هذه علامة الكافر دائماً، وهي الإعراض عن القرآن وسماعه وعن هدايته وعما جاء في القرآن.
وعندما تولى الكفار تطوير برامج وأنظمة التعليم في العالم الإسلامي من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية والتخصصات أبعدوا الإسلام عن الحياة العامة، وأول ما حاربوا القرآن ودين الإسلام، فأبعدوا تعليمه من الجامعات التي يعتبرون خريجيها هم رجال المستقبل وقادة الأمم والشعوب، وأبعدوا من تعلمها عن الحياة العامة وعن قيادة الأمم والشعوب وسموهم رجال الدين وشبهوهم بالرهبان وبالحاخامات، مع أن الإسلام لم يجئ بالدين فقط، وإنما جاء بالدين والدنيا.
فالإسلام عقيدة ونظام ودولة؛ ومن أنكر جزءاً من هذه الثلاثة دخل في عموم قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].
فالإسلام عقيدة جاء بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان باليوم الآخر وبالقرآن كتاباً من الله وبالسنة المطهّرة الشريفة إلى بقية العقائد، ومن لم يؤمن بجميع هذه العقائد أو تشكك في بعضها فليس بمؤمن.
والإسلام نظام، فقد جاء بنظام اقتصادي، فحرم الربا والرشا والغدر وأكل أموال الناس بالباطل، وقدر الفروض في التركات من الثمن والربع والثلث والنصف، فمن غيّر شيئاً من هذا فقد غيّر نظام الإسلام.
والإسلام نظم الأسرة، فقد فرض البر والطاعة والإكرام للأبوين، وحسن صلة الأرحام للإخوة والأخوات وعموم الأقربين.
والإسلام نظام جعل المسلم أخاك حيث ما كان في أرض الله سواء كان أبيض أو أسود، أو فقيراً أو غنياً، أو رجلاً أو امرأة، وأخوك له من الحقوق ما لأخيك في الرحم، ومن سواه إذا لم يكن مسلماً فليس أخاً لك ولو كان أخاك لأبيك وأمك.
وابن نوح لما لم يؤمن بدينه أغرقه الله فيمن أغرق من الكافرين، وعندما قال نوح كما حكى تعالى عنه: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... [هود:45] قال الله له: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، أو عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ، كما في بعض القراءات.
فالإسلام هو الحاجب الفاصل، فمن كان مسلماً فهو أخي في الدنيا والآخرة ولو كان أبعد الأبعدين نسباً، وأنا أحس بهذا وأشعر به، وما تركت قارة ولا جزءاً في الأرض إلا ووجدت ذلك، وكنت وأنا في أقصى آسيا وفي أقصى أفريقيا وفي أقصى الدنيا عندما أجتمع بمسلم أو مسلمين لا أشعر بغربة أبداً، وإذا اجتمعت بكافر أو منافق أو شيوعي أو ماسوني في بلدي ووطني فأشعر أنني غريب.
فالمسلم هو أخوك، ومن سواه فليس أخاً لك، فإن كان كافراً وكان بيننا وبينه عقد فهو ذمي، وإذا لم يكن بيننا وبينه عقد فهو حربي، فلك قتله وأخذ ماله، ولك طرده وإبعاده، ولا حق له في المقام بين المسلمين في الأرض، ولا يجوز لمسلم أن يساكنهم.
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما) فيجب أن يكون من البعد بينك وبين جوار هذا الكافر ما بين النور والنور، والنور يرى من بُعد، فإذا رأى نورك ورأيت نوره فأنتما متساكنان وجاران قريبان.
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وقد كان الكافر إذا رأى ولده أو قريبه أو زوجته يسمع النبي عليه الصلاة والسلام أو أحد أصحابه وهو يتلو القرآن قال له: لا تسمع، وضع يديك في أذنيك، فإن لم يتم لهم ذلك قالوا: وَالْغَوْا فِيهِ ، أي: خذوا في اللغو وفي الضوضاء وفي الصياح، فكانوا يصفقون ويصيحون ويقولون من القول ما يشغلون به السامعين عن سماع كتاب الله وسماع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه صفة كل كافر قديماً وحديثاً.
وأنا أذكر أني عندما كنت طالباً بمصر وأنا شاب دون العشرين كان هناك مقرئ مشهور اسمه الشيخ رفعت ، لا يزال صوته يسمع في الأشرطة، وكان له صوت مؤثر، وكان عندما يقرأ سوراً أو آيات فيها ذكر مريم أو عيسى تجد شباب ونساء الأقباط النصارى يسمعون ذلك بتأثر، ويكون لقراءته مفعول في نفوسهم، فيسلمون، فلما علم الآباء والكنيسة والرهبان بذلك أخذوا يمنعونهم من سماع صوته وتلاوته للقرآن الكريم.
وهذا يقع عندما تجلس في مجلس فيه غير مؤمن أو فيه مؤمن في الظاهر وفي الاسم فعندما يقرأ أحد من الناس يضج ويحتج ويصيح، وقد يقوم ويشغل المجلس بغناء باطل وفاسد؛ لكي لا يسمع كلام الله؛ لأن لكلام الله مفعولاً وأثراً في النفس، ويجلب الراحة إليها فتؤمن بالله وتدين بدينه.
وقوله تعالى: وَالْغَوْا فِيهِ من اللغو، وهو قول الباطل، والاشتغال بالتصفيق وبالكلام الفارغ الذي لا معنى له. وأما أدب المسلم فهو غير ذلك، فقد علمنا الله أن نكون حال قراءة القرآن كما قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
وتجد قوماً من بعض الأقطار الإسلامية عندما يتلو القارئ يتصايحون وكأنه مغنٍ يغني وليس قرآناً، وهو نوع من أنواع اللغو والباطل والتصفيق والإفساد الذي يفعله المشركون عندما يسمعون القرآن، وذاك من وحي الشيطان وإفساده لهم، فعوضاً عن أن يمتثلوا أمر الله فينصتوا للقرآن ويتفكروا في معانيه لا يفكرون إلا في طربه وفي قافيته الغنائية، وأن هذا نغم رومي وهذا عجم.. وهذا وهذا، وتجدهم يتصايحون عند الأنغام، وقد تكون تلك الآيات في العذاب وفي النار وفي البلاء وفي المصائب التي سيصاب بها الناس يوم العرض على الله يوم القيامة، وتجد هذه المعاني لا يفكرون فيها ولا تخطر لهم على بال وهم يصيحون، وهذه صفة المنافقين والكذبة على الله، وهي صفات أشبهوا بها إمامهم الشيطان، وقد حرم الله ذلك وأمرنا عند سماع القرآن أن ننصت ونخشع ونتروى ونتمعن فيه، والناس تختلف في المدارك والوعي والفهم.
والكفار دائماً لا منطق لهم ولا دليل، وعندما يذهب الدين يذهب معه العقل، فهم يظنون لسخافة عقولهم أنهم إذا لم يسمعوا القرآن غلبوا محمداً وتغلبوا على القرآن وعلى الإسلام! وهيهات هيهات! فهم إنما تغلبوا على أنفسهم وأبعدوها عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والإسلام فكانوا عبدة للشيطان وأتباعاً له وعلى دينه، فكانوا هم المغلوبين والمقهورين والأذلاء، ولذلك تجدهم عند تلاوة القرآن يتصايح المتصايحون منهم ويهدر الهادرون ويشتغل المبطلون، وهذه صفة من صفات الكافرين بالله، فيجب على من في المجلس أن يُسكته، فإن لم يسكت فليطرده من المجلس؛ لأنه رسول الشيطان إلى المؤمنين الحاضرين.
بعد أن عرض الله أعمالهم وأبان فسادها وتلفها وخسارتها لكي يعلم المؤمنون والصالح من الطالح فيهتدون بالصالح ويبتعدون عن الطالح أخبر ربنا وأشعر بعذابه وعقابه للكافرين، فقال: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا .
أي: هؤلاء الكافرون الذين يقولون لا تسمعوا لهذا القرآن وأمروا باللغو فيه وأخذوا في التصفيق والتغني والضوضاء والصياح عند تلاوته سيعذبهم الله عذاباً شديداً، والعذاب الشديد هو الذي لا راحة معه ليلاً أو نهاراً، وهو الذي لا راحة فيه لعضو من أعضاء المعذب ولا لخلية من خلايا بدنه، فهو يعذب بكل أعضائه تفصيلاً وجملة، فإذا نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب وليزدادوا فيه عذاباً وشدة.
قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ .
أي: وليكافئهم ويعاقبهم ويجازيهم بأسوأ أعمالهم وأقبحها، وبأقبح ما كانوا يكسبون، ولا أقبح من الكفر، وليس بعد الكفر ذنب، فسيعذبون بالكفر ويهانون ويخلدون في النار بسببه، وينالهم من أنواع العذاب ما يبقوا معه خالدين فيه دهر الداهرين وأبد الآبدين.
يقول الله عن هؤلاء: ذَلِكَ ، أي: هذا العذاب الشديد ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ، وأعداء الله هم الكافرون بكل فرقهم وأجناسهم وألوانهم وأديانهم، فهؤلاء أعداء الله جزاؤهم وعقوبتهم النار ومحنتهم بالنار.
لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ، أي: لهم في النار دار المتبوأ، أي: يتخذونها داراً ومقاماً ومثوى ومنزلاً خالدين فيها أبداً.
ثم ذكر تعالى أن هذا سيكون جزاء وعقوبة ومكافئة لهم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، أي: بسبب جحودهم وكفرهم بآيات الله وبكتابه وبالإسلام وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسنته.
فالله وصف هؤلاء بأنهم كافرون وبأنهم أعداء الله، وأن جزاءهم سيكون بأسوأ أعمالهم، وهو الشرك، خالدين في النار أبداً، فهي دارهم ومثواهم ومنزلتهم؛ بسبب كفرهم وجحودهم بالله وبكتابه وبنبيه صلى الله عليه وسلم، وذاك جزاء كل من يصنع مثل ذلك، وما قص الله علينا قصص السابقين إلا ليكونوا لنا عبرة وعظة؛ لكي لا نعمل أعمالهم ولا نتبع سيرهم وسبيلهم، ومن يفعل يجز جزاءهم بالعقاب وبالعذاب وبالخلود في النار.
أي: سيقولون هذا يوم القيامة وهم في النار خالدين مخلدين فيها، وهيهات أن ينفعهم ذلك، فهم وهم في النار في عذاب الله يصيحون ويريدون أن يقولوا شيئاً نفع أو لم ينفع، فينادون ربهم إذ ذاك ويعترفون به ويقولون: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا أي: أطلعنا وعرفنا بوجوههم وبأشكالهم حتى نراهم رؤية العين.
مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فهؤلاء الذين أطاعوهم في دار الدنيا واتبعوا وساوسهم وسبلهم واهتدوا بهديهم ودانوا بدينهم وكفروا كفرهم يقولون لله وهم في النار: أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا ، أي: أبعدنا عن الهدى وعن الإسلام وعن الإيمان بالله وكتابه وعن الإيمان بمحمد ورسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجعلانا من الضالين التائهين، و أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ، أي: نجعلهما في أسفل السافلين في الدرك الأسفل من النار؛ لنكون نحن أعلاهم.
وهذا كما قال الكافرون الذين سبقوهم: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [الأعراف:38]، فقال الملائكة المكلفون عن أمر الله: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38]، أي: سيعذب الكل التابع والمتبوع، والإمام والمؤتم، والموظف والقائد من الجن والإنس معاً.
نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ، أي: ينزلوهما في أسفل سافلين في الدرك الأسفل، ويدوسون عليهم بالأقدام انتقاماً وعداوة وحقداً، وهيهات أن ينفعهم ذلك.
لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ، أي: ليكون جنس الإنس وجنس الجن أسفل سافلين في العذاب، ويكونون معذبين أشد من غيرهم؛ لأنهم الأئمة والقادة وكما أن الجنة درجات فكذلك جهنم دركات، فمنهم من هو في الدرك الأسفل من النار، ومنهم من هو فوقها ومنهم من علا فوق سطح النار فلا تمس النار إلا قدمه، وهذا المساس بالقدم يغلي منه دماغه، نسأل الله اللطف والسلامة والبعد عن النيران والغضب في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، أي: شهدوا لله بالربوبية وبالوحدانية وبالألوهية، وبأنه الواحد الذي لا ثاني له لا في ذات ولا في صفة ولا في فعل، ثم بعد الإيمان بالله قلباً وجناناً نطقت جوارحهم بالعمل، ثم استقاموا، والاستقامة تكون بالجوارح وباللسان وبالعين وبالأذن وبالفم وبالشم وباليد وبالرجل وبالجسم كله، فلا يرى ولا يسمع ولا يمس ما يحرم عليه، ولا ينطق بلسانه إلا بخير لا بما يحرم عليه، ولا يشم رائحة إلا حلالاً، ولا يؤذي بيده ويصنع بها ما يحرم عليه، ولا يذهب إلى الأماكن التي تحرم عليه.
ولقد عرف رسول الله عليه الصلاة والسلام الاستقامة واشتهر تعريفها عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة الكرام وعن التابعين لهم بإحسان، فقد قرأ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ثم قال: (قالوا: لا إله إلا الله ثم استقاموا عليها إلى الموت)، ومعنى ذلك: أن النبي فسّر الاستقامة بالثبوت والدوام والاستمرار على الإسلام.
وأخبر بأنه سيؤمن أقوام ثم سيكفرون بربهم، وقد وقع هذا عند موت النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كفر أكثر أهل جزيرة العرب وارتدوا، فهؤلاء لم يستقيموا، ولو أنهم في أيامهم الأولى قاتل منهم من قاتل وجاهد من جاهد وتصدق من تصدق وحج من حج.
وقد قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] والمشرك يحبط عمله كله ويفسخ عقد زواجه، ويبطل حجه وصلواته وتلغى جميع أعماله الصالحة ولا يبقى أمامه إلا الكفر.
وعرّف أبو بكر الاستقامة فقال: الاستقامة: أن تقول لا إله إلا الله وأن تلتزم بآدابها. أي: أن تعمل بمقتضاها.
وعرّفها عمر فقال: الاستقامة: أن تأمر بالمعروف وتفعله وأن تنهى عن المنكر وتنتهي عنه، وأن لا تتلاعب ولا تنزو نزو الثعالب.
أي: أن لا تزيد ولا تنقص في دينك بأن تُصبح مسلماً وتُمسي كافراً، مثل: أن تصلي وتجالس النساء التي حرّم الله عليك، أو تصلي وتعامل البنوك الربوية، أو تحج وتخرج النساء عرايا. فلا تتلاعب تلاعب الثعالب، فإن الثعلب تجده أمامك، فإذا به خلفك وإذا به عن يمينك وعن شمالك، ودين كهذا دين ناقص.
وعرفها عثمان فقال: الاستقامة الطاعة.
وعرّفها علي فقال: الاستقامة هي عمل الفرائض والإتيان بها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر