إسلام ويب

تفسير سورة غافر [55-56]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالصبر في غير ما موضع، فإن الصبر مفتاح الفرج، وهو نور للصدور وضياء في القلوب، ثم تأتي العاقبة الحميدة، والنهاية السعيدة. وقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الصبر الطويل، فكان في قلة يشتم ويسب، ويضرب أصحابه وينكل بهم ويمر بهم وهم كذلك فلا يزيدهم على الأمر بالصبر، ثم بعد ذلك عندما هاجروا إلى المدينة أمروا برد العدوان وبالقتال والجهاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق...)

    قال ربنا جل جلاله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55].

    قوله: (فاصبر) توجيه من الله جل جلاله لنبينا عليه الصلاة والسلام وقد عصاه وتمرد عليه الكثيرون ممن دعاهم إلى الله، وكذبه من كذبه، وقيل عنه ما قيل، سواء في جزيرة العرب أو في خارجها، فيأمر الله جل جلاله نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر عليهم، فإن العاقبة له، وإن النصر لرسل الله، وأعداؤهم سوف يعاقبون على مخالفتهم أشد عقاب، إلا من اهتدى وآمن وأسلم واستسلم.

    والصبر قد دعا الله في غير ما آية من الآيات رسله والمؤمنين إليه، وخص ذلك في سورة فقال سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:2-3].

    وانتظار الفرج بالصبر عبادة، وكان مما أمر به عليه الصلاة والسلام أن يصبر على قومه، فصبر عليهم في مكة المكرمة اثنا عشر عاماً، وقد كذبوا وحاربوا وقاتلوا وألبوا وتآمروا عليه، ولكن النهاية كانت بنصره وبفوزه، وبسحق أعدائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك قالوا: إن آية الصبر وما ورد في الصبر كل ذلك كان قبل الأمر بالجهاد، فقبل الأمر بالجهاد أمر الله نبيه وأتباعه بالصبر، ثم نزلت أول آية في القتال وهي قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[الحج:39]، فكان القتال الذي أذن الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعدما كانوا مظلومين، ويراد إخراجهم من أرضهم، وإرجاعهم عن دينهم، والاعتداء عليهم، وكان كثيراً ما يأتي أصحابه ويطلبون منه القتال، فيقول: لم نؤمر بذلك، وكان يمر على أصحابه وهم يقاتلون ويعذبون، ويمر على الأسرة كلها أحياناً وهي كذلك، كما مر على عمار وعلى أبيه ياسر وعلى أمه سمية فيقول لهم: (صبراً آل ياسر

    إن موعدكم الجنة).

    ولم يكن يملك غير ذلك، وكان صبوراً متأنياً منتظراً صلى الله عليه وسلم إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر، وأذن له في القتال والكفاح والحرب عندما انتقل مهاجراً إلى الله إلى المدينة المنورة، فهاجمه أعداؤه فقاومهم وحاربهم فكانت العاقبة له، فخاطبه الله بقوله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ[غافر:55] أي: ما وعدك به ربك من النصر ومن الفوز، ومن سحق الأعداء، ومن ظهور دينك وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، كل ذلك حق فلا تستعجل، وانتظر واصبر فالعاقبة لك.

    كما قال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51]، أي: وفي الآخرة.

    وكان وعد الله حقاً، والله لا يخلف الميعاد، فهكذا كان، أي: صبر صلى الله عليه وسلم دهراً، ثم بعد ذلك حقق الله وعده، فنصره وأخرج عدوه، وملك جزيرة العرب، وعاد لمكة التي أخرجه أهلها ظلماً وعدواناً مرفوع الراية منصوراً مظفراً حكم في أعدائه، ومع ذلك غلبت رحمته نقمته وعداءه عليه الصلاة والسلام، واجتمع إليه كفار قريش بعد أن نصره الله وفتح مكة، وقال لهم: (ماذا ترون يا معاشر قريش! أني فاعل بكم؟) وإذا بهم أخذوا يتمسحون، وحاولوا أن ينسوه ما صنعوه معه: من إخراجه من أرضه، وتعذيب أصحابه، وشتمهم له من قولهم عنه: ساحر ونحوه.

    ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام تفضل عليهم وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم من عقوبته ونقمته، فهدى الله من هدى فآمن وأسلم، وشرد من شرد وفر من فر، فعل هذا فيهم جميعاً إلا أربعة عشر منهم قال فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، وكان منهم ثمانية رجال وست نسوة.

    وهؤلاء تجاوزوا حدهم في الكفر، وفي الصد عن بيت الله وعن دينه.

    وقد كان وعد الله لنبيه كما أخبر، فملك جزيرة العرب، وأصبحت كلها مسلمة، وأخذ في قتال الروم في غزوة تبوك على حدود أرض الشام، وهي إذ ذاك أرض رومية، فلم يكن قتال ولم يحضروا له.

    وقبل ذلك أرسل سرية بثلاثة من قواده، أولهم جعفر بن أبي طالب ، ثم زيد بن حارثة ، ثم عبد الله بن رواحة ، فاستشهد الثلاثة قائداً بعد قائد وأميراً بعد أمير، إلى أن ولي خالد.

    ولم يكن في تبوك قتال إلا بما لا يكاد يذكر، وأوصى بالقتال ما بعد ذلك، وعين أسامة بن زيد أميراً، وهو ابن القائد الثاني الشهيد في غزوة مؤتة، فجهزه للخروج وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما حان الحين وآن الأوان لإنقاذ الجيش قد ذهب إلى الرفيق الأعلى.

    فأرسل أبو بكر أسامة بن زيد لقتال الروم في مؤتة، ولكنهم كذلك لم يأتوا، وظنوا أن الإسلام قد انتهى بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هيهات فالأمر كما قال أبو بكر : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وهو قد جاء لعبادة الله لا لعبادة نفسه، قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144].

    وبعد الموت النبوي وذهاب النبي للرفيق الأعلى، قام أصحابه وخلفاؤه أبو بكر أولاً ثم عمر بنشر الإسلام في أرض الروم وفارس، وإلى أرض البربر، وما كادت تتم خمسون سنة على ظهور الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام حتى أصبح الإسلام شرقاً في الصين والهند والسند، وغرباً إل عمق أرض فرنسا وما بينهما.

    فكان ما وعد الله حقاً، كما قال ربنا جل جلاله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ[غافر:55]، أي: اصبر صبر من هو متيقن بأن الله ناصره ومذل عدوه، وكان الأمر كما قال ربنا جل جلاله.

    وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[غافر:55] يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: استغفر يا محمد! لذنبك، واطلب المغفرة والتوبة من ربك.

    وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ[غافر:55]، وأكثر التسبيح والشكر لله على ما وعدك من نصر، وما سيحقق لك من نصر، على ما أكرمك به الرسالة ومن نبوءة جعلها عامة حين لم إلى الأبيض والأسود والأحمر، بين المشرق والمغرب، والعرب والعجم، إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعدك، فأنت نبي من عاصرك ونبي من يأتي بعدك إلى يوم القيامة.

    الذنب الذي أمر الرسول بالاستغفار منه

    وفي قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، ما هو ذنب رسول الله الذي سيستغفر منه صلى الله عليه وعلى آله، ونحن نرى ونسمع أن الله يقول له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فيثني عليه وعلى خُلقه، ويشيد وينوه به، فكيف يكون من كان كذلك مذنباً؟ ونحن نرى أن الله جل جلاله يقول له بالنسبة للخلق كلهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    وكأنه يقول: محمد صلى الله عليه وسلم أسوتكم وقدوتكم وإمامكم، فتخلقوا بأخلاقه، ودينوا بدينه، واتبعوا سيرته، واسلكوا أعماله، فذلك يوصلكم إلى رضا ربكم ودخول الجنان، ونرى ربنا ونسمعه يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فهو قد أمرنا جل جلاله بالائتساء برسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نمتثل أمره وننتهي عن نهيه، وكيف يكون كذلك من له ذنوب؟

    ونرى الله تعالى يقول لنا: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله، في كل أعماله وسلوكه وأقواله.

    ونرى الله جل جلاله يقول عند نزاعنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالله جعل كتابه ونبيه في حياته أو سنته بعد مماته هي المخلص من النزاع، والمخرج من الشقاق، فأمر بالعودة إليه والنتيجة: إن تنازعتم فمن كان منكم معه دليل من قوله تعالى أو من قول نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك الفيصل الذي يفصل بين الحق والباطل، والذي لا نزاع فيه قط بعد ذلك، ولن يكون النزاع إلا عندما لا تكون هناك أدلة ولا براهين تؤكد قول القائل.

    ونحن نرى الله تعالى عندما أكرم نبيه بالنصر المؤزر، ووعده به بعد معاهدة الحديبية يقول له: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2]، فما هو الذنب المتقدم؟ وما هو الذنب المتأخر؟ هذه الأشياء لا يكاد يتقنها ويتكلم عنها إلا من يسمون بأهل الآداب والرقائق والمعرفة بالله.

    أقسام الذنوب

    فالذنب ذنبان: ذنب مخالفة وعصيان، وهذا لم يكن من رسول الله قط.

    وهناك الذنب الذي هو خلاف الأولى، وهو من باب ما يقول أصحاب الرقائق والآداب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي: أن من كان ذا قرب من الله جل جلاله فنجد الشيء الذي يعتبر خلاف الأولى في حقه هو حسنة في نفس الأمر للأبرار، والأبرار أعلى درجة من الأتقياء، ونجد المقربين من الله وهم رسله وأنبياؤه وملائكته قد يكون ما هو مباحاً وحسنة ومنزلة في حق هؤلاء يكون في حق أولئك كالأنبياء يكون خلاف الأولى، أي: غيره أحسن منه، ولنبحث فيما يقوله ربنا في كتابه، وفيه بيان لكل هذا، فنجد الله جل جلاله عاتب نبيه وعبده في كثير من السور والقضايا في كتابه.

    معاتبة الله لنبيه في عفوه عن أسرى بدر

    فعاتبه عقب غزوة بدر عندما أخذ الجزية من الأسرى وأطلق سراحهم، فقال له: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وكأنه قال له: ما كان ينبغي لك يا بني يا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تأخذ الجزية من الأسرى وأنت تعجز أن تهزم عدوك، فلم تسحقه ولم تقض على قادته، ولم تقض على المخططين له، ويوشك إن فعلت ذلك أن تكون العاقبة عليك لا لك؛ لأن الذي حدث في هذه المعركة أن النبي عليه الصلاة والسلام أسر اثنين وسبعين قائداً من قواد قريش، وكان فيهم قادتهم المقاتلون، وضباطهم المسيرون المخططون للحرب والقتال.

    ويوشك بعد أن أطلق سراح هؤلاء واكتفى بما أخذه من الجزية، مع أنه لم يأخذها إلا بعد استشارة أصحابه كما أمره الله تعالى، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فهو قد امتثل أمر الله وشاور أصحابه، وكان رأي أصحابه مختلفاً فقال عمر بعد ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه: (ما ترون أصنع بهؤلاء الأسرى؟)، فقال عمر : اقتلهم يا رسول الله! ولا تنس ما صنعوا معك، ومع أصحابك، أي: أخرجوك من بلدك وتآمروا على قتلك وسجنك، بل سجنوك سنوات في الشعب حتى لجأت لأكل أوراق الشجر، وقتلوا أصحابك، وصدوا الناس عنك، وقالوا: إنك ساحر ومجنون، ويريد النساء، ويريد الملك والسلطان، ويريد الدنيا والجاه، وهو نبي الله المعصوم صلى الله عليه وعلى آله.

    وقال له عبد الله بن رواحة : يا رسول الله! اجمع الحطب من هذا الوادي وأوقده، ثم خذهم بجسومهم وارمهم في هذه النار، فقال له العباس وهو يسمع: قطع الله رحمك.

    وكان عليه الصلاة والسلام إذا استشار أصحابه يكون مع أبي بكر؛ لعقله الواسع، ولحسن رأيه وتأنيه، ولمكانه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك ما أهله لأن ينتخبه المسلمون خليفة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    وكان الخير كل الخير بعد رسول الله للمسلمين على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولو عينوا مكانه حتى عمر لذهب الإسلام.

    فالحاصل: أن الصديق قال: يا رسول الله! هؤلاء قومك ولعلهم يتوبون، ولعل الله أن يخرج من أصلابهم مؤمنين مسلمين يوحدون ربهم، فخذ منهم الجزية ودعهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الخيمة ثم عاد صباحاً وقال: الرأي رأي أبي بكر ، فأخذ برأيه، وكان الأمر مبني على الشورى كما أمره ربه أن يفعل، ولكن الله كان يرى غير ذلك، وهذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ومن يعلمه ذلك.

    والله لم يعلم نبيه بهذا قبل، ولكنه أعطاه به درساً له ولمن يأتي بعده في معاركه الآتية، ولذلك قال الله له كلام كثيراً ثم قال: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، وما العذاب وما الكتاب السابق؟ الكتاب السابق هو ما يقوله الله في هذه الآية: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ [غافر:55]، فوعده الله بنشر دينه، وتحكمه في البحار وفي الجبال وفي القارات وفي أقاصي الأرض، وكان كتاب الله السابق أن ينصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم النصر العزيز المؤزر الساحق لأعدائه، وكأن الله يقول: لولا أنه سبق أن وعد نبيه بالوعد الحق لكان فيما أخذتم عذاب عظيماً.

    وما العذاب؟ كان يمكن هؤلاء الذين تركهم وأطلق سراحهم أن يقولوا كما تقول اليوم لغة الحرب والقتال: هي معركة خسرناها وليست الحرب، فيعودون لمكة ويجددون الحرب والقتال، وينظرون في ماذا أخطأوا في المعركة، فيتداركون ذلك ثم يأتون، والناس على غاية من الحقد، ومن العداوة والشراسة، فينتقمون لرجالهم ولمن قتل منهم.

    ولذلك كانت هذه موعظة من الله وإرشاد منه لما في المستقبل، أما هذه فقد عفا الله عنها، وكأنه قال للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخلت معركة بعد اليوم فإياك أن تقتصر على أخذ الأسرى، وتطلق أعداء الله الذين يمكن أن يعيدوها حرباً جذعة مشتعلة النار أكثر مما كانت عليه في المعركة الأولى.

    ولذلك فلغة الحروب دائماً تقول: لتهزم عدوك اصرفه عن وطنه وعن دينه، إذا أنت دخلت حرباً فابتدئ بقتل الأئمة والعلماء والأبطال والقادة؛ ليبقوا كقطيع من الأغنام الذين لا يهمك أمرهم، فلابد من القضاء على الرءوس الذين يمكن أن يعودوا برأيهم إلى معركة أشد، فإياك أن تتركهم.

    هذا الذي عاتب الله فيه نبيه هل كان أمراً من الله له خالفه فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يكن هذا؟ أي: لم يقل له الله: يا محمد! إذا دخلت حرباً وأسرت عدواً فإياك أن تطلق صراحه، وأن تأخذ منه جزية، بل عليك بقتله والقضاء على جيشه، هذا لم يكن، وبما أنه لم يكن فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاد ما يعلم أنه الأصلح والأنفع للمسلمين.

    ولم يستبد النبي صلى الله عليه وسلم برأي لنبوته وجلالته، بل جمع أصحابه واستشارهم؛ تنفيذاً لقول الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

    فالحاصل: أن هذا ذنب من الذنوب، ولكنه لا يعتبر ذنباً في صحابي ولا لولي ولا لعالم؛ لأن أصل الذنب المخالفة والعصيان، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمراً أمر به من ربه، فحاشاه ومعاذ الله، ولم يعص ربه في أمر أمره به حاشاه.

    ولكنه فعل فعلاً كان الأولى ألا يكون، وكان ذلك اجتهاداً منه وهو لا يعلم مراد الله فيه، وأعلمه ربه بعد ذلك به معاتباً؛ ليكون ذلك درساً لأمته ولأصحابه.

    معاتبة الله لنبيه على عبوسه في وجه الأعمى

    ومن الأمثلة على فعل النبي خلاف الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو في مكة المقدسة، وهو يدعو إلى الله تحت الكثير من الشدة والاضطهاد والعداء من أهلها، رأى مرة في عقبة بن أبي معيط تقرباً للإسلام وبشاشة في شكله، فدعاه لبيته فاستجاب، وجاء صناديد كفار قريش، فأخذ يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام على عادته صلى الله عليه وسلم، لا يترك فرصة يجتمع فيها مع كفرة صناديد من أئمة الكفر وأعداء الإسلام إلا وأخذ يدعوهم إلى الله، فهنا أخذ يدعوهم إلى الله على عادته، وإذا بصاحبه المسلم عبد الله بن أم مكتوم الضرير الأعمى يدخل في تلك الساعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجلس حافل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته صناديد قريش إلى الله.

    فيصافحه عبد الله بن أم مكتوم ويسأله أسئلة سطحية لا تتعلق بعقيدة ولا بأصول الإسلام، وإنما تتعلق بنحو صلاة أو صيام أو زكاة، وأخذ يقول له: يا رسول الله! يا رسول الله! فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولم يجبه. وكان فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاده أن هذا قد أسلم، وليس هذا وقت سؤال، فهو يكون معه صبحاً ومساء وفي أي وقت شاء، وأما هؤلاء فلا يراهم إلا بعد جمع وعناء، وكأنه يقول: ليس الآن يا ابن أم مكتوم! الوقت المناسب لأن تسأل هذه الأسئلة، وتقطعني عن الحديث مع هؤلاء، فأعرض عنه وعبس في وجهه، فعاتب الله نبيه وقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، ومعنى: عبس، أي: أعرض، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:2-4].

    وكان مراد الله شيء آخر، ولكن النبي في عمله صلى الله عليه وسلم ما كان يريد إلا مصلحة الإسلام، وذلك بدخول صناديد قريش فيه، ولو أسلموا لأسلم بإسلامهم أهل مكة جميعها، ولن يبقى كافر فيها، فهو لم يرد إلا الخير وعبادة ربه والدعوة إليه، ولكن الله كان يرى غير ذلك، فكان يرى أن هؤلاء إن أسلموا فلأنفسهم، وإن كفروا فإلى جهنم وبئس المصير، فالله غني عنهم وعن إسلامهم، فإن أسلموا فقد اهتدوا لأنفسهم، وإن ضلوا فما الله بحاجة إليهم، ولكنه أراد سبحانه أن هذا المسكين الضرير الفقير عندما جاءك كان ينبغي أن ترفع شأنه، وتعلم أولئك بمقامه؛ لأن أولئك مشركون وهو مؤمن، فتلتفت إليه بكليتك، ولا تعبس في وجهه، فعاتبه الله على ذلك، ولكن هل الله أمر نبيه من قبل وقال له: في أي وقت جاءك ابن أم مكتوم فاترك عملك وتوجه إليه؟ لم يكن هذا، ولا لأحد من الناس.

    إذاً: فهذا هو ما يقال له في عرف أهل المعرفة والآداب والرقائق: خلاف الأولى.

    وحاصل الأمرين: أنه في الثاني كان الأولى عند الله جل وعلا أن يعتنى نبيه في مثل ذلك الموقف بـابن أم مكتوم ، وأما أولئك فسبق في علم الله -ولا يعلم هذا إلا الله- أن أكثرهم سيموت كافراً، ومنهم عقبة بن أبي معيط فقد خرج مقاتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وأسره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك قتله من بين الأسرى هو والنضر الذي هجاه وهجا الإسلام، وأخذ يقول له: عذراً يا محمد! -لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم- لم خصصتني بالقتل دون هؤلاء؟

    والنبي صلى الله عليه وسلم قتله لمواقفه، وكانت على غاية الحقد على الله ورسوله والإسلام، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لمن نترك الصبية؟ قال: للنار.

    ولذلك كان منه ولد كبر وزعم الإسلام في أيام عثمان ، وولي أميراً، وإذا به في يوم وهو يصلي إماماً في الركعة الثانية التفت قبل السلام وقال للمؤتمين: أأزيدكم؟ أأزيدكم على ركعتين؟ أي: إلى ثلاث وأربع، وإذا به يتبين أنه كان سكران طافحاً، فهذا الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعن أمثاله لما أجاب عن والدهم: للنار.

    إذاً: فهكذا كانت نهاية هؤلاء الصناديد، لكن هذا أمر الله، ولا يعترض جل جلاله، ولكنه لم يأمر نبينا صلى الله عليه وسلم من قبل بأنه إذا جاءك ابن أم مكتوم افعل كذا! .. أو كذا! فهذه لا تعتبر مخالفة ولا عصيان، بل هو ذنب مما يقال فيه: خلاف الأولى، أو من لغة: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولو فعل هذا رجل عادي لم يعاتب، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات).

    مقتضى الأمر بطاعة الرسول

    الحاصل: أن هذا الذنب المتقدم وأمثاله مما ذكر مثالاً من كتاب الله هو الذي قال الله عنه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، وأكثر هذا من خلاف الأولى؛ لأن النبي أعلى مقاماً وشأناً، فالإنسان العالم للبشرية كلها، من عاصره ومن سيأتي بعده، ومن هنا كان حكم الله عاماً عند أن قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    وكان حكم الله بعد أن أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأن المسلمين سيفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا له: يا رسول الله! ومن هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، وهو تأكيد لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وتأكيد لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، ولقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب عنه كل ما يسمع في صحيفة سماها الصادقة، فتأخر يوماً من أجل رجل من قريش قال له: أتكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء وهو بشر يتكلم بالرضا والغضب؟ فلما انتبه له نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً ولم يكتب قال له: ما بالك لم تكتب؟ قال: قال لي فلان من قريش كذا وكذا، فقال: (اكتب والله! لا يخرج من هذا إلا حق في الغضب والرضا)، فصلى الله عليه وسلم.

    وبإجماع كل مسلم مؤمن منذ عصر الخلفاء الراشدين وعصر النبوءة إلى عصرنا وإلى قيام الساعة بأن السنة النبوية: هي القول أو الفعل أو الإقرار النبوي، ويعتبر شرعاً يجب طاعته والعمل بمقتضاه، وكل عمل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر شرعاً، وكذا كل شيء وقع في محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فأقره يعتبر أيضاً شرعاً وديناً.

    ومن هنا كان النبي عليه الصلاة والسلام مشرعاً لدين الله نائماً ومستيقظاً، مسافراً وحاضراً، غاضباً وراضياً، مسالماً ومقاتلاً، وفي كل أحواله؛ لأنه لا يقول ولا ينطق إلا بالحق، ومن هنا نعلم أن قول الله له: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] أنه كان عظيماً بحق، فأعانه وحفظه وعصمه من كل الذنوب والآثام كبائرها وصغائرها، حتى في الجاهلية وقبل النبوءة.

    وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام يوماً: هل حضرت في شيء مما كان يفعله قومك؟ يريدون من سجود لصنم، ونحوه، أو حضر محفلاً من محافل أوثانهم، قال: لا، إلا ما كان من مرتين -وهو دون العشرين- بلغت أن حفلة زواج عند آل فلان! فذهبت لأحضرها، ويكون فيها لفساد العصر رقص وغناء، وذكر الوثنية والصنمية، قال: لا أدري إلا أني قد دخلت ولم يبتدئوا بشيء بعد، فلم أفق إلا وحرارة الشمس على ظهري، أي: أنامه الله، فلم ير شيئاً ولم يحضر شيئاً، وصانه الله وحفظه. وكرر هذا مرة ثانية فجرى عليه ما جرى، أي: ما كاد يدخل إلا وغلبه النوم، فلم يشعر إلا وحر الشمس على ظهره، ولما أفاق لم يلق أحداً، أي: تفرقوا وتشتتوا وذهب كل لحال سبيله، وما سوى ذلك لم يحضره، وهذا الذي حضره صانه الله منه.

    ولقد قالوا كما في الحديث الذي في الصحيحين: إن النبي عليه الصلاة والسلام (نزل عليه الوحي في غار حراء)، وهو في الأبطح كما كان يسمى في عصر النبوءة: الأبطح والبطحاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه جبريل وهو في غار حراء يتعبد ويتحنث الليالي ذوات العدد، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم الفكر، أي: كان يفكر ليلاً ونهاراً في الأيام التي اختلى فيها في الغار في خلق السماء والأرض، وفي خلق نفسه، والليل والنهار والصيف والشتاء، ونحوها، وهذه الأصنام لا تدرك ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذاً فمن؟ الله هو الذي ألهمه أن يفكر، حتى إذا جاءت النبوءة والرسالة يكون في استعداد عقلي ونفسي، وهذا التفكير نفسه يعتبر عبادة وإلى عصرنا، ولذلك ورد أن تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين عاماً، فعلى الإنسان أن يتفكر، فمثلاً: منذ سنة كذا وكذا! لم أكن في الأرض فمن أوجدني؟ ومن خلقني ورعاني؟ ومن جعلني في رحم أمي؟ ومن كلف والدي بأن يعطفا علي ويشرفا على تربيتي؟ ومن أعطاني هذا العقل الذي أفكر به؟ ومن أعطاني هذه الروح التي بها أتحرك وأتصرف؟ وكثيرون كانوا قبلي كذلك ثم ماتوا وذهبوا فما الموت؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وما الحياة؟

    فالإنسان الذي لا يفكر في هذا هو حيوان أقرب منه للإنسان، ونحن نرى في كل لحظة أناساً تذهب وأناساً تجيء، وتسمع في كل حين أن فلاناً ولد له ولد، ولد لك حفيد أو حفيدة، وفلاناً مات رحمه الله، فيتفكر لم جاء هذا وذهب ذاك؟ ويجد مظهر ذلك في قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فما هذه العبادة؟ وكيف هي؟ فتأتي إلى القرآن المنزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيقول لك: العبادة أن تنهض بالعقيدة لله؛ لأنه الواحد لا شريك له، وهو الخالق الرزاق المحيي المميت القادر على كل شيء.

    ثم بعد ذلك ثمتثل أمر الله وأمر رسوله، فأمر أن يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، وأن يصوم شهراً من كل سنة وهو رمضان، ويزكي عن ماله إذا بلغ النصاب ومضى عليه الحول، ويحج مرة في العمر، فيأتي إلى هذه الديار المقدسة فيطوف بالكعبة الشريفة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف يوماً في عرفات، ويقيم ليالي في منى، ومن لم يفعل ذلك فيكون قد أخل بالإسلام وأضاع أركانه، بل ويوشك أن يفقده، فمن لم يفكر في هذا ويعمل به ويسعى فيه يكون إسلامه غير كامل، وقد يصل إلى الكفر والردة نعوذ بالله من الخذلان، ومن السلب بعد العطاء.

    أمر الله نبيه بشكره صباح مساء

    قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55]، العشي: هو المساء، والإبكار: الصباح الباكر، والمعنى: اشكر الله بقولك: سبحان الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، وهناك صلاة الإبكار وهي صلاة الصبح، وصلاة العشي وهي صلاة العصر، كما قال الحسن البصري ، وقال ابن عباس رضي الله عنه: دخلت في هذه الصلوات الخمس كلها.

    فصلوات العشي ابتداء من الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وتبقى صلاة الإبكار وهي الصبح، ولماذا صلاة الظهر في المساء؟ لأن صلاة الظهر تكون عندما تميل وتزول عن كبد السماء كما هو المعلوم؛ لأن الشمس عندما تصل إلى وسط السماء في هذه الحالة لا يبقى للشخص أو للشجرة أو للعود ظل عندما تنصبه؛ لأن الشمس قد وقفت، ثم تميل إلى العشي وذلك الميلان معناه: أن الشمس قد انحازت وقد زالت عن كبد السماء، ودخلت في وقت المساء ووقت العشي.

    ومن هناك يستمر العشي إلى غروب الشمس، ويبقى إلى دخول جزء من الليل، ويشتمل ما بعد المغرب إلى العشاء، ونقول: ائتني غداً مبكراً، فيكون معناه: وقت صلاة الصبح.

    يقول ابن عباس : الصلوات الخمس قد نص الله عليها في كتابه إشارة وتلميحاً وتصريحاً، والأمر هنا كذلك.

    وقال سبحانه في مكان آخر: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فكأن الصلوات هي الستار لهذه الصلاة الوسطى، واختلفوا فيها، وهي صلاة العصر كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها في صحيح مسلم .

    وهكذا اشتمل القرآن على الصلوات في أوقاتها الخمسة، وعلى الحج والصيام، والزكاة، والشهادتين في الدرجة الأولى.

    وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر:55] أي: احمد ربك واشكره، وصل صلاة الشكر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم الليل متهجداً حتى تفطرت قدماه وتشققت من كثرة القيام والسجود والركوع، فقالت أم المؤمنين عائشة مشفقة عليه من طول القيام: (أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)، فالله أمر بالشكر عموم المؤمنين، فكيف بسيد المؤمنين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك قالوا: في هذه الفقرة من الآية الكريمة الأمر بصلاة الشكر.

    وكأن الله يقول لنبيه: اصبر فالصبر ضياء، ووعد الله لك بالنصر وبهزيمة عدوك وسحقه حق.

    وكأن معنى الآية: لقد غفر ذنبك فاستغفر لذنبك، وقد فعل واستغفر، فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: (إنني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة)، ومع ذلك إذا كان هذا حال المعصوم عليه الصلاة والسلام فكيف بالمذنبين الخطائين أمثالنا؟ فهو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لنا من باب أولى، أي: إن كان معصوماً يحتاج إلى الاستغفار فكيف يكون حال الخطائين أمثالنا؟!

    وإذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستغفر ربه سبعين أو مائة مرة في اليوم فكم يجب أن نستغفر نحن ليغفر الله لنا؟!

    وكل ذلك قبله الله من نبيه، وغفر له ونصره وشجعه فقال له: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55] أي: اسجد وصل صلاة الشكر، وما هي صلاة الشكر في الإسلام؟

    هي الصلوات الخمس وما يتبعها من سنن قبلية وبعدية، وكذلك الصلوات الأخرى كالعيدين، وصلاة الجنازة.

    نسبة الفضل كله لله

    وهناك سجود الشكر وسجود التلاوة، وأين صلاة الشكر؟ قالوا: -وهذا مختلف فيه، ونعتبره صحيحاً في كلا الخلافين- لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً مظفراً، وهو على غاية ما يكون من الأدب مع ربه مطأطئاً رأسه، تكاد لحيته الشريفة تمس غضروف الناقة، أدباً مع الله وخضوعاً لجلاله، لا كهيئة الملوك والأباطرة والفاتحين، فعندما يدخلون مدينة فاتحين منتصرين على عدوهم يركب أحدهم فرساً أو جواداً يتراقص به، وقد يعلم الفرس الرقص، فيدخل به الفرس وهو يرقص، ثم يخطبون مهددين وموعدين ومنتقمين.

    وأما النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ناقة مطأطئاً رأسه، جاء وهي تقفز به، ليس فيها رقص ولا تيه ولا تعاظم، دخل عليه الصلاة والسلام وهو ينشد نشيد الشكر والوحدانية لله سبحانه، متجرداً عن كل عمل له، بل نسب الفضل لله، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).

    جاء هذا النصر بعد لغب وبعد ثمان عشرة سنة من تحملات النبي عليه الصلاة والسلام لعداوة أعدائه ومكائدهم، وإيذاء أعدائه، وهيأ لهم وأعد وحاربهم حروباً بعد أن هاجموه في المدينة المنورة.

    ثم عندما دخل مكة فاتحاً لم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل جعله لله، وجعل نفسه في يد الله يصرفها كيف شاء، وذلك من باب قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، ومن باب قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمد يده للبيعة، وكان هو الذي يرمي، ولكن بما أن الأمر من الله، وهو تنفيذ لإرادته سبحانه، نسب الأمر كله إلى ربه سبحانه.

    فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدباً مع ربه دخل مكة ولم ينسب لنفسه شيئاً: لا قتالاً ولا جهاداً ولا نصراً ولا عملاً، ونسي كل ما جرى عليه من قطيعة، وهجوم وحرب، وإخراج من بلده، وإجاعة وشتيمة، ورجع يحمد الله على أن كانت النهاية النصر والعزة والظفر، وهكذا عليه الصلاة والسلام لم ينسب لنفسه شيئاً، ومن هنا قال الحكيم العارف بالله: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك. فنحن نصلي ونصوم ونحمد الله على ذلك، ونرجوه الثبات حتى لقائه، ومع ذلك ألهمنا ووفقنا وهدانا لذلك، ثم سيجازينا عليه كرماً وفضلاً منه.

    وهكذا كانت حال رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً، وبعد الفتح خطب خطبة وهو مستند على ظهر الكعبة، فجاءه أبو شاه وهو عربي فقال: يا رسول الله! مر لي بأن تكتب لي خطبة الفتح هذه، فأمر بكتابتها له، ودخل بيت أم هانئ وصلى ثمان ركعات، فذهب الذين رأوا الصلاة أو بلغتهم عن أم هانئ وقالوا: هي صلاة الضحى، وهناك من قال: هي صلاة الشكر، حيث نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنجز وعده، ونصر جنده، وهزم عدوه، وحيث حقق جميع ما وعد به نبيه عليه الصلاة والسلام.

    ومن قال: هي صلاة الضحى حجته أنها كانت في وقت الضحى، أي: بعد الإبكار وقبل الزوال والظهر، وهي صلاة الشكر لأنها كانت عقب الفتح.

    وعلى ذلك فصلاة الضحى عندما تصلى يوماً في هذا الوقت فهي صلاة في وقت الضحى، وهي شكر لله الذي أكرمه بالنصر والفتح، وهزيمة عدوه.

    ولذلك أخذوا من هذه صلاة الشكر، وقد سنها النبي عليه الصلاة والسلام بفعله وعمله عندما صلى في بيت أم هانئ ثمان ركعات.

    وكانت صلاة الشكر في هذه الفترة متمثلة بقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر:55] أي: احمد ربك واشكره على ما أعطاك وأكرمك به، وأنجز وعده وحقق مراده فيما كنت ترجوه وترغب إليه، كما سبق أن بشره الله تعالى وهو مسافر مهاجر إلى ربه بالمدينة، وقد وصل للجحفة -وهي رابغ كما نقول لها اليوم- فأنزل عليه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85].

    فكان وعداً من الله له بأنه قد أعاده إلى معاد، فلما خرج من مكة عاد إليها فاتحاً ولها مالكاً، مكسراً أصنامها مذلاً كفارها.

    نجاسة المشركين

    ثم بعد ذلك أمره الله بطرد جميع المشركين والكفار، وألا يعودوا يوماً إلى دخول المدينة؛ لأنهم أنجاس، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، وإن من الناس اليوم من لا يؤمن بهذا، مع أنه لا يباح لكافر أو لمشرك أو لنصراني أو يهودي ونحوهم أن يدخل مكة والمدينة؛ لأنه نجس، فلو دخل متحايلاً أو زاعماً أنه مسلم ثم هلك ودفن فيجب على من علم بدفنه أن يخرج جثته وجيفته ويبعدها خارج الحرم؛ لأنها نجسة، فهو في الحياة نجس فكيف بعد موته فقد ازداد نجاسة على نجاسة.

    ولذلك طهر الله تعالى هذه الديار التي شرفها على جميع قارات الأرض، وهي ممر الأنبياء ومقامهم، ومكان البيت المحرم ومكان الكعبة المشرفة، وهي التي لا تنقطع العبادة فيها ليلاً ولا نهاراً، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من عنده مفاتيح الكعبة فقال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت من ليل أو نهار) وأمرهم ألا يغلقوا أبوابها، وهكذا الأمر، فجميع بيوت الله تغلق أبوابها؛ لأن الصلوات لها أوقات معروفة وما بين الصلوات وخاصة في الليل لا حاجة لفتح أبوابها.

    وأما بيت الله الحرام فالطواف لا وقت له، والعمرة كذلك لا وقت لها، وعلى ذلك فجميع الأوقات الصباح والمساء بعد صلاة الصبح وبعد العصر، وفي جميع الأوقات والأزمان يعبد الله في الحرم: بالإحرام، وبالطواف، وبالسعي، وبالصلاة، وبالذكر، وبالتلاوة، بل وبمجرد الجلوس في بيت الله الحرام والنظر إليه دون قول ولا ذكر ولا تلاوة.

    ولذلك ملكه الله هذه الديار المقدسة، وطرد عنها عدوه، وأمره بالشكر بقوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55]، قوله: (في العشي) أي: بالعشي، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض، والعشي هو المساء، والإبكار: الصباح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بورك لأمتي في بكورها)، وجعلت البركة في البكور.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله...)

    ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56].

    يوجد قوم من وقت نزول الآية الكريمة وإلى عصرنا كفرة بالله منافقون، ويحاولون أن يخاصموك ويجادلوك بالكلام على آيات الله، وبالكلام على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالكلام في الحلال والحرام، وأحدهم أجهل من الحمار، وأبعد من أن يميز بين اليد والقلم، وهؤلاء عندما يأتون فإنهم يحرفون كلام الله، وكثيراً ما يصنعون ذلك في كتب التفاسير في عصرنا، فأخذوا يقولون كلمة من الدجل والشعوذة: والتفسير العلمي لكتاب الله في هذا العصر! فهذا شيوعي زعم أنه تاب وعاد إلى الإسلام، وكتب ما يسمى بهذا الاسم، وصار يسمع صوته في الإذاعة وفي التلفزة، وقد يكتب في الجرائد، وقد يكتب كتباً، وهو دجال كذاب فاحذروه وانتبهوا له، في رسائله وفيما يقوله من شتم للنبي عليه الصلاة والسلام، وكفر بالله، وتحريف لكتابه، وتفسير لآياته بخرافته، وكثيرون كذلك، وأكثر ما كتب في هذا العصر في التفسير على هذه الطريقة.

    فهؤلاء يريدون أن يجادلوا ويخاصموا ويزعموا إبداؤهم الحجج والبراهين في تحريف كلام الله وتأويله على غير وجهة، وهؤلاء يقول الله عنهم: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56] (إن) بمعنى: ما النافية، أي: ما هو إلا كبر في صدورهم، أي: في قلوبهم الكبرياء والكفران، فلا يطيعون ربهم أو نبيهم أو خلفاء نبيهم من العلماء والدعاة إلى الله، فيذهبون ويقولون: لماذا نطيعهم فكلنا نفهم؟ ولماذا لا تفهمون إلا أنتم؟ فنقول لهم: نعم نفهم نحن وأنتم، ولكننا درسنا، فأنتم ينبغي أن تدرسوا ما الله جعله واضحاً وبيناً، فأنت يا أيها الذي لا تميز بين سطر في جريدة وسطر في كتاب الله أتريد أن تفسر كلام الله؟! فيقول لك: ولماذا لا أفعل؟ وهكذا هؤلاء لعنهم الله تعالى وأضاع عقولهم ومسخهم، وأتوا من القول بكلام ما أنزل الله به من سلطان.

    وأحد كبرائهم في هذا العصر -وهو رئيس دولة، وهو كافر بالله؛ لإنكاره السنة- قال: لا أؤمن إلا بما في القرآن! فرجع إلى القرآن فقال: القرآن ليست فيه الصلوات خمس، ولا صيام ثلاثين يوماً، وليس فيه تفاصيل الزكاة، والقرآن أكثر ما أنزل فيه المجاز، ومعاني الكثير من الكلمات إنما هي مجازات وإشارات لأشياء أخرى.

    وهذا هو فعل كل الفرق الضالة المضلة التي أخبرنا عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، فقال عنها: (كلها في النار)، فهي تزعم الإسلام وهي أكذب خلق الله على الإطلاق، وأقبح من اليهود والنصارى، فالنصراني لا يقدر أن يأتي إليك ويقول: تعال أعلمك كتاب دينك وسنة نبيك، فأنت تعلم أنه لا دخل ليهودي ولا لنصراني في الإسلام، وأما هذا فيزعم أنه مسلم، ويأتي ويحرف.

    يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر:56] فيجادلون ويخاصمون وينازعون ويحاولون الحجاج كذباً وزوراً، بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر:56] أي: بغير دليل وبرهان، وبغير حجة من قرآن أو حديث أو إجماع أو لغة، إن كلامهم إلا الهراء والعواء كعواء الكلاب والذئاب.

    وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ [غافر:56] أي: في كتابه وفي قدرته، وفي معجزات أنبيائه، وفي دينه بغير دليل ولا برهان، وكأن الله يقول: ما هؤلاء يريدون حقيقة إلا كبرياء في صدورهم وقلوبهم.

    الكبر في قلوب الأعداء

    وقوله تعالى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56] أي: إن في صدورهم إلا تكبر على الحق، واستعلاء على الإسلام وعلى رسوله وكتابه. فكأن الله يقول: هؤلاء الذي يضمرون في قلوبهم وصدورهم الكبر ما هم ببالغيه، أي: لم يصلوا إليه يوماً قط.

    ومن هم هؤلاء؟ الآية تدل على العموم، وأن كل كافر من كل جنس يفعل هذا ويصنعه، وصدق الله العظيم، فهم يظنون أن الإسلام يجب أن ينقلب وينتهي، وهم طالما زعموا ذلك وسعوا إليه منذ الوفاة النبوية وإلى يومنا هذا.

    نصر الله لأوليائه وحفظه لدينه

    عندما توفي النبي عليه الصلاة والسلام زعموا أنهم قضوا على الإسلام، وعندما ارتد من ارتد، وادعى النبوءة من ادعى، وحرف في الأركان من حرف، فرحوا للكبر الذي في نفوسهم، وإذا بالله الكريم يسلط عليهم خليفة نبيه، الخليفة الأول: أبا بكر رضوان الله عليه، ففي خلال سنتين لم يبق من هؤلاء نفس يتحرك، وصاروا بين قتيل وشريد وطريد خارج جزيرة العرب، وعاد الإسلام لقوته ولسلطانه، وعاد لانتشاره في بقاع الأرض.

    ثم جاء عمر فأخذ ينشره أيضاً في البقاع والأصقاع، ثم جاء بعد ذلك قتال في عصر بني أمية وعصر بني العباس وعصر بني عثمان، فكان الصليبيون والتتار، وكان أخذ الكثير من بلاد الإسلام كغرب الأندلس، وما وراء البحار من أرض في الصين، ومن أراض في روسيا وما إلى ذلك، وكل مرة يظنون أن الإسلام انتهى، وإذا بهم هم الذين ينتهون، فقد كانوا في هذه الأرض التي دنست ونجست باليهود وحلفائهم وأنصارهم أعني: بيت المقدس، فأقاموا نحو مائة عام، وبعد ذلك جاء أمير صغير ما هو بعربي ولا قرشي، وإنما هو كردي، فنصره الله النصر العزيز المؤزر، فطرد كل هؤلاء إلى البحار وإلى بلدانهم، وعاد للأقصى مقامه، وعادت فيه الصلاة والإسلام، وذهبوا -أي: اليهود وأذنابهم- في أمس الغابرين، والتاريخ يعيد نفسه.

    وجاء التتار فمزقوا وخربوا وقتلوا الملايين، فأين هم؟ من بقي أسلم، ومن ذهب فإلى جهنم، ومن مات من المسلمين فقد مات بأجله، وإن صحت شهادته فهو شهيد، وإن لم تصح فهو على ما هو عليه.

    وهكذا بعد ذلك عاد الإسلام أقوى مما كان في العصر الثامن وبداية السابع ووسطه، فقد جاء محمد الفاتح وفتح الله على يده القسطنطينية التي طالما طمع الصحابة في فتحها عندما قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ستفتحون مدينة نصفها على البر ونصفها على البحر، يقال لها: القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشها)، فكانوا يطمعون أن يفعلوا ذلك، فابتدأ ذلك بقيادة أبي أيوب الأنصاري مضيف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستشهد عند الباب، وبقي هناك، وبعد قرون اشتغل المسلمون في حروب مع بعضهم، إلى أن جاء بنو عثمان فجاء منهم محمد الفاتح ، ففتح القسطنطينية وجعلها دار إسلام.

    ولذلك فاسمها: إسلام بول لا إسطنبول، وإنما تحرف الاسم، وبول: معناها (مدينة)، فسماها مدينة الإسلام، وهي إلى اليوم ولله الحمد مشاعة فيها المساجد، دائمة الصلاة والعبادة، وقد جاء من حاول أن يفسد أهلها ويعيدهم للكفر والردة، فما أعاد إلا نفسه ومن أغواه الله وأضله، وعادت البلاد إلى دين الله وعبادته، والأمر يزداد حسناً والإسلام انتشاراً، والناس عودة لدين الله أكثر مما مضى، ويوشك الأمر أن يتم بالتحالف وبالتآخي مع الدول والشعوب الإسلامية عرباً وعجماً، ليتم هذا مع فاتح القرن في نصرة الإسلام، وسحق اليهود والنصارى وحلفائهم المستسلمين لهم من المنافقين المرتدين، أعداء الله والإسلام.

    وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، قالوا: إن الآية نزلت من أجل اليهود، أي: هم السبب في نزولها، والقاعدة الأصولية تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    فنزلت من أجل هؤلاء إن صح، فهؤلاء اليهود قد تكبروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعوا فيما لا مطمع فيه، طمعوا أن يغلبوه ويخرجوه من المدينة، فألبوا عليه العرب حال كفرهم، فجاءت غطفان، وجاء بنو تميم، وجاءت قريش من أرض الحجاز، وجاء آخرون من أرض نجد ومن بقية الجزيرة العربية، فكانت غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، وهم يظنون أنهم سيغلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقضون على إسلامه، وأن النبي الآخر الذي يكون في آخر الزمان سيكون يهودياً؛ لأنهم لم يؤمنوا بعيسى المسيح، وهم ينتظرون الآن الدجال ويقولون عنه: هو المسيح المنتظر، وهذا من فساد عقائدهم، وغضب الله عليهم، ولعنته الشاملة لهم منذ كانوا وإلى يوم القيامة.

    فعندما بدلوا وغيروا وأذنبوا وحاربوا الأنبياء وقتلوهم وقاتلوهم قال الله عنهم: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ [غافر:56]، والمراد بالصدر: القلب، أي: إن في قلوبهم وضمائرهم إِلَّا كِبْرٌ [غافر:56]، أي: تكبر وتعاظم، بأنهم سينتصرون على الإسلام، ويقضون على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768032514