إسلام ويب

تفسير سورة فصلت [41-46]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن الكريم وحي من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، وهو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نزله الله بلسان عربي ولم يجعله بلسان أعجمي حتى لا يزيد إعراض العرب عنه، ولكنهم أبوا إلا الكفر والجحود، فسيعلمون يوم القيامة جزاء ما كفروا به ويلقونه عذاباً خالداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر ...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ أي: إن الذين جحدوا بالذكر وبالقرآن الذي يذكر الناس بطاعة الله وبما جاء به من أدلة واضحة وبراهين كاشفة، وكفروا بالكتاب وبالقرآن وبكتب السماء، وبما أنزل على أنبيائهم وبما نطقوا به من بشارة الصالحين المتقين، وإنذار الضالين المضلين؛ سيجازون نتيجة كفرهم وجحودهم باللعنة والدخول في النار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ أي: سيجزون، وحذفت للعلم بها كما يقول ابن مالك :

    وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما

    وهذا يحدث كثيراً في آيات الله، ومن فصاحتها وبلاغتها يفهمها من له وعي وفهم بالعربية وبلغتها وبنحوها وبقواعدها.

    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ ، أي: الذكر، وهو القرآن الكريم، لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، أي: كتاب عزيز على الله وعلى عباده المؤمنين، فهو في موضع العزة والكرامة والمحبة والعمل به، فهو عزيز مكرم معظّم معمول به؛ لأنه كلام الله ووحيه، وقد جاء للبشر وللجن بشيراً ونذيراً، فقد نطق بالحكمة وبتحليل الحلال وبتحريم الحرام وبالعقائد وبالأخلاق وبما كان وبما سيكون إلى قيام الساعة.

    قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

    لا يأتيه : لا يصل إليه ولا يطمع فيه سواء من بين يديه أي: حال نزوله وقراءته وجمعه وتلاوته في المحاريب صلاة وتهجداً وتلاوة وعبادة على أي شكل من الأشكال.

    ولا من خلفه أي: ولا من بعد نزوله وذيوعه انتشاره وبيان وتفسير الصحابة والعلماء له.

    وقوله: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ أي: لن يجرؤ أحد، ولو شاء لما استطاع أن يزيد فيه آية أو ينقص منه آية أو يغيّر منه حركة أو يزيد فيه حركة أو يحذف منه سورة أو يأتي بسورة.

    والباطل هو: ما سوى الحق، فلا يأتيه الكذب من ناحية الحقائق التي قالها الله عن الخلق وعن وجود السماء وعن خلق الأرض وأن ذلك في ستة أيام، ومن رفع السماء وجعلها سقفاً محفوظاً، ومن مهّد الأرض وجعل الجبال والوهاد والبحار والعيون والآبار عليها، ومن خلق ما فيها من الشجر والخضرة والطير والحيوان مما ينفع الإنسان ويزداد به شكراً وحمداً لله، فهذا الذي ذكره الله في كتابه كله حقائق، ولم يجرؤ أحد يوماً أن يقول: هذا ضد العلم ومخالف له، أو أن التوراة والإنجيل والزبور أتوا بخلافه، أو أن العلماء اكتشفوا خلاف ذلك.

    وأحد النصارى من الفرنسيين كتب منذ سنة كتاباً بالفرنسية وترجم إلى العربية وشاع وذاع بين الناطقين بلغة العرب وسمى كتابه: (القرآن مقارناً بالتوراة والإنجيل)، وخرج فيه بنتيجة -وهو لا يزال على نصرانيته- أن كل ما ذكر القرآن من حقائق الخلق من خلق السماء والأرض والإنسان وطبيعة الوجود من ليل ونهار وصيف وشتاء وكل ما قص من أخبار الماضين وأخبار اللاحقين، وقد مضى على نزوله 1400 عام كل ذلك لا يزال العلم يؤكده ويقطع به ويصححه.

    وبعد أن كانت القضايا نظريات وخواطر أصبحت تجارب وحقائق أقرها العلم ولم ينفها أحد.

    وقال: إن القرآن قد أتى بكل حق، بخلاف ما في التوراة والإنجيل من أباطيل وأضاليل لم يقرها علم ولا دليل التي تؤكد أن الإنجيل والتوراة قد حرفا، وهذا لا شك فيه ولا ريب، وقد قاله الله في القرآن المهيمن عليهما، وأكده الواقع، فالتواراة والإنجيل كانا كتابي توحيد وعبادة لله، ثم أصبحا كتابي وثنية وشرك بالله، فالتوراة تدعو لعبادة العزير وعبادة العجل والإنجيل يدعو لعبادة مريم وعيسى، وكلا الكتابان يقولان ما قاله الله عنهما: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18].

    فلم يقتصروا على أن عيسى وحده ابن الله، بل جعلوا أنفسهم جميعاً أبناء الله. وهم عند الذكر والدعاء يقولون: يا أبانا! الذي في السماء، وهكذا انتقلت التوراة والإنجيل من الحقائق إلى الأباطيل من الوحدانية إلى الشرك.

    وقذفا الأنبياء بأنواع الفواحش والمنكرات حتى في المحارم التي يتورع عنهن الفاسق والداعر ومن لا دين له، فقد اتهموا أنبياءهم بإتيان البنات والأخوات وقتل الأزواج واغتصاب بناتهم ونسائهم.

    وقالوا عن سليمان: إنه كفر، وقالوا عن الله ما لا يقوله إلا مجنون ذاهب العقل قبل أن يكون ذاهب الدين.

    فهؤلاء حرّفوا وهؤلاء بدّلوا، وأما كتاب الله فهو المعجزة السرمدية الأبدية ما دامت السماوات والأرض، واعتبرها كذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع معجزاته قد أدت مهمتها عند نزولها وعملها ولم يبق إلا معجزة القرآن التي رآها المعاصرون لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومن جاء بعدهم من القرن الأول وإلى عصرنا، فهو معجزة لنا أكثر مما كان معجزة للأولين.

    يقول تعالى هنا: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ونحن نقول: إن هذا صحيح ومؤكد وقد أصبح مقطوعاً به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، وآمن به الصحابة تصديقاً لكتاب الله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.

    ونحن نقول ما قاله الصحابة ونزيد: بأننا عشنا في واقع رأيناه فيه وأدركناه وقطعنا به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، فلم يأته باطل ولا تكذيب ولا ما يخالفه لا فيما تقدم ولا فيما تأخر عنه، ولم يغيّر ولم يبدّل، ولم يأته باطل بتغيير أو تحريف أو قلب أو تغيير، فإن وجد في التفاسير قول للمبتدعة أو للضالين المضلين فتلك جرائمهم وسوءاتهم والقرآن منها بريء، والعلماء الصالح منهم والطالح عندما يقولون قولاً أو يؤلفون كتاباً يختمونه بهذه الفقرة: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني.

    وقوله: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي: الله هو الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ببيانه وبإشاعته، وبالأمر والنهي به وبيان حلاله وحرامه، وبيان أحكامه وآدابه وعقائده وما فيه من أخبار الأنبياء السابقين وأممهم، واللاحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى البعث والنشور وإلى أن يدخل الجنة من يدخلها ويدخل النار من يدخلها.

    فهذه الآية الكريمة هي من تمام إعجاز القرآن بما جاء فيها من أخبار وبأن الله تعهد بحفظ كتابه من الباطل في معانيه وألفاظه وحركاته.

    وقد وجدنا الأمر كذلك؛ فأعداء الإسلام والقرآن على كثرتهم ما ادعى أحد منهم قط بأن القرآن فيه زيادة أو نقصان أو أن هناك مصاحف فيها سورة زائدة أو مصاحف فيها سورة ناقصة، وكل ما يذكر من ذلك هو كلام الحمقى والمجانين والكفرة الضائقين، على أنه على ذلك لا وجود لذلك لا في قديم زمان ولا في متأخرة، فهم يقولون قولاً بمعنى أنهم يتمنونه ويسعون إليه.

    وهذا كما يقول ضال من الضلال من فراعنة العصر الدجاجلة الذين أخبر النبي عنهم صلى الله عليه وسلم بأنه: (بين يدي الساعة ثلاثون دجالاً)، إن اليهود غيروا القرآن وطبعوا نسخاً منه ووزعوها في القارات. وهو كذب لا يوجد البتة، وإنما أراد أن يقول للناس: زعمتم بأن كتابكم محفوظ وأن الله قد حفظه، وهؤلاء اليهود قد بدلوه وغيروه وشاع وذاع؟ وقد حضرت كما حضر غيري في مؤتمرات بالعشرات في قارات الأرض وخاصة في إفريقيا التي زعم هذا الدجال: أن اليهود طبعوا هذا المصحف ووزعوه فيها، فسألت: هل رأيتم هذا؟ قالوا: سمعنا ولم نر. وهو إنما قال هذا تشكيكاً للمؤمنين في دينهم، ولا يوجد شيء من ذلك.

    وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

    أي: حكيم في أقواله وفي أفعاله وفي قدرته. والحكمة هي: وضع الشيء في محله بلا زيادة ولا نقصان، والقرآن كذلك؛ لأن المتكلم به هو الحكيم جل جلاله.

    وهو الحميد المحمود ذاتاً وصفات وأفعالاً، وهو الذي يحمده الحامدون، وقد بدأ الخلق بالحمد لله، وأنهاه بالحمد لله، وأمرنا أن نبتدئ صباحنا ومساءنا وجميع صلواتنا بالحمد لله رب العالمين، وأن نقول: الحمد لله عند طعامنا وشرابنا وأعمالنا وأذكارنا، وعقب الصلوات والفرائض كلها.

    وقوله: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ أي: عزيز على الله، وعزيز على المؤمنين من عباد الله. وهو كريم في قوله ومعناه، وقد عز عن أن ينال أو يؤتى بمثله أو يتلاعب به، وهيهات هيهات! ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك...)

    قال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت:43].

    يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، والآية تحتمل معنيين، وكلاهما قائم واقع وبأي معنى فسرنا فهو صحيح.

    المعنى الأول: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، أي: ما يقال لك من قومك من اتهام وشتائم وهجران وتكذيب قد قيل كل ذلك للأنبياء قبلك، فقد كذبهم أقوامهم وأنكروهم واتهموهم بالسحر وبالازدراء، وقالوا فيهم ما قالوا وعلى ذلك تكون الآية للتعزية والتسلية للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه ما كان بدعاً من الرسل، فما جرى عليه من تكذيب الكاذبين وافتراء المفترين وضلال الضالين قد وقع لمن قبله من عيسى إلى نوح إلى آدم عليه السلام، فاصبر كما صبروا وتيقن كما تيقنوا، فالنهاية والنصر لك، والهزيمة لهمن كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وكذلك كان للأنبياء قبل، وكان أيضاً لخاتمهم نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كان النصر له والهزيمة لأعدائه.

    والمعنى الثاني: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، أي: أن ما أتيت الناس به أن اتركوا الأصنام والأوثان واعبدوا الله الواحد وآمنوا بوحدانيته وبقدرته وبأنه القادر على كل شيء قد استنكروه، وقالوا وهم يتعجبون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5].

    ولم يأت محمد وحده بهذا عليه الصلاة والسلام، ولكن جميع الأنبياء قبله جاءوا بالتوحيد وبنبذ عبادة الأصنام والشركاء، وبالإيمان بالله الواحد وحده، وبأن هناك حياة بعد الموت في دار الخلود في يوم البعث والنشور إما في الجنة وإما في النار، فلم تأت إلى قومك وإلى الناس الذين أرسلت إليهم يا محمد! بشيء وبدع جديد، أي: إن التوحيد الذي جئت به قد جاءت به جميع الأنبياء قبلك، فالأصنام والأوثان والشركاء التي دست عليهم بنعالك جعلتهم تحت أقدامك؛ لم يكن هذا عملك فقط، بل هو عمل جميع الأنبياء قبلك، وما أنت إلا واحد منهم.

    ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ .

    أي: إن ربك جل جلاله لصاحب مغفرة لمن استغفره وتاب إليه وآمن به، فهو يغفر ذنوبه ويكفر سيئاته، والإسلام يجب ما قبله، وهو ذو عقاب أليم لمن بقي على الكفر وأصر على عبادة الأوثان والشركاء، وجعل لله شريكاً ما أنزل الله به من سلطان.

    وهذا المعنى ثابت في كثير من الآيات، بل به نزلت الأنبياء كلهم، وكلهم جاءوا بالإيمان بالله الواحد وبعبادته وحده وإفراده بالطاعة وبالعبودية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً...)

    قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].

    يقول الله لهؤلاء: أنزل عليكم القرآن بلغتكم التي تتكلمونها بسليقتكم دون حاجة إلى تعلم ولا إلى شيخ ولا إلى دراسة، ومع ذلك كفرتم وعارضتم.

    وقال هذا لكفار مكة منذ اليوم الأول، فقال الله لهم منكراً ومهدداً ومقرعاً: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا ، أي: لو أنزل الله القرآن بغير لغة العرب لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ، أي: هلا فصلت آياته وبينت ووضحت.

    والوضوح والبيان بالنسبة لهم أن يكون بلغتهم وببيانهم وباللغة التي يفهمون ويدركون، وإلا لكانوا قالوا: أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ، أي: ألغة عجمية ويخاطب بها العرب؟ ألغة أعجميه ونبي عربي؟ هذا تناقض، ولكن هذا لم يصنعه الله ولم يفعله فلم ينزل القرآن إلا عربياً على نبي عربي، وما أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إلا لينذر به أولاً قومه، كما قال تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، أي: ليكونوا هم بعد ذلك رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.

    وقد حدث هذا، فما مات صلى الله عليه وسلم وذهب إلى الرفيق الأعلى إلا وجزيرة العرب كلها مؤمنة، وكان الذي خرج بالإسلام خارج حدودها أصحابه من الخلفاء الراشدين، ابتداء بـأبي بكر ثم عمر ، وقد نشروه وبينوه بين تلك الأمم بلغته العربية، فتعلموها وحصلوا عليها، وأصبح الكثير منهم أعلم بالعربية من أهلها، وما إمام النحو إلا فارسي، وعنه أخذ العرب نحوهم، وما إمام التفسير إلا فارسي، وهو محمد بن جرير الطبري ، وما إمام الحديث إلا فارسي، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري واسم (بردزبه) اسم مجوسي فارسي، فكان الإمام البخاري إمام الحديث الذي علم الناس والعرب بلغتهم سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهكذا ما مضى جيل أو جيلان بعد ذهاب النبي إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم حتى انتشر الإسلام بلغته التي هي لغة كتاب الله ولغة نبي الله صلى الله عليه وسلم ولغة الفاتحين من أصحابه الخلفاء الراشدين.

    فكانت العربية لغة جميع المسلمين، وبقي الأمر كذلك ثمانية قرون كما يقول ابن تيمية وابن بطوطة.

    قالها ابن تيمية علماً، وقالها ابن بطوطة مشاهدة، وهذا مشرقي وهذا مغربي، وكلاهما كان في القرن الثامن.

    يقول ابن تيمية (في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) عن العصر الذي عاش فيه: كانت جميع الأمم والشعوب الإسلامية تتكلم بلغة القرآن.

    وابن بطوطة في نفس العصر قام بجولة وبرحلات استغرقت ثلاثين عاماً ولم يترك إقليماً ولا مدينة ولا قرية إلا وهاجر إليها وأقام فيها وتزوج من نسائها وعمل في وظائفها قاضياً وحاكماً وعاملاً، ووزع أولاده في جميع هذه الأقطار، فقد كان يتزوج الأربع ثم يريد أخذهن معه فيمنعونه من ذلك فيطلقهن، ثم يذهب إلى إقليم آخر ويتزوج أربع أخر. وذلك في رحلته المشهورة باسم: رحلة ابن بطوطة ، وقد طبعت عشرات المرات وترجمت إلى جميع لغات الأرض الحية.

    إذاً: فقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ، أي: لولا بينت، وهلا أبنتموها ووضحتموها، ثم يقولون: أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ؟ أي: أتكون اللغة أعجمية والمخاطبون بها عرباً؟ أيكون النبي عربياً والكتاب المنزل عليه بلغة العجم؟ وهذا لم يحدث، ولكن لو حدث لقالوا ذلك، والله لم يفعله لكي تبقى الحجة البالغة لله.

    ثم قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ فالقرآن هدى لمن اتبعه وآمن به، وهو طريق الهداية والإيمان والخروج من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وهو شفاء؛ فهو هداية للعقول وشفاء لما في الصدور من شكوك وريب، بل وكذلك شفاء للأجسام. وتلك من خصائص كتاب الله، وإذا شفيت الصدور واطمأنت العقول سلمت الأعضاء وقويت وصحت.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى .

    أي: والذين لا يؤمنون بكتاب الله قولاً منه وكلاماً له فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ، أي: في آذانهم ثقل ورصاص لا يسمعون ولا يعلمون، أي: هم كمن كان في أذنه شيء ثقيل يحول بينه وبين سماع الحكمة والإيمان.

    وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أي: إن كفرهم وإصرارهم على الكفر ما زادهم إلا ضلالاً وعماية، فهم في عمى منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا، وهم كما وصفهم الله: لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، فعلى الآذان وقر وثقل، وعلى الأعين حجاب من الكفر والجحود، فهم لا يرون ولا يسمعون.

    وهؤلاء الذين لم يؤمنوا به والذين في آذانهم وقر قالوا: هو قول محمد اكتتبه مع بعض أصحابه. فكفروا بكتاب ربهم وأعرضوا عنه، فحرموا فهمه ووعيه وما فيه من نور.

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ أي: هؤلاء الذين هم على هذه الحالة، يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ، أي: كالشخص البعيد عنك بمسافات طويلة إذا ناديته لا يسمعك؛ لأن المسافة بينك وبينه بعيدة، والآذان عادة لا تستطيع أن تعي ما يقال لها من بعد، أي: هي بعيدة عن الحق وعن سماعه.

    وعمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع يوماً رجلاً ينادي آخر ويصيح فالتفت فلم ير المنادى أمامه، فقال: من تنادي؟ قال: أنادي فلاناً في البحر. وأين البحر من المدينة المنورة؟! فقال له عمر رضي الله عنه: صدق ربنا: أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ، أي: نداؤك وسماعك تافه، وأنت في وسواس لا معنى له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [فصلت:45].

    هنا يعزي ربنا نبينا صلى الله عليه وسلم ويسليه، فيقول له: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، أي: كما آتيناك القرآن واختلفوا فيه بين مصدق ومكذب، وبين مؤمن وكافر، فكذلك قوم موسى عليه السلام اختلفوا في الإيمان به، فكفر به أقوام وآمن به آخرون، فتلك طريقة الأنبياء في تصديق أقوامهم لهم وتكذيبهم لهم، فيؤمن بهم البعض ويكفر بهم البعض، وحساب الله بعد ذلك يشمل الكل، ثم إما إلى جنة وإما إلى نار.

    قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، أي: ولولا أنه سبق في علم الله أنه يؤخر العذاب والعقاب إلى يوم القيامة والعرض عليه لحاسبهم في الدنيا قبل الآخرة، ولحاسب قوم موسى وقوم محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً؛ولكن سبق في علم الله أن الحساب الكامل الأكيد سيكون يوم البعث والنشور، وقد أخر عقوبتهم والفصل بينهم إلى قيام الساعة ومع كفرهم فإن كفرهم كفر تقليد غير مبني على وعي منهم.

    قال تعالى: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ، أي: إنهم في شك هل هذا كلام الله أو ليس كذلك؟ وهل هذا نبي صادق أم كاذب؟ ولم يقرروا شيئاً فهم كفروا ثم شكوا في كفرهم، وآمنوا ثم شكوا في إيمانهم، فعاشوا في ريب وشك وتيه ودوران وضلال لم يهتدوا به إلى الطريق الحق إلى الطريق المستقيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ...)

    قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

    يقول تعالى لهؤلاء: الله غني عن إيمانكم لا ينفعه إيمانكم ولا يضره كفركم، فإن آمنتم وأحسنتم فلأنفسكم، وبإيمانكم تدخلون الجنة وترحمون وتخرجون من غضب الله ومن لعنته إلى عداد من يرحمهم ويرضى عنهم ويجازيهم بالجنان.

    مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ، فالصالحات أجرها ونتيجتها ومآلها لنفسه، أي: فنفسه خدم ولها عمل.

    وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ، أي: ومن كفر بالله وخالف كتابه وعصى رسوله فعلى نفسه ولها أساء، وقد حمل نفسه ما لا تحتمل من عذاب الله وغضبه وأوقعها في النيران.

    قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فالله جل جلاله حرم الظلم على نفسه، ثم حرمه على عباده، فلم يعذب محسناً، وقد يغفر للمسيء إذا مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    وقوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ هذه الصيغة صيغة مبالغة، وليس معناها نفي المبالغة، بل نفي الظلم، ولا يظلم ربك أحداً، وقد تكون صيغة المبالغة بمعنى النفي المطلق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768277176