إسلام ويب

تفسير سورة ص [21-29]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أمر الله عباده بالحق وإقامة العدل ورفع التظالم فيما بينهم وشرع لذلك إقامة المحاكم ودور القضاء، وفي قصة الخصمين اللذين اختصما إلى نبي الله داود في نعاجهما عظة وعبرة لكل حاكم وما ينبغي أن يكون عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم ...)

    قال تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:21-23].

    يقص الله علينا جل جلاله قضية حكم فيها داود، وكانت تعريضاً بفعله، يقول الله لنبيه: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:21].

    ومن أين يأتي نبأ هذا الخصم إلا من الله جل جلاله، فهو أُمي لم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه الله بحكمته ووحيه، فكان أعلم أهل الأرض متقدمهم ومتأخرهم إلى يوم القيامة، وكما قال الله له: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]

    كفاك بالعلم في أمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

    فأعظم المعجزات أن يضعوك بين أمة جاهلية لا تعلم القراءة، ولا تدري ما الكتابة، فهو يعلم علم الأولين، ويعلم بينهم علم الآخرين.

    قوله: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:21].

    هذا استفهام تقريري يذكره الله تنبيهاً له ليسمع ما يوحى إليه، وما يذكر لأتباعه من المؤمنين، أي: هل وصلك يا محمد خبر الخصم؟

    والخصم: كلمة تدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المؤنث والمذكر، يُقال: هذا خصم، وهذان خصم، وهؤلاء خصم، ولذلك رجع الضمير إلى جماعة فقال: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا [ص:21] أي: الخصوم إذ صعدوا إليه وتسلقوه.

    وقد قسم داود عمله في حياته على ثلاثة أيام: يوم لعبادة الله، فيبقى في محراب بيته ومسجده للعبادة، وتدبر التوراة، وتلاوة الزبور، والتسبيح والتمجيد والتعظيم، ويوم للفصل والقضاء بين الناس، ويوم لمشاغله الخاصة ولنسائه أي: للدنيا.

    إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص:22].

    جاء رجلان إلى الحرس على أبواب داود وطلبا من الحرس أن يدخلا على داود ليفصل بينهما في قضية، فقال الحرس: ليس هذا يوم القضاء وإنما هذا يوم عبادة داود.

    وإذا بالرجلين يتسوران حائطاً ويصعدان فيه ويقفزان إلى داخل الدار فيدخلان على داود في محرابه، فعندما رآهما فزِع واستغرب: كيف دخل هذان عليّ في يوم عبادتي؟! وكيف لم يمنعهما الحرس؟ قَالُوا لا تَخَفْ [ص:22] لأنا لم نأتك سُرّاقاً ولا قتلة، وإنما أتينا خصوماً قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] إنما نحن شخصان تخاصما واختلفا على حق من حقوق الدنيا.

    قوله: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] أي: ظلم بعضنا بعضاً وطغى عليه وغصبه حقه.

    فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ [ص:22] من الشطط وهو الابتعاد، أي: لا تبتعد بنا عن الحق، ولا تتجاوز الحق في الحكم بيننا، والمعنى: لا تكن ظالماً ولا تحكم لأحدنا على الآخر باطلاً، بل أد الحق لأهله، فنحن قد رضينا حكمك.

    وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص:22] أي: بيّن لنا وأنر لنا الصراط السوي والحق البيّن الذي لا شطط فيه ولا زيادة ولا نقصان.. اهدنا إليه وعلّمناه ووفقنا له فنحن راجعون إلى حكمك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ...)

    ثم ذكر الخصوم قال أحدهما وهو المدّعي: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23].

    أي: هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، وأنا لي نعجة واحدة، فطلب مني أن يأخذها وينفق عليها ويرعاها ويقوم بها.

    قوله: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23].

    أي: تعالى وتعزز عليّ، فلم يقبل كلامي وترفع عليّ واحتقرني، وإذا بداود يحكم: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24] حكم بظلم هذا الذي طلبه كفالة تلك النعجة إلى نعاجه فقال: إنه ظالم.

    قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24] الخلطاء: الشركاء الذين يخلطون أرزاقهم وشركتهم بعضها ببعض.

    قولهلَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24] أي: ليظلم بعضهم بعضاً من البغي والظلم والاعتداء.

    إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] أي: إلا المؤمنين بالله، القائمين بالصالحات، وقد يكون هناك مؤمنون يبغي بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم حق بعض إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] وهؤلاء المؤمنون العاملون الصالحون قلة بين الشركاء في شركاتهم وأموالهم ومعاملاتهم.

    وإذا بالشخصين والرجلين يتضاحكان ويقول أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه، وإذا به يفتقدهما وقد طارا، فلا يجد أحداً منهما، ما القصة؟

    قال الله بعد ذلك: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] عندما قالا ذلك انتبه أن هذه خصومة ليست كالخصومة، هذان رجلان غريبان أتيا ليقرّعانه ويؤدبّانه على شيء قد صدر منه هو فقال بعضهم لبعض: لقد حكم الرجل على نفسه، واعترف بأنه هو الذي سرق، وهو الذي طمع وأراد ضم واحدة إلى تسع وتسعين.

    قوله: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص:24] الظن هنا بمعنى التحقق.

    قوله: فَتَنَّاهُ [ص:24] أي اختبرناه وابتليناه.

    يقول الله جل جلاله: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] عندما قال أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه ثم طارا ولم يُريا بعد ذلك علم أنهما ملكان أتيا ليؤدباه بأمر الله على ما صدر منه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص:24] أي فأخذ يستغفر ربه من ذلك مسبّحاً وممجداً ومعظماً ومعه الجبال والطير والدواب.

    وَخَرَّ رَاكِعًا [ص:24] أي: خر ساجداً لله، يُقال: سجد وركع والمعنى واحد، والبعض فهمها على ظاهرها فقال: يكون السجود ركوعاً بمعنى: سجدة التلاوة يكفي فيها الركوع كما هو هنا، وهذه السجدة ليست بلازمة، وإنما هي مستحبة، فعلها صلى الله عليه وسلم وتركها، والسجود فيها إنما هو مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأصحاب المذاهب الأخرى على خلاف ذلك، فكان هذا سجوداً وركوعاً لله، وتوبة واستغفاراً مما صدر عن داود، وما الذي صدر؟

    فسّرت الآية كما تدل عليها مدلولاتها، ولكن جميع قصص أنبياء بني إسرائيل (99) بالمائة منها إسرائيليات مروية من التوراة، ومن كتب بني إسرائيل، وما أكذبها وأكثر ضلالها وزيفها! وقد تسرّب بعض ذلك في دفاترنا عن يهود أسلموا أو تظاهروا بالإسلام كـكعب الأحبار ووهب بن منبه وكان ابن عباس كثيراً ما يسمع عن كعب ويروي، فرويت أحاديث مرفوعة وموقوفة وأسانيدها ليست بالصحيحة؛ اعتلالاً في الطرق، وتجريحاً للرواة والرجال، ولكن داود قد صدر عنه شيء، فما هذا الشيء؟

    على عادة بني إسرائيل فإنهم يجرّحون أنبياءهم، فيذمون سليمان ويتهمونه بالفواحش والمنكرات حتى بالمحارم، ومعاذ الله من ذلك، وإننا لنقدس ونجل أنبياءهم الذين ذكرهم الله في كتابه أكثر مما يجلّونهم هم، ونحن نقول بعصمة الأنبياء فلن يذنب نبي، ولا يصدر عن رسول ذنب يؤاخذ به إلا ما يمكن أن يكون ذنباً في شريعة وغير ذنب في شريعة أخرى، فذاك لا يُعد ذنباً.

    والقصة كما يزعمون في الإسرائيليات وفي التفاسير، أما ابن كثير فألغى ذلك ولم يذكره، والقرطبي ألغى ذلك ولم يذكره، وذكره البغوي قبلهم وقال: بأن داود أشرف مرة من سطح بيته أو نافذة بيته فرأى امرأة على سطح تغتسل عُريانة، فعندما رآها فُتن بها، وانتبهت له فسترت نفسها بشعرها، فسترها الشعر في جميع جسدها فازداد بها فتنة، وسأل من هي؟ فقيل: هي زوجة أوريا أحد ضباط جيشه، وزعموا أنه أرسله إلى القتال، فرجع حياً، فأرسله مرة ثانية فرجع حياً، ثم عاد فأرسله فقُتل، فتزوجها.

    وهذا لم يصدر عن نبي الله داود ولكن اليهود حسب إفسادهم ونفوسهم المريضة يتصورون أنبياءهم على شاكلتهم، وجعلوا من الفساد والإفساد ديناً، وهكذا التوراة مليئة بذلك: بقتل الأنبياء، وذكرهم بالفواحش والمنكرات، بل بالكلام في الله والكذب عليه جل جلاله وعز مقامه.

    وقالت رواية: بل رآها وأرسل إلى أوريا وقال له: تنازل لي عن زوجتك، قال: يا نبي الله! لك تسع وتسعون زوجة ولي زوجة واحدة وتطمع فيها؟! قال: زوجنيها، فأجبره فتزوجها.

    وقالت رواية عندنا: رأى شيئاً وحدّث نفسه، وحديث النفس ليس ذنباً، أما أنه أرسل أوريا للقتل أو طلب من أوريا أن يتنازل له عن هذه الزوجة فلا! فلم يصدر هذا عن نبي، ولا عن مؤمن تقي فكيف بالنبي؟! وإنما حدّث نفسه وشغل نفسه بذلك، وقبل أن يصدر ذلك عنه امتحنه الله واختبره بأن أرسل إليه ملكين يطلبان حكمه وقضاءه في اليوم الذي لا يخرج فيه عن معبده ومحرابه.

    فعندما دخلا وقالا: بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] والملائكة لا يبغي بعضها على بعض ولكنه ضرب مثال، وليس الأمر منهم واقعاً وإنما ضربوا مثالاً له؛ ليأخذ الحكمة من ذلك، ويتنبه ويتوب إلى الله، فعندما حكم قالوا: لقد حكم الرجل على نفسه؛ إذ هو الذي طلب، وهذا المعنى يؤكده سياق الآية: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22] إلى أن ذكر إِنَّ هَذَا أَخِي [ص:23] أخوه في الملائكية وفي الخلقة النورانية لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص:23] وهو بذلك لم يذكر المرأة، ولكن أراد أن يضرب المثل.

    إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا [ص:23] معناه: أن داود خطر بباله أن يفعل، ولكنه لم يفعل، ولا يفعل ذلك رجل صالح فكيف بنبي معصوم؟ ولكن اليهود المفسدين يتصورون ذلك.

    فعندما شعر داود بهذا ندم وتاب، وهي إنما كانت خواطر نفس، وتقول الحكمة عند أهل الآداب والرقائق: حسنات الأبرار سيئات المقربين، المقرب لله أكثر من المبعد، فلا يليق به حتى أن يحدث نفسه بهذا، فكيف يخطر له بالبال؟! والخواطر لا حكم فيها حتى في شريعتنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).

    فمن حدّث نفسه بالسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، فإذا فعلها كتبت له سيئة، فإذا تركها خوفاً من الله كُتبت له عشر حسنات، وأن الخوف من الله في حد ذاته عبادة وحسنة.

    وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص:24] أي: أخذ يجأر بالاستغفار ويطلب من الله أن يغفر له خواطر نفسه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، وقيل: بقي أربعين سنة ساجداً وهو يستغفر الله بمختلف أنواع وألفاظ الاستغفار ويبكي، حتى قيل: إنه نبت حوله حشيش من شدة بكائه، وطول سجوده، وبقي كذلك يبكي على خطيئته، ويستغفر ربه، ويخاف ألا يغفر له إلى أن مات.

    وقد قالوا أكثر من ذلك، فقالت اليهود وزعموا: أنه قتل أوريا لأجل زوجته حينما استغفر ربه، قال له: إذا غفر لك أوريا ، قال: وكيف سيغفر لي أوريا ؟ قال: اذهب إلى قبره واستغفره فسأعيد له روحه، فذهب داود ونادى: يا أوريا ! فأجاب، قال: من أنت؟ قال: أنا داود، قال: ما تريد يا نبي الله؟ قال: أن تستغفر لي، قال: غفر الله لك، فرجع فقال ذلك لربه، فقال: هل ذكرت قصتك مع زوجته؟ قال: لا، قال: ينبغي أن تذكر قصتك مع زوجته، فرجع إليه فقال: يا أوريا ! هل استغفرت لي؟ قال: قد فعلت، قال: إنني كنت قد أرسلتك للمعركة أولاً وثانياً وثالثاً إلى أن مت وأخذت زوجتك، وما كنت أريد إلا ذلك فاستغفر لي؟ فسكت، فكرر، فسكت، فرجع يبكي إلى ربه قال: سأوعده يوم القيامة، وقد قالوا بعد ذلك: إن الله عوضه الجنان وحوراً عيناً وغيرها.

    وهذه قصة إسرائيلية اختلط باطلها بكذبها ودسها، بما لا يعتبر إلا طعناً في الأنبياء ونقصاً لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)

    ثم قال تعالى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25].

    يذكر الله أن داود استغفره فغفر له ذلك الخاطر، ولا أقول: العمل، ولا يدل القرآن على العمل، ولا يدل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه- على العمل، وإنما هي خواطر لم يفصح بها القرآن ولم يصرح بها، ولكن كان هناك ميل، فحوسب عليها فاستغفر ربه.

    قال ربنا: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25].

    أي: وإن له عند ربه يوم القيامة ويوم العرض على الله لزلفى وقربى من الله، تقربه من رحمته ورضوانه وجنته، ولا يكون ذلك إلا لمن لم يفعل ما زعمه اليهود عن أنبيائهم، وإنما هي خواطر شيطانية، ولم يؤمن شيطان من شياطين الأنبياء إلا شيطان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه آمن فلم يبق له خواطر على نفسه عليه الصلاة والسلام، ولكنها كانت للأنبياء قبله، لأن شياطينهم لم تؤمن، ولذلك تكون هذه الوسوسة، ولكن لم يكن العمل؛ لأن الله يعصمهم ويحفظهم ويكلؤهم ويكلأ رسالته.

    وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى أي: لقربى.

    وَحُسْنَ مَآبٍ أي: وحسن عودة ورجعة إلى الله يوم القيامة عندما يفصل بين الخلق إما بجنة أو بنار، فداود يعتبر من المقربين إلى الله، الممتعين برضوانه وجنته ومغفرته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ...)

    قال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].

    يخاطب ربنا داود بأنه جعله خليفته في الأرض، ولاشك أن الأنبياء جميعهم خلفاء الله في الأرض يأمرون بأمره، وينهون بنهيه، ولم يكن ذلك من أحد من البشر سواهم، وهذا أبو بكر كل من كان يناديه: يا خليفة الله يقول: لست خليفة الله، ذاك محمد، إنما أنا خليفة رسول الله، وأنا راض بذلك؛ لأن الخلافة عن الله لا تكون إلا في حق وبحق، ولم يكن ذلك إلا للأنبياء المعصومين ورسل الله المقربين، فهم يأمرون بأمر الله، وينهون كذلك، وكما قال ربنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فكلام نبينا عليه الصلاة والسلام ككلام الأنبياء قبله، كله وحي من الله قولاً وفعلاً وإقراراً، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26].

    وقبل ذلك جعل الله آدم أبا البشر خليفته، قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].

    فكان آدم وكان الأنبياء من ذريته بعده: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] أي: قم بالحق وبالعدل الذي به قامت السماوات والأرض، لا تظلم الناس حقوقهم، ولا تدع البغي بينهم، أحسن للمحسن منهم، وعاقب المسيء منهم، خذ الحق من الظالم، وأعد للمظلوم حقه حتى يرضاه وتقر عينه، أدب الظالم حتى يرتدع أمثاله من الظلمة، وليكن حكمك بينهم بالحق الذي أوحاه الله لك.

    وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى .

    لا يكن ذلك في زيادة حق أو نقصانه، ولا تتبع هواك وغرضك، ولا تتبع قرابة قريب أو صداقة صديق، أو تتأثر بعداوة عدو، بل اطلب الحق لذاته وخذه من أبوابه، وأعده للمظلوم، واحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.

    والهوى: رغبة النفس وشهواتها ورغباتها الغير راجعة للحق أو البرهان، والغير راجعة للعقل، وإنما ما يسر هوى الإنسان وشهوته يتبعها ولو كان فيها ظلم أو بغي، فلذلك الهوى دائماً معه الشيطان، والإيمان معه الله جل جلاله.

    قوله: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26] أي: لا تتبع هواك ونزواتك وشهواتك، وقراباتك أحسن الله إليك وعداواتك، فإن شغلك بذلك يكون سبباً للضلال والتيه عن الحق وعن أمر الله، فتنتقل من هاد إلى ضال.

    قوله: فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] أي: عن الطريق الحق الموصل إلى رضا الله وطاعته، وإلى رحمته ورضاه في الدنيا والآخرة.

    قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]. أي: الذين يضلون بعيدون عن الحق، يتركون الطريق السوي، وينتقلون من الهدى إلى الضلالة.

    قوله: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].

    أي: لهم العذاب الشديد لنسيانهم يوم الحساب، والباء: باء السببية اتصلت بـ (ما) المصدرية، وسبكت معها، والتقدير: بنسيانهم يوم الحساب.

    و(لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)؛ لأنهم عندما ضلوا وحكموا بالهوى نسوا يوم عرضهم على الله، نسوا يوم الحساب يوم فصل الله بين الخلق.

    وقال البعض: هنا مقدم ومؤخر، وتقدير الآية: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا).

    والمؤدى واحد أي: بما نسوا يوم الحساب .. يوم القيامة .. يوم العرض على الله؛ لنسيانهم الحق، والهداية والعدل، وترك أخذ الحقوق من أصحابها، وردع الظالمين والباغين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ...)

    قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].

    يقول ربنا: هؤلاء الكفرة الجاحدون الذين يقولون إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكهم إلا الدهر، هؤلاء يظنون أن الحياة الدنيا كانت باطلة، فخلقت السماء باطلاً بلا معنى، ولا حكمة، وكذلك الأرض، وكذلك ما بين السماء والأرض من كواكب سيارات وثوابت، ومن خلق لله الله أعلم بحقيقته، الله لم يخلق الأرض باطلاً، ولم يخلقها بلا حكمة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: إلا ليعبدوا الله، وليعرفوا الله، ولتكون الدنيا البرزخ والسبب والطريق الموصل إلى الله يوم القيامة، إما إلى جنة، وإما إلى نار، فلم تخلق الدنيا هباءً ولا باطلاً، ولم تكن الدنيا لضلال ضال، وفساد فاسد، وإنما كانت دار فتنة وبلاء واختبار، كانت مدرسة إما أن ينجح من ينجح، وسعادته بيده، وإما أن يرسب من يرسب، ولا سعادة، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

    أما أن يكونوا قد خلقوا وأوجدوا عبثاً وباطلاً؛ ليظلم من يظلم، ويتجبر من يتجبر، ويظلم الضعيف ويؤخذ حقه، ويذهب ذلك هدراً .. هيهات هيهات! أعدل العادلين جل جلاله الحكم العدل لا يقبل ذلك.

    قال تعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فالظلم قد حرمه الله جل جلاله على نفسه، فكيف يقبله من غيره؟! فكانت الدنيا اختباراً وابتلاءً، وكانت مدرسة ليعلم المطيع من المخالف، والمؤمن من الكافر؟ فللكافر النار، وللمؤمن الجنة.

    قوله: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص:27] أي: الذين لا يزدادون إلا فساداً وظلماً وبغياً وطغياناً، وهم يظنون أنهم سيفلتون من عدالة الله وحكمه، وأن الدنيا لم تخلق إلا باطلاً هيهات هيهات .. ذلك ظنهم الذي أرداهم!

    ذلك ظن الذين كفروا بالله واحداً وخالقاً.

    قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].

    أي: فيا ويل هؤلاء الكافرين الجاحدين المشركين من النار وعذابها! فهؤلاء لهم يوم يحاسبون فيه ويدقق حسابهم، ويدخلون النار خالدين مخلدين أبد الآباد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ...)

    قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28].

    (أم) استفهام إنكاري، أي: هل يظن هؤلاء الكفرة أن الكفار والمؤمنين سواء؟! هيهات هيهات! لم يكن المؤمن العامل للصالحات مثل الفاجر المفسد الظالم، بل كانت الدنيا باطلاً، وليست هي باطل، فكيف وأن الله ما خلقها إلا لعبادته وتسبيحه وتمجيده جل جلاله؟!

    قوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ [ص:28].

    أي: لم يكونوا سواءً يوماً، فليس المؤمنون في الأرض مع الكفرة المشركين الضالين المضلين سفاكي الدماء عبدة اليهود والنصارى سواء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ...)

    قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

    هذا الكتاب هو القرآن الكريم، فهو ليس من تأليف أحد، وإنما هو كتاب من الله أنزله إليك وحياً، فهو كلام الله وهدايته، وموضع الأوامر والنواهي، وهو الكتاب الذي ما استمسك به أحد إلا نجا، وهو الكتاب الذي جعله الله هداية للمهتدين، ولعنة للكافرين.

    وقد ورد: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)، فهو قد يكون من الكاذبين، والقرآن يقول: لعنة الله على الكاذبين، وقد يقرأ القرآن وهو كافر، والقرآن يقول: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، فهو يرتكب الموبقات كالشرك والعصيان ويلعن بذلك.

    (كتاب أنزلناه) أي: أنزله على قلب محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، بوساطة جبريل رسول الملائكة إلى البشر من الناس، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله.

    قوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص:29] أي: فيه البركة، والبركة في الطاعة.

    والبركة: هي الزيادة والنماء، فالقرآن يزداد به المؤمن إيماناً، والمطيع طاعة، والمتقي تقوى، والصالح صلاحاً، وهو في ذات الوقت يزيد الكافر ظلمات فيعلو الران على قلبه ولا يستطيع أن يميز بين حق وباطل، وبين نور وظلمة.

    هذا الكتاب الذي جعله الله تعالى هداية للناس كافة، ودستوراً وقانوناً منذ أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة -مكة والمدينة- ويوم قام في هذه البقاع المقدسة، يقول تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

    وهو مبارك النور، ومبارك الطاعة، ومبارك الحقائق، فيه النماء والزيادة لكل من آمن به، وعمل بمقتضاه، وما تركه قوم إلا ضلوا وذلوا، وقد كان المؤمنون سادة الأرض، وأئمة الكون، وهداة العوالم، وما ذلوا لليهود والنصارى إلا مع تركهم لكتاب الله وراءهم ظهرياً، فأحلوا حرامه، وحرموا حلاله، وأنكروا حقائقه، واتبعوا الشيطان حيث وجدوه في الأرض، وتركوا القيادة المحمدية، وقيادة الخلفاء الراشدين إلى قيادة الشياطين وكل أفاك وكذاب دعي، فهؤلاء عندما تركوا الهدى واتبعوا سبل الباطل، وضاعت أيامهم، وذلت حكامهم، وضعفت دولهم، وأصبحوا شذر مذر رموا أنفسهم بين القردة والخنازير من اليهود أعداء الله الكفرة المجرمين، وبين النصارى الصليبيين الضالين المضلين، ولو عادوا إلى الله لأعاد لهم عزهم ومقامهم، ولكنهم أبوا إلا الباطل، ولكن الله جل جلاله يمهل ولا يهمل، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167].

    فهذا الذي أزال الحواجز بين المؤمن واليهود يريد أن ينكر كتاب الله ويرتد، فهو قد ارتد فعلاً عندما قال: القرآن لا صلة له بالحكم، ولا سياسة في الإسلام، ولا إسلام في السياسة، أعلن ردته ويهوديته، وأعلن هوانه، وما هو بين الكافرين إلا ذباباً من المماسيخ.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768245415