إسلام ويب

تفسير سورة غافر [28-34]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه الآيات المباركات يذكر الله ما قام به مؤمن آل فرعون من نصح ومن كلمة حق في وجه فرعون وأتباعه عندما أراد قتل موسى وأخاه هارون ومن معهما من المؤمنين، فنصحهم وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من الهلال والدمار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون...)

    قال ربنا جل جلاله: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28].

    عندما قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26] كان هناك مؤمن من قومه من القبط يكتم إيمانه ولم يكن فرعون يدري به، فأخذته الغيرة على دينه وإخلاصه لنبيه موسى أن يخرج إيمانه الذي كان يكتمه، أو يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، فإذا به يجيب فرعون، قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28]، قال بعض المفسرين: إن هذا الرجل لم يكن قبطياً وإنما كان يهودياً، ومن الغريب أن يقولوا ذلك، فإن الله يقول: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]، وهم يقولون: من آل موسى وإسرائيل، ويقول هذا الرجل في غير ما آية: يا قوم، أي: يدعو فرعون والقبط ويناديهم بيا قوم، فهو لا يخاطب بذلك بني إسرائيل، إنما يخاطب القبط وآل فرعون.

    فهذا المؤمن نادى بدعوة الحق والدفاع عن نبي الله موسى، فقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] أي: أليس لكم عقول تميزون بها بين الحق والباطل، أتقتلون رجلاً جريمته أن ينادي ويدعو ويعتقد أن الله ربه، ومع ذلك قد جاءكم بالبينات والدلائل القاطعة على صدق نبوته ورسالته، فكيف تكذبونه ثم تحاولون قتله؟!

    وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28] يقول لهم مناصرة لموسى: إن كان كاذباً فعليه كذبه، فهو الذي يسأل من أجله ويعاقب عليه، فما بالكم أنتم كيف تقتلون رجلاً قال: إني رسول الله إليكم، وقد جاءكم بالأدلة والبراهين على صدق قوله؟

    قال: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، فهو إن يك صادقاً فقد أوعدكم وتهددكم وأنذركم بالفناء، وأنذركم بالهوان والذل في الدنيا والخزي يوم القيامة، وهو قد أوعدكم إن يك صادقاً يكن ذلك حقاً، فإن كنتم تفكرون تفكير العاقل فدعوا الرجل ودعوته ولا تمسوه بسوء، وآمنوا إن شئتم أو اكفروا، أما أن تمسوه بسوء وتؤذوه فلن يكون ذلك أدباً، وليس ذلك من لغة العقول والإيمان، دعوا الرجل وما نسب إلى نفسه.

    قال تعالى: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ [غافر:28] أي: تصابون وتبتلون وتعذبون، قال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] أي: بعضه ولا تتحملونه، فكيف إذا أصابكم كل ما وعدكم به من عذاب في الدنيا، ومن خزي وخلود في النار يوم القيامة؟!

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] إن كان الرجل كاذباً فالله لا يهديه ولا ينصره، وإن كنتم أنتم الكذبة المسرفون على أنفسكم؛ كذبتم بالحق عندما جاءكم، وكذبتم على الله بما ليس فيه، ثم أنتم هؤلاء تصدون عن سبيل الله، وعن دعوة نبي الله عندما جاءكم بالهدى والنور، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، فهذا المؤمن الذي كان يكتم إيمانه أعلن كلمة الحق، وأعلن الجهاد ضد هذا المتأله الكذاب المسرف على نفسه، الذي أضل قومه وما هدى، قال هذا وليكن ما يكون، ولكن الله سيحفظه ويصونه.

    قوله: مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] المسرف: من تجاوز الحد بالاعتداء والباطل، والكذاب: صيغة مبالغة على وزن فعال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين...)

    ثم عاد فقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].

    يقول هذا المؤمن: يا قوم! دعوا عنكم موسى وقتله، يا فرعون! كفاك ما أنت فيه من تأله وظلم واعتداء وكفر بالله، فأنتم اليوم لكم الظهور والنصر، ولكم الملك خالدين في أرض مصر فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29] إن جاءكم بأس الله وعقوبته كما تهددكم موسى فمن ينصركم من الله؟ ومن ينقذكم من بلائه ولعنته؟ فكروا في أنفسكم واتركوا موسى لا تؤذوه.

    هذه كانت دعوة الأنبياء من قبل أنهم يدعون قومهم للإيمان، فإذا لم يؤمنوا طلبوهم أن يكونوا على الحياد ويعتزلوهم، وأن يدعوهم ودعوتهم فلا يمنعوهم من الدعوة إلى الله، ولا يقفوا حائلاً بينهم وبين الناس كي يعلموهم التوحيد، ويدعوهم إلى الله، وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] نادى كفار مكة نادى قومه قريشاً فقال لهم: أنا لا أسألكم عن دعوتي مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً، ولكن الذي ينبغي أن تعملوه أن تدعوني؛ صلة لما بيني وبينكم من الأرحام والقرابة، فلا تقفوا دوني ودون الدعوة.

    وفي معاهدة الحديبية كان من موادها: أن يترك على دعوته يدعو من شاء إلى عبادة الله وإلى توحيده، ولا تتعرض له قريش بمعارضة ولا صد، ويدعهم النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يؤذوا مسلماً أو يتعرضوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم وفى بالعهد وهم لم يوفوا بالعهد، فقد غدروا وقتلوا حليفاً من أحلافهم، وكان ذلك سبباً لفتح مكة.

    قال هذا المؤمن: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29]، وإذا بفرعون يجيبه، ولو كان هذا الداعي الكاتم للإسلام إسرائيلياً أو يهودياً لما رد عليه فرعون في مجلس حكمه ومناظرته ومشاورته ووقال الذي قال، ولبادر إلى البطش به، ولكنه أنصت إليه، وأعاره أذنه وأخذ يحاوره في الكلام، وكلام هذا المؤمن أكثر حجة، وأدل برهاناً، وأطول نفساً في القول.

    قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] أجاب فرعون هذا المؤمن فقال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29] أي: لا أقول لكم إلا ما أرى وأنصح به نفسي: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، ففرعون عدّ فساده صلاحاً، وكفره إيماناً، وهكذا الدعاة إلى الباطل دائماً يدعون إلى عملهم وإلى قولهم، فيسمونه تارة حقاً، وتارة تقدمية، وتارة تجددية، وهم في ذلك كفرعون، بل هم عيون لفرعون الكافر بالله المدعي ما ليس له.

    يقول فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29] أي: ما أنصحكم إلا بالرأي الذي رأيت وفكرت فيه وتدبرت، وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، أي: ما أدلكم إلا على الهداية والطريق السوي والمذهب الحق والدين الصواب، هكذا قال فرعون وهو يكذب على نفسه، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:79]، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54] فلم يأتهم بدليل يقبله عقل سليم، لم يأتهم إلا بالباطل والضلال والإفك الذي لا يقبله أحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم ...)

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:30-31].

    ثم عاد هذا المؤمن يتصدى لفرعون ويرد قوله يكذب فهمه ويتحداه مواجهة، فلم يحسب له حساباً ولم يخف من بطشه ولا من ظلمه، وقد تقدم مجاهداً بالكلمة الحقة وليكن ما كان، وهو يرى أن فرعون يريد قتل موسى، ويريد قتل أخيه هارون ظلماً وعدواناً وعلواً في الأرض، ولكن هيهات هيهات: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51].

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] نادى فرعون وقومه من الأقباط المشركين: يا قوم! لصلتي وإشفاقي ولقرابتي لكم أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، أخاف أن يجري عليكم كما جرى على الأحزاب السابقة التي كفرت بأنبيائها وتآمروا عليهم، قال: مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] أي: يوماً كيومهم ينتقم الله فيه منكم، ويقضي عليكم، ويزلزل الأرض تحت أقدامكم، ثم يبين الله معنى يوم الأحزاب، قال: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31] أي: هذا اليوم الذي أخاف عليكم فيه وأخشاه هو كما حصل لأحزاب الكفر وأممهم وشعوبهم، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ [غافر:31] عندما كفروا بالله وأبوا الإيمان به، فعاقبهم الله وأطاف عليهم المياه فأغرقهم ولم ينج منهم إلا من آمن، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، وَعَادٍ [غافر:31]، عندما جاء نبيهم هود يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالتوحيد، فكفروا وأشركوا وتعدوا حدود الله وأسرفوا في الظلم والباطل، واعتدوا على نبيهم، فدعا عليهم فزلزلت الأرض من تحت أرجلهم، وأصابهم البلاء من حيث لا يشعرون، فأصبحوا كالحجارة لا تتحرك، وكأنهم لم يعيشوا يوماً، فدمرهم الله وقضى عليهم، على قوتهم وسلطانهم وبأسهم وطول أعمارهم وقوة أقدامهم.

    وكذلك ثمود قوم صالح عندما جاءهم بالناقة، فقد قال للصخرة: كوني بأمر الله وبإذنه وإرادته ناقة كما طلبوا، فكانت ناقة عشراء حامل، ورأوا البينات بأعينهم فكذبوا بها وكفروا بها وقتلوا الناقة، فأصابتهم صيحة زلزلتهم فطارت قلوبهم من صدورهم، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [غافر:31] وقرون وشعوب وأمم جاءت من بعدهم: كقوم لوط وقوم نمرود وقوم إبراهيم وقوم فرعون، والكلام معه.

    فالله تعالى نصر رسله ونصر المؤمنين، ودمر أولئك الكافرين الكاذبين، فهذا المؤمن يقول لفرعون ولمن حضر مجلسه: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:30-31]، وما أصاب هؤلاء من تدمير وخراب وزلزال وفيضان وعقوبة إلهية لم يكن ذلك ظلماً من الله، فالله لا يظلم أحداً ولا يريد الظلم، ولقد حرم الظلم على نفسه كما حرمه على عباده، يا قوم! إني لكم ناصح مبين، دعوا عنكم موسى وليؤمن به من شاء، وليكفر به من شاء، وأما أن تعترضوا سبيله وتقتلوه فذاك البلاء الذي يمكن أن يصيبكم جميعاً كما أصاب من كان قبلكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد)

    ثم عاد فقال: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32-33].

    أنذرهم وخوفهم عذاب الدنيا وخزي عذابها، وأوعدهم بضرب الأمثال فيمن قبلهم من الأحزاب والأقوام الكافرة: قوم نوح وعاد وثمود ولوط، ثم الآن يخوفهم عذاب الآخرة، وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32].

    وما يوم التناد؟ يوم التناد: من المناداة والتنادي، وهو يوم ينادي الناس بعضهم بعضاً، فينادي أصحاب الأعراف أقواماً يعرفونهم بسيماهم، ويستعطفونهم ويرجونهم أن يخففوا عنهم يوماً من العذاب، وينادي أهل الجنة أهل النار: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، قالوا: نعم، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، وتنادي الملائكة عند الحساب والميزان: ألا لقد سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وتقول الملائكة لمن كان ميزانه إلى الكفر والسيئات أقرب: ألا قد شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، وعندما يدعو أهل النار الملائكة بأن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب، فتقول الملائكة: قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50] فيدعو هذا هذا، وينادي هذا هذا، وقد قرئ في السبع إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32] بالتشديد على الدال، و(التنادّ) يوم أن يند بعضهم من بعض، أي: يفرون ويهربون من عذاب الله، وهذا المعنى سيفهم من الآية بعد.

    وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا [الرحمن:33]، وعلى أرجائها وأقطارها الملائكة، فعندما يرى أحدهم العذاب يحاول أن يفر، وإلى أين يفر؟! فالملائكة محيطة بهم، وهل ينفذون ويخرجون من أقطار السموات والأرض؟! هيهات هيهات لا مفر من الله إلا إليه، ولا منجى منه إلا إليه.

    وهكذا معنى يوم التناد: يوم المناداة ينادي بعضهم بعضاً، أو يوم التنادِّ: يوم الفرار، ويبين ذلك الآية التالية: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:33] أي: يوم تعرضون فارين هاربين، وذلك عندما يرون عذاب الله قد أحاط بهم، وعندما يرون زبانية النار وقد أحاطت بهم كالسوار بالمعصم، والملك على أرجائها، فيحاول أن يفر من يفر فيرفعونه ويجرونه إلى النار.

    قال تعالى: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:33] أي: لا يعصمكم أحد من الله ولا يجيركم، فكل فرد يقول: نفسي نفسي، وذلك إن استطاع أن ينقذها ويبعدها عن عذاب الله، وهيهات هيهات فلا تكون الشفاعة إلا لمن أذن له ورضي له قولاً، ومن قال صواباً.

    ولذلك فهؤلاء مهما فروا وتنادوا واستغاثوا فلن تكون استغاثتهم إلا وبالاً عليهم، وهذا المؤمن الصادق المجاهد بالقول الحق عند هذا الدعي الكذاب على الله قد قدم نفسه للموت على يد هذا الجبار، وأعلن ما كان كاتماً له وهو يدعو فرعون وهامان وقارون وقادة الكفر ومن معهم، فهو أخذ يدعوهم إلى الطاعة ويحذرهم غضب الله ومقته، ويخوفهم إذا زادوا في الكفر فقتلوا نبي الله موسى، قال تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:32-33] أي: ليس لكم عاصم ولا حافظ ولا كالئ ولا منجي من الله، ومن جاء كافراً فلا ينتظر الشفاعة؛ لأنه في النار خالداً فيها أبد الآبدين، ومن النداء والدعاء: ألا لقد مات الموت، فيقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت.

    قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33] أي: من أضله الله وفات الوقت للهداية وارتضى الكفر قلباً ولم يكن في قلبه ما ينجيه من عذاب الله، فإنه لا يستطيع مخلوق ملكاً كان أو جناً أو إنساً أن يهديه بعد ضلاله، ومن يضله الله فقد يأتي يوم القيامة وهو مشرك بالله، ولا يغفر الله لمن أتاه مشركاً على حال من الأحوال، فلا شفاعة ولا إنقاذ ولا هداية يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34].

    يقول ربنا جل جلاله لهؤلاء: كان آباؤكم وأجدادكم قد تركوا اتباع الأنبياء وكذبوهم، وأنتم الآن تكذبون موسى وقد سبق أن كذبتم قبله يوسف، فيوسف عندما جاء إلى مصر رقيقاً تبناه عزيز مصر، فكان ما كان إلى أن أرسله الله إلى الأقباط الذين يعيش بينهم، فدعاهم إلى الله فآمن معه كثير منهم بالله، ولم يؤمنوا إيماناً بدينه أو بما أتاهم به من معجزات، ولكن كان ملكاً ذا جاه، وكان أميناً على خزائن مصر، وكان عزيز مصر قد رأى رؤيا فأغمته وأهمته، ففسرها وهو لا يزال في السجن، فجاءهم بالبينات من ربه وهداهم الله إليه، فكان إيمانهم به إيمان الشاك المرتاب كما يقول ربنا: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34]، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: من الكريم؟ فأخذوا يجولون ويقولون: فلان وفلان وفلان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا، إلى أن قال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم). فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي.

    يقول الله لهؤلاء القبط: قد سبق أن كذبتم الأنبياء قبلكم، فقوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [غافر:34] أي: جاءكم يوسف بالدلائل الواضحات والمعجزات المعززات لنبوءته المؤكدات لرسالته، قال تعالى: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [غافر:34] أي: آمنتم به مع الشك، حتى ولو آمنتم به فلم يكن إلا إيمان الفقير بالغني وإيمان الضعيف بالقوي، آمنتم به وأنتم لا تزالون في شك لم يكن إيماناً يقيناً، بل كان إيماناً مذبذباً مضطرباً، ومعنى هذا: أن يوسف كان نبياً رسولاً، وأكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا أنبياء فقط ولم يكونوا رسلاً، والرسل منهم قليل.

    فإن قيل: من النبي ومن الرسول؟

    فالجواب: أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وإنما أنزل عليه ليؤمن به هو ولم يكلف ببلاغ، كما كان الجد الأعلى لبني إسرائيل وهو من يسمى بإسرائيل، فإبراهيم رسول الله وخليل الله، وله ولدان: إسماعيل نبي رسول، وإسحاق كان نبياً ولم يكن رسولاً، ومن هنا كانت أفضلية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويوسف حسب هذه الآية قد أرسل إلى الأقباط فكان نبياً ورسولاً، وذاك قليل عند أنبياء بني إسرائيل.

    فقوله: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [غافر:34] أي: لا تزالون بين المصدق والمكذب وبين الموقن والشاك.

    قوله: حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34] أي: حتى إذا مات قلتم: لن يبعث الله من بعد يوسف صديقاً رسولاً، وكنتم تتمنون الباطل، وقد جاء من بعد يوسف إليكم رسول صادق أمين من أولي العزم من الرسل.

    قال تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34].

    أي: يا من أرسل إليهم محمد! كذلك من آمن إيمان الشاك أو صد عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يفعل بكل مرتاب شاك كما فعل بهؤلاء الذين أرسل إليهم موسى وهارون من أهل القبط.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768031994