وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية المطهرة.
تحدثنا عن أساليب الكفار في صد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عن طريق الدعوة والإسلام، وعن ثبات المؤمنين وصبرهم على التعذيب الشديد الذي حدث في أرض مكة في بيت الله الحرام، حيث تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، وبدا واضحاً أن النية هي الاستئصال للطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض.
مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتْباعه: أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لكم خاصة وللناس عامة)، وقد اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة، وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، حينها يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك، وهو نوع من الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطاً بشرياً لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين.
كان من الممكن أن ينقذ الله عز وجل حبيبه ومن معه من المؤمنين بكلمة (كن) فيكون، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، ولكن ليست هذه سنة الله عز وجل في التغيير، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نأخذ بالأسباب الواقعية التي كانت في يده كبشر، وهي في أيدينا الآن كبشر، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين، فقد نهاهم الله عز وجل عن ذلك بقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].
كانت الوسيلة الجديدة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء أو استئصال للدعوة.
هذه خطوة تكتيكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبقتها إشارات جاءت في كتاب الله عز وجل، فقد أنزل الله عز وجل سورة الزمر، وكان فيها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
إذاً: أرض الله واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي القطعة التي يعبد فيها الله عز وجل، لا تفضل قطعة أخرى بأنهار أو أشجار أو أموال أو أهل وعشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله عز وجل، لذلك فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض مكة البيت الحرام إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله عز وجل كما يريدون في مكة، فليكن غيرها، المهم أن نعبد الله عز وجل دون أن نفتن في ديننا.
والهجرة وترك الديار والعشيرة ليس أمراً سهلاً، فالقرار صعب، ويحتاج إلى نفوس خاصة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار أنهم لا يهاجرون من بلد إلى بلد لتحسين مستوى المعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للحياة في مكان جميل، لا، بل هم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، سيتركونها إلى بلد آخر قد يكون فقيراً بعيداً حاراً أو بارداً مجهولاً، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله عز وجل.
تخيل بمقياس الحاضر رجلاً يعيش في استقرار في بلد محبوب إلى قلبه، وأوضاعه مستقرة، ثم هو يقرر الهجرة إلى بلد آخر؛ لكي يعبد الله عز وجل بعد أن ضيق عليه في بلده.
لو كان سيهاجر إلى بلد أعظم رفاهية وأكثر أموالاً، لكن هذا أسهل، لكن أن يهاجر إلى بلد لا تهفو النفوس إليه عادة، فهو يحتاج إلى جهاد عظيم للنفس؛ ولذلك عظم الله أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59].
لم يهاجر المؤمنون سعياً وراء الرزق، ولكن في ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد قد لا يتوافر فيه عمل مناسب، فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن في الجنة، فإنه على أسوأ الفروض في حسابات البشر سيقتل المهاجرون أو يموتون، فالله عز وجل يعد -ووعده الحق- أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً، بالإضافة إلى أنه قد علم المؤمن أن رزقه في الدنيا لن ينقص، وسيأتيه رغماً عن أنفه في بلده أو خارج بلده، في ظروف أو في ظروف أخرى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].
إذاً: نقف وقفة نحلل فيها، ونحاول الإجابة على سؤال هام: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم الدعاة؟
قد تكون الفروق بين الإجابتين طفيفة، لكن عند التدقيق في الأمر نجد أن الفرق كبير جداً، هل يضحى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة، أم يضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟
واقع الأمر أن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، والمقصد الأول من المقاصد التي جاء الشرع لحمايتها هو الدين، ومن أجله يضحى بكل شيء.
إذاً: يبذل المؤمنون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكن لا يبذل المؤمنون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل يحض الله عز وجل المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظاً على دينهم إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
إذاً: السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حماية الدعوة، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل للدعوة محضناً آخر غير مكة، بحيث إذا استؤصل الدعاة في مكة تبقى طائفة أخرى في مكان آخر لاستمرار الدعوة.
إذاً: لم يكن السبب الأول في الهجرة هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا أمراً هاماً، ويؤيد هذا الرأي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يهاجر الصحابة رضوان الله عليهم للحفاظ على الدعوة لا على الدعاة، والذين طلب منهم أن يهاجروا كانوا من القرشيين، ولم تطلب الهجرة من الذين كانوا عبيداً، إنما هاجر القوم الذين يتمتعون بعصبية وقبلية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة، ولم يهاجر الموالي والمستضعفون، ولو كان الهدف الأول هو حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء.
أولاً: هذا أدعى لحماية المهاجرين، فأمر الهجرة أمر خطير، قد تطارد مكة فوج المهاجرين، بل بالتأكيد ستطاردهم، وفي لحظات الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، وبالذات لو كانوا من العبيد، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة ستصبح أقل خطورة، حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم إلى مكة، ولن يفكروا في قتلهم لقوة قبائلهم.
ثانياً: أن الأشراف أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ لأن من طبائع البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم ينتبه له، والغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض الأمر بأفضل الصور، وسيستقبل المهاجرون في هذه الحالة على أنهم وفد سياسي محترم معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.
ثالثاً: هجرة الأشراف ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة، ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم من خيرة أهل البلد، ومن أكثر الناس سعياً لإصلاحها، ومن أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، وها هم يغادرون البلد؛ لأنهم لم يجدوا فيها أماناً، ما أبشع فعل أهل الباطل، وما أشنع جريمتهم، أهؤلاء هم الذين يطردون؟ أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟ فهجرة الأشراف ستكون صدمة لأهل مكة قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إذا هاجر المستضعفون فلا ضير، أليسوا عبيداً تركوا البلد؟ فلنأت بعبيد آخرين، هكذا سيفكر الطغاة، إذ ليس هناك اعتبار للآدمية أو الإنسانية.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع المشركين دفعاً إلى تحريك عواطفهم وقلوبهم؛ لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله عز وجل، لهذه الأسباب هاجر الأشراف ولم يهاجر الضعفاء.
إذاً: الملاحظة الأولى: هي هجرة الأشراف، والتي تشير إلى أن الهدف الأول من الهجرة لم يكن حماية الأرواح ولكن حماية الدعوة والدين.
متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد في فترة مكة أم في فترة المدينة؟
مكث المهاجرون في الحبشة مدة تزيد على (15) سنة متتالية، كانت هجرتهم الأولى إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة في شهر رجب ثم عادوا سريعاً إلى مكة بعد ثلاثة أشهر، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة، ولكنهم مكثوا في الهجرة الثانية طويلاً، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر.
مرت أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين في بناء الأمة الإسلامية، ومع ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن هذا اجتهاداً شخصياً من المهاجرين، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، ومر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعباً، وكان عدد المسلمين قليلاً، والعدد في الحبشة كبيراً تجاوز الثمانين، وهم قوة لا يستهان بها، فعدد المهاجرين في غزوة بدر كان نفس عدد المهاجرين إلى الحبشة، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الغزوات العظام بدر ثم بنو قينقاع ثم أحد ثم بنو النضير ثم الأحزاب ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير العظيم الهام وهو صلح الحديبية.
وبعد صلح الحديبية أمن المسلمون على أنفسهم، وأصبحت لهم دولة لها كيان محترم تعقد به الأحلاف والمعاهدات على أعلى مستوى، يرهب جانبها ويحترم رأيها، فهنا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصبح من الصعب استئصال المسلمين، لقد كان ممكناً في أي لحظة قبل صلح الحديبية أن يستأصل المسلمون، وأقرب مثال على هذا غزوة الأحزاب؛ حيث أراد الكفار الإنهاء الجذري للإسلام في المدينة، لكن الله عز وجل كتب النصر للمؤمنين، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).
عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول لحظات الأمان في المدينة أرسل في طلب المهاجرين في الحبشة، أرسل إليهم عمرو بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، فجاءوا في العام السابع من الهجرة بعد فتح خيبر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأمور بحكمة سياسية رائعة، كان يحافظ على نواة للمسلمين هناك في مكان آخر بعيد مثل الحبشة، فإذا هلك المسلمون في المدينة حمل المهاجرون في الحبشة اللواء، وكان المسلمون في الحبشة يقومون بدور المخزون الإستراتيجي الهام للمسلمين، وكانوا على استعداد للرجوع إلى المدينة في أي لحظة إذا طلبت منهم القيادة ذلك.
كانت الأدوار موزعة على المسلمين بدقة، طائفة من المسلمين يقومون بالبناء هناك في أواخر الفترة المكية، وفي فترة المدينة هذه الطائفة معرضة لخطر شديد تقابل الموت في كل لحظة، وهناك طائفة أخرى كامنة في الحبشة، في ظاهر الأمر هم غير معرضين للأذى، لكن مهمتهم في غاية الخطورة، لقد كان عليهم أن يحملوا الدعوة بمفردهم إذا هلك المسلمون في المدينة، وقد يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً وتصبح الأمانة معلقة في رقابهم وحدهم، وهنا يتضح أمران:
الأول: أن هذا التوزيع للأدوار تم بمعرفة قيادة المسلمين المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك طاعة عظيمة جداً من الطرفين؛ الطرف الذي يعمل في المدينة، والطرف الذي يعمل في الحبشة، ولو ترك الأمر لكل فرد لدخل الهوى في الاختيار، قد يكون هوى المرء أن يظل بعيداً عن أرض القتال هناك في الأمان في الحبشة، وقد يكون هوى المرء أن يعمل للإسلام في مكان معين، كأن يعمل بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قبيلة كذا أو كذا.
فحتى لا يتدخل الهوى في الاختيار وزع القائد صلى الله عليه وسلم الأدوار على المسلمين، وأطاع المسلمون في أدب جم، إذ لا يشترط الجندي الصادق عملاً معيناً أو مكاناً معيناً؛ لأن الجندي في الإسلام يعمل لله عز وجل، وفي كل مكان يوضع فيه بنفس الحمية، كما أن الأمر يحتاج أيضاً إلى تنظيم، مَنِ الذي يقوم بهذا الدور؟ ومن الذي يقوم بالدور الآخر؟ وحتى لا تختلط الأدوار على الناس يرجع في هذا إلى قيادة المسلمين والشورى ورأي المجموعة، وكل ذلك من أساسيات العمل الجماعي السليم الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن المسلمين المهاجرين في الحبشة لم يكونوا في حالة ركون أو فتور، بل كانوا في إعداد وتدريب مستمر، لقد كان مستوى الإيمان لديهم رائعاً، وكان الاستعداد النفسي للعودة والمشاركة والوقوف في الصدارة ومواجهة الموت كاملاً، يثبت ذلك أنهم لما جاءتهم إشارة العودة عادوا دونما ضجر ولا اعتراض ولا إبطاء ولا طلب لفترة تجهيز وانتقال، ولما وصلوا إلى المدينة انخرطوا في الصف بسرعة، وحملوا المشاق مع المسلمين وكأنهم عاشوا معهم كل التجارب السابقة، حتى إنهم لما وصلوا إلى المدينة علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح خيبر، وهي على بعد مائة كيلو في شمال المدينة المنورة، فتوجهوا جميعاً إلى خيبر للمشاركة في الغزو فوجدوها قد فتحت، وسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً، وقال: (والله ما أدري بأيهما أفرح)، وفي رواية: (بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم
إذاً: الهجرة إلى الحبشة كانت لإنشاء مركز جديد للدعوة يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة.
لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر كثيراً في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن إلى الذهن هو أن يرسلهم إلى مكان في الجزيرة العربية عند قبيلة من القبائل، فقد كانت هناك تجمعات قبلية كبيرة وكثيفة وكثيرة في جزيرة العرب، هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة.. وغيرها كثير، وهذه القبائل تتميز بكونها تعيش في ظروف مقاربة جداً لظروف المسلمين في مكة، ولن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، كما أنهم يتكلمون العربية، بالإضافة إلى قرب المسافة، فإذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين قدموا سريعاً، هذه كلها مزايا موجودة في هذه القبائل، لكن هذه القبائل كانت كلها مشركة، وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين، إلا أنها كلها تكنُّ قدراً عظيماً جداً من الاحترام لقريش، ولاشك أن القرشيين لو طلبوا المسلمين ما ترددت هذه القبائل في دفعهم للكفار من أهل مكة.
إذاً: اختيار القبائل المحيطة بمكة في جزيرة العرب لم يكن اختياراً سليماً، ولعله صلى الله عليه وسلم أيضاً فكر في يثرب التي أصبحت بعد ذلك المدينة المنورة، لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن فيها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب بسبب الحروب بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود يسكنون منذ زمن في هذه البلاد، وتاريخ اليهود لا يبشر بأي خير.
ولعله صلى الله عليه وسلم قد فكر في العراق حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل: بني شيبان، ولكن هذه القبائل بالإضافة إلى كونها جميعاً مشركة فإنها على ولاء شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلن يرحب كسرى فارس بهذا القدوم للمسلمين.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً قد فكر في الشام أيضاً فهناك قبائل عربية تعيش فيها، مثل: قبائل الغساسنة، لكنها على الجانب الآخر موالية للروم، ولن ترحب أيضاً باستقبال هذه الدعوة الجديدة، ولعله أيضاً قد فكر في مصر، لكن مصر برغم أن بها ملكاً معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها محتلة من الرومان، ولا تملك في ذلك الوقت من أمرها شيئاً.
ولعله أيضاً صلى الله عليه وسلم قد فكر في اليمن، لكنها كانت محتلة من قبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين، لاشك أنه صلى الله عليه وسلم فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية وغالبها عربي باستثناء مصر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجدها مناسبة؛ لذا جال وبرز في ذهنه صلى الله عليه وسلم الاختيار الأخير، والذي يبدو عجيباً في نظر الكثيرين حتى في نظر المعاصرين له صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختيار هو الحبشة.
لقد كان اختيار الحبشة عجيباً، وإن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمته في نفس الوقت، والحبشة وإن كان بها بعض العيوب الملموسة إلا أن مزايا الاختيار تفوق عيوبها.
من عيوب الحبشة: أنها بعيدة عن مكة، وهذا يصعب الاتصال والمراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مجموعة المهاجرين.
أيضاً: اختلاف اللغة، فهي مختلفة بالكلية عن اللغة العربية.
كما أن العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيراً عن عادات العرب، مما قد يؤدي إلى الصعوبة النسبية في الحياة هناك، لكن لها مزايا.
الميزة الأولى: كان الحاكم في الحبشة عادلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد)، لم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء في حياة الرجل ولا دينه، ولكن علق على عدله، ما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بين من أهل مكة، لكن ملك الحبشة النجاشي رحمه الله كان عادلاً، وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بغض النظر عن ديانتهم أو حبهم أو كراهيتهم، فالعدل أساس من أسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا والآخرة.
فكان من سعة الأفق للرسول صلى الله عليه وسلم وشمول النظرة وعمق الفكر أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية لأصحابه، وهو درس للدعاة أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم، حتى زمن الاستضعاف، فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من أمثال هؤلاء وإن اختلف دينه عن دينهم. هذه كانت الميزة الرئيسية في أرض الحبشة.
الميزة الثانية: يعيش في أرض الحبشة نصارى، والمسلمون كانوا يشعرون بقرب إلى النصارى، فهم أهل كتاب أيضاً، وظهر ذلك واضحاً من تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة ليؤكد على هذا المعنى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]، وللأسف فإن معظم النصارى في أرض الحبشة في ذلك الوقت كانت لهم اعتقادات منحرفة نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل، ولكن بعضهم كان ما يزال صحيح الاعتقاد، ومن هؤلاء النجاشي رحمه الله، وهذا أفاد كثيراً كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين.
الميزة الثالثة: أن الحبشة بلد بعيد عن مكة، ومع أن هذا يعتبر عيباً من كونه يصعب الاتصال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المهاجرين، إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانباً من الأمان للمهاجرين، فهم بعيدون عن أهل الباطل في مكة.
الميزة الرابعة: أن الحبشة بلد مستقل ليس لأحد عليه سلطان، نعم هو يتبع الكنسية المصرية في الإسكندرية لكن هذه تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس.. أو غيرهما رأياً على أهل الحبشة.
الميزة الخامسة: أن الحبشة بلد قوي في المنطقة، وأهل مكة كانوا يعظمون هذا الملك جداً، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، وهذا قد يكون عيباً لولا أن ملك الحبشة يتصف بالعدل، فكونه يتصف بالقوة والعظمة مع العدل فهذا يوفر حماية أكيدة للمهاجرين، وقريش من المستحيل أن تفكر في غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب؛ لأن عوامل قوة الحبشة وقوة الملك وبعد المسافة والبحر تحول دون هذا التفكير، وأقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب المهاجرين، فإن كان الملك عادلاً، فإنه ولاشك سيرفض تسليم زواره وضيوفه.
الميزة السادسة: أن الحبشة بلد تجاري وعنده قوة اقتصادية معقولة في ذلك الوقت، ولا يخشى عليه من حدوث أزمات اقتصاديه نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا ولاشك سيوفر للمؤمنين أماناً واستقراراً، وفي نفس الوقت لا يغير من نفسيات أهل الحبشة، فلن يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.
لهذه الأسباب مجتمعة كان اختيار الحبشة اختياراً موفقاً، وبدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
الوقفة الأولى: من أول من هاجر من المسلمين؟
أسماؤهم تحتاج إلى وقفة طويلة، فالأول: هو عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه وأرضاه وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا له من موقف، أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، لقد أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه صلى الله عليه وسلم عن الأذى من هذه الهجرة، فها هي ابنته السيدة رقية حبيبة قلبه صلى الله عليه وسلم تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، ويذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين، من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، ما أسهل أن تأمر بالتقشف والهجرة، بل والموت، لكن كل ذلك لا يؤثر في أحد إلا إذا قرن بعمل التربية القدوة.
رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزل إليهم وعش معهم وخالطهم، افرح بما يفرحون به، وتألم مما يتألمون منه، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم.
الاسم الثاني في هذه الهجرة كان أيضاً من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي رضي الله عنه وأرضاه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها.
وكذلك بقية الأسماء معظمهم من أصحاب الشرف والمكانة والمنعة مثل: عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة.
والزبير بن العوام من بني أسد.
وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم.
وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس.
ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وهكذا معظم المهاجرين من أشراف مكة.
الوقفة الثانية: أن المسلمين أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة، لم يقولوا: نتوكل على الله عز وجل وندعوه، ثم نسلم أمرنا بغير إعداد، لا، بل أخذوا بكل الأسباب التي في أيديهم.
أولاً: خرج المسلمون في سرّية كاملة ولم يعلموا أحداً أبداً بهجرتهم.
ثانياً: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.
ثالثاً: لضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه من بني جمح.
رابعاً: التنوع الملموس من قبائل مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج من كل قبيلة رجلاً، وبذلك لا تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة واحداً، فأصبح الموقف صعباً على أهل مكة، كما أنه من الناحية الأخرى سوف يكون لهذا الوفد تأثير واضح على ملك الحبشة، فهذا الوفد المكون من خليط من قبائل مكة كأنه سفارة رسمية تمثل شعب مكة، لا يخطر أبداً على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، بل هي دعوة دينية أخلاقية لا تفرق بين قبيلة أو أخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.
في هذه الهجرة أخذ صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب المادية وفي كل أموره، حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه صلى الله عليه وسلم.
خرج المؤمنون من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر، ولكن مع كل هذا استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم وأن يلحقوا بهم؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، هنا كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة، ولكن المسلمون ابتهلوا إلى الله عز وجل أن ينجيهم مما لحق بهم، في هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة فركب المسلمون في إحداهما، وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم.
لقد استنفد المسلمون الوسع، وأخذوا بكامل الأسباب، ولكن المشركون لحقوهم؛ ليلجأ المسلمون إلى الله عز وجل، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله عز وجل، وليدركوا حق الإدراك أن الكون بيد الله عز وجل يصرفه كيف يشاء.
وصل المسلمون بأمان إلى الحبشة، وكما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم حال، ولم يلقوا عنتاً ولا إيذاء ولا مشقة.
مما حدث في مكة:
أولاً: آمن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: بعده بثلاثة أيام فقط آمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وستحمل الأيام مفاجآت عظيمة لأهل الأرض جميعاً، سيرون كيف أن هذا الرجل البسيط عمر الذي آمن في هذه البلدة الصغيرة مكة سيقود جيوش المؤمنين ليكسر شوكتي فارس والروم، وليوحد أطراف العالم في خلافة واحدة، آمن الفاروق في مكة فحدثت تغييرات جذرية في سياسة المؤمنين، منها ما يتعلق بقضية الهجرة إلى الحبشة، آمن عمر بن الخطاب فظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثير من المسلمين إسلامهم، بعد أن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقلّ إلى حد كبير التعذيب الوحشي الذي كانت تقوم به قريش للمؤمنين، وعاش المسلمون في مكة لحظات عظيمة من السعادة التي لم تمر بهم منذ زمن طويل، سعادة بإسلام البطلين العظيمين الجليلين: حمزة بن عبد المطلب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسعادة بإحساس الأمان النسبي الذي شعر به المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وسعادة بشعور العزة والفخر بهذا الدين وباتباعه.
طارت أنباء هذه السعادة إلى الحبشة، وتواصلت قلوب المؤمنين في الحبشة مع قلوب المؤمنين في مكة وشعروا بنفس السعادة، وشعروا فوقها بسعادة العودة إلى أرض الوطن وإلى أرض الأجداد والعشيرة وإلى البيت الحرام، شعر المسلمون أن وقت العودة إلى مكة سيكون قريباً إن شاء الله.
تزامن مع حدث إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما حدث آخر عجيب تم في مكة في ساحة البيت الحرام في رمضان من السنة الخامسة من البعثة، كان من أسلوب الكافرين لمنع الناس من التأثر بكلام الله عز وجل أن يمنعوا أنفسهم من السماع أصلاً؛ لأنهم يعلمون أنه لو سمع أحدهم القرآن فقد يؤمن به: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، كانت هذه هي سياستهم، ولكن في رمضان من السنة الخامسة من البعثة حدث هذا الموقف الغريب: كان المشركون مجتمعين في البيت الحرام، وكان معهم المؤمنون أيضاً، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في وسط الناس وبدأ يقرأ سورة من سور القرآن الكريم تلاوة عليهم، وهي سورة النجم كاملة: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:1-12].
فانبهر المشركون بروعة الكلمات والآيات، وبالكلام العجيب الذي لا يقدر عليه بشر، ولم يحركوا ساكناً، نزلت الآيات كالقوارع على قلوبهم، خرست الألسنة، وتسمرت الأقدام، وتعلقت العيون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكمل القراءة بصوته العذب، بل بدأ يقرأ آيات تسفه أصنام قريش وآلهتهم المزعومة أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:19-23].
ومع أن الآيات تهين آلهة قريش وتحقر من شأنها إلا أن المشركين لم ينطقوا بكلمة، بل ظلوا يستمعون القرآن وقد انبهروا انبهاراً كاملاً، وأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة بكاملها إلى أن وصل إلى آخرها، حتى قرأ آية السجدة: أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:57-62]، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد المؤمنون، لكن المفاجأة الكبرى أن المشركين أيضاً لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من السجود لله رب العالمين، فسجدوا جميعاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طارت قلوبهم وذهلت عقولهم، ثم قاموا بعد السجود وقد أرعبتهم المفاجأة، ماذا فعلنا؟ لقد لمس الإيمان قلوبهم لحظة، ثم نكسوا على رءوسهم، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14].
اجتمع المشركون في مكة ممن لم يحضر المشهد في البيت الحرام، وأخذوا في إلقاء اللوم والتأنيب على المشركين الذين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسقط في يد المشركين، ماذا يفعلون؟ ثم غلب عليهم شيطانهم وأوحى إليهم أن يفتروا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبماذا كذبوا؟ لقد أشاعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ آيات معينة تعظم من شأن اللات والعزى، ولذلك لما جاءت آية السجود سجدوا تعظيماً لآلهتهم، افتروا هذه الفرية؛ ليخرجوا بها من الإيمان الذي دخل قلوبهم رغماً عن أنوفهم.
كيف حدث هذا الخطأ عند المسلمين في أرض الحبشة؟ لابد أنه وقع خطأ في نقل الأخبار من مكة إلى الحبشة أو خطأ في فهم الخبر الصحيح، ولكن في الحالتين ترتب على هذا الخطأ إرهاق شديد جداً للمسلمين في الحبشة.
لقد قرر المسلمون أن يعودوا إلى مكة، وذلك بعد إشاعة غير صحيحة جاءت من مكة إلى الحبشة، كم من الأثمان يدفعها المسلمون ثمناً للشائعات، وكم من الوقت والمجهود والمال يضيع جراء الشائعات، وعلى المسلمين دائماً أن يتبينوا قبل أخذ القرار، وفي اعتقادي أنه كان يجدر بالمهاجرين أن يرسلوا رسولاً واحداً منهم إلى مكة ليستوثق من الخبر، قبل أن يجمعوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم ويعودوا هذا المشوار الطويل المرهق عبر البحار والصحاري، أو أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم المحنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان سيرسل إليهم حتماً بالخبر لو أن مكة آمنت فعلاً، وأن المصلحة في أن يعودوا إلى مكة، لكن هذا لم يحدث، وعاد المسلمون وركبوا البحر لمسافات طويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم ترقص من الفرحة، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان مجرد إشاعة! مر المسلمون بمعاناة كبيرة بسبب هذه العودة، لكن بفضل الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا إلى الليل، ووقفوا خارج مكة، وأرسلوا رسولاً، وجاء لهم بالخبر أن أهل مكة ما زالوا مشركين، نعم، مشكلة ضخمة، لكن اجتمع المسلمون وعقدوا مجلساً للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسموا عليهم هذه التوصيات الثلاث.
التوصية الأولى: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة. وهذا أمر شاق على النفس، ولكنه سيكون أكثر أمناً.
التوصية الثانية: أن يدخل بعض المسلمين إلى مكة سراً متخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك إلى الحبشة، ومفهوم ذلك أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة بسيطة؛ لأن مكة مدينة صغيرة ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لفترة طويلة.
التوصية الثالثة: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهاراً ولكن في جوار واضح وحماية معلنة، حتى لا يعرض للقتل أو للتعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يشرحون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الحبشة، ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة.
وتم بالفعل هذا الاتفاق وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سراً ثم عادوا بعد ذلك إلى الحبشة ودخل بعضهم مكة في وضوح، أما الذين دخلوا مكة في إعلان فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم، فدخل عثمان بن عفان الأموي في حماية قبيلته القوية بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك وهو من قبيلة بني مخزوم، وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون بنو جمح وكانت من أشد القبائل محاربة له شخصياً، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي لعنه الله.
فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة ، وكانت إجارة غير مشروطة، وقد قلنا بأن المشركين قد رفعوا أيديهم نسبياً عن المسلمين بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ولكن جدت أمور جعلت المشركين ينشطون من جديد لتعذيب المسلمين.
أولاً: أن سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب بلبلة في أرض مكة، ومن كان متردداً في الإيمان فلابد أن يفكر الآن بجدية، وبالذات في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ لذلك فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة.
ثانياً: وصلت إلى مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا رفع من معنويات المسلمين من ناحية وأحبط معنويات الكفار من ناحية أخرى، فمشركو مكة كانت لهم علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولاشك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة أن تنشط في مواجهة الدعوة، فماذا فعلت؟
الوسيلة الأولى: قررت قريش منع المؤمنين من السفر، وقامت بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من خرج من المؤمنين من مكة، ووضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، كل هذا لوقف الهجرة إلى الحبشة، وقد يظن ظان أن المشركين سيكونون سعداء بترك المسلمين في أرض مكة، فلماذا يمنعونهم من الهجرة؟ كانت قريش تفكر بطريقة أخرى.
أولاً: أن المؤمنين اتخذوا من الحبشة موطناً ومحضناً ليربى فيه المسلمون؛ ليعودوا أشد قوة؛ لأن المؤمنين أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد بعث لقومه خاصة وللناس عامة، ولابد أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطة المؤمنين، ولابد أن يرجع المؤمنون إلى أرض مكة.
ثانياً: أن المؤمنين سيغيرون علاقة الحبشة بمكة، ويجعلونها لصالحهم، فأهل الحبشة إذا رأوا أخلاق المؤمنين ونضجهم ونقاءهم، فإنهم سيستنكرون بشدة أفعال الذين عذبوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة، وهذا فيه ضرر كبير بهم.
ثالثاً: خاف أهل مكة من أن أهل الحبشة يدخلون في الإسلام، ثم يقبلون على مكة بعد ذلك لغزوها، وقريش ليست لها طاقة بحرب دولة الحبشة وجيش الحبشة وملك الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة الأشرم وهو مجرد تابع لملك الحبشة كان على منطقة اليمن.
رابعاً: كانت قريش تخشى من انتشار المد الإسلامي في خارجها، فدعوة المسلمين مقنعة، ودينهم قيم، وقرآنهم معجز، ولو تركت لهم حرية الدعوة فلاشك أن أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين.
إذاً: فليمنع المسلمون من السفر، ولتحدد إقامتهم في أرض مكة، هكذا فكر أهل الباطل في مكة.
هذه كانت وسيلة منع المسلمين من الخروج من مكة.
الوسيلة الثانية التي استخدمها أهل الباطل في مكة قبل ذلك لمنع الدعوة: هي وسيلة التعذيب الشديد من جديد، وسيلة العاجز الضعيف المهزوم، والانتكاسة البشعة في الإنسانية، انقلبوا على كل من بقي من المسلمين في أرض مكة يعذبونهم، ولم يستطع حمزة وعمر رضي الله عنهما كأفراد أن يقوموا بحماية المؤمنين من هذه الحرب القرشية المنظمة.
في هذا الموقف العصيب، وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفاً من استئصال عامة المسلمين في لحظات الغضب والتهور غير المحسوب وغير المدروس، في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره بالهجرة مرة ثانية إلى أرض الحبشة، المرة الأولى هاجر (10) رجال و(4) نساء ثم عادوا إلى مكة، ثم عاد بعضهم إلى الحبشة من جديد، أما في هذه المرة فقد صدرت الأوامر بهجرة أكثر من (80) رجلاً مسلماً أو (82) أو (83) وكان فيهم عمار بن ياسر، وهاجر أيضاً: (18) امرأة (11) قرشية و(7) غير قرشيات، هذا غير الأطفال.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كقائد مسئول له أهداف واضحة ومحددة، والرؤيا عنده واضحة، فهو يتحرك بمرونة سياسية وفقهية عالية، الأهداف واضحة، والدعوة لابد أن تصل إلى عموم الناس، والدعوة لن تصل إلى الناس إلا عن طريق الدعاة، والدعاة وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة.
إذاً: فليكن القرار الحاسم الجريء في الوقت المناسب هجرة أكثر من (80) مسلماً، وهو ما يمثل نصف الطاقة الإسلامية تقريباً في ذلك الوقت، وهو قرار إستراتيجي خطير، موازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة، مع التضييق الشديد الذي تمارسه قريش، موازنة قد ينفعل الشباب ويقولون: نبقى مهما كانت النتائج، ولو أدى ذلك إلى الموت، فهذا موت في سبيل الله، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد السياسي المحنك والداعية الحكيم يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة، فالله عز وجل خلق النبات الضعيف ليناً طرياً مرناً، فمع الريح الشديدة يميل النبات حتى لا ينكسر، ثم عندما يشتد عود النبات ويصبح شجرة راسخة لها جذور عميقة؛ فإنها لا تميل أمام الريح الشديدة، بل تظل ثابتة وتمر الرياح مهما اشتدت قوتها من حولها، هكذا المؤمن الفقيه.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار الجريء، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى، لماذا كان هذا القرار صعباً؟ وماذا فعل المسلمون في طريقهم من مكة إلى الحبشة في هجرتهم الثانية؟ وكيف استقبلهم النجاشي رحمه الله؟ وماذا كان رد فعل أهل مكة عندما علموا بهذه الهجرة الكبيرة إلى أرض الحبشة؟ وما هي الدروس العظيمة المستفادة من هذه الهجرة العظيمة الثانية إلى الحبشة؟
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر