الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: في دية الأعضاء ].
هذا فصل في دية الأعضاء ومنافعها، الأعضاء كاليد والعين، ومنافعها كالسمع والبصر.
قال: [ من أتلف ما في الإنسان منه واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية ].
وقد جاء في سنن النسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية، وفي العينين الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الصلب الدية).
وفي البيهقي من مراسيل سعيد بن المسيب : (وفي الصلب الدية).
وعلى ذلك فكل من أتلف ما في الإنسان منه واحد كالأنف واللسان والذكر فإن عليه الدية، فإن كان هذا الذي أخذ أنفه مسلماً ذكراً فالدية مائة من الإبل، وإن كان أنثى ففيه خمسون، وإن كان ذمياً ذكراً ففيه خمسون، وإن كانت ذمية أنثى ففيها خمسة وعشرون كما تقدم شرحه.
قال: [ ومن أتلف ما في الإنسان منه شيئان كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والحاجبين والثديين والخصيتين ففيه الدية، وفي أحدهما نصفها ]: كاليدين، اليد إلى الرسغ، والرجل إلى الكعب، وما زاد ففيه حكومة، ومعنى حكومة أنه يقدر عبداً سالماً من هذا النقص، ثم يقدر عبداً فيه هذا النقص، والفرق هو الحكومة.
إذاً: في اليد إلى الرسغ نصف دية، وفي اليدين الدية كاملة، وفي الرجل إلى الكعب نصف الدية، وفي الرجلين الدية كاملة، وتقدم ما يدل على ذلك، فإنه قال: (وفي العينين الدية)، وقال: (وفي الشفتين الدية)، فما في الآدمي منه شيئان ففيهما الدية كاملة وفي أحدهما نصفها.
قال: [ وفي الأجفان الأربعة الدية ]:
الأجفان جمع جفن، وهو غطاء العين، وكل عين فيها جفنان، جفن في أعلاها وجفن في أسفلها، فإذا أخذ هذه الأجفان الأربعة كلها ففيها الدية كاملة، وإذا أخذ جفناً كاملاً ففيه ربع الدية.
والمنخر في الإنسان منه منخران، والحاجز بينهما هو القسيم الثالث، فإذا أخذ منخراً واحداً فثلث الدية، وإذا أخذ الحاجز بينهما ففيه ثلث الدية.
قال: [ وفي أصابع اليدين الدية وكذلك الرجلان ]:
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء) .
وفي الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع).
وعلى ذلك ففي أصابع اليدين العشرة الدية كاملة، وفي أصابع الرجلين العشرة الدية كاملة.
قال: [ وفي أحدها عشرة، لا فرق بين إبهام وخنصر ]:
أي: في كل أصبعٍ عشرة من الإبل.
قال: [ وفي الأنملة إن كانت من إبهام نصف عشر الدية، وإن كانت من غيره فثلث عشرها ]:
يعني: أن في أنملة الإبهام نصف دية الإبهام؛ لأن الإبهام فيها مفصلان، وعلى ذلك ففي كل مفصل خمس من الإبل؛ لأن الإبهام كلها فيها عشر من الإبل، وبقية الأنامل فيها ثلث دية الأصبع، يعني: في كل أنملة ثلاثة أبعرة وثلث.
قال: [ وكذا أصابع الرجلين ].
قال: [ وفي السن خمس من الإبل ]:
كما جاء في النسائي من حديث عمرو بن حزم : (وفي السن خمس من الإبل) أي: في كل سن خمس من الإبل، الضرس والسن والثنية سواء كما تقدم.
قال: [ وفي إذهاب نفع عضوٍ من الأعضاء ديته كاملة ]:
يقول: إذا أذهب نفع عضوٍ ففي ذلك دية ذلك العضو كاملة؛ لأنه صيره في حكم المعدوم، فإذا ضرب عينيه فذهب البصر ففيه الدية كاملة، وإذا ضرب يديه فذهب البطش ففي ذلك الدية كاملة.
قال: [ فصل في دية المنافع ].
هذا الفصل في دية المنافع.
قال: [ تجب الدية كاملة في إذهاب كل من سمع وبصر وشم وذوق ]:
السمع قلنا إنه في الدماغ، وعلى ذلك فلو أنه قطع أذنيه ففي ذلك الدية، وإذا ضربه في رأسه فأذهب سمعه ففي ذلك الدية كاملة؛ لأن السمع كما تقدم في الدماغ.
والشم كذلك في الدماغ، فلو أنه قطع أنفه ففيه الدية كاملة، ولو أنه ضربه فأذهب شمه حتى أصبح لا يشم ففيه الدية كاملة، فإن أذهب جزءاً من شمه؛ فهذا يقدر عند الطبيب ويعطى من الدية بحسب ذلك.
وإذا ضربه فأذهب بصره فعليه الدية كاملة.
والذوق يكون لخمسة أشياء: للمالح، وللعذب، وللحلو، وللمر، وللحامض، فإذا ضربه فأصبح لا يحس بالحلو فقط، ففي ذلك من الدية الخمس، وهكذا.
قال: [ وكلام ]:
الكلام منفعة، فإذا ضربه فأذهب هذه المنفعة ففيه الدية كاملة.
والحروف ثمانية وعشرون حرفاً عند العرب، فإذا أذهب حرفاً واحداً قسمنا الدية على ثمانية وعشرين.
قال: [ وعقل ]:
إذا جن فذهب عقله ففيه الدية كاملة، وقد ثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن رجلاً ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى عمر بأربع ديات. دية للسمع، ودية للبصر، ودية للعقل، ودية للنكاح. هذه أربع ديات.
وعلى ذلك فقد يقتل ولا يأخذ أولياؤه إلا دية واحدة، وقد يأخذ ديات كثيرة بعدد المنافع، كما لو قطعت أيضاً يداه ورجلاه.
قال: [ وحدبٍ ]:
وذلك لأن القامة منفعة، فإذا ضربه في صلبه فأصبح حدباً فإن في ذلك الدية؛ لأن انتصاب القامة كمال وجمال.
قال: [ ومنفعة مشي ]: كذلك لو ضربه في صلبه فشل حتى أصبح لا يمشي ففيه دية كاملة.
قال: [ ونكاح كذلك ]:
وقد تقدم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية في ذلك، وذهاب النكاح هو إذا ضربه حتى أصبح لا يجامع.
قال: [ وأكلٍ ]:
إذا أصبح لا يشتهي الأكل، أو يأكل ولا يهضم الأكل، ففي ذلك دية كاملة.
قال: [ وصوت كذلك ]:
إذا أذهب منفعة الصوت ففيه دية كاملة.
قال: [ وبطش ]:
أصبح لا يبطش، لأنه أذهب منفعة يديه، ففي ذلك دية كاملة.
إذاً: هذه كلها منافع؛ لأن هذا العضو إنما تقصد منفعته، وهذا قد أذهب منفعته.
قال: [ ومن أفزع إنساناً ] أي: خوفه بالصوت [ أو ضربه فأحدث بغائطٍ أو بولٍ أو ريح ولم يدم فعليه ثلث الدية ]، قضى بذلك عثمان رضي الله عنه كما في مصنف عبد الرزاق ، قال الإمام أحمد : لا أعرف شيئاً يدفعه، أي أن هذا قول صاحب، وقول للصاحب حجة، ولا يعرف ما يدفعه.
فإذا ضرب إنساناً، فإن بعض الناس أثناء الضرب قد يحدث، أو يخرج منه غائط، أو يخرج منه بول، فالواجب في ذلك ثلث الدية.
قال: [ وإن دام ] يعني: لم يستمسك، فأصبح عنده سلس بول أو سلس غائط، أو حدث مستمر لم يستمسك قال: [ فعليه الدية ] أي: فعليه الدية كاملة؛ لأن هذه منفعة.
قال: [ وإن جنى عليه فأذهب سمعه ] هذه منفعة [ وبصره ] هذه منفعة ثانية، [ وعقله ] هذه منفعة ثالثة، [ وشمه ] هذه منفعة رابعة، [ وذوقه ] هذه خامسة، [ وكلامه ] هذه سادسة، [ ونكاحه ] هذه منفعة سابعة، [ فعليه سبع ديات، وأرش تلك الجناية ]، لأن الضرب قد يحدث فيه جرحاً، فيبقى أيضاً هناك زيادة وهي أرش هذه الجناية.
قال: [ وإن مات من الجناية فعليه دية واحدة ]:
أي: لو أنه جنى عليه فمات من هذه الجناية لكانت دية واحدة، أما وقد أذهب هذه المنافع فلكل منفعة دية.
قال: [ فصل في دية الشجة والجائفة ].
الشجة: اسم لجرح الرأس والوجه فقط، أي: الشجة: هي الجرح الذي يكون في الوجه وفي الرأس خاصة، فإذا قيل شج، فالمعنى أنه جرح في رأسه أو في وجهه.
قال: [ وهي خمسة ]:
يعني: الشجاج التي فيها الدية خمس، وأما ما دون ذلك فليس فيه دية، إنما فيه حكومة.
قال: [ أحدها: الموضحة التي توضح العظم وتبرزه ]:
وذلك بأن يجرحه في رأسه أو في وجهه فيتضح العظم.
قال: [ وفيها نصف عشر الدية خمسة أبعرة ]، وفي النسائي : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفي الموضحة خمس من الإبل) إذاً: الموضحة فيها خمس من الإبل.
قال: [ فإن كان بعضها في الرأس، وبعضها في الوجه فموضحتان ]، أي: جرحه بضربة واحدة فأصابه في وجهه وأصابه في رأسه، فحدث جرح في الوجه يوضح العظم، وجرح في الرأس يوضح العظم، قال: [ فموضحتان ]؛ وذلك لأنه قد أوضحه في عضوين، في الرأس وفي الوجه.
[ الثاني: الهاشمة: وهي التي توضح العظم وتهشمه، وفيها عشرة أبعرة ]، قضى بذلك زيد بن ثابت كما في مصنف عبد الرزاق ، فهذه تصل إلى العظم وتهشم العظم، أي: ترضه ويكون فيه شيء من الكسر، فهذه تسمى بالهاشمة.
[ الثالث: المنقلة: وهي التي توضح وتهشم وتنقل العظم، وفيها خمسة عشر بعيراً ]، وقد جاء هذا في النسائي في حديث عمرو بن حزم : (وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل) .
[ الرابع: المأمومة التي تصل إلى جلدة الدماغ، وفيها ثلث الدية ]، وفي النسائي : (وفي المأمومة ثلث الدية) والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ.
[ الخامس: الدامغة التي تخرق الجلدة، وفيها الثلث أيضاً ]؛ لأنها أولى من المأمومة، ولم يرد في الشرع أن فيها زيادة.
وعلى ذلك فالمأمومة والدامغة فيهما ثلث الدية، والدامغة تخترق، وصاحبها لا يسلم غالباً، لكن إذا سلم فإن في ذلك ثلث الدية، أما إذا مات فإن في ذلك الدية كاملة.
قال: [ وفي الجائفة ثلث الدية ]، هذا في النسائي أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الجائفة ثلث الدية).
[ وهي: كل ما يصل إلى الجوف ]، يعني: أن الجائفة هي ما ينتهي إلى الجوف، ليس المقصود بالجوف المعدة، بل إلى جوف في البدن، ولذا قال: [ كبطنٍ وظهرٍ وصدرٍ وحلق ].
فإذا ضربه في بطنه فهذه جائفة؛ لأنها لا تصل إلى عظم، وإذا ضربه في ظهره في مكان لا ينتهي إلى عظم، في أماكن في الظهر ففيه ثلث الدية.
قال: [ وصدر ]، كذلك هناك أماكن في الصدر لا تنتهي إلى عظم.
قال: [ وحلق ونحو ذلك ] فإذاً: إذا جرحه وغار هذا الجرح، وكان لا ينتهي إلى عظم فهي جائفة، وفيها ثلث الدية.
قال: [ وإن جرح جانباً فخرج من الآخر فجائفتان ]، إذا أدخل السكين مثلاً من موضع، وخرجت من موضع آخر، أدخلها من طرف بطنه وخرجت من موضع آخر ففيه جائفتان، يعني: فيه ثلثا دية؛ لأنه كما لو جرحه من الأمام، وجرحه من الخلف، فما دام أنه جرحه فدخلت من طرف وخرجت من طرف، فذلك كما لو جرحه من هنا وجرحه من هنا، فهذا فيه ثلثا الدية.
قال: [ ومن وطئ زوجة صغيرة لا يوطأ مثلها، كبنت سبع أو بنت ثمان ]. يعني: لا يوطأ مثلها في العادة.
[ فخرق ما بين مخرج بول ومني، أو ما بين السبيلين فعليه الدية إن لم يستمسك البول، وإلا فجائفة ].
إذا وطئ هذه البنت التي لا يوطأ مثلها، وهي زوجته فننظر إن كان قد خرق ما بين السبيلين، أو خرق ما بين مدخل الذكر وما بين مخرج البول، فنقول: في ذلك ثلث الدية، لكن إن أصيبت بداء، وهو أن بولها أصبح لا يستمسك، فنقول: في ذلك الدية كاملة.
إذاً: إذا خرقها هكذا فهذه جائفة، وإن زاد على ذلك بأن صار بولها لا يستمسك ففيها الدية كاملة؛ لأن مثلها لا يوطأ، فكيف يطؤها ومثلها لا يوطأ، ولذا قال بعد ذلك: [ وإن كانت الزوجة ممن يوطأ مثلها لمثله ]، يعني: إذا كانت تصلح للوطء، [ أو أجنبية ] وليست زوجة [ كبيرة مطاوعة، ولا شبهة ]، ليس هناك شبهة في النكاح، [ فوقع ذلك فهدر ].
أي: إذا وطئ زوجته التي يوطأ مثلها، فحصل ما تقدم من الخرق، أو صار بولها لا يستمسك بسبب هذا الوطء فنقول: هذا هدر؛ لأنها قد أذنت، ومثلها يوطأ.
وكذلك [ إن كانت أجنبية كبيرة مطاوعة ] لأنها أذنت.
قول: [ ولا شبهة ]، أي: لا توجد شبهة نكاح، لكن لو كان هناك شبهة نكاح، فإنها تقول: إنما أذنت على أنه زوج، فبان غير زوجٍ، كما لو ظن أنها زوجته وظنت هي أنه زوجها فأذنت له بالوطء فحصل ما تقدم؛ فنقول: لها المهر، ولها كذلك ما تقدم، إما دية جائفة إن كان بولها يستمسك، وإما دية كاملة إن كان بولها لا يستمسك؛ لأن أذنها كان بقيد، وهو أنه زوجها، فبان أنه ليس زوجها.
لكنها لو كانت زانية قد أذنت بذلك فإنه لا شيء لها؛ لأنها كبيرة وقد أذنت.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر