يقول ربنا لهؤلاء الذين يظنون أنهم وجدوا في الأرض ليأكلوا ويشربوا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الدخان:38].
فما خلق الله الأرض التي نحن عليها وما فوقها من سماوات، وما بين السماوات والأرض من أفلاك ومجرات، ومما لا يعلمه إلا الله، ما خلق الله ذلك عبثاً، فلم يخلقه باطلاً، إنما خلق الكل لعبادته: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وإذا كان الأمر كذلك فيجب على كل حي عاقل مدرك أن يعلم أنه خرج إلى هذه الدنيا لعبادة الله، فليعبد الله بقدر طاقته، وإلا فقد جعل من حياته عبثاً باطلاً، وإن لم يكن الأمر كذلك فسيكون في النار خالداً فيها مخلداً.
قوله: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:39].
فما خلق الله السماوات، وما خلق الأرض، وما خلق ما بين السماوات والأرض إلا بالحق، والحق عبادة الله، والحق توحيد الله، وغير العاقلين من الجن والإنس قد فطره الله على العبادة والطاعة، كما فطر الملائكة؛ وقد قال ربنا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44].
فالجماد يسبح بحمد الله، والدواب تسبح بحمد الله، ومن لم يعبد الله يوماً كان ذلك سبب موته وهلاكه، فالكائنات مفطورة على العبادة، وكثيراً ما سمعنا من أناس صالحين في حالة إيمان، وفي حالة روحانية كاملة يقول الواحد منهم: ألم تسمعوا معي، الجبل يقول: الله، والقطة تقول: الله، والكأس يقول: الله، وكل ما حولي وما فوقي وما تحتي يذكر الله ويسبح الله، وإنما يترك التسبيح عصاة الجن وعصاة البشر، على أن أرواحهم قبل خلقها عندما خوطبت بالتوحيد أتى ما أتى منها طائعاً، وأتى سائرها مكرهاً.
أي: أكثر الناس، ولم يقل: أكثر الخلق، فأكثر الناس مشركون، وأكثر الناس كافرون، فلم يذكر الله ويسبح الله ويعبد الله إلا فئة قليلة من الأمم السابقة، وقليل من الأمم اللاحقة، فهذا معنى قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فأكثر من في الأرض كفرة، وأكثر من في الأرض مشركون، وإياك إياك أن تغتر بالأكثرية والأقلية.
ولذلك كان من النظم اليهودية في الأرض أن يجعلوا للناس والشعوب ما يسمى بـ(دور ندوة)، وما يسمى بـ(دور شورى)، وما يسمى بـ(برلمانات)، فقالوا: الحكم بالأكثرية، فيأتي الحاكم ويعرض على هؤلاء قوله: هل من الضروري أن يكون دين الدولة الإسلام؟! فإذا قال الأكثر: لا. فقد أعلنوا الكفر وألغوا الإسلام، وهم في الأصل ينتخبون ويختارون كل كافر، وكل فاسق وكل جاهل، فيجري على دينهم على منوالهم ويفعل فعلهم، ويقول قولهم.
فلو جاءك سكان الأرض كلهم وقالوا لك: دينك ليس بصحيح، فهل تقبل كلامهم؟! فإن قبلته كنت مشركاً كافراً، وما الفرق بينك وبين أمتك وشعبك، حتى يعرض عليهم فيما يسمى بـ(البرلمان) اختيار دين دولة.
والأكثرية هي نظام يهودي؛ لأن الأكثرية جاهلة أمية ضالة لا تكاد تعي، ولا تكاد تسمع، ولا تكاد تنظر، فإذا أنت عرضت الأمر على هذه الأكثرية الجاهلة الضالة، فما عسى أن تجاب به؟! خاصة إذا كان معك عصاً أو كان معك مال أو منصب، أو جاه، فسينقادون إليه رغباً أو رهباً، وأمة تساق رغباً ورهباً أمة ضائعة ضالة لا تعي ما تقول ولا ما تعتقد، ومن هنا كان نظام البرلمانات فيما يسمونه بـ(الديمقراطية) نظاماً وثنياً يهودياً جعلوه لحرب الإسلام والمسلمين.
ونحن نرى شعوباً مسلمة عاشت مسلمة قروناً منذ عصر الصحابة، ثم تهودت ودانت بدين اليهود، وباعت أرضها لليهود، فإذا أنزل أمر قالوا: لنعرض الأمر على (البرلمان)، فإن وجدوا بعض المخالفة، حلوه وأتوا بآخرين أكثر طواعية وأكثر استسلاماً وأكثر استعباداً، فعند ذلك يعلنون أن ما صنعوه هو شيء شعبي ديمقراطي، أقرتهم عليه نظمهم المعاصرة المتحضرة، وما ذلك إلا من وحي الشياطين ومن كفر الكافرين ومن ضلال الضالين وكما قال ربنا جل جلاله عن فرعون : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54] فأطاعوه على الكفر.
يوم الفصل هو يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم يفصل بين العباد، فهذا محق وهذا مبطل، وهذا مؤمن وهذا كافر، وهذا إلى الجحيم وهذا إلى الجنة، وهذا إلى الرحمة والرضا، وهذا إلى اللعنة والغضب، وسماه الله تعالى يوم الفصل لأنه يفصل فيه بين العباد.
وقوله تعالى: مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] أي: وقت اجتماعهم، ووقت الحكم بينهم، ووقت الفصل بينهم، ووقت معرفة الجاهل وتأكد العالم، فهذا اليوم يجمع الله فيه المؤمن والكافر، والمهتدي والضال، والشاك والموقن.
قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41] ،المولى هو النصير والصديق والحميم، والقريب من أخ وابن عم، أو أب وأم، أو ولد.
قال تعالى: لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [الدخان:41] أي: لا يستطيع قريب ولا صديق أن يغني عن قريبه من عذاب الله ولعنته، ولا يستطيع شفاعة ولا حماية قريبه وإنقاذه من النار، ولن يملك له شيئاً، ولن يستطيع أن ينفعه بشيء إن جاء كافراً.
وقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41] أي: ولا يجدون من ينصرهم من عذاب الله، ومن المقت والغضب، بل يتركون لأعمالهم، فأعمالهم إما أن تنقذهم من النار، وإما أن تدفعهم إليها دفعاً، وإما أن تخلدهم فيها خلوداً، ولا ناصر إلا الله، ولا ينصر الله إلا من كان مؤمناً موحداً، جاء بعمل صالح، وأما سواه فلا ينتظر رحمة، ولا ينتظر شفاعة.
قال تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42].
فهؤلاء الذين يأتون أجمعين، فيهم البر والفاجر، وفيهم المؤمن والكافر، فمن كان كافراً مجرماً فلا ينتظر رحمة، ولا ينتظر نصرة، ولا ينتظر ولاءً.
ولكن من رحمه الله يكون قد جاء مؤمناً ومات على التوحيد، ومات على الإسلام، ومات على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ فهؤلاء يرحمهم الله، فإما أن يغفر الله لهم، وإما أن يمحصهم وقتاً وزمناً الله أعلم بطوله وقصره، وبعد ذلك يدخلون الجنة ويرحمهم الله.
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42]، فهو ربنا العزيز الذي لا ينال.
شجرة الزقوم هي شجرة في جهنم لو قطرت منها قطرة على أطعمة الأرض ومياه الأرض لجعلتها من المرارة بحيث لا يستطيبها إنسان ولا طير ولا حيوان.
وهذا الزقوم الذي هو بهذه المرارة وهذه الشدة يكون معه الماء الحميم، والماء الحميم هو الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، فلو صُب منه على الرأس لذاب العظم قبل أن يذوب المخ، ولا غنى لهم عنها، فإذا جاعوا، فالزقوم طعامهم، وإذا عطشوا فالحميم شرابهم.
ولما سمع أبو جهل بخبر الزقوم قام يهزأ ويقول: هي شجرة عندنا هنا ترعاها الإبل والدواب.
فذل في غزوة بدر وقتل شر قتلة، حيث وضع ابن مسعود قدميه على صدره، وفصل رأسه عن جسده وهو يقول له: لقد علوت وصعدت مكاناً لا يليق بك أن تصعده، وهيهات هيهات، فـابن مسعود عبد لله كريم على الله، وأبو جهل عبد عاق كافر مشرك طالما تألى على الله وطالما كان قليل الأدب مع رسول الله، فعاش كافراً ومات كافراً ليحشر مع فرعون وهامان وقارون وأمثالهم.
يقول تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] فهي الطعام الذي يأكله الأثيم، والأثيم: الآثم مرتكب الآثام، أي: المجرم الذي لا يعرف في حياته وعمره إلا الإثم والمخالفة والعصيان.
قال تعالى: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46].
(كَالْمُهْلِ) أي: كالزيت الأسود الذي يبقى في قعر الإناء الذي فيه الزيت، فالزقوم هو بهذا الشكل مع المرارة التي لا يطيق تذوقها أحد، ولكنهم لا غنى لهم عنه، حيث يجوعون ويشتد جوعهم، فيستطعمون فلا يُقدم لهم الملائكة إلا هذا الزقوم، فنعوذ بالله ونستغيثه من عذابه ومن نقمته.
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45]، أي: فتكون حامية شديدة الحرارة تنزل في البطن فلا تزال تغلي فيه حتى تسقط وتخرج الأمعاء والكرش وما يوجد في البطن نتيجة هذه الحرارة التي تذيب كل ذلك.
فقوله تعالى: كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:46] أي: كما يغلي الماء الحار في أقصى درجات الحرارة.
قوله: (فَاعْتِلُوهُ) أي: اسحبوه وجروه على الوجه وعلى البطن، وادفعوه دفعاً دفع غير مشفق وغير رحيم به نتيجة كفره.
وقوله تعالى: إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] أي: إلى وسط النار حتى يأخذ يعذب الجسد من جميع أركانه، فيعذّب طولاً وعرضاً.
قوله تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:48].
أي: ثم خذوا هذا الماء الحار الذي يهتك الأمعاء وصبوه فوق رأسه، فصبوا فوق رأسه من هذا العذاب ومن هذا الحميم الذي هو عذاب في حق نفسه وفي حق ذاته، فتأتي الملائكة من خزنة جهنم فيأخذون هذا الماء الحار الذي بلغ من الحرارة منتهاها ويصبونه على رأسه، فيذوب عظم رأسه ويذوب مخ رأسه، نعوذ برحمة الله من عذابه وبرضاه من غضبه.
وقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49].
أي: تقول له الملائكة: ذق هذا العذاب بأشكاله وأنواعه، فأنت الذي كنت تقول في دار الدنيا بأنك العزيز في قومك العزيز على خلق ربك، والكريم في نفسك وفي عقلك وفي فهمك، وأنك كريم بما أعطيت من أرزاق وأولاد؛ فبعد أن ذُقت هذا العذاب هل لا تزال عزيزاً كما كنت تدعي في دار الدنيا؟!
وهل لا تزال كريماً كما كنت تظن وأنت في دار الدنيا؟! هيهات هيهات أن يعّز مجرم مشرك، وإن ظن ذلك يوماً فهي أوهام لا حقيقة لها ولا واقع.
قال تعالى: إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50].
أي: هذا العذاب وهذا البعث بعد الموت هو ما كنتم تمترون وتشكون في حقيقته وأنتم في دار الدنيا، فهل ما كنتم تشكون فيه أصبحتم تعيشون في واقعه أم هي أحلام ومنامات؟!
وهكذا جاءتكم رسل الله فكذّبتموها، وجاءتكم كتب الله فأنكرتموها، ودعاكم المؤمنون إلى طاعة ربكم وطاعة نبيكم فعصيتموهم وخالفتموهم وخرجتم عن أمرهم، وكنتم تظنون أنكم أعزاء وكرماء! فهل ذلك الوهم الذي عشتم فيه لا يزال قائماً؟!
والجواب: أن حالهم يغني عن سؤالهم، فهم يرون أنهم كانوا مبطلين مكذبين كافرين.
سبق ذكر حال الكفار، والله جل جلاله يجمع في كتابه بين ذكر الكافرين وما يعاملون به، وذكر المؤمنين وما يعاملون به؛ لكي يعيش الإنسان بين الرجاء والخوف، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه، فعندما يُذكر العذاب وهوله ترتعد فرائصه ويتوب إلى الله ويعود عما هو عليه من المعاصي، وإذا ذكرت رحمة الله يجدد إيماناً إن لم يكن، ويزداد إن كان، فيرجو الثبات على حاله، وأن يبقى على خير وعلى صراط مستقيم، فهؤلاء المتقون في مقام أمين، يقال: مَقام ومُقام، فالمقَام: المنزل والدار، والمُقام: الرُتبة والمنزلة، والمعنى متقارب.
قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] أي: في منزل وفي دار وفي قصر آمنون فيه من العذاب ومن اللعنة ومن الخروج ومن الموت، منازلهم في الجنة، ولا يصل إليها شيطان، فمنازلهم بين أهليهم من الحور العين والولدان والخدم والحشم وزوجات الدنيا، فهم في أمان، كيف والله قد أمّنهم وكرّمهم والله الذي أنزلهم هذه المنزلة الكريمة.
فقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] أي: آمن من كل سوء.
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان:52] الجنات: جمع جنة، والعيون: جمع عين، فهم مقيمون في دور لها جنات ولها عيون متدفقة متفجرة وجارية بالسلسبيل العذب من الماء، مما يزيد القصور جمالاً ويزيده بهاء ويزيدها.
قال تعالى: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ [الدخان:53].
أي: يلبسون في الجنان من السندس والإستبرق.
والسندس: ألبسة الحرير الخفيفة الشفافة.
والإستبرق: الديباج الغليظ.
فهم يلبسون من الحرير خفيفه وثقيله شأن لبس أهل الجنة، وهم في الجنة متقابلون، كما قال تعالى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] ليست بينهم عداوة ولا أحقاد ولا إحن، ولا يجلسون كل منهم خلف الآخر كشأن المتخاصمين والمتنازعين والأعداء، ولكنهم إذا جلسوا على الأرائك يجلسون ووجه هذا لوجه هذا، وهم يتحدثون عن نعم الله عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا وفقهم للإيمان به وبرسوله وبكتابه وأماتهم على ذلك، وفي الآخرة حيث أنجز وعده لهم وأعطاهم المقام الأمين في جنات وعيون وإستبرق وديباج وأنواع من ألبسة الحرير لم ير مثلها.
الحور: جمع حوراء، والعين: جمع عيناء، والحوراء: شديدة بياض العين شديدة سوادها، واسعة العينين في جمال أخّاذ، لو أشرفت الواحدة منهن على الدنيا لملأتها عبقاً وطيباً.
قال تعالى عنهن: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] فلا يخرجن عن الخيام، مقصورات على أزواجهن تتغنى الواحدة منهن لزوجها كلما حضر، ويقلن: نحن الناعمات فلا نبأس.
ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يحاولن الخروج من قصورهن، والقصر الواحد ينظر فيه صاحبه ألفي سنة على مد البصر.
وسكان الجنة لهم قصور، وليس قصراً واحداً، ولكل واحد من سكان الجنة اثنتان وسبعون حورية، ومن نساء الدنيا زوجتان، إلا أن يكون قد تزوج أكثر، فمن مات منهن على عصمته فهي له.
ويروى أن أحد الصالحين كانت له زوجة سيئة الخُلُق، فصبر على إيذائها وهو يعلم أن الزوجة إذا ماتت تكون في عصمة من ماتت وهي عنده، فماتت، فعندما ذهب لدفنها والناس متحلقون حوله قال: اشهدوا أنها طالق، صبرت عليها في دار الدنيا وأما أن أصبر في الآخرة فلا والله؛ فهل ستطلق منه أو يصلحها الله كما أصلح نساء أيوب وعوضه خيراً منهن وزادهن صلاحاً؟!
وقد يراها يوم القيامة بغير تلك العين؛ لأن الجنة لا عداوة فيها، فسينسى عداوته وتنسى عداوتها، وعندما يراها يراها أجمل من الحور العين.
وقد تساءل علماؤنا: هل النساء من البشر أجمل أم الحور العين؟
فقال بعضهم: الحور العين أجمل.
وقال آخرون: نساء الأرض تحملن في الدنيا الخير والشر، فسيكون من الجزاء لهن أن يجعلهن الله أجمل من الحور العين.
أي: يدعون في الجنة بكل فاكهة من جميع الفواكه، فيطلبون من أشكالها وأنواعها وألوانها في الجنة مع الطعام والشراب وهم آمنون من أن تنقص، آمنون من أن يمنعوا منها، آمنون من الجوع، آمنون من العطش.
فهم آمنون في قصورهم، فالأمان يغمرهم من كل أطرافه.
قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].
أي: لا يذوقون في الجنة الموت؛ فقد ورد في الصحيح أن الموت يوم القيامة يمثل على صورة كبش، فيأمر الله بذبحه، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، فهؤلاء في الجنة لا يموتون، وكذلك لا يموت أهل النار، فهم يتمنون الموت وهيهات هيهات أن يموتوا، كما قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].
فأهل الجنة لا يذوقون في حياتهم إلا الموتة الأولى التي كانت في دار الدنيا، فهو استثناء منقطع، فلا يذوقون في الجنة الموت، إلا الموتة الأولى في دار الدنيا، فقد ذاقوها ولا موت بعدها أبداً.
وقول تعالى: وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].
أي: ووقاهم ربهم عذاب النار وعذاب الجحيم، وتلك نعمة من أعظم النعم وأكبرها، فالذي ينقذ من عذاب الجحيم ينقذ من عذاب لم ير مثله أحد، كيف وهو ينتقل إلى الجنة بنعيمها وأمانها وحور عينها وقصورها وما فيها من أنواع الملاذ؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر