هذه الآية الكريمة يصف الله فيها ما جعل في الجنة التي وعد بها المؤمنين الصادقين، الذين اتقوا الله في عقيدتهم وفي أعمالهم، فجعلوا بينهم وبين الحرام وقاية وحاجزاً وأطاعوا ربهم ونبيهم، وعملوا الصالحات مما أمروا به، واجتنبوا الفواحش ظاهرها وباطنها، وعاشوا وماتوا في سبيل الله.
فالجنة التي وعد الله هؤلاء وأمثالهم، أخذ الله يصفها بقوله: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15] الحياة بلا ماء لا تكاد تؤنس ولا تسر ولا تقر العين.
والله يصف ما أكرم به المؤمنين في منازلهم الدائمة في جنات عدن فقال: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15].
قوله: (غير آسن): أسن يأسن إذا تغير وأنتن، ففي الجنة مياه غير منتنة، ولا متغيرة، فليست كالماء الذي يركد في بقعة أو في آنية، وإذا به مع مرور الزمن والوقت يتغير وينتن ويستكره شرباً واستعمالاً، أما هذه الأنهار التي في الجنة فليست كذلك، بل هي في صفاء الدر، وفي برد الثلج، وفي لذة المياه التي تلذ شديد العطش في أرض حر.
وقوله تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15].
أي: وفيها أنهار جارية من اللبن الذي لم يتغير طعمه، وعادة اللبن إذا مضت عليه فترة أنه يحمض ويتغير وينماع ويذهب دسمه، أما هذا فيبقى أبيض دسماً، غير متغير الطعم، بل هو من ألذ ما يشرب الإنسان ويتذوق.
وقوله تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15].
أي: وفيها الأنهار من الخمر، والخمر الذي تسمى في الدنيا خمراً، لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا، فليس لها صداع ولا مرارة ولا قذارة، ولم تعجن بالرجل ولا اتسخت باليد، وليس فيها ما ينزف العرق والصحة ويشق على الإنسان، وإنما هي خمر لذة للشاربين، ومعنى: (لذة) أي: لذيذة بمعنى: أنها لذيذة للشارب، فلا يجد لها صداعاً، ولا ألماً، ولا مرارة، ولا وساخة ولا قذارة، بل هي من أصفى وألذ وأصح ما يكون.
وقوله تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].
أي: وفيها الأنهار السائحة الجارية من عسل مصفى، لم تصفه نار، ولكن هكذا خلقه الله مصفى، ليس فيه قذارة، وليس فيه أرجل ولا أجنحة للنحل، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (في الجنة بحور: بحر من ماء، وبحر من خمر، وبحر من لبن، وبحر من عسل مصفى، وتجري من هذه البحار جداول وأنهار سائحة على أبواب قصور ومنازل سكان الجنة وأهلها).
ولبنها أيضاً لم يخرج من ضروع الأنعام، والعسل لم يخرج من بطون النحل، والخمر لم يخرج من شجر أو غيره، ولم يشعل ولم يستخدم بالأقدام، ولكن الله خلق ذلك في أرض الجنة لسكانها، كما خلق المياه والعسل، واللبن كذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ليست أنهار الجنة تجري في أخدود من الأرض، ولكنها سائحة حافتها جبال من لؤلؤ، وطينها المسك الأذفر)، وهذا من النوع الذي يقول عنه العلماء: لا مجال فيه للرأي، أي: لم يكن أنس ليقوله إلا إن سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، هذا ما زاده تفسيراً وبياناً رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وشربة ماء من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطش الإنسان بعدها أبداً، لونه أشد بياضاً من اللبن، وأكثر حلاوة من العسل. وهذا من تفاصيل ما في الجنة من نعيم.
ففيها ما لا عين رأت، والإنسان في الدنيا رأى بعض ما ذكر فيها، فقد شربنا الماء ولا نستغني عنه، وشربنا اللبن ولا نستغني عنه، وكذلك العسل ولا نستغني عنه، وأعاذنا الله من خمر الدنيا، ولكن النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (ما لا عين رأت) ونحن قد رأينا هذا، (ولا أذن سمعت) وقد سمعنا به، (ولا خطر على قلب بشر) ومعنى هذا: ما قاله حبر القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (كل ما ذكر الله في جنته ليس منه في الدنيا إلا الأسماء) أما المسميات فهي في الآخرة غير ما يخطر بالبال، وغير ما رأت العين، وغير ما سمعت الأذن، وهذا يتم بياناً وشرحاً وتفسيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه في أوسط الجنة، وفي أعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن).
قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15].
فهذه أنهار الماء والعسل والخمور والألبان لهم مع ذلك وفوقه المغفرة من ربهم، يغفر الله ذنوبهم وآثامهم، وما ملّكهم الجنة، وجعلهم من أهلها حتى غفر ذنوبهم، وكشف كروبهم، وأزال سيئاتهم.
ولهم فيها من الثمار ما لا يخطر ببال إنسان، كذلك في أرضنا يوجد من الثمار والفواكه ما ليس في أرض أخرى، وقد رأيت في آسيا القصوى وفي أقطار أخرى بعيدة وقريبة من الفواكه والثمار ما لم يُعرف في بلاد العرب، وهو من ألذ ما يؤكل، ومن ألذ ما تتمتع به النفس؛ أما الآخرة ففيها من أنواع الثمار والفواكه بجميع أشكالها ومما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع مغفرة الله وتكفيره لسيئات أهل الجنة، وما أدخلهم حتى كفّر سيئاتهم، وغفر لهم ذنوبهم.
قال تعالى: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15].
أي: فمن هو خير؛ أهذا الذي دخل الجنان وكان له فيها من الأنهار أنواع وأشكال، وغفر الله ذنبه وستر عيبه وكشف كربه، أم الكافر الذي إذا دخل النار سُقي من الحميم الشديد الغليان الذي إذا شربه قطّع أمعاءه وخرج من دبره؟ وهكذا كلما نضجت جلودهم بُدلوا جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب وليزدادوا عذاباً وعقاباً جزاءً وفاقاً على كفرهم وشقاقهم في دار الدنيا.
قوله: وَمِنْهُمْ أي: من أنواع الكفّار المنافقون الذين يظهرون الإيمان مظهراً ويخفون الكفر باطناً.
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي: يحضر مجلسك، ويدخل مسجدك، ويسمع خطبك ومواعظك، وأوامرك ونواهيك، حتى إذا خرج من مجلسك وقد سمعك تشتم المنافقين وتذل الكافرين، وتذكر ما أعد الله لهم في الآخرة من عذاب ومحنة إن بقوا على ذلك ولم يتوبوا، أخذ يسأل أولي العلم: ماذا قال آنفاً؟ يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سألوا عبد الله بن مسعود كما قال عن نفسه، وسألوا عبد الله بن عباس كما قال عن نفسه، وسألوا غيرهما.
قوله: مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد:16] أي: ماذا قال رسول الله الآن؟ آنفاً: أي في الزمن الحاضر، وهو من الأنف، وأنف كل شيء أوله، ومنه الروض الأنف للإمام السهيلي الأندلسي .
حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد:16] وهم يسألون سؤال المستهتر الذي لم يلق بالاً ولم يكن يهتم بما يقول رسول الله؛ لأنه ليس بمؤمن؛ بل منافق وكاذب، فهو عندما يخرج يكشف عن نفسه:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
تكشفه فلتات لسانه، ونظرات عينيه، وحركات شكله في وجهه ومقاطعه.
قال تعالى عن هؤلاء: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].
أي: أولئك المنافقون المستهترون الذين تظاهروا بالإسلام كذباً ونفاقاً، وحضروا مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهتروا بها، ولم يعطوها أذناً صاغية، وعندما خرجوا أخذوا يتساءلون سؤال المستهتر غير المصدّق الكاذب المنافق؛ فقال الله عنهم: أُوْلَئِكَ أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي: طبع الله عليها بأقفالها فلا يفقهون ولا يعون ولا يهتدون، زادوا ضلالاً على ضلال، وركبهم الجهل فوق الجهل، وأصبح جهلهم وكفرهم مركباً، هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم ونزواتهم وشهواتهم لم يتبعوا الله، ولم يؤمنوا برسول الله، ولم يطيعوا أمراً لا في كتاب ولا في سنة، أولئك عبدة الأهواء، أولئك الذين إلههم هواهم.
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلا يعون ولا يفقهون، كانوا من الضلّال أزلاً، وكانوا من الكفار، حيث سجّلوا كذلك في اللوح المحفوظ.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا أي: والمؤمنون الذين اهتدوا إلى طريق الهداية، فآمنوا بالله، وبرسول الله، وبكتاب الله، فهؤلاء زادهم الله هدى وإيماناً، وعلماً وتوفيقاً، وزادهم إنارة قلب وسعة صدر، وزادهم فهماً ووعياً لكتاب الله وحديث رسول الله.
قوله: وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ أي: أكرمهم بالتقوى، وأثابهم عليها، وجزاء التقوى الجنة، هؤلاء هم الذين وعدوا بالجنة التي مضى الكلام عليها آنفاً بأنهارها وثمارها.
قال الله عن هؤلاء الذين التزموا الكفر وأصروا عليه، وثبتوا عليه، ماذا ينتظرون في التوبة؟ وماذا ينتظرون في العودة عن كفرهم؟ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن يُفاجئوا بغتة بقيام الساعة.
وقوله: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا أي: فإن لم تأتهم الساعة بعد فعلاماتها وأماراتها وأشراطها قد أتت، قال هذا ربنا، والقرآن لا يزال ينزل على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان هو صلى الله عليه وسلم من أشراطها الأولى، كما جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي كما في صحيح البخاري قال: قال رسول الله وأشار بالوسطى والتي تلي الإبهام: (بُعثت والساعة كهاتين) فما بين الساعة وإرسال رسول الله وبعثته إلا كما بين السبابة والوسطى.
وقل لي: كم مضى في السبابة من قرن وكم بقي من الساعة؟ ذلك مما لا سبيل إليه، فعلم الساعة مما استأثر الله به، ولا يعلمها إلا هو.
وعندما سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم من جبريل، وقد أتاه إلى المسجد النبوي في صورة الرجل الغريب، جميل الثياب -أبيضها ونظيفها- فجلس بأدب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ويديه على فخذيه، وأخذ يسأل: يا محمد! ما الإيمان؟ فأجاب، ما الإسلام؟ فأجاب، ما الإحسان؟ فأجاب، وهو الحديث المشهور في الصحاح وأمهات السنن، يُقال عنه: حديث عمر ، وحديث جبريل، ثم سأل عن الساعة؟ فأجاب: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست أعلم منك بها، فعلمي كعلمك قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف:187] جل جلاله، وعزّ مقامه.
ولكن أشراطها -جمع شرط- أي: علاماتها وأماراتها، وهي ما سأل جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (ما أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة الرعاة الشاه يتطاولون في البنيان).
وقال أنس في روايته كما في صحيح البخاري : (ومن شرائط الساعة أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، وينتشر الزنا، ويكثر شرب الخمر، وأن تكثر النساء ويقل الرجال حتى يُصبح للرجل الواحد خمسون امرأة).
وكل هذا قد ابتدأ في عصرنا وفي عصور مضت، وأكثر سكان الأرض النساء، حيث تذكر الصحف دوماً في الإحصائيات الدولية الشعوبية أن أكثر الناس النساء، ومنذ يومين قرأت عن روسيا أن النساء تزيد فيها عن الرجال بثلاثين أو أربعين مليون امرأة، وبعضهن لا يجدن رجلاً حتى في الفساد والزنا؛ ولهذا عندما شرّع الله جل جلاله شريعة الإسلام أباح للرجل أربع نساء وقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] أباح الأربع وأذن بها، وأباح ملك اليمين.
ونحن في عصر لو وزّعت أربع نسوة على كل رجل لبقيت الملايين لا يجدن رجلاً، ولا ينفع بعد ذلك إلا ملك اليمين، ولا تكون ملك اليمين إلا بعد حروب تنتصر بها الجيوش الإسلامية، ويجعلونهن جواري وإماءً، وذاك لخيرهن وصيانتهن وعيشهن وسترهن، والحفاظ على كفالتهن.
وأكثر ما يكون النساء في ديار الكافرين، وإن كانت بعض ديار المسلمين أخذت تلحق بهم، فنجد أكثر من خمسين في المائة لقطاء لا والد لهم، أباحوا الزنا قانوناً، وشرّعوه دستوراً، وأباحوا العشيقة، ونشروا الزنا مباحاً، فانتشرت بذلك البلايا والمصائب؛ ولذلك انتشر مجموعة من الغلمان الذين نشئوا بلا عطف، لأنهم فقدوا عطف الأب وبعضهم فقد عطف الأب والأم، فعاشوا في الشوارع عيشة الكلاب الضارية، وعيشة الخنازير السائبة، فكثر حقدهم بعد أن ميّزوا ذلك وأدركوه على كل رجل وامرأة، فظهر فيهم الفساد.
وكانت قوانين الأرض والسماء لا تُبيح معاقبة من لم يبلغ الرشد بعد، ولكن ما يحصل عن هؤلاء من أنواع الفساد والإجرام قتلاً وتعذيباً وتحريقاً وإفساداً لم يصدر مثله من الكبار، فتحايلوا على القوانين وجعلوا سجوناً، وقالوا عنها: دور الأحداث ودور التأجيل، وهي سجون فيها من أنواع العذاب ما لا يوجد في سجون الرجال، وهؤلاء الذين نشئوا نتيجة الفاحشة ونتيجة فساد المجتمعات كانوا لعنة آبائهم وأُمهاتهم في هذه الأرض.
ومن هنا نرى حديث أنس ، وأن من أشراط الساعة أن يكون للرجل الواحد خمسين امرأة، ولو أردت أن توزّع النساء اليوم على الرجال لكان لكل رجل خمسون امرأة، والكثير منهم قد أعجزته امرأة واحدة، فكيف يقوم بخمسين فراشاً أو كسوة أو سكناً أو طعاماً؟
هو أعجز من ذلك؛ ولذلك أصبحت المرأة تجري خلف الرجل لكل هذه المعاني، وابتدأ هذا وكثر حتى في ديار الإسلام، وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام القائل: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟) هم بلاء وفساد الأرض، ومصدر لكل فساد وكفر وسفك دم ونشر فساد في المجتمعات بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ كذلك والعجزة.
قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18].
فمن أشراطها الأولى نبي آخر الزمان الذي لا نبي بعده ولا رسول، ولا وحي بعده ولا كتاب بعد كتابه صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن هذا رسول الله فقال: (بُعثت والساعة كهاتين) فكان هو من أشراطها ومن علاماتها وأماراتها.
قال تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد:18] أي: إذا جاءت الساعة فكيف يتذكّرون؟ وكيف يفكّرون؟ وهل تنفعهم ذكرى أو فكرة وقد قامت الساعة؟
بل الإنسان إذا وصلت روحه إلى الغرغرة لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] فكيف يتذكّر هؤلاء يوم القيامة وقد قامت الساعة؟ وهل تنفعهم ذكرى أو فكرة آنذاك؟ هيهات هيهات! الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19].
أي: فاعلم يا محمد واعلموا أيها الناس أنه لا إله إلا الله.
الخطاب هنا لنبينا ومعناه: اثبت على لا إله إلا الله، ودم عليها، واعلم أنه لا دين سواها، ولا حقيقة في الحقائق غيرها.
ثم هو كذلك خطاب لأتباعه، وأن الحياة هي لا إله إلا الله: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
وعن أبي بكر الصدِّيق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الناس: لا إله إلا الله، واستغفروا لذنوبهم، فأغواهم الشيطان بالذنوب والمعاصي، فعادوا واستغفروا وقالوا: لا إله إلا الله، فأغواهم بالأهواء حتى ظنوا أنهم على شيء ويحسبون أنهم على شيء وما هم على شيء) أو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وفُسّرت الآية: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: أي: إذا حضرت الساعة فجأة فلا ملك ولا حكم، ولا ملوك ولا حكام، ولا شيء في الوجود إلا الله، لا يبقى إله مزيّف، ولا إله باطل، وإنما هو الله الحق الصدق ذو الجلال جل جلاله.
والمعنى على هذا صحيح جداً، فإنه إذا قامت الساعة يتساءل ربنا ويقول: أين ملوك الأرض؟ أين الجبابرة؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب الله نفسه ويقول: أنا الملك! أنا ملك الملوك! أنا الجبار! جل جلاله، وعزّ مقامه.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:18-19] أي: إذا برزت الساعة فليس هناك دين ولا عمل، فليس إلا الله والدار الآخرة، وقضاء الله بين الخلق إما إلى جنة وإما إلى نار: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5].
وقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] كقوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:1-3].
فالاستغفار مطلوب في نهاية الأعمال مما يمكن أن يكون من نقص أو خلاف أولى أو خطرات فكر، أو ما لا يليق مما هو من الخطرات، ومما لا ينبغي أن يكون؛ لأنه خلاف الأولى.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وقد بيّنوا في معنى الآية أنه: استغفر الله واشكره حيث غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2].
وذنوب رسول الله ليست هي معاصي وآثاماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الصغائر والكبائر، ولكن هي من النوع الذي يُقال عنه: خلاف الأولى، ومنه ما مضى من قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى [الأنفال:67] لم يكن من الله أمر لنبيه ألا يتخذ أسرى فاتخذهم فيكون ذلك ذنباً ومعصية؛ ولكن الله أراد من عبده ألا يفعل خلاف الأولى، وكان الأولى به وبمقامه ألا يتخذ أسرى حتى يُثخن في الأرض، ويكثر القتل في الأعداء.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة).
وقد ورد في الأذكار النبوية الاستغفار كثيراً في مدخل البيت، والمخرج من البيت، واستقبال النهار، وتوديع النهار، وعند النوم، وعند الصحو من النوم، والاستغفار على أي حال؛ وقد كان يقول خلف الصلوات صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي لا إله غيرك، ولا إله إلا أنت).
وهذا تعليم لنا نحن العصاة الخطائين المذنبين، هو إمامنا المعلم، ونبينا المرشد، ورسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله باتباعه فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] جعله أسوتنا وقدوتنا ومرجعنا، وإمامنا الذي نتأسى به في الحركات والسكنات والفرائض والنوافل والآداب والرقائق، وجميع شئون الحياة إلى لقاء الله.
فقوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] من رحمة الله بعباده المؤمنين أن أمر نبيهم وشافعهم ورسولهم أن يستغفر لنفسه ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، جاء بدوي اسمه لقيط بن عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال هذا البدوي: غفر الله لك يا رسول الله. أي أنه دعا لرسول الله بالمغفرة، والصلاة منا كذلك دعاء، فلا يستغني عبد عن دعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم هو في الدرجات العلى: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4] ويزيده الله مقامات على مقاماته، ومنازل على منازله مدة الدنيا والآخرة.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] وإذا استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعبد -أي: طلب أن يغفر الله له- فتلك شفاعة منه إلى الله لهذا العبد المؤمن المسكين.
قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19] .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ أي: تصرفكم في نهاركم، ومقامكم في داركم وقت منامكم، يعلم متقلبكم في بطون أمهاتكم جداً لجد لأب لابن، لجدة فأم مباشرة، يعلم كيف تسلسلت نطفنا في أصلاب آبائنا، وفي أرحام أمهاتنا .. إلى أن خرجت بشراً سوياً مؤمناً بفضل الله.
وَمَثْوَاكُمْ أي: ومقامكم وآخرتكم وسؤالكم في قبركم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر