكة لهم: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38] الرؤساء لأنهم أمروا بالضلال، والأتباع لأنهم أطاعوا من لم يؤمروا بطاعتهم في كتاب الله، ولم يؤمروا بذلك على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فقوله: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ [الأحزاب:68] ضعفاً لكونهم أضلوا كثيراً من خلق الله، وأخرجوهم من الهداية إلى الضلال، وضعفاً لأنهم في أنفسهم ضالون، ولم يعلموا هذا ويدركوه حتى وجدوا أنفسهم مقيمين في العذاب أبد الآباد.

    وقوله: وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:68] أي: أكثر من لعنهم، وقرئ: (كثيراً) والمعنى واحد، أي: العنهم لعناً كثيراً مع العذاب مرتين؛ لأن النار دركات كما أن الجنة درجات، والجنة منازل والنار منازل، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وهناك من هو في ضحضاح من النار، قد وضعت على قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، نسأل الله اللطف والسلامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى...)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

    أي: يا أيها الذين آمنوا لا تؤذوا رسول الله كما آذى بنو إسرائيل رسولهم موسى، وقد آذى رسول الله عليه الصلاة والسلام المنافقون الذين زعموا الإسلام ظاهراً وأبطنوا الكفر.

    وهناك مسلمون مغفلون كانوا قليلي الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    وسبب نزول هذه الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم مالاً، وكان هناك أعرابي فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة: هذه قسمة لم يرد بها وجه الله.

    وقد يكون هذا البدوي منافقاً بهذه الكلمة، وقد تكون بدويته دفعته إلى الجهل بمقام النبوة، وذهب يتأدب معه حسب الملوك والأمراء فأراد أن يكون جريئاً، ولكن عدم الأدب مع الملوك والأمراء لا يحكم على صاحبه بكفر ولا نفاق، أما مع رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلك الردة، وجزاء فاعل ذلك القتل.

    مثال غير الرسول صلى عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه جاءه إنسان يطلب حقاً، فأجابه أبو بكر بكلام لم يرضه، فشتم أبا بكر ، فغضب أبو بكر غضباً شديداً وكان بمحضره أحد الأصحاب، فقال: يا خليفة رسول الله مرني بقتله، فهدأ أبو بكر وذهب ما كان في نفسه من الغضب فقال: أكنت فاعلاً لو أمرتك، قال: والله نعم، قال: ويلك، لا يكون ذلك مع أحد إلا مع رسول الله.

    أي: لا يقتل الساب والشاتم وقليل الأدب إلا إذا فعل هذا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولـابن تيمية كتاب عظيم الشأن في هذا الجانب اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم) وقد طبع أكثر من مرة، وهو ما يقرب من (800) صفحة، ويذكر فيه القصص بالأدلة والبراهين القاطعة، وأن شاتم النبي عليه الصلاة والسلام وقليل الأدب معه يقتل ولو قال: أنا تائب.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] أي: لا تؤذوا رسولكم كما آذى اليهود نبيهم موسى، وكان موسى عند الله وجيهاً، كان إذا طلب ربه ودعاه استجاب له؛ لأن له مكانة عنده، شأنه كشأن الرسل والأنبياء، وخاصةً أولي العزم من الرسل: نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

    ولقد آذى اليهود موسى بعدة أنواع من الإيذاء، والآية لم تذكر نوعاً معيناً، ونحن نذكر أنواعاً من أذى بني إسرائيل لموسى:

    من ذلك أنه كان من شريعة اليهود أنهم لا يتسترون، ولا عورة عندهم، فكان موسى حيياً ستيراً يحب الستر، حتى إنه كان إذا دخل نهراً للغسل يدخل بثيابه، فأخذ أتباعه يقولون: موسى لا يحرص على هذا إلا وفيه مرض في رجولته؛ فلذلك هو يحرص على ذلك.

    وفي يوم من الأيام دخل نهراً ولم يكن أحد، فوضع ثيابه على حجر، ووضع حجراً آخر عليها؛ خوفاً من الرياح، وإذا بهذا الحجر يتحرك ويذهب بثيابه، فطفق موسى يلحق هذا الحجر وينادي: ثيابي حجر.. ثيابي حجر، إلى أن وقف الحجر على ملأ من بني إسرائيل، فرأوه سليم البدن ليس به برص ولا مرض، فعند ذلك كما قالت الآية: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] والحديث في الصحيحين.

    ومن أنواع الأذى: أن هارون مات فدفنه موسى، فقالت له اليهود: أنت قتلته واتهموه بذلك، وهو أخوه الذي سأل الله له أن يكون رسولاً نبياً مقرباً منه، قال تعالى مخبراً عن موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30].

    ومما آذوه به كذلك: أنهم إذا أمرهم بأمر يقولون في وجهه ما يتشككون في أمر النبوة والرسالة.

    المهم كان اليهود يؤذون نبيهم، فالله قال للمؤمنين: إياكم أن تؤذوا رسولكم كما كان اليهود يؤذون موسى، أولئك بأذاهم لنبيهم وقولهم على ربهم ما لا يليق به ارتدوا وكفروا ولعنوا لعن الأبد.

    وما سلطوا برهة من الزمن على المسلمين إلا بعد أن ترك المسلمون كتاب الله وسنة نبيه، فينبغي للمسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة، لا أن يجروا خلف اليهود ويتبعوهم.

    وهكذا كلما رأينا محنةً أو عذاباً فهو بأعمالنا وبعصياننا وبمخالفتنا لأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ...)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70].

    أي: هذا البدوي الذي قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحذروا أيها المؤمنون واتقوا الله من مثل هذا القول، واتقوا الله من المخالفة والمعصية، واتقوا الله من فعل المنافقين والكافرين.

    وقوله: (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).

    والقول السديد هو القول الصواب، والقول الحق، وأحق ما يقال في السداد والقول الصواب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويأتي بعدها كل الأحكام والأركان والآداب والفرائض والحلال والحرام.

    (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) أي: آمنوا بالله رباً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً.

    قال الله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

    أي: قولوا القول السديد والقول الحق والصواب، ولا تقولوا قول المنافقين والكافرين، وإن أنتم قلتم القول السديد وفعلتموه يصلح الله أعمالكم، ويصلح بالكم، ويصلح لكم ما تريدونه من طاعة لله ورسوله.

    فقوله: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [الأحزاب:71] أي: أن أعمالكم تكون صالحة، وتكون حسب رضا الله وحسب رضا رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (يُصْلِحْ) مجزوم على أنه جواب الأمر.

    وقوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ): ما فعلتموه عن جهالة عن نسيان أو خطأ مع القول النجيب مع الإيمان والإسلام يغفره الله لكم، ويمحوه الله من صحائف ذنوبكم، ولا يحاسبكم عليه؛ مغفرةً ورحمةً بكم.

    وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: من يطع الله يكن مؤمناً مطيعاً، ومن يطع رسوله، فيما أمر به، ويطعه فيما نهى عنه، ويطعه في التأسي به على أنه الأسوة العظمى والإمام المتبع صلى الله عليه وعلى آله.

    وقوله: (فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أي: فاز بالجنة وهو فوز عظيم، وفاز برضا الله وهو شيء عظيم، وفاز برحمة الله ومغفرة ذنوبه وهو الفوز وهو النجاة، وهو أكبر من نجاحات جامعات الدنيا، وأكبر من كل كبير في الأرض، فمن فاز وهو مطيع لله ومطيع لرسوله فقد فاز الفوز العظيم، وفاز برحمة الله ورضاه ودخول الجنة، ثم رؤية الله جل جلاله في الجنان، جعلنا الله من أهلها، وأكرمنا بذلك فضلاً منه وكرماً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال...)

    قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].

    يخبر جل جلاله عن عظم الأمانة ومكانتها في الدنيا والآخرة، ويبين سبحانه أن هذه الأمانة تشمل كل معاني الدين، ومن الأمانة الطاعة لله ولرسوله، ومن الأمانة حفظ المال والودائع للناس، وحفظ الأعراض، وأنت أيها المسلم اؤتمنت على فرجك فلا ترتكب فاحشة، واؤتمنت على عينيك فلا تنظر بهما ما حرم الله، واؤتمنت على سمعك فلا تستمع إلى ما حرم الله، واؤتمنت على لسانك فلا تستعمله فيما حرم الله.

    ومن الأمانة نشر العدل في الأرض، والسعي في الإصلاح بين الناس، وعدم الظلم والأذى، وأن يكون المؤمن أخاً لك، وأن يكون الكافر عدواً لك، لا بأس أن تصاحبه في الدنيا معروفاً، أما أن تخلص له وتقدمه وتزيل الحواجز بينك وبينه، حواجز اليهودية وحواجز النصرانية وحواجز النفاق وزوال الإسلام بينك وبينهم، فمعنى ذلك: أنك أصبحت واحداً منهم، وأنك ارتددت عن الإسلام.

    الأمانة تشمل كل هذه المعاني، وقديماً قالوا: (لا إيمان لمن لا أمانة له).

    فقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي: امتنعن ورفضن لا إباء عصيان ولا إباء مخالفة، ولكن شفقة وخوفاً أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.

    هذه الجمادات خلق من خلق الله، وقد تنطق وقد يكون لها إحساس، والآية تدل على ذلك، والقرآن مليء بهذا، والسنة النبوية كذلك.

    من القرآن قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18] فيسجد لله الشجر والجبال، وهي ممن عرضت عليها الأمانة، ولا يسجد إلا من يدرك.

    والله تعالى قال عن الحجارة: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] أي: تتدحرج وتترامى، كما جرى لجبل الطور عندما سأل موسى عليه السلام الرؤية وكانت النتيجة أن الجبل دك دكاً من خشية الله وعظمته وهو جماد.

    فالحجارة تدهدهت وهبطت من خشية الله.

    وفي الدنيا من السيرة المتواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هذا الخشب بعد أن قطع من شجره ومن غابته كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد النبوي، فرأى بعض أصحابه أن يصنع له منبراً صغيراً له ثلاث درجات، فصنعوا له المنبر ليسمع كل من في المسجد، وليراه كل من في المسجد، فلما ترك عليه الصلاة والسلام الجذع الذي كان يخطب عليه وصعد المنبر الجديد حن وصوت، وسمعه كل من في المسجد وهو جماد، أحس بشرف وقرب النبي عليه الصلاة والسلام وقت الخطابة عليه لسنوات مضت.

    ثم أحس بعد ذلك أنه هجر وترك وأتي بغيره فبكى وهو جماد، وأي عجب في ذلك ونحن خلقنا من التراب، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ [طه:55] نحن جزء من هذا التراب بدليل أنه عندما يموت أحدنا يعود تراباً، فيصبح جماداً كما كان، فمن أنطق الجماد وزرع فيه الروح؟ إنه الله، كذلك هذه الجمادات من السماوات ومن الأرض ومن الجبال عرضت عليها الأمانة، فالأمانة بالنسبة والجبال والأرض بحسبها، فالأرض تؤتمن على من فيها من الخلق فلا تدخلهم في بطنها قبل الموت، ولا تتزلزل بهم فلا يستقرون عليها، والسماء لا تطبق على الأرض، ولكن مع كل هذا امتنعوا شفقةً لا عصياناً ومخالفةً، شفقة وخوفاً من أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.

    وزعم بعض المفسرين أن هناك كلمة محذوفة كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: أهل القرية.

    فيكون المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وعلى أهل الأرض وعلى أهل الجبال.

    هذا كلام لا يقبل ولا معنىً له، فأهل السماوات هم الملائكة، وهل عرضت الأمانة على الملائكة فرفضوا، ما كان هذا ولن يكون، وهم الذين لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

    وأهل الأرض هم الإنس والجن، والله قد أرسل لنا الرسل والأنبياء وأمرنا بأوامر، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    والجبال نحن نسكنها، فهل معناه: أن كل إنسان رفض الأمانة؟ ليس هذا صحيحاً، بل قال الله: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ [الأحزاب:72].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768238600