أما بعد:
فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية.
تحدثنا عن الهجرة إلى الحبشة، وكيف هاجر المسلمون، وكيف استقبلوا هناك، ولماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة دون غيرها، ثم عن عودة المسلمين إلى الحبشة عندما سمعوا بإشاعة مفادها أن مكة آمنت، ثم اكتشفوا بعد ذلك عدم دقة الخبر، فرجعوا مرة أخرى إلى الحبشة، واشتد التعذيب بأرض مكة للمؤمنين المستضعفين، فهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة.
وكان هذا القرار -قرار الهجرة الثانية- أصعب بكثير من القرار الأول لأمور:
أولاً: أن قريشاً أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس على كل مخارجها ومداخلها، فأصبح الخروج صعباً.
ثانياً: أن العدد هذه المرة كبير، ففي أول مرة كانوا (14) رجلاً و(3) نسوة، أما الآن فهم قرابة المائة من غير الأطفال والمتاع الذي أخذوه معهم، ولا ننسى أن مكة بلد صغير، فخروج هذا العدد منها يهزها.
ثالثاً: أن فيهم أسماء لامعة في الإسلام ستخرج من داخل بيوت زعماء مكة المشركين، يظهر هذا من قراءة أسماء المهاجرين إلى الحبشة في المرة الثانية، سنجد مثلاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب زعيم زعماء مكة في ذلك الوقت.
و أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة أيضاً كان زعيماً كبيراً من زعماء الكفر.
أما سهيل بن عمرو أحد كبار زعماء مكة، والذي كان يقوم بدور المفاوض في صلح الحديبية فقد خرج من بيته ثلاثة من أولاده: سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو .
وهاجرت أيضاً فاطمة بنت صفوان بن أمية وصفوان بن أمية لم يؤمن إلا بعد فتح مكة.
وهاجر فراس بن النضر بن الحارث ، والنضر بن الحارث هو الذي ذهب إلى فارس وعاد يحكي للناس حياة رستم وإسفنديار وحاول أن يبعد الناس عن دين الله عز وجل بكل طريقة ممكنة، ها قد خرج ابنه مهاجراً مع المسلمين إلى الحبشة.
وهاجر هشام بن العاص بن وائل ، والعاص بن وائل من أكابر المشركين، ومن الذين نزل القرآن يلعنهم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، لكن عمرو بن العاص في ذلك الوقت لم يكن قد آمن بعد.
إذاً: خروج هؤلاء وأمثالهم من داخل بيوت أولئك الزعماء سيحدث زلزلة في مكة ولا شك، وسيصاب كل زعيم في كبريائه وذكائه وحكمته وتقديره للأمور والأحداث.
في هذا الجو الصعب، وفي هذه الخلفية المعقدة، أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالهجرة إلى الحبشة.
كان أمير المهاجرين هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وبدأت عملية من أعقد عمليات المناورة بخطة محكمة؛ فقد درست المداخل والمخارج بعناية شديدة، وتعاون الجميع من الصغار والكبار والرجال والنساء لإنجاح هذه المهمة، وبفضل الله سبحانه وتعالى نجحت العملية، وخرج من مكة مائة أو أكثر -على اختلاف الروايات- من الرجال والنساء والأطفال معهم المتاع والزاد، خرجوا إلى البحر الأحمر وركبوا السفن، واتجهوا إلى الحبشة، ولم ينجح الكفار في الإمساك بأي منهم! إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
تصوروا موقف الكفار في اليوم الثاني وقد وجدوا مكة المكرمة نقص منها مائة شخص، تخيلوا الفراغ الهائل الذي تركه هؤلاء الصالحون والصالحات وراءهم.
كان المسلمون في غزوة بدر (313)، معنى هذا أنه لا يوجد بيت في مكة إلا وخرج منه ابن أو أخ أو أخت.
بفضل الله وصل المؤمنون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي رحمه الله خير استقبال، وكان كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ملك لا يظلم عنده أحد)، كان استقباله على نفس المستوى من استقبال الوفد الأول الذي ذهب في هجرة الحبشة الأولى.
لكن هل قبلت قريش بالأمر الواقع، وفكرت في إنهاء الصراع الطويل بينها وبين المؤمنين؟
كان عمرو بن العاص مشهوراً بالدهاء والمكر، ويستطيع بذكائه -بحسابات قريش- أن يتصرف مع ملك الحبشة، ليس هذا فحسب، بل هو صديق شخصي له، وفوق كل هذا فأخو عمرو بن العاص وهو هشام بن العاص كان ضمن المهاجرين إلى الحبشة، فالأمر بالنسبة لـعمرو يعتبر قضية شخصية، وأيضاً مهمة رسمية، وأيضاً أخو عبد الله بن ربيعة عباس بن أبي ربيعة رضي الله عنهما كان من المهاجرين، فاختاروا هذين الرجلين ليقوما بهذه المهمة في منتهى الجدية، وأنفقوا كثيراً على هذه السفارة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:36]، حملَّت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات الجلود، وهذا نوع من الرشوة للملك ولرجال الحكم في الحبشة.
كان عمرو بن العاص في منتهى الذكاء، فلم يدخل على النجاشي مباشرة، إنما ذهب في البداية إلى البطارقة، وهم يمثلون كبار رجال الحكم والدين الموجودين تحت النجاشي في الحبشة، وحمَّلهم جميعاً بالهدايا العظيمة، وبهذا ضمن وقوفهم معه ضد المسلمين، وتأثيرهم على النجاشي .
كان عمرو شديد الذكاء، واختار كل كلمة بدقة شديدة، وأثرت كلماته مع أنها لم تستمر كثيراً، قال: (أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء). وهذه سقطة من عمرو بن العاص وكذبة، فمعظم المهاجرين من الأشراف العقلاء، وليسوا من الغلمان السفهاء، ولكنه سهم يضرب به للتحقير من شأن المسلمين، وفي اعتقاده أن النجاشي لن يقدم كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية، كان هذا هو السهم الأول لـعمرو .
أما السهم الثاني فقال فيه: (فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك). يعني: لا هم يريدوننا ولا حتى أنت شخصياً يريدونك، هكذا هم في تصوير عمرو بن العاص :لم يراعوا حق الأهل، ولا حق المستضيف لهم.
ثم قال في سهمه الثالث: (وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً).
يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف كل المعاملات الاقتصادية والهدايا والجلود. هذا أولاً.
ثم ثانياً: هؤلاء الأشراف هم آباؤهم وأعمامهم، يعني: لهم حق الأبوة على هؤلاء، فـعمرو بن العاص يحاول أن يستثير أخلاق النجاشي لرد هؤلاء الأولاد إلى آبائهم.
وثالثاً: يقول له: أنت ممكن أن تنخدع بحلاوة كلامهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم فترة طويلة، كما قال عمرو بن العاص : فهم أعلى بهم عيناً. أي: انتبه ولا تنخدع بكلامهم، فالذين عاشوا معهم ثلاثين وأربعين سنة يقولون لك بأنهم يكذبون ويخدعون، ويقولون كلاماً غير موافق للحقيقة.
إذاً: تكلم عمرو بن العاص بكلمة موجزة ذكية لا تخلو من أدب جم، وكان المطلوب فيها رد المسلمين إلى مكة.
بعدما انتهى عمرو بن العاص من كلامه، وقبل أن يتكلم النجاشي تدخل البطارقة والوزراء وكبار القوم وقالوا: صدقا أيها الملك -أي: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة - فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
وهؤلاء البطارقة والوزراء قد أخذوا الرشوة، وكان عمرو بن العاص يشعر بسعادة كبيرة، فكل شيء يمشي كما خطط، وكان كل مراده أن يرجع النجاشي إليه المسلمين من غير أن يسمع كلامهم ولا حجتهم؛ لأن عمراً يعرف أن كلام المسلمين جميل ومقنع، وأن معهم أسلحة لا يمكنه مواجهتها، وأهم هذه الأسلحة القرآن الكريم، لكن النجاشي ملك لا يظلم عنده أحد، وليس من العدل أن يحكم في قضية دون أن يستمع إلى الطرف الآخر. هذه أبسط قواعد العدل في الحكم.
قال النجاشي رداً على عمرو ورداً على البطارقة الموالين والمحبين لـعمرو : لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم بعث للمسلمين الذين علموا بمجيء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاستعادتهم.
اجتمع المسلمون في مجلس سريع للشورى، وقالوا: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64].
كانت الرؤية واضحة تماماً عند المسلمين بلا خوف أو قلق؛ لأن الخوف إنما يكون من ربنا وحسب. هذا هو الشعور والإحساس الذي كان عند المسلمين، لا يوجد أي نوع من القلق؛ لأنهم سيقولون كلام ربنا سبحان وتعالى.
ثم اختاروا متحدثاً عنهم هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لأمور:
أولاً: أنه رئيس الوفد، ورئيس الوفد هو الممثل الرسمي للوفد، ومؤكد أنه التقى قبل ذلك بـالنجاشي ، وألف الحوار معه.
ثانياً: أنه خطيب مفوه يستطيع أن يوصل كلام المسلمين بأفضل صورة ممكنة.
ثالثاً: أنه من أشرف أشراف الوفد، هاشمي قرشي، وفي هذا رد على كلمة عمرو بن العاص : إنه قد ضوى إلى بلادك غلمان سفهاء.
بدأ الاجتماع الكبير، وافتتح النجاشي هذا الاجتماع بسؤال للمسلمين في منتهى الوضوح والغرابة، قال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
الغريب في السؤال أن المسلمين ما قالوا للنجاشي أي شيء قبل ذلك عن دينهم، ولا هو سأل، ولم يتحمس المسلمون للقيام بواجب الدعوة في الحبشة؛ لأن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة هو الحفاظ على الدين ممثلاً في المسلمين، ولأنهم يدركون مدى قوتهم البسيطة، ولم يريدوا أن يفتحوا عليهم جبهات جديدة داخل الحبشة، وآثروا أن يتكتموا أمرهم، ويحافظوا على سريتهم، ويهتموا بالدواعي الأمنية للوفد المسلم على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة. وهذا من فقه المرحلة.
فـالنجاشي رحمه الله لم يسأل، واكتفى فقط بمجرد قول المسلمين بأنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا؟ ولماذا؟لم يسأل.
لكن الوضع في هذا الوقت تغير بالنسبة للنجاشي ؛ لأنه ستحدث بينه وبين مكة مشكلة سياسية، ولابد من التحقيق فيها، كما أن الوضع تغير بالنسبة للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يسكتوا في هذا الوقت، فهم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلاماً مغايراً للحقيقة قد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، نعم، من الممكن أن يسبب لهم التصريح بالإسلام مشكلة، لكن ليس أمامهم غير هذا، فماذا سيقول جعفر في كلمته أمام النجاشي والوزراء وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ؟
قال كلمات وكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها على لسان جعفر رضي الله عنه وأرضاه، وبالترتيب الذي قاله قسم جعفر المقالة إلى عدة مقاطع، كل مقطع له غرض معين، ورتبها ترتيبًا جميلاً.
المقطع الأول قال فيه: (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف).
هذه أمور تأنف منها النفوس الكريمة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ما زالا على هذه الصورة الخبيثة، وهذه الجاهلية التي يتحدث عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إن كل المشاكل التي عرضها جعفر في حال الجاهلية تتعلق بالظلم، إما الظلم مع النفس بعبادة الأصنام: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أو مع الرحم بقطع الأرحام، أو مع الجار بالإساءة إليه، أو مع الضعيف بأكل حقه.
وتخيل أن هذه الصورة تعرض على ملك عادل لا يظلم عنده أحد.
ثم إن النجاشي شعر بالبشاعة التي عليها أهل مكة وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة .
فكان هذا أول سهم أطلقه جعفر بن أبي طالب في مقتل لقريش.
المقطع الثاني: قال جعفر : (فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)، يعني: الذي جاء بهذا الدين ليس رجلاً أفاكاً كذاباً يريد خداع الناس، إنما يشهد بصدقه وأمانته وعفافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشهوراً بذلك في مكة، ولا ننسى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، والإنجيل والتوراة فيهما الحديث عن رسل كثيرين، فالحديث عن الرسل ليس بمستغرب لديهم. فكان هذا هو السهم الثاني من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الثالث: تكلم فيه عن الصورة المضادة للجاهلية، قال: (فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ... إلخ.
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها راوية القصة: (فعدد عليه أمور الإسلام)، يعني: ذكر له أموراً كثيرة من فضائل الإسلام.
أنا أريد منك أن تتخيل موقف النجاشي وهو يسمع هاتين الصورتين المتناقضتين، صورة الإسلام، وصورة الجاهلية، مع العلم أن جعفراً لم يكذب، إنما الحقيقة أن الباطل بطبيعته قبيح مقيت، والإسلام بطبيعته جميل محبوب.
فكان هذا هو السهم الثالث من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الرابع: قال جعفر : (فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا).
ثم بدأ جعفر يذكر للنجاشي أن عمرو بن العاص وأهل مكة عذبونا لكي نرجع من صورة الإسلام الجميلة إلى صورة الجاهلية المقيتة القبيحة.
قال جعفر بن أبي طالب : (فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث).
وصورة التعذيب هذه تذكر النصارى بالحواريين الذين عذبوا من قبل، وهم أصحاب عيسى عليه السلام الذين عذبوا بنفس الأساليب البشعة.
بعد هذا يمكن القول بأن جعفراً سيطر على مشاعر النجاشي ، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حول النجاشي .
المقطع الأخير من البيان المسلم، قال فيه جعفر : (فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك).
كان كلام جعفر من غير نفاق ولا كذب، فهو يرفع من قيمة النجاشي ، وهو بذلك يكسب قلب النجاشي .. يرفع قيمة العدل عند النجاشي حتى لا يتسرع بعد ذلك النجاشي في حكمه، ولا يجور في قضائه.
وهنا انتهى البيان الإسلامي السياسي المحنك، والنتيجة مثلما ترون خمسة سهام قوية في صدور الكافرين.
كان واضحاً أن النجاشي والأساقفة تأثروا بكلام جعفر ، لكن النجاشي عقلية كبيرة، فـجعفر يتكلم عن رسول، والنجاشي يعرف أن كلام الرسل غير كلام الناس، ويريد أن يتأكد، وواضح أن النجاشي بدأ يهتم بأمر هذا الدين الجديد، وهناك احتمال كبير أنه كان يعرف عن رسول سيأتي في ذلك الزمان، كما كان كل أهل الكتاب يعرفون.
كل هذا جعل النجاشي يقول لـجعفر : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ -يريد أن يسمع- قال جعفر : نعم، وبدأ جعفر رضي الله عنه يبحث عما سيقرؤه من القرآن على النجاشي ومن معه؛ لأن آيات القرآن التي نزلت في مكة كثيرة، لكن الله عز وجل وفق جعفراً إلى اختيار صدر سورة مريم التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .. السورة التي تتحدث عن السيدة مريم ومكانتها في الإسلام، وبدأ جعفر يقرأ آيات القرآن الجميلة على النجاشي ومن معه: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:1-7].
ذكريات جميلة تمر على أسماع النصارى، بدأ النصاري يتأثرون وجعفر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على الوتر الحساس: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:16-21].
لم تتحمل قلوب النصارى الكلمات المعجزة حتى بكوا وبكى النجاشي ، وبكت الأساقفة.
لم تقف هدايا عمرو بن العاص حائلاً بين كلام الله عز وجل وبين قلوب السامعين، ولم يكن صعباً على النجاشي أن يأخذ القرار، قال: إن هذا والذي جاء به موسى -وفي رواية: عيسى- ليخرج من مشكاة واحدة.
هذا إقرار بصدق الرسالة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق جعفر ومن معه، ثم التفت إلى عمرو وإلى عبد الله بن أبي ربيعة فقال لهما: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً.
كانت هذه الجولة بكاملها في صف المؤمنين، هزم فيها سفيرا قريش هزيمة منكرة في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة، وخرج عمرو بن العاص وهو في منتهى الغيظ والغضب، فقد كانت هذه ضربة قوية لكبرياء عمرو بن العاص داهية العرب في ذلك الوقت، الذي بلغ من العمر (45) سنة، بينما كان عمر جعفر (27) سنة، لكن العملية لم تكن عملية سن، العملية عملية حق، من الذي يدافع عن الحق، ومن الذي يدافع عن الباطل.
لكن عمرو بن العاص لن يغلب بسهولة، وفكر في جولة ثانية مع المسلمين، كانت هذه المرة جولة انتقامية شرسة، في المرة الأولى كان يريد أن يرجعهم إلى مكة، أما بعد الهزيمة أمام جعفر والمسلمين، فلن يكتفي بهذا، بل سيدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، والظاهر أن هذا لم يكن الهدف من سفارة قريش، لكن الضربة التي أخذها عمرو بن العاص جعلته يتصرف بطريقة شخصية.
قال عمرو لـعبد الله : والله لأنبأنه غداً عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم! وطريقته هذه في التحدي جعلت عبد الله بن أبي ربيعة يخشاه، وهو الرجل الذي جاء معه، قال: لا تفعل، فإنهم أرحام وإن كانوا قد خالفونا، لكن عمراً مجروح، ورفض بشدة، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. وهذا شيء منكر في الحبشة، أهل الحبشة يتبعون الكنيسة في الإسكندرية، ويعتقدون أن المسيح عليه السلام هو إله تجسد في جسد بشر، تعالى الله عما يصفون!
وهذا يعكس مدى دهاء وثقافة عمرو بن العاص ، فقد كان يعرف رأي المسلمين في عيسى عليه السلام، ويعرف رأي أهل الحبشة فيه، ولديه اطلاع كاف على المعلومات التي يمكن أن يحتاجها في مهمته.
فذهب عمرو في اليوم الثاني إلى النجاشي وقال له: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، لم يقدر النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، وبالذات في وجود الأساقفة وكبار رجال الدولة، فاضطر أن يرسل إلى المسلمين مرة أخرى.
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها: (ولم ينزل بنا مثلها)، كانت مشكلة خطيرة قد تعصف بالوفد الإسلامي تماماً؛ لأن رأي الوفد في عيسى بن مريم عليهما السلام يتعارض كلياً مع رأي أهل الحبشة، وهم ضعفاء لاجئون، ولا يوجد مكان آخر سيقبل المسلمين في الأرض، وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ينتظران رأي النجاشي فيهم.
اجتمع المسلمون في مجلس للشورى قبل أي قرار، وقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ ثم قالوا في منتهى الوضوح: (نقول والله فيه ما قال الله). يقسمون بالله عز وجل أنهم سيقولون فيه ما قال الله عز وجل. (نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن).
هذا قرار خطير في عرف السياسيين، أو انتحار في تصوير السياسيين، لكن المقاييس عند المسلمين مختلفة؛ إذ الفرق ضخم وهائل بين المسلم السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، المسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، وهذه مسألة من مسائل العقيدة، مسألة: هل ربنا الله عز وجل أم المسيح؟ أما السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل يريد أن يصل إلى نتيجة ولو على حساب الشرع أو الأخلاق؛ لأنهم يقولون: الغاية تبرر الوسيلة، لكن الحقيقة أن الموقف عند المسلمين لم يكن فيه أي حيرة، نعم خطير لكنه لم يكن محيراً. نقول فيه ما قال الله عز وجل كائناً في ذلك ما هو كائن.
الموازنة كانت سهلة بالنسبة للمسلمين: لا شيء يقدم على العقيدة.
ذهب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النجاشي ومن معه من الأساقفة، فقال له النجاشي ما تقولون في عيسى بن مريم؟
وقف جعفر أمام ملك الحبشة في وضع صعب، وأي كلمة فيها خطأ قد تعصف بالوفد الإسلامي كله.
قال جعفر في منتهى الثقة: (نقول فيه الذي جاء به نبينا، نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول). يعني: مكانة عيسى وأمه عليهما السلام مكانة عالية، لكنهما لا يعدوان أن يكونا بشرين من خلق الله عز وجل.
كان هذا الكلام غير مقبول في أرض الحبشة، لذا انقسم المجلس إلى موقفين: موقف للنجاشي ، وموقف للأساقفة.
أما النجاشي فقد كان موقفه مفاجأة كبيرة للمسلمين ولأهل الحبشة وللبطارقة والوزراء، وعمرو بن العاص ، أخذ النجاشي عود نبات من الأرض، وقال: (ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود). يعني: كلامك صحيح تماماً في وصف المسيح عليه السلام. أي: أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح عليه السلام، وبنبوته، وأنه ليس إلهاً. وهذا كلام في منتهى الخطورة في الحبشة، لم يعجب الأمر البطارقة، وتناخرت وأصدرت أصواتاً عالية تنم عن الغضب، فصاح النجاشي فيهم في حزم، وقال: (وإن نخرتم والله).
والنجاشي بعد هذا أخذ ثلاثة قرارات في منتهى الخطورة:
القرار الأول: استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود.
وهذا قرار خطير؛ لأنه ليس على هوى كبار الأساقفة، ويحمل احتمال وقوع فتنة داخلية في الحبشة تطيح بملك النجاشي نفسه، لكن هذا القرار كان مما يقتضيه العدل، والنجاشي ملك عادل رحمه الله.
القرار الثاني: قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات.
قال النجاشي في وضوح: (ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها)، فخرجا من عنده كما تقول السيدة أم سلمة : (مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به).
القرار الثالث: قرار الإسلام، وهذا أخطر قرار في حياة النجاشي رحمه الله، فقد ترك النصرانية إلى الإسلام وهو على رأس دولة نصرانية متمسكة بنصرانيتها، لكنه رجل عادل لا يضيع حق الله عز وجل في أن يعبد، وعادل في أنه لا يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعادل في أنه لا يضيع حق نفسه في أن يؤمن بالله عز وجل.
لكن النجاشي رحمه الله لم يعلن إسلامه بل أخفى إسلامه وأظهر النصرانية، ولعل ذلك لأسباب منها: أنه خاف على ملكه أو نفسه، وما معنى إعلان جعفر بن أبي طالب لأمر الدعوة دون مواربة بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟
الحقيقة أن الموقفين مختلفان؛ لأن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه له وظيفة دعوية، وللنجاشي رحمه الله وظيفة دعوية أخرى مختلفة، فمن وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرّف بالإسلام بمنتهى الدقة، كل كلمة من كلمات جعفر رضي الله عنه محسوبة على الإسلام، لا ينفع هنا تورية ولا إخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته بكاملها. وهذا هو فقه الموازنات.
أما النجاشي فهو ليس محسوباً على الإسلام أو المسلمين، ويقاس الأمر بالنسبة للنجاشي من وجهة نظر أخرى، فلو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني لا محالة، ولو خلع سيختفي المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين، كما أن كتم النجاشي لإيمانه سيحتفظ له بمكانه غالباً، ويكون هذا أدعى لحماية المؤمنين.
إذاً: وظيفة جعفر الدعوية تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، بينما وظيفة النجاشي الدعوية تقتضي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له.
عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، من السنة الخامسة من البعثة -الهجرة الأولى للحبشة- إلى العام السابع من الهجرة النبوة، يعني: حوالي (15) سنة.
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها: (وأقمنا عند النجاشي بخير دار مع خير جار).
نبدأ بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ لأنه كان الأسبق: كان حمزة بن عبد المطلب فارساً من فرسان قريش الأشداء، كان من أقواهم شكيمة رضي الله عنه وأرضاه، وفي يوم من الأيام -وكان ما يزال كافراً- خرج إلى الصيد، وفي هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً وحيداً عند الصفا، وكانت بعيدة قليلاً عن بيوت مكة، فتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سباً قبيحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت لم يرد عليه: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، وهذا ليس أي جاهل، بل هو أبو جهل نفسه، ولم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، فأخذ حجراً ورماه في رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فسالت الدماء من رأسه!
فذهب أبو جهل فرحاً بعمله، ويظن أنه لم يره أحد، لكن الله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام له تدبير عجيب، فقد سخر الله عز وجل مولاة لـعبد الله بن جدعان رأت الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل ، فلما أتى حمزة بن عبد المطلب وقفت الجارية تقص عليه الحادث.
الجارية كافرة ومولاها كافر، والذي تحكي له كافر، لكن: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
قالت الجارية: يا أبا عمارة ! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد. فأثارت الحمية في قلب حمزة رضي الله عنه، خصوصاً عندما زادت كلمة (ابن أخيك).
قالت: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه.
انصرف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد أحد يدافع عنه، فقد كان الوحيد في أعمامه الذي يدافع عنه أبو طالب ، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب ؟ كان من أشد المحاربين له. أين العباس وحمزة ؟ لا يوجد أحد مشغول برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد فيهم متذكر لـعبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم، يا ترى لو كان حياً هل سيكون الموقف مثل هذا؟ أين بنو هاشم؟ وأين بنو عبد مناف؟
أبو جهل زعيم بني مخزوم يضرب أشرف شرفاء بني هاشم على الإطلاق، بل أشرف إنسان في الأرض.
عندها تجمعت المشاعر في قلب حمزة .. مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمداً لهم، مشاعر القبلية الهاشمية القرشية الشريفة، مشاعر الغيظ من زعيم بني مخزوم، مشاعر النخوة والنصرة للمظلوم، مشاعر الإحراج أمام شباب وفرسان مكة، مشاعر كثيرة جعلت الدم يغلي في قلب حمزة .
ذهب حمزة مسرعاً إلى أبي جهل ، فعرف أنه في المسجد الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحد على معارضته، حتى وقف أمامه، ثم رفع قوسه وضرب رأس أبي جهل ضربة شجت رأسه وتفجر منها الدم، قصاص ضربة بضربة، ودماء بدماء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب بعيداً عن الناس فقد ضربه بين الناس في المسجد الحرام، فضيحة بكل المقاييس.
هذا الرد في عرف الناس يشفي الغليل، لكن حمزة ما زال لم يشف غليله، ما زال يريد أن يغيظه أكثر، ولو قتله ستنشب حرب هائلة في مكة بين بني هاشم وبني مخزوم، ولكنه فكر في أشد ما يغيظ أبا جهل ، إنه الدين الجديد الإسلام، فاندفع حمزة دون تفكير وقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت، يريد أن يغيظه بكل طاقته، لم يفكر في عواقب هذه الكلمة الخطيرة، المهم في هذا الوقت أن أبا جهل يذل وسط الناس.
كان أبو جهل غارقاً في فضيحته، ولم يعد يعرف بم يفكر، وحمزة أمامه يقول بأنه قد أسلم، فقام رجال من بني مخزوم لينتصروا لـأبي جهل ، لكن أبا جهل كان يخشى من ذلك، فقال في ذلة شديدة: دعوا أبا عمارة ، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
جلس حمزة بعد هذا مع نفسه، أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟ أبهذه السهولة يقول في لحظة واحدة الكلمة التي رفض أن يقولها في سنوات مضت، يسمع فيها عن الإسلام، ويسمع القرآن ولم يؤمن ست سنوات في مكة لم تنقل حمزة من الكفر إلى الإيمان، بينما نقله هذا الحادث الواحد غير المقصود في عرف الناس!
لكن احفظوا هذه الجملة: الظلم الشديد إذا تفاقم وازداد أعقبه نصر من الله عز وجل.
لا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصراً للدعوة، ولو كان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً لم يكن ليلفت نظر حمزة ، لكن شدة الأذى حركت القوى في قلب حمزة التي لم تتحرك من ست سنوات، انظر إلى تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، كيف يمكن أن يخلق من وسط الظلم عدل، من الاضطهاد والقهر والبطش نصر للدعوة، لو كان أبو جهل يعرف أن كل هذا سيحصل لم يكن ليضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
ولك أن تتصور موقف الصحابة في الساعة التي ضرب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في الساعة التي آمن فيها حمزة رضي الله عنه وأرضاه! إن هذه رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصراً عظيماً للدعوة، هذا الوضع في مكة، وفي تاريخ الدعوة كلها قبل الرسول وبعد الرسول وإلى يوم القيامة، إذا تفاقم الظلم ولّد نصراً للإسلام وللمسلمين.
عاد حمزة إلى بيته يفكر في الكلمة التي قالها هو كرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يقول كلمة ثم يعود فيها، وهو في ذات الوقت كرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها، صراع ضخم!
فلجأ إلى الله عز وجل، والعرب بصفة عامة كانت تؤمن بالله وبحكمته وبعظمته وبقوته، لكنهم كانوا يحكمون غيره في حياتهم، هذه هي مشكلتهم، لكن حمزة في هذا الوقت في موقف صعب محتاج لربه سبحانه وتعالى، وهو يعرف أن الله موجود ويسمعه، لكن ما الصحيح في الأمر؟ هل أعبد الله على طريقة الأجداد واللات والعزى وهبل، أم على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
وقف يدعو ربنا وقال في دعائه: اللهم ما صنعت إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً.
صنع شيئاً أشبه ما يكون بصلاة الاستخارة، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وقال له: يا بن أخي! إني قد وقعت في أمر ولا أدري ما المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أهو رشد أم غي شديد؛ فحدثني حديثاً فقد اشتهيت يا بن أخي أن تحدثني.
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، قرأ عليه نفس القرآن، أقبل عليه الرسول فذكره كما كان يذكره، الكلام نفس الكلام، لكن الوعاء المستقبل - حمزة - قد اختلف.
لحظة هداية من ربنا سبحانه وتعالى يختارها بحكمة، في لحظة واحدة دخل الإيمان الحقيقي على قلب حمزة رضي الله عنه وأرضاه، سمع الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بصدق من ساعته، قال حمزة رضي الله عنه وأرضاه بصدق: أشهد أنك الصادق، فأظهر يا بن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وإني على ديني الأول.
في لحظة واحدة أصبحت الدنيا في عين حمزة لا تساوي شيئاً، لا يتمنى أن يمتلك الدنيا كلها في مقابل دينه الجديد الإسلام، وأصبح حمزة أسد الله عز وجل.
انظروا إلى النقلة الهائلة الضخمة التي نقلها الإسلام لـحمزة رضي الله عنه وأرضاه، من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للأكل والنوم، نقله الإسلام إلى رجل يصبح همه أن يعبِّد الناس كل الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، وأن يظهر الإسلام في مكة وفي غيرها، وأن يحمي المستضعفين، ترقى في القدر من كونه سيداً لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخارطة في فترة قصيرة من عمر الدنيا لا تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيداً للشهداء في الجنة على مر التاريخ إلى يوم القيامة.
من أراد أن يعرف قيمة الإسلام فلينظر إلى حمزة قبل الإسلام وبعد الإسلام.
الإسلام هو الذي صنع حمزة والصديق وعثمان وعمر وعلياً ، وكل الجيل العظيم، وهو الذي يصنع غيرهم على مر التاريخ، إذا كنا نريد رجالاً مثل حمزة فلابد أن نأخذ الإسلام كما أخذه حمزة رضي الله عنه، ونعيشه كما عاشه حمزة وعاشه كل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذه كانت قصة إسلام حمزة رضي الله عنه وأرضاه، سيد الشهداء وفارس المسلمين رضي الله عنه.
سنتعرف على قصة إسلام أعجوبة الإسلام، وأسطورة التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، ونسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر