وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية.
تحدثنا عن جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة، وتكلمنا عن اعتراض معظم أهل مكة على دعوة الإسلام، وذكرنا الموانع الكثيرة التي كانت عند أهل مكة فصدتهم عن الدخول في دين الله عز وجل.
ثم ذكرنا الوسائل التي اتبعها أهل الباطل في حرب الدعوة الجديدة، فقد استخدموا وسائل سلمية كثيرة، مثل: محاولة تحييد أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الحرب الإعلامية الموجهة التي تمثلت في تشويه صورة الداعية، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي تشويه الدعوة والإسلام وقواعده وتعاليمه، وفي شغل الناس بالملهيات والأغاني والمعاصي.. وغيرها، والتي قام بها النضر بن الحارث لعنه الله، لكن لم تفلح هذه الوسائل في إبعاد الناس عن سماع كلام الله عز وجل، ولم تمنع الناس من الدخول في دين الله، فماذا فعلت قريش؟ أو ماذا يفعل أهل الباطل لمقاومة الإسلام؟
نحن نعرف أن معظم المؤمنين من الشباب، لذا اجتمع أهل الكفر وأعلنوا في مكة أنه على كل أب وأم وشيخ قبيلة أن يتصرف مع أبنائه، فنحن نعمل ذلك من أجل مصلحة الابن الذي خرج عن دين الآباء، وكذلك من أجل مصلحة الأب حتى يظل محافظاً على مكانه في مكة، مع العلم أن لهجة أهل السلطان في مكة كانت تحمل تهديداً خفياً أو صريحاً، مثل ما حصل مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يحمل مهمة إبعاده عن دين الله عز وجل أمه، فقد حاولت بكل طرق الترغيب والترهيب أن تمنع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن الإيمان، لكنها فشلت ولم تستطع رده عن الإسلام،حتى إنها لجأت إلى الإضراب عن الطعام والشراب، قالت: لن آكل ولن أشرب حتى ترجع عن الإسلام، ضغط نفسي رهيب على شاب عمره (20) سنة، لكن الله ثبت سعداً رضي الله عنه، ووقف أمامها وقد أشرفت على الهلاك يقول لها في يقين : تعلمين والله يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي!
إصرار شديد، استحالة أن يغير هذا الدين مهما كانت الأثمان، ومهما كانت العواقب، فأكلت الأم وبقي سعد رضي الله عنه وأرضاه مسلماً، لكن الأمر كان شديداً ولا شك على نفس الشاب الصغير.
كذلك الضغط النفسي أيضاً مارسته أم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، كان مصعب أنعم فتيان قريش، كانت أمه غنية، وكانت توفر له كل أسباب الرفاهية، كانت تحضر له العطر من الشام والملابس من اليمن، فلما آمن منعت عنه ذلك، بل طردته من البيت ومنعت عنه كل الأموال، لكنه وإن كان قد تعود على حياة الترف والرفاهية لم يتغير، تقشر جلده مثل جلد الحية؛ لأنه كان معتاداً على حياة الترف والرفاهية، كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إذا رأه بكوا لحاله وهو غير مبال، ثبت على الإسلام الذي غير تماماً من شخصية مصعب رضي الله عنه.
كذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كان عمه يلف حوله الحصير، وبعد ذلك يشعله تحته حتى يكاد يختنق، لكنه أيضاً لم يرجع عن الدين.
وكان أبو جهل لعنه الله قيادياً كبيراً في مكة، وكان له تأثير على بيوت كثيرة فيها، كان يمر بنفسه على أهل مكة يهدد ويخوف، ولما يعلم بإسلام أحد يذهب لأهله، ويتوعد أهله بالخسارة الفادحة في المال والجاه والمكانة، كان يطرد من الأعمال من شك في إسلامه، كان يضغط على كبراء مكة ليضيقوا اقتصادياً على المسلمين، ومن لم تقنعه الكلمات قد يقتنع بالجوع.
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هذه الضغوط النفسية، فـأبو لهب لعنه الله كان قد زوج ولديه عتبة وعتيبة من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة رقية والسيدة أم كلثوم فلما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الدعوة، أمر ولديه أن يطلقا بنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالفعل طلقا البنتين، وهذا هم ثقيل، ولا شك أن فكر الرسول صلى الله عليه وسلم سوف ينشغل بهذه القضية ولو بدرجة ما.
ثم صورته في مكة يصبح شكلها مختلفاً، فعمه لا يريد أن يزوج ولديه ببنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وصل الأمر إلى أن زوجة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب -وكانت امرأة شديدة السوء- كانت تحمل الشوك وتضعه أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! تعدى الأمر من إيذاء الرجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إيذاء النساء، هذا شيء في منتهى المشقة على نفسية أي رجل، بل خرجت هذه المرأة ذات مرة لتضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسكت بيدها فهراً من الحجارة، -يعني: ملء الكف من الحجارة- وجاءت لترجم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس بجانب الصديق رضي الله عنه في البيت الحرام فلما جاءت إليهما أخذ الله عز وجل ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني؟ وذلك في الآية الكريمة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5]، فـأم جميل بنت حرب قالت: والله لو وجدته لرجمته بهذا الفهر!
وهذا الإيذاء لم يكن فقط في الشارع أو في البيت الحرام، لا، بل كانوا يتطاولون على رسول الله حتى وهو في بيته، فقد كان إذا صلى في فناء بيته ألقوا عليه رحم الشاة من فوق السور حتى يصيبه هذا الأذى؛ لذا كان يصلي وراء حجر يستتر به من قاذورات قريش، ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج بهذه الأوساخ فيخاطب عقول وقلوب قريش، فيقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا. يذكرهم بحقوق الجار والجوار التي طالما تشدقت بها قريش، طالما تحدثت قريش عن حفظها لحقوق الإنسان وهي الآن تحارب أعظم رجالها وخيرة أبنائها عندما أعلنوا كلمة الإيمان.
إذاً: كانت وسيلة من وسائل أهل الباطل في حرب الدعوة الجديدة: وسيلة الضغط النفسي على المسلمين من الصحابة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
هكذا يفعل الكفار وأهل الباطل دائماً في حربهم للمسلمين.
إذاً: من وسائل أهل الباطل في حرب المسلمين: طلب الأمور المعجزة من باب الجدل والمراء.
لم يصبح هناك منطق ولا عقل ولا حجة إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين:29-33].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلس حوله المستضعفون من المسلمين، قال المشركون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! هكذا سخرية بدون حجة وبدون دليل، وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين، قالوا: هؤلاء ملوك الأرض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لأهل مكة: قولوا كلمة واحدة -لا إله إلا الله، محمد رسول الله- تملكوا بها العرب والعجم. فيقولون: هؤلاء هم ملوك الأرض الذين سيملكون العرب والعجم.
جلس عقبة بن أبي معيط لعنه الله مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فرآه أبي بن خلف فظن أنه آمن، فذهب بعد ذلك يقول له: أنت آمنت، قال: لم أؤمن؟ فلم يصدقه، وقال له: حتى تثبت لي أنك لم تؤمن بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم لابد أن تبصق في وجه محمد، فقام عقبة لعنه الله وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق في وجهه!
هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله عز وجل، لكن الوضع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بصفة عامة أن ازدادت حركة الدعوة في مكة، وازداد عدد المسلمين، وشعر المشركون بأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فقدموا التنازلات، وبدءوا بعمل مفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يلتقوا في منتصف الطريق كما يقال: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، قدموا اقتراحين للرسول صلى الله عليه وسلم: أما الأول فقد كان سفيهاً من حكماء قريش، قاموا بما يسمى بالعبادة المشتركة فقالوا: هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر. يعني: أنت تعبد هبل واللات والعزى، ونحن أيضاً نعبد إلهك في نفس الوقت، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منها.
هذا مفهوم مغلوط وسطحي عن الألوهية أن أعبد عشرة أو عشرين إلهاً، وهذا تفكير طفولي من حكماء قريش.
الاقتراح الثاني كان على نفس المستوى من السطحية، فبعض المشركين تقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب، يعني: نعبد إله محمد سنة، وهو يعبد إلهنا سنة، فنزل قول الله عز وجل يقطع الطريق تماماً على هذه المفاوضات الطفولية، وقال: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، المرة الوحيدة التي قال الله عز وجل فيها: (الْكَافِرُونَ)، ليقطع السبيل على كل كافر يساوم المؤمنين على أمر العقيدة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6]، بذلك أغلق الباب على هذه المفاوضات الهزلية، والدعوة تزداد، والمسلمون يتكاثرون.
إذاً: التعذيب والظلم والإجرام منطق من لا منطق له.
وأنا في حيرة من أمري: كيف لإنسان أن تقبل نفسه أو فطرته أن يرى إنساناً يعذب أمامه، بل ويشارك في التعذيب أو يأمر به؟ أي طبيعة وأي شخصية داخل هذا الإنسان؟ ما شكل قلبه؟ كيف انحطت البشرية إلى هذا المستوى المتدني من فساد الفطرة، الإنسان السليم لا يستطيع أن يرى حيواناً يتألم، فكيف بإنسان يلهب ظهره بالسياط؟ كيف لإنسان أن يحبس إنساناً بلا جريرة أياماً وشهوراً، بل وسنوات، والإسلام قد حرم على المسلم أن يحبس هرة؟
مع كل التداعيات الخطيرة التي تحدث لأسرته ولزوجته ولأولاده ولأمه وأبيه دون ذنب أو خطأ؟ ليس لهم جريمة إلا كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال الكافرين مع المؤمنين: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، أي: مشكلة المؤمنين أنهم آمنوا بالله عز وجل، فقست قلوب الكافرين، وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]، هذه نقطة سوداء في تاريخ البشرية حصلت في مكة، وما زالت تتكرر فيمن بعدهم وإلى يوم القيامة.
مرّ بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه بسلسلة مضنية من التعذيب، كان أمية بن خلف عليه لعنة الله يعذبه، تعذيباً معنوياً وبدنياً لا ينقطع، فقد كان أمية يضع في عنقه حبلاً ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه في شوارع وجبال مكة، ولم يكن هذا لمدة يوم أو يومين، بل كان لفترات طويلة إلى أن ظهر أثر الحبل على عنق بلال رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمية يمنع عنه الطعام، ويغدو به إلى الصحراء في مكة، ويضعه على الرمال الملتهبة في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا المجموعة من الرجال فتوضع على صدر بلال، وهو يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، لكن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه صبر، وكان كثيراً ما يكرر: أحد.. أحد. ولما سئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟ قال: كانت أشد كلمة على الكفار، فكان يريد أن يغيظهم بها.
فصبر بلال رضي الله عنه وأرضاه وما بدل وما غير، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك، ومرت الأيام ونسي الألم، لكن يبقي الأجر، واحفظوا هذه الجملة: يذهب الألم ويبقى الأجر، كل شيء يذهب، الدنيا كلها تذهب، لكن يبقى الأجر والثواب.
ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر رضي الله عنهم عذبا تعذيباً شديداً، وكان أبو جهل عليه لعنة الله يعذبهما مع عمار بنفسه، وزاد العذاب فوق الحد، إلى أن وصل الأمر أن قتل ياسر وسمية رضي الله عنها في بيت الله الحرام ، وما ذنبهم حتى يعذبوا إلى أن يموت الأبوان، ليس لهم أي ذنب إلا إنهم أناس يتطهرون، وذنبهم أنهم يريدون الخير لهم ولكم وللمجتمع وللأرض كلها، وأنهم أناس صالحون يريدون أن يعبدوا ربهم بالطريقة التي شرعها الله، لكن فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، قتل ياسر وقتلت سمية، لكن من الذي انتصر في النهاية؟ القاتل أو المقتول؟ سيأتي يوم عظيم، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، في هذا اليوم سيأتي الذين عذبوا المسلمين على مر العصور، ويغمسون غمسة واحدة في نار جهنم، وسينسى هؤلاء الهمجيون سعادة الدنيا جميعاً بغمسة واحدة، فما بالك بالخلود في جهنم مع العذاب الشديد!
وفي ذات اليوم سيأتي أيضاً بلال وياسر وسمية ومن سار على نهجهم، أولئك الذين عذبوا في سبيل الله عز وجل، سيأتي هؤلاء وسيغمسون غمسة واحدة في الجنة، وسينسى المؤمنون شقاء الدنيا جميعاً، أي جهل وغباء وحماقة يعاني منها أولئك المعذبون لغيرهم؟ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين:4-5].
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، في أي شرع وملة وقانون يعذب الإنسان للاعتراف بشيء ما، سواء فعله أو لم يفعله؟ لكن هذا الذي كان يحصل في مكة، وهذه سنة أهل الباطل.
وهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه صورة مشرفة من صور الإنسان، كان المشركون يربطون حبلاً في شعره ويجرونه في شوارع مكة، كانوا يوقدون الفحم الملتهب ويضعون خباباً رضي الله عنه فوقه، حتى إن ظهره كان فيه حفر كثيرة من الفحم الملتهب الذي كان ينام عليه! وصبر خباب وتحمل، وما بدل وما غير.
نعم إن الطريق طويل وشاق، لكن احفظوا هذه الجملة مرة أخرى: يذهب الألم ويبقى الأجر إن شاء الله.
الأمر الأول: التنقية، تنقية الصف المسلم، ما أسهل أن يقول المرء بلسانه: آمنت وصدقت وأيقنت، لكن ما أصعب العمل، لابد من اختبار وإيذاء الدعاة والملتزمين بنهج الله عز وجل ونهج رسوله الكريم، هذه سنة ماضية لتنقية الصف المؤمن من المنافقين فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، وإلا لقال كل الناس : نحن مسلمون، نحن مجاهدون في سبيل الله، لكن لابد من ابتلاء حقيقي وشديد.
الأمر الثاني: التربية، يريد ربنا سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تقود العالمين، وقيادة العالمين تحتاج إلى طراز فريد من البشر لا يهتز أمام العواصف، والابتلاء برنامج تدريبي متدرج للمؤمنين، يرتفع بمستوى المؤمن يوماً بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه؛ ليزداد إعداده كالذهب كلما اصطلى بالنار كان أنقى، وهكذا المسلم الصادق يخرج من الابتلاء أقوى وأعظم.
هذه أشياء رأيناها في التاريخ، ورأيناها في الواقع، وستظل إلى يوم القيامة سنة من سنن الله عز وجل.
الأمر الثالث: التزكية، أي: التطهير من الذنوب والخطايا، أحيانًا يحب ربنا إنساناً ويريد أن يرفع درجته، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه سبحانه وتعالى فيصبر، فيبلغ الدرجة العالية: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ، إذا كانت الشوكة تعمل هكذا، فما بالك بالضرب والجلد والحبس والتعذيب. هذا كله مصلحة للمؤمنين.
إذاً: تنقية للصف المسلم، وتربية للصف المسلم، وتزكية للصف المسلم، لابد لها من ابتلاء، وسيظل الابتلاء إلى يوم القيامة.
نحن نريد أن نقف هنا وقفة، هي: كيف تعلم الصحابة الصبر؟ كيف يمكن لرجل يوضع على النار ويحرق أن يتحمل كل هذه الآلام ولا ينتقم لنفسه، وهو في الأخير جسد وعظم ودم ولحم وروح مثل كل الناس؟!
نحن لا ندرس السيرة من أجل أن نحكي حكايات لطيفة عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لا، بل نحن ندرسها حتى نفهم كيف وصلوا إلى هذا المستوى؟ ونعرف كيف نقلدهم؟ هناك طرق سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الصحابة، فدين الإسلام ليس فيه ضلالات أو أوهام، فكل شيء فيه واضح.
أنا سأخبركم عن بعض الأساليب والأسباب التي جعلت الصحابة ومن بعدهم يتحملون هذه الآلام المضنية في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الدعوة:
كل الناس تحس بالألم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، لكن المسلم يتعذب كل هذا التعذيب وهو منتظر الجنة في الآخرة، لكن الظالم مسكين يتعذب في الدنيا بالطريقة التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى، وفي الآخرة يعذب في جهنم، عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة، فلماذا لا يصبر المؤمن؟!
إذاً: المؤمن عندما يعظم قدر ربنا سبحانه وتعالى يستسهل التضحية من أجل الله عز وجل؛ لأنه يعلم أن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء قدره الله عز وجل لابد أن يحدث وأن يتحقق، سواء كان نعمة أو مشقة.
نحن أحياناً نعاني من خلل تربوي خطير، وهو أننا لا نركز على رفع قيمة الآخرة في عيون المؤمنين، راجع القرآن المكي؛ لتعرف طبيعة المرحلة، إذا كانت الدعوة مضطهدة، والظلم مستفحلاً والأعداء كثر، فلابد من التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيون المسلمين.
كما تحدث القرآن المكي عن الجنة؟ لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من التذكير بالجنة والتذكير بالنار.
عش في الجنة التي كان يعيش فيها الصحابة وهم لا يزالون في الدنيا، يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، أنا أريدك أن تتخيل أحد الصحابة وهو في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه الآيات والتعذيب ينتظره في الخارج، كم سيكون حجم التعذيب بالنسبة للذي يسمعه عن وصف الجنة؟ لا شيء، إذا قورن أي ألم بالخلود في النعيم سقط وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:12-22].
تخيل مؤمناً يسمع هذه الآيات ويعيش فيها، ثم يأتي عدوه ليعذبه ويحرمه جرعة الماء، أو الظل، أو يجلده أو يصلبه أو يقتله، ما الضير في ذلك؟ أليس منتقلاً من هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟!
إذاً اسمع آيات القرآن الكريم المكي بهذا المفهوم، بأذن الصحابي الذي يعذب، لم يكن للتعذيب عندهم أي قيمة، هنا ستفسر لك أشياء غريبة على أسماعنا، مثل: موقف حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه لما طعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره فقال: فزت ورب الكعبة!
أي فوز فازه هذا وقد مات، وفقد كل شيء في عرف أهل الدنيا؟ هو يعتبر نفسه فائزاً؛ لأنه سينتقل من أرض الجهاد إلى الجنة مباشرة، مات شهيداً، وقد وعد الله الشهيد بأن يدخله الجنة بغير حساب.
إذاً: لماذا لا يقول: فزت ورب الكعبة؟ نفهم من هذا أن تعظيم قيمة الآخرة يصبر المؤمنين لا محالة على كل ألم وأذى ومشقة في سبيل الله عز وجل.
راجع القرآن المكي لتجد قصصاً لا حصر لها، لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من قصة أو إشارة إلى قصة من هذا النوع، وتصور أنك تسمع مع الصحابة من ضمن الأمثلة الكثيرة التي ضربها الله عز وجل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة مكة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، هذه درجة عظيمة من الألم والإيذاء، حتى هذا لم يحصل مع الصحابة، لا يوجد أحد قتل أبناء الصحابة الرضع مثل ما كان يفعل فرعون لعنه الله، ومع هذه الصورة من الألم، تأتي صورة أخرى من التسلية، يقول الله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، بعد كل هذا الألم والاضطهاد يريد الله عز وجل أن يمكن للمستضعفين، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6].. إلى آخر الآيات.
نفس الصورة تكررت في مكة وتتكرر إلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر فإن التمكين لا محالة سيتكرر؛ لأن الذي يعد هو ربنا سبحانه وتعالى وهو قادر على كل شيء.
إذاً: دراسة التاريخ وتحليله وفقهه أمر في غاية الأهمية لتربية الصف المؤمن على الصبر، ووضع لأيديهم على كل مفاتيح النصر الحقيقة.
لابد من صبر حتى يكون هناك تمكين، فربنا سبحانه وتعالى حتى يعلم المسلمين الصبر يريهم الأمل، وأن الأرض ستكون لهم.
إذاً: هذه من أهم النقاط التربوية في تمكين المؤمنين من الصبر، وبها نفهم موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه بعدما اشتد بهم التعذيب، أتى يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمسلمين أن يرفع الله عز وجل عنهم هذه الغمة.
يقول خباب : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ خباب لم يعد يتحمل، فقد عذب تعذيباً أليماً، كان يكوى رأسه بالنار، ويوضع على الفحم الملتهب، فطبيعي بالنسبة لرجل مر بكل هذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين، وقد كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على غير ما نتوقع، فقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك في وجهه، يقول خباب كما جاء في البخاري : (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، وقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض حفرة فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
من المؤكد أن غضب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لم يكن لمجرد طلب الدعاء، بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف، لكن الذي حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر أنه قد بدأ ييأس ويفقد الأمل، لذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرجه غضبه عن أسلوبه التربوي الراقي، وذكر له أكثر من طريق ليعلمه بها:
الطريق الأول: أنه ربى بالتاريخ، وذكر له أحداثاً من التاريخ، فالمؤمنون من قبله قد مروا بما هو أشق، والناس عادة تصبر على مصائبها إذا رأت أن غيرها قد ابتلي بمصائب أشد.
الطريق الثاني: أنه زرع الأمل في قلبه وبيقين كامل، (والله ليتمن هذا الأمر)، فاطمأن أنه في يوم من الأيام سيمكن الله عز وجل لدينه.
الطريق الثالث: التذكير بالله عز وجل والتعظيم لقدره فلا يخاف إلا الله، كما قال: (لا يخاف إلا الله).
الطريق الرابع: أن يأخذ بالأسباب، يقول: (والذئب على غنمه)، ليس معنى التوكل على الله عز وجل أنك لا تأخذ بالأسباب، لا، فما زالت السرية موجودة، وما زال الصبر موجوداً، وما زالت الدعوة إلى الله عز وجل موجودة، فلننتظر التمكين.
النتيجة أن خباباً رضي الله عنه وأرضاه ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك.
إذاً: الدرس الذي نأخذه من هذا الموقف: أنك لو وصلت إلى هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، إذ لابد وأن يمكن الله عز وجل لهذا الدين.
وفي سورة المزمل: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10].
من هذه الأسباب: العلم والقراءة كما في الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فمن يعرف أكثر سيصبر أكثر، والقراءة ليست هواية، بل لابد أن تقرأ حتى تتعلم وتصبر؛ لأنه من غير القراءة لا يمكن أن تحصل على العلم، ودروس العلم مهما كثرت لن تعطيك إلا جزءاً ضئيلاً من العلم الذي يفترض بك أن تحصله. فلابد أن نقرأ ونعلم أولادنا القراءة، ونعلم إخواننا وكل مسلم حريص أن يصبر ويقرأ ويتعلم.
ومنها: قراءة القرآن: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، القرآن زاد لا يستطيع المسلم أن يصبر بدونه.
ومنها: الذكر، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل:8]، أيضاً الذكر زاد لكل مسلم، وأي مسلم يريد أن يصبر لابد أن يذكر الله عز وجل ذكراً كثيراً، كما يقول سبحانه وتعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، فكلما ذكرت ربنا سبحانه وتعالى أكثر عودك على الصبر بصورة أكبر.
إذاً: هذه أمور تعين على الصبر، وهي:
- تعظيم قدر الله عز وجل في القلب.
- تعظيم الآخرة.
- دراسة التاريخ.
- زرع الأمل في نفوس المؤمنين.
- العلم والقراءة.
- قراءة القرآن.
- قيام الليل.
- الذكر.
- ترك المعاصي والذنوب.
- الأخوة في الله عز وجل.
تلك عشرة كاملة، تحفظ؛ إذ ليس هناك صبر من غيرها.
يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].
الحكمة الكاملة من وراء ذلك المنع لا يستطيع البشر أن يتوصلوا إليها، لكننا سنبحث فيما نعتقد أنه السبب أو الحكمة، حتى نتعلم كيفية العمل في الظروف المشابهة.
الحكمة الأولى من كف المسلمين عن القتال: التربية على نوع جديد من الصبر، لن يتعلمه المسلمون إلا في مثل ذلك الوضع.
الصبر أنواع كثيرة ، والعربي بصفة عامة صبور، يصبر على الجوع، والحر، والفقر، وطول السفر، والآلام، والحروب، إلا أنه لا يصبر على تحمل الظلم، فله طبيعة ثائرة لا ترضى بالضيم والجور، يثور ولو ضاعت حياته، لكن الآن أصبحت لدى المؤمنين أبعاداً أخرى أعمق من متطلبات الفرد، وأصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة ومجتمعاً ، ولا يستقيم للفرد أن ينظر إلى مصلحته الشخصية، بل يجب أن ينظر إلى مصلحة المجموع، وربنا سبحانه وتعالى يأمرهم ألا ينظروا إلى حظ نفوسهم، ولكن لصالح الأمة والجماعة، لأنه لا يمكن لأمة أن تقوم وأفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها، فيتحتم عليهم الكف عن القتال، حتى يتربى المسلمون على هذا النوع الجديد من الصبر.
الحكمة الثانية: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة؛ لأن الاختبار الحقيقي للطاعة هو أن تطيع دون جدل ولا ضجر ولا اعتراض، في أمر لا تهواه نفسك في غير معصية للخالق سبحانه وتعالى، هذا هو المقياس الحقيقي للطاعة، كما حصل من خباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـخباب رأى أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فأوضح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وبين له ضرورة الصبر.
حينها سمع وأطاع وكف اليد وقبل الأمر، وتعلم شيئاً في منتهى الأهمية للجماعة وهو الطاعة لولي الأمر، لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، ومن غير هذا الجو من التعذيب والأمر بالصبر عليه لن يتعلم المسلمون الطاعة في مشوار حياتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده.
إذاً: كانت الحكمة الثانية: تربية المسلمين على الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأي قائد ما لم يأمر بمعصية لله عز وجل.
الحكمة الثالثة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت تعطي نتائج أفضل.
ولبيان هذا الأمر نطرح سؤالاً: هل الغرض في النهاية هو حكم مكة أم إسلام مكة؟
الغرض إسلام مكة، ولا يهم من الذي سيحكمها بعد ذلك، المهم يحكمها بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذه البيئة المكية ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، ولو فرضت عليها الرأي بالقوة لن تقبله، وسيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وسيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين عناداً، فهم يعاندون لضعف المسلمين، فكيف لو فرضوا عليهم الرأي بالقوة؟!
إذاً: لابد للداعية أن يدرس نفسيات من يدعوه من الناس، فمنهم من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء عقله، أو بقوة بدنه، ومنهم من يتأثر بلطفه وأدبه، وهكذا خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولابد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ويراعي ظروف المدعو، وظروف البيئة التي يعيش فيها.
الحكمة الرابعة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: تجنب الفتنة الخطيرة التي ستحدث في مكة وتؤدي إلى سمعة سيئة بالإسلام، وإلى الفتنة العظيمة، ولم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تقوم بتعذيب الناس، بل تكفل كل زعيم بأتباعه، تكفل الوالد بولده، وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته، والسيد بعبده، فمثلاً: مصعب بن عمير عذبته أمه، وعثمان بن عفان عذبه عمه، وخباب بن الأرت عذبته سيدته.. وهكذا، فلو قاتل المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم، فإنهم سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وفي هذا الموقف ما الذي سيقال عن الإسلام؟ إذا كان الكفار قد ادعوا أن الإسلام يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه من دون قتال، فكيف لو كان هناك قتال؟!
إذاً: كانت هناك حاجة ملحة لتجنب الفتنة الكبيرة في داخل مكة، وللحفاظ على الصورة الجميلة للإسلام، وهي الصورة الواقعية لهذا الدين العظيم.
الحكمة الخامسة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الله عز وجل يعلم أن كثيراً من أهل الكفر سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، فالدعوة ما زالت في مهدها، ولم تأخذ الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكثير منهم سيعترض في البداية ويتشدد، ثم لا يلبث أن يتبدل الأمر في أعينهم، من هؤلاء عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل، فكل هؤلاء أصبحوا بعد ذلك قادة يأخذون الإسلام إلى كل ربوع الأرض، فلو حصل القتال في أول فترة مكة لخسر الإسلام هؤلاء وأمثالهم.
الحكمة السادسة: أن النخوة التي كانت في قلوب كثير من العرب كانت تتأثر بصورة المظلوم الذي لا يستطيع رفع الظلم عن كاهله، فيتحرك العربي في شهامة ليرفع الظلم الذي يقع على المسلمين، مثل ما وقع في القصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فهو صورة من صور النخوة التي تحركت نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الجوار الذي عرضه ابن الدغنة على الصديق لما أحس بأنه ظلم، فجاء وهو مشرك ليعرض الجوار على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك الصحيفة التي نقضها المشركون أنفسهم بعد ثلاث سنوات من المقاطعة، كانت صورة من صور النخوة نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على المسلمين.
الحكمة السابعة: حتى لا يصطدم المسلمون بالنواميس الكونية، فمثلاً: النار تحرق، ولذلك فالمسلمون أو الناس بصفة عامة لا يلقون بأنفسهم فيها.
من النواميس الكونية أيضاً: أن الذي يسقط في ماء عميق وهو لا يتقن السباحة يغرق، لذلك فالناس لا يتهورون بالنزول في ماء عميق دون إجادة للسباحة.
من النواميس الثابتة أيضاً: أن للباطل قوة، ولا يستقيم للمؤمنين أن يقولوا: إن الله معنا ونحن على الحق، ثم يلقون بأنفسهم في حرب خاسرة، ظناً منهم أنهم لا محالة سينتصرون، نعم، هم عباد الله وجند الله، ولابد أن ينتصروا، ولكن الإسلام دين واقعي عملي يقيس بدقة قوة الباطل، ويقدر القوة الكافية لردها، ويضع الخطة المناسبة للنصر، ويهيئ الصف الكفء للقتال، ثم يتوكل على الله عز وجل ويعتمد عليه ويقاتل؛ فالإسلام دين يحترم الأسباب.
ولو قام المؤمنون بثورة في مكة ما الذي سيحدث؟ سيقتلون رجلاً أو اثنين أو عشرة أو مائة من قريش، وبعد ذلك سيبادون عن آخرهم، نعم، الموت في سبيل الله غاية، لكن المؤمن لا يموت بغير ثمن، إن لم يغلب على الظن التمكين أو إحداث النكاية في العدو فلا معنى للقتال.
والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والقياسات المادية التي قدرتها قيادة المسلمين أن الوقت غير مناسب للقتال، ليس جبناً ولا ضعفاً ولكن حكمة وتدبيراً، وسيأتي يوم تأخذ فيه قيادة المسلمين قرار القتال في بدر وما بعد بدر، لكن المسلمون لا يتسرعون النتائج، ويدركون حقيقة ما يسمى بفقه المرحلة، يدرسون الظروف بإحكام، يضعون الخطة، ويطلبون المدد من الله عز وجل، ثم يقومون بما يناسب المرحلة، وقد يناسبها الكف عن القتال، أو دعوة سرية أو جهرية أو معاهدات ومفاوضات، أو جهاد واستشهاد، وقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بكل هذه المراحل، ووضع لنا منهجاً دقيقاً نتبعه، لم يترك لنا موقفاً إلا وبين كيف نتعامل معه طبقاً لنواميس الكون لشرائع الإسلام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد رجل حكيم عبقري، لا، بل رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، ناقل لما أراده الله عز وجل منا في كل موقف؛ لذلك نحن ندرس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحكمة الثامنة: أن القتال لم يكن ضرورة ملحة، فإن الدعوة كانت تسير في مكة بمشقة وبصعوبة، ولكنها في النهاية تسير، والرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس وهو تحت حماية سيوف بني هاشم، فـأبو طالب جعل الرسول صلى الله عليه وسلم قضية حياته، وكرس كل جهده لرد الكيد عنه، فلماذا لا يستغل المسلمون هذه الظروف إلى أن يأتي يوم آخر تتغير فيه الظروف، أو يموت فيه أبو طالب عندها ستتغير المرحلة؟ يعني: لم يكن هناك ضرورة للقتال، وعندما تكون هناك ضرورة لابد أن يقاتل المسلمون.
الحكمة التاسعة لكف المؤمنين عن القتال في مكة: هي أنه لو حدث قتال لاضطر المسلمون إلى كشف كل أوراقهم، وسيظهر كثير من المؤمنين الذين لم يعلم إيمانهم بعد، والمرحلة لا تتطلب ذلك، هذه المرحلة كانت تتميز بجهرية الدعوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللقليل من الصحابة ممن لهم منعة، مثل: أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أو غيره، لكن عموم المسلمين لا يعلنون عن أنفسهم، ولو حدث القتال في أوائل فترة مكة لاكتشف أمر دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، ولما استطاع المسلمون أن يحادثوا الأفواج التي تأتي إلى مكة وقت الحج، ولما استطاع المؤمنون أن يغادروا مكة إلى غيرها أو يدخلوا إليها، وستوضع على المسلمين قيود شديدة ستؤخر الدعوة لا محالة.
إذاً: متطلبات هذه المرحلة أن يكف المسلمون اليد عن القتال؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى كشف كل أوراق المسلمين في وقت يحتاجون فيه إلى التكتم الشديد.
الحكمة العاشرة: إظهار قدرة الله عز وجل وقوته وعزته وحكمته سبحانه وتعالى، ظهر أمام الجميع في مكة وما حولها في زمانهم وفي الأزمان التي تلت كيف كان المؤمنون ضعفاء.
وظهر واضحاً كيف أن القلة المؤمنة لا تملك مقومات الرد المادية فضلاً عن مقومات الانتصار، ثم ستظهر بعد ذلك آيات عجيبة لا تخطر على عقول البشر، سيدبر الإله الحكيم لأوليائه، فإذا بالضعف يتحول إلى قوة، وإذا بالذل يتحول إلى عزة، وإذا بالخوف يتحول إلى أمن، وإذا بالتعذيب والتشريد والإهانة والقتل يتحول إلى سيادة وتمكين، سيكون هناك بدر والأحزاب وفتح مكة وتبوك وفتح فارس والروم.. وغيرها من المواقع، وسترى الأمم كيف سينتشر الإسلام؟
كل هذا من هؤلاء الضعفاء القلة الذين كانوا يعذبون في مكة، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، هذا دليل واضح على قدرة الله عز وجل.
إذاً: لهذه الأسباب وغيرها كف الله عز وجل المؤمنين عن القتال في فترة مكة، وسيأتي زمان بعد ذلك يسمح فيه بالقتال، ولكل مرحلة طبيعتها، وحتى تقلد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تعلم ما هي المرحلة التي أنت تعيشها، ومع أي مراحل الرسول صلى الله عليه وسلم تتشابه.
زاد تهور أهل الباطل في مكة وزاد التعذيب وضيق الأمر بشدة على المؤمنين، هنا انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المرحلة التي مرت إلى مرحلة أخرى جديدة تناسب الحرب الضارية التي يشنها أهل الباطل في مكة، بدأ أهل الإيمان يتزايدون، وأصبح من الصعب أن يختفي كل هؤلاء في البلد الصغير مكة، فيكتشف أمرهم فما هو التصرف مع موقف مثل هذا؟ المصير تعذيب وتقتيل، والمسلمون ليست لهم طاقة في حرب أهل الباطل، ما الحل الذي سيتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيأخذ قراراً جديداً وينتقل بالمسلمين من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، ترى ما هي هذه المرحلة؟ وكيف سينتقل المسلمون إلى المرحلة الجديدة؟ وما ردة فعل الكافرين على ذلك؟
وجزاكم الله خيراً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر