إسلام ويب

قصة مؤمن آل ياسينللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قصة مؤمن آل ياسين تمثل نبراساً للدعاة في كيفية الصبر على الدعوة، وتحمل المشاق من أجل نجاحها وإيصالها إلى الناس، حتى وإن كان الثمن التضحية بالنفس، فمؤمن آل ياسين ضحى بنفسه من أجل الدعوة، ولم يكتف بدعوة قومه حياً، بل تمنى هدايتهم بعد قتلهم إياه.

    1.   

    بين يدي القصة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    ثم أما بعد:

    فما زلنا في هذه الرحلة المباركة مع القصص القرآني، ونحن مع قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، كما في سورة يس، قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:13-30].

    بين يدي القصة:

    هذه القصة مثل من أمثلة الدعوة إلى الله عز وجل، وقد استفرغ الدعاة إلى الله عز وجل جهدهم في البلاغ والنصيحة والتضحية من أجل هداية قومهم، وكان القوم غاية في الغباوة والكفر والتكذيب، فلم ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وإن كانت عاقبة المؤمنين والمكذبين قد تتشابه في النظر القاصر على الدنيا الجاحد للآخرة، إلا أن الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً، ويستوي في علمه السر والعلانية والغيب والشهادة؛ بين لنا كيف أن المؤمن ما هي إلا لحظة القتل، والشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة.

    يعني: كما أن الكافر أو المجرم أو الذي يصد عن سبيل الله قد يقتل أو يموت، فكذلك المؤمن قد يموت في الدعوة أو في الجهاد، ولكن يبقى حساب آخر، وهو حساب الآخرة، وحتى القتل بالنسبة للمؤمن كما صح في الحديث: (أن الشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة)، الناس يظنون أن الذي يموت على فراشه وبين زوجته وأولاده يموت مستريحاً، كأنه لا يجد من سكرات الموت إلا الشيء اليسير، والذي يقطع في ساحة الوغى ويقتل في سبيل الله عز وجل هذا تكون سكرات الموت بالنسبة له شديدة؛ أن يقطع بالسيف مثلاً أو يتفجر فيصير قطعاً صغيرة، ولكن في الواقع أن الذي يموت على السرير هو الذي يجد الآلام الشديدة، كما كان علي بن أبي طالب يحرض على القتال، ويقول: قاتلوا، فإنكم إن لم تقتلوا متم على الفرش، فوالذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش.

    فليس هناك سبيل للنجاة من سكرات الموت، إلا أن يرزق الإنسان منا الشهادة، نسأل الله تعالى الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين.

    ثم درجة الشهادة عند الله عز وجل ومنزلة الشهداء عند الله عز وجل كما صح في الحديث: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه).

    فقصة مؤمن آل ياسين أو قصة أصحاب القرية تحكي لنا قصة الدعوة إلى الله عز وجل، والداعية إلى الله عز وجل ليس عليه هداية المدعوين؛ لأن الله عز وجل يقول لنبيه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، مع أنه سيد المرسلين وخاتمهم.

    إذاً: فليس على الداعية هداية الناس، ولكن عليه البلاغ المبين والإخلاص في الدعوة، وأن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة.

    أما هداية الناس فالله عز وجل يتولاها، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا عمه أبا طالب لم يستجب بل مات على ملة عبد المطلب ، وعند ذلك نزل قوله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه الذي كان يحوطه ويدافع عنه، وكان يقول:

    ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

    لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

    يعني: لولا قرناء السوء ولولا حرصه على تقليد الآباء والأجداد لآمن، فقرناء السوء كانوا يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ حتى مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب ، مع أنه كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الحق، وأن دين الإسلام هو الحق، ولكن الهداية هداية القلوب، والله تعالى هو الذي يملك قلوب الناس.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس غاية الحرص، كما قال عز وجل: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، أي: لعلك تقتل نفسك غماً وحرصاً على هداية الناس، وكذلك مؤمن آل ياسين قال كذلك، وقد انتقل من دار الجهد والبلاء إلى دار النعيم والجزاء، قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

    فانظروا إلى سلامة قلب المؤمن، وإلى حرص الداعية على هداية قومه مع أنهم قتلوه، ومع ذلك لما عاين كرامة الله ولما عاين رحمة الله عز وجل قال: يا ليتهم نظروا إلى هذه الكرامة وإلى هذا النعيم الذي انتقلت إليه، فيكون ذلك سبباً في هدايتهم: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، فتمنى لو أن قومه الذين قتلوه نصراً للباطل وغيرة على الكفر اطلعوا على ما آل أمره من النعيم المقيم والسعادة في جوار رب العالمين، لعل ذلك يجعلهم يراجعون أنفسهم ويئوبون إلى رشدهم ويتوبون إلى ربهم، وكما أن أحسن العواقب للمؤمن الذي قام بواجب الدعوة والبيان فبالعكس كانت عاقبة الكفر والكافرين أوخم العواقب وأبشعها، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:28-29]، نلاحظ أن الخاتمة هنا عكس الخاتمة في قصة مؤمن آل فرعون، يعني: مؤمن آل فرعون مكروا به، ولكن الله عز وجل حماه من مكرهم ومن كيدهم، ولكن هنا قتلوه، والمؤمن على كل حال رابح، سواء نجاه الله عز وجل من المكذبين في الدنيا، وسواء قتله الكافرون، فإن أجره على الله عز وجل وهو رابح على كل حال.

    قال الله تعالى ذلك تحقيراً لشأنهم، وكيف أن الأمر لم يستأهل نزول الملائكة من السماء، وإنما كانت صيحة واحدة أرضية أو سماوية أو من جبريل عليه السلام فإذا هم خامدون، فأين التهديد وأين الوعيد وأين صولة الباطل وانتعاش المبطلين؟ ما هي إلا صيحة واحدة خسروا بها الدنيا والآخرة، وانتقلوا من عقوبة الدنيا وعذابها إلى عقوبة الآخرة وجحيمها، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].

    1.   

    ذكر إرسال الرسل إلى أصحاب القرية وموقفهم منهم

    نشرع في شرح الآيات الكريمات من سورة يس، يقول تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، قال الشوكاني : واضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي: مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى الأول لما قال تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس:3]، وقال: لِتُنذِرَ قَوْمًا [القصص:46] قال: قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً. أي: مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء، وأنت جئت إليهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة، والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية، أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب.

    قال القرطبي : هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، وسوف يأتي ما في هذا القول إن شاء الله تعالى.

    قوله: إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ، قيل: هم رسل من الله على الابتداء، وقد كان في الأمم السابقة يوجد فيهم أكثر من رسول في وقت واحد ولأكثر من مكان، فلا يستبعد أن يكون هؤلاء الرسل من الله.

    والقول الثاني: أن عيسى عليه السلام هو الذي أرسلهم، فهم دعاة إلى لله عز وجل أرسلهم عيسى إلى هذه القرية.

    قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، قال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا أي: بادروهما بالتكذيب، فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ أي: قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، فَقَالُوا ، أي: لأهل تلك القرية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي: من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له قاله أبو العالية .

    وزعم قتادة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية.

    قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [يس:15] أي: فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لم يوح إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله عز وجل في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن:6] أي: استعجبوا من ذلك وأنكروه، فهم يظنون أن الله عز وجل إذا أراد أن يرسل إليهم، يرسل إليهم ملائكة لا يرسل إليهم البشر.

    وقوله تعالى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم:10]، وقوله تعالى حكاية عنهم: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، وقال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء:94]، فالناس تتعجب لماذا يرسل بشراً؟ لماذا لا يرسل ملائكة؟

    قوله تعالى: قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:16-17].

    قال الزمخشري : وقول: رَبُّنَا يَعْلَمُ جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قوله: (شهد الله)، و(علم الله)، وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق، مع قولهم: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: الظاهر المكشوف للآيات الشاهدة على صحته، وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي ولم يحضر البينة كان قبيحاً.

    قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس:18]، (تطيرنا) يعني: تشاءمنا، يقول: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:131]، يعني: كلما تأتيهم مصيبة يقولون: هذا بشؤمه، يعني: موسى ومن معه من أهل الإيمان.

    فهذه عادة الجهال دائماً يتيمنون ويتفاءلون بمن هو على طريقتهم، ويتشاءمون بمن على خلاف طريقتهم، وحكى عن مشركي مكة: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78].

    قال تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19] أي: سبب شؤمكم معكم، وهو كفركم، أو أسباب شؤمكم معكم، وهي كفركم ومعاصيكم.

    فالمرسلون قالوا: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ يعني: سبب الشؤم وسبب البلاء معكم وهو كفركم وتكذيبكم، وهذا رد هؤلاء الرسل أو الدعاة على هؤلاء الكافرين المكذبين لما: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس:18] يعني: يرمونهم بالحجارة، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ [يس:18-19]، يعني: الذي يذكركم بالله تتشاءمون منه، أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ يعني: لأننا نذكركم بالله تتشاءمون منا: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19]، فقوله: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ يعني: أتتطيرون إن ذكرتم.

    بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19] أي: في العصيان، ومن ثم أتاكم الشؤم، يعني: من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم؛ حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.

    1.   

    موقف مؤمن آل ياسين من الرسل ومن قومه

    قوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21]، فدائماً القرآن يصف الإنسان بأنه رجل في مواقف يستحق فيها اسم الرجولة، وليس المقصود برجل يعني: ذكر، ولكن المقصود أنه رجل كامل الرجولة، له مواقف تدل على كمال رجولته كما هنا، وكما في قصة موسى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص:20].

    وكذلك قوله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، وقوله عز وجل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:36-37].

    كلام الرازي عن قصة مؤمن آل ياسين وقومه مع الرسل

    قال الرازي ما ملخصه: ثم قال: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان:

    أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي. يعني: هذا يدل على أن المرسلين قاموا بدعوة أصحاب القرية، فكذبهم أصحاب القرية إلا أن أناساً منهم آمنوا منهم، ومنهم هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، يقول: وفيه بلاغة باهرة، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل قد آمن فهذا يدل على أن إنذارهم ودعوتهم قد انتشرت إلى أقصى المدينة، حتى بلغ من هو في أقصى المدينة دعوتهم وآمن بها.

    وثانيها: أن ضرب المثل لسعي المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا، وحصول الجزاء الأوفى لهم، ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم، فكون هذا الرجل آمن بالرسل فهذا تسلية للصحابة الذين آمنوا بدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    وفي التفسير مسائل:

    المسألة الأولى: قوله: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ [يس:20] في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان:

    الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه، أي: أنه رجل كامل الرجولة، يعني: كان من الممكن أن يذكر الله عز وجل اسمه، ولكن كنى عنه وقال: رجل، فنكر الرجل للتعظيم.

    الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطئوا.

    وقوله: يَسْعَى [يس:20] يعني: فيه تبصرة للمؤمنين وهداية لهم؛ ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، فهذا الرجل كان يبذل الجهد ويسعى ويتحرك، وجاء من أجل أن يأمر الناس باتباع المرسلين، مع أن الناس كانوا في غاية الغباء والعصبية، فقد كانوا يهددون الرسل ويقولون: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، فرغم هذا التهديد، فإن هذا الرجل المؤمن جهر بالحق ودعاهم إلى الإيمان بدعوة الرسل.

    وقوله: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20] فيه معان لطيفة:

    الأول: قوله: يَا قَوْمِ [يس:20] فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم، كما قال إبراهيم: يَا أَبَتِ [مريم:44] فهذا يدلنا على الشفقة، فهو ينصح قومه، وفي الغالب أن الإنسان يكون ناصحاً مخلصاً لقومه، فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله: يَا قَوْمِ [يس:20] يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيراً، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ [غافر:38]، فإن قيل: قال هذا الرجل: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، وقال ذلك: اتَّبِعُونِ فما الفرق؟

    نقول: هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل، وأوضحوا لكم السبيل؛ لأنهم قد عرفوا الرسل، أما مؤمن آل فرعون فكان معروفاً قبل ذلك لديهم، فقال: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38]، فقد كان فيهم واتبع موسى ونصحهم مراراً، فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي، وأنتم تعلمون أني اخترته، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى أن يقول: أنتم تعلمون اتباعي لهم؛ لأنه أتى من أقصى المدينة ما يعرفونه، فقال: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ .

    الثاني: جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه، فقوله: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، أي: أنه آمن بأنهم مرسلون.

    الثالث: قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعياً في النصح، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل، وقوله: رَجُلٌ يَسْعَى يدل على كونه مريداً للنصح.

    ثم قال تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21]، فالداعية إذا كان لا يسأل أجراً ولا يأخذ على دعوته أجراً فهو أقرب إلى الإخلاص، وهذه سنة الرسل؛ لا يسألون الناس على الهداية أو على دعوتهم إلى الله عز وجل أجراً.

    يقول: وهذا في غاية الحسن؛ وذلك من حيث إنه لما قال: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة، وقال: لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين:

    إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، يعني: لو أن أناساً تاهوا في طريق أو في صحراء، وشخص أراد أن يدلهم على الطريق يمكن أن يأخذ أجراً فيه مغالاة، فيرفضون هدايته؛ لأنه طلب أجراً فيه مغالاة.

    وإما أن يكون على غير معرفة بالطريق الموصلة، فيحصل عدم الاعتماد على اهتدائه لعدم معرفته بالطريق لكن هؤلاء المرسلون لا يطلبون أجرة وهم مهتدون، يعني: هم عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، فلا داعي للإعراض عن هدايتهم، وهم لا يسألون أجراً.

    كلام القاسمي عن قصة مؤمن آل ياسين مع قومه

    قال هذا الرجل المؤمن: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:22-23].

    قال القاسمي : قوله: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي: خلقني، وهذا تلطف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح، يعني: إخلاص النصيحة، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه، والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيرهم، فيقول: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي كأنه يقول لهم: أنتم لماذا تعرضون عن عبادة الله وهو الذي خلقكم، ولكن أضاف ذلك إلى نفسه على سبيل التلطف بهم، فقال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: بعد الموت، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فأضرع إليها وأعبدها وهي في المهانة والحقارة بحيث: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ أي: من ذلك الدون بالنصر والمظاهرة، وفيه تحميس لهم؛ لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق فكيف يعبد؟!

    ثم قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:25-26]، يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه .. أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء، إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم، يعني: أنتم تصرفون العبادة إلى هذه الآلهة الباطلة، والله تعالى إن أراد أن ينزل بكم بأساً أو ضراً وعذاباً لا تستطيع أن تشفع لكم عند الله عز وجل.

    ثم يقول: ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم لفي هذا الاستحباب في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز، وقيل: إنه نصح قومه وأخذوا يرجمونه.

    والقرآن يكون فيه حذف واختصار أشياء تفهم من السياق، وليس فيه كثير كلام أو حواش أو أشياء يمكن أن يحتاج إليها، بل أشياء مجملة يمكن أن تفهم من خلال السياق؛ لأنه قال هنا: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس:25-26]، فلم يقل: فقتلوه أو فرجموه، ولكن يظهر من دخوله الجنة أنه قتل، وأن هؤلاء الكفار قد حققوا معه ما تهددوا به الرسل: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، فهو في لحظات بعد البذل والجهد في الدعوة وما لاقى من التهديد والإرهاب والتخويف بالسجن والقتل والتعذيب انتقل إلى كرامة الله عز وجل.

    كما في القصة السابقة قصة قارون بعد الزينة: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، في لحظات: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]، وانتهت الزينة وانتهى الزخرف وانتهت الأموال والمناصب والجاه، وصار تحت الأرض هو وأمواله وزينته.

    فهكذا الأمور تنتقل انتقالة سريعة من الدنيا إلى الآخرة.

    فالداعية إلى الله عز وجل أو المجاهد في سبيل الله في لحظة ينتقل من الجهد والمشقة والبذل إلى الكرامة والنعيم وإلى رحمة الله، والكافر والمجرم والفاسق والمعرض فما هي إلا لحظات وينتقل من زينة الدنيا وزخرفها إلى بأس الله وعذابه.

    حرص مؤمن آل ياسين على هداية قومه حتى بعد موته

    إن مؤمن آل ياسين أسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25]، أي: اسمعوا إيماني فاشهدوا لي به، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

    قال ابن كثير : قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً، لا تلقاه غاشاً؛ لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى، قال: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، فكان حرصه وهمه أيضاً في الدعوة، حتى لما قتل تمنى أنهم يرون أي كرامة حتى يؤمنوا، تمنى أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله.

    قال ابن عباس : نصح قومه في حياته، بقوله: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20] وبعد مماته، بقوله: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] رواه ابن أبي حاتم .

    وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز : بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بالإيمان بربي وتصديق المرسلين.

    والمقصود أنهم لو اطلعوا على ما حصل له من الثواب والجزاء والنعيم المقيم لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فقد كان حريصاً على هداية قومه.

    ذكر ما حصل لقوم مؤمن آل ياسين من العذاب

    قوله تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:28-29].

    فالله عز وجل الذي يرى الدنيا والآخرة ويرى الظاهر والباطن، فحكى لنا كيف انتقل مؤمن آل ياسين إلى الكرامة وعاينها، وكيف سجل لنا كلمته عندما عاين كرامة الله، وقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، فسجل لنا كذلك في هذه القصة ما حدث في الدنيا لهؤلاء المكذبين الذين رجموا هذا المؤمن أو قتلوه، وكيف أن الله عز وجل أرسل عليهم صيحة أخمدتهم، فهذا في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة.

    قال الزمخشري ما ملخصه: المعنى أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من السماء كما فعل يوم بدر والخندق.

    يعني: يقدر الله عز وجل أن يرسل جبريل فيصيح في الكفار يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق فيهلكهم، ولكن أراد أن يكون النصر في المعركة التي حصل فيها الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، وأن تكون الملائكة على سبيل المدد الذي يأتي الجيوش، حتى ينسب النصر إليهم والبذل لهم، ولكن هؤلاء أرسل الله عز وجل عليهم جبريل فصاح فيهم صيحة.

    فهذا يدل على ضعف الباطل وهوان الباطل، والآن كثير من الناس يهولون الأمريكان والروس والشيوعيين والمنافقين واليهود والنصارى، ويقولون: كيف ينتصر عليهم المسلمون، والمسلمون في القلة والذلة والضعف؟ نقول: هذا من الجهل بالله عز وجل، فالله تعالى قادر على إهلاكهم في لحظة واحدة وبصيحة واحدة من جبريل وهو ملك من ملائكة الله عز وجل، ولكن كيف يكون البذل، وكيف تكون التضحية، وكيف يكون الجهاد، وكيف يتخذ الله عز وجل شهداء، فالله تعالى قادر على الانتصار منهم قال تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، والله عز وجل قادر على هداية كل الناس؛ اليهود والنصارى والشيوعيين والعلمانيين؛ لأنه يملك قلوبهم كما يملك نواصيهم، كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، ولكن كيف تكون الدعوة، وكيف يكون البذل، وكيف تكون الخطب والمحاضرات والدروس والأشرطة والكتب.

    فالله عز وجل يريد من الدعاة أن يبذلوا، فيفتح الله عز وجل لهم القلوب، فينالون الأجر من عند الله عز وجل.

    إذاً: فالله تعالى قادر على الكافرين والمكذبين، كما قال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ [يس:28]، يعني: لم يكن الأمر يستدعي أن تنزل جيوش مجيشة من السماء إلى هؤلاء الكفرة، ولكن صيحة واحدة تكفي في إخمادهم، قال تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29].

    يقولون: إن مؤمن آل ياسين اسمه أنه حبيب النجار ، ولكن نهجنا الذي انتهجناه في هذه القصص أننا لا نذكر أسماء أو زيادات لم ترد في الكتاب أو السنة الصحيحة، فلم يرد في القرآن ولا في السنة الصحيحة أن اسم مؤمن آل ياسين حبيب النجار ، والغالب أن هذا مأخوذ من الإسرائيليات، ولو كان في ذكر اسمه فائدة لذكر الله عز وجل اسمه، ولكن هذا لا يفيدنا بشيء ولا ينتفع بمعرفة اسمه بشيء، فهو مؤمن ثبت ودعا الله عز جل ونال الشهادة بسبب هذه الدعوة، كما أن مؤمن آل فرعون كذلك قام مقاماً حسناً، ودعا إلى الله عز وجل ونصر موسى نصراً مؤزراً، ووقف في وجه فرعون، ودعا إلى الله عز وجل، ولم نعرف اسم هذا المؤمن، ويكفي أن الله عز وجل يعلمه، والله تعالى ذكر قصته ومقالته في كتابه، يكفيه ذلك شرفاً وفخراً، مع ما له في الدار الآخرة من الجزاء الحسن.

    فقوله تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28] معناه: ما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء؛ وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]، يعني: الله عز وجل أهلك المكذبين بوسائل مختلفة من أنواع العذاب، منهم من أرسل عليه حاصباً من السماء، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أمر الأرض أن تبتلعه، ومنهم من أغرقه في اليم.

    وإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، وقال: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، وقال: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، وقال: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125]؟

    قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وقوم ثمود قوم صالح بصيحة منهم، ولكن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على كبار الأنبياء أولي العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعظام ما لم يوله أحداً، فمن ذلك أنه أنزل له جنداً من السماء، فقوله: وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28] يعني: أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثله، وما كنا نفعله لغيرك، يعني: هذا من أوجه تشريف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على من قبله، فقد أنزل له ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف يوم بدر ويوم الخندق، بل أنزل جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في صحيح مسلم .

    وقوله: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29] إن كانت الأخزى أو العقوبة: إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29] أي: خمدوا كما تخمد النار فتعود رماداً، كما قال لبيد :

    وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو صادع

    كلام الرازي في معنى قوله تعالى (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول..)

    قوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، قال الرازي : ثم قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ أي: هذا وقت الحسرة، فاحضري يا حسرة، والتنكير للتكثير، يا حسرة كثيرة، يعني: على العباد.

    فيه مسائل:

    المسألة الأولى: الألف واللام في (العباد) يحتمل وجهين: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ .

    أحدهما: للمعهود الذين أخذتهم الصيحة، فيا حسرة على أولئك، فالألف واللام للمعهود، يعني: العباد الذين أخبر الله عز وجل عنهم بأنهم كذبوا الرسل وأهلكهم الله عز وجل.

    وثانيها: لتعريف الجنس، جنس الكفار المكذبين، فقال: المكذبين للتعريف، كأنه قال: العباد المكذبين.

    المسألة الثالثة: من المتحسر؟ نقول فيه وجوه:

    الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة؛ إذ المقصود بيان أن ذلك وقف طلب الحسرة، حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب.

    الثاني: أن قائل: يا حسرة هو الله على الاستعارة؛ تعظيماً للأمر وتهويلاً له.

    الثالث: المتلهفون من المسلمين والملائكة، يعني: من المؤمنين والملائكة يقولون: يا حسرة على العباد.. إلى أن قال رحمه الله: ثم بين تعالى سبب الحسرة بقولهم: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:11]، وهذا سبب الندامة؛ وذلك لأن من جاءه ملك من بادية، وأعرفه نفسه، وطلب منه أمراً هيناً فكذبه ولم يجبه إلى ما دعاه، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك، يكون عند ذلك من الندامة ما لا مزيد عليه.

    يعني: لأنه لم يفعل هذا الأمر الهين الذي لو فعله لاستحق الجائزة، وكذلك هو متعرض للعقوبة؛ لأنه لم يفعل ما أمره به الملك فكيف تكون الحسرة في هذا الشرع.

    ثم يقول: فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم، بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابه، كما قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فهؤلاء جاءوا وعرفوا بأنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم، وكان ما يدعون إليه أمراً هيناً نفعه عائد إليهم من عبادة الله، وما كانوا يسألون عليه أجراً، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم لم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزءوا واستخفوا واستهانوا..

    ذكر الفوائد والآثار الإيمانية من قصة مؤمن آل ياسين

    بعض الفوائد والآثار الإيمانية في القصة: يقول ابن كثير : قد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه:

    أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14].

    وهذا القول يجب والمصير إليه حتى يدل الدليل على أن الظاهر غير مراد، فالظاهر أن الله عز وجل هو الذي أرسلهم: إِذْ أَرْسَلْنَا [يس:14]، فَعَزَّزْنَا [يس:14]، فلم يكن المسيح هو الذي أرسلهم، لأن ظاهر القرآن خلاف ذلك.

    إلى أن قالوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:16-17]، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله تعالى أعلم.

    ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [يس:15]؛ لأن هذا الإطلاق يكون على الرسل الذين من عند الله، فلو أن المسيح أرسلهم لكان من الطبيعي أن يرسل بشراً، يعني: لا يستطيع المسيح أن يرسل ملائكة، فكلهم يعتقد على أنهم بشر فهذا يدل على أنهم كانوا رسلاً من الله عز وجل، ولكنهم كذبوا كما كذب كثير من الناس بالرسل؛ لأنهم بشر وليسوا بملائكة.

    الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية، وذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.

    الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزال التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43].

    فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية كما أطلق ذلك غير واحد من السلف.

    أيضاً: أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت؛ لأنه تكون مدن كثيرة بنفس الاسم كما أن اسم الإسكندرية يطلق على أكثر من مدينة، وأيضاً حلوان، يعني: هناك أكثر من مدينة بهذا الاسم.

    فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    يقول القرطبي في قوله تعالى: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، يقول في معنى تمنيه قولان:

    أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته.

    والثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.

    قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً، وفي هذه آية تنبيه عظيم ودلالة على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام.

    يعني: كان هؤلاء كفرة وعبدة أصنام وقتلوه ومع ذلك تمنى لهم الخير، فهذا غاية الإحسان، فالإنسان يحسن إلى من أساء إليه.

    قال الرازي في قوله تعالى: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]: ولما قال: وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21]، بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القيوم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع.

    وفيه لطائف أخرى:

    قوله: وَمَا لِيَ أي: وما لي مانع من جانبي، إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع، ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال فيه حكمة أخرى.

    لطيفة ثانية: وهي أنه لو قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: وَمَا لِيَ ؛ لأنه لما قال: وما لي لا أعبد ، وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد؛ لأنه أعلم بحال نفسه، فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال: ما لكم؟ جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة؛ لكون غيره أعلم بحال نفسه.

    فإن قيل: قال الله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، نقول: القائل هنا غير مدعو، وإنما هو داع، وهاهنا الرجل مدعو إلى الإيمان، فقال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ ، وقد طلب منه ذلك.

    الثالثة: وقوله: الَّذِي فَطَرَنِي إشارة إلى وجود المقتضي؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلقه، فإن قوله: وَمَا لِيَ إشارة إلى عدم المانع، وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي، فقوله: الَّذِي فَطَرَنِي ينبئ عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك، والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه.

    الرابعة: قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي، مع أن المستحسن تقديم المقتضي حيث وجد المقتضي ولا مانع فيوجد؛ لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً، فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه.

    الخامسة: اختار من الآيات فطرة نفسه؛ لأنه لما قال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ بإسناد العبادة إلى نفسه، اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو خالق عمرو يجب على زيد عبادته.

    وقوله: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي لم يقل: الذي فطركم، مع أن الذي فطره هو الذي فطرهم. وقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، إشارة إلى الخوف والرجاء، كما قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56]؛ وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى.

    وفيه أيضاً معنى لطيف: وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مراراً:

    فالأول: عابد يعبد الله لكونه إلهاً مالكاً، سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء.

    الثاني: عابد يعبد الله بالنعمة الواصلة إليه.

    والثالث: عابد يعبد الله خوفاً، والواجب على المسلم أن يعبد الله حباً ورجاء وخوفاً، كما قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري -يعني: من الخوارج- ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ -يعني: من المرجئة- ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.

    وصف سيد قطب لخاتمة قصة مؤمن آل ياسين

    قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في وصف خاتمة القصة: يوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه، وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة، وإنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها، وعلى القوم وما هم فيه، ويرفع قدر هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق متبعاً صوت الفطرة، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل، نراه في العالم الآخر يطلع على ما ادخر الله له من كرامة تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

    ثم يقول: وتتصل الحياة الدنيا بحياة الآخرة، ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين، ونرى الرجل المؤمن وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، يذكر قومه طيب القلب رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه فيرون ما آتاه ربه من الكرامة؛ ليعرفوا الحق معرفة اليقين. هذا كان جزاء الإيمان.

    فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليهم ملائكة لتدمرهم، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:28-29].

    ولا نطيل هنا في وصف مصرع القوم تهويناً لشأنهم وتحقيراً لقدرهم، فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم.

    وهكذا أيضاً كان سيد قطب رحمه الله، فبعد السجن وبعد الضرب والتعذيب انتقل إلى ربه، ونسأل الله تعالى أن يكون شهيداً.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766196965