وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة: فترة مكة.
فيما سبق تكلمنا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لستة من الخزرج في السنة الحادية عشرة من البعثة، وعن دعوة هؤلاء الستة للإسلام في يثرب، وكيف عادوا في العام الثاني عشر في موسم الحج وكان عددهم (12)، وعقد الرسول صلى الله عليه وسلم معهم البيعة المشهورة المسماة: ببيعة العقبة الأولى، وكانت هذه البيعة تهتم في الأساس بالعقيدة السليمة، والأخلاق الحسنة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى المدينة المنورة ومعهم مصعب بن عمير رضي الله عنهم؛ لكي يعلمهم ويعلم أهل المدينة الإسلام.
وتكلمنا عن نشاط مصعب بن عمير مع أسعد بن زرارة رضي الله عنهما في الدعوة في المدينة المنورة في خلال السنة الثالثة عشرة من البعثة، وذكرنا قصة إسلام أسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ ، ورأينا كيف انتشر الإسلام في المدينة حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، ومرت الأيام وانتهت السنة الثالثة عشرة من البعثة، ورجع مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة قبل موسم الحج، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع المدينة وإمكانياتها، وعدد المسلمين وإمكانياتهم وأخلاقهم وتربوياتهم، أعطاه صورة كاملة عن الوضع في المدينة.
أتى الوفد المسلم من يثرب ضمن الوفد اليثربي الكبير المشرك، المكون من (300) تقريباً، منهم: (75) مسلماً، (73) من الرجال وامرأتان.
والغريب أن المشركين الذي كانوا في هذا الوفد لم يعرفوا أكثر المسلمين، يعني: أن المسلمين من الأنصار كانوا غير معروفين في المدينة بإسلامهم، مع أن دعوة مصعب بن عمير كانت علنية، كان يجلس وسط كل الناس، لكن يبدو أن الذي يسلم كان لا يعلن إسلامه؛ مراعاة لظروف المدينة وكثرة المشركين، ووجود اليهود، وغير ذلك من العوامل، كل هذا جعل الدعوة علنية لكن التربية سرية، واستطاع مصعب بن عمير رضي الله عنه والأنصار أن يكيفوا ظروفهم بحيث تتناسب مع ظروف المدينة المنورة في ذلك الوقت.
هناك كلمة جميلة قالها جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو من الستة الأنصار الأوائل الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة من البعثة، ثم بايعه بعد ذلك في بيعة العقبة الأولى، قال هذه الكلمة وهم ما زالوا في المدينة قبل أن يأتوا مكة، قال جابر : فقلنا: -أي نحن الأنصار- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، يقول: فرحل إليه منا (73) رجلاً! فالأنصار هم الذين سعوا إلى نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلب منهم ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم أن يأتوا بهذا العدد الكبير في هذا الموسم، لكن هم الذين جمعوا أنفسهم في هذا العدد الكبير من أجل أن يقنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب معهم إلى المدينة، هم الذين بحثوا عن التكاليف والواجبات الشاقة والصعبة في الإسلام.
فارق ضخم هائل بين الذي يبحث عن الدعوة والنصرة والجهاد، وبين الذي يبحث عنه الناس؛ ليقوم بأمر الإسلام والجهاد، فرغبة الأنصار هذه ستفسر لنا مواقفهم التي سنقولها الآن في بيعة العقبة الثانية، وستفسر لنا مواقف الأنصار بعد ذلك في كل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان الأنصار أنصاراً للدين بمعنى الكلمة، لم يفكروا في شيء لأنفسهم فحسب، بل عاشوا للدين وللإسلام، عاشوا لغيرهم من المسلمين، ما أبلغ الوصف الذي وصفهم به ربهم سبحانه وتعالى عندما قال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هذه الآية تلخص كل قصة الأنصار، ولن تستطيع أن تستوعب المواقف العظيمة للأنصار إلا في ضوء هذا المعنى الجميل الذي أشار إليه الله عز وجل في كتابه الكريم.
كيف سيقابلهم وهم في زحمة الحج، ووسط مكة الصغيرة؟ كيف سيقابلهم من غير أن يشعر به أحد من أهل مكة؟
أولاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الموعد في آخر ليلة من ليالي الحج، يعني: في ليلة (13) من ذي الحجة؛ لأن الحجاج سيعودون إلى بلادهم في اليوم الثاني مباشرة، فلو أن أحداً من أهل قريش علم باللقاء، فلن يصلوا إلى الوفد إلا بعد رحيله.
ثانياً: أنه جعل ساعة اللقاء في الثلث الأوسط من الليل؛ لأن الأغلب أن كل الناس في مكة سيكونون نياماً في هذا الوقت، فالذي سينام متأخراً سيتأخر نومه إلى الثلث الأول من الليل، والذي سيصحو مبكراً سيصحو في الثلث الأخير من الليل، لكن الثلث الأوسط يكون الناس فيه في الأغلب نياماً.
ثالثاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً بعيداً عن زحمة الحجاج، اختار الشعب الأيمن من العقبة، وهو مكان بعيد، لا يوجد أحد من الحجاج وضع فيه مخيمات.
رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر أحداً من المسلمين في مكة بالموعد إلا ثلاثة فقط، وسيكون لهم دور في الاجتماع، وهذا ليس بشك في المسلمين، لكنه يريد السرية التامة، فمن ليس له علاقة بالموضوع لا داعي لمعرفته، وهؤلاء الثلاثة هم: عمه العباس ، وكان في ذلك الوقت ما زال مشركاً، وأبو بكر ، وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أما العباس فلأنه سيكون مشاركاً في الاجتماعات، وأما أبو بكر وعلي فلتأمين المكان ومراقبة مداخل الشعب الذي سيتم فيه اللقاء.
خامساً: ليأخذ الأنصار الحيطة أيضاً، فمعهم في الوفد (225) مشركاً في نفس الخيام، ورئيس الوفد مشرك، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول الذي سيكون بعد ذلك زعيم المنافقين، فلابد أن يأخذوا الحذر الكافي.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه -أحد المشاركين في بيعة العقبة الثانية-: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل -أي: الأول-، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين -القطا: طائر صغير يشبه الحمام-، فكانوا يخرجون واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، إلى أن اجتمعوا كلهم في المكان المتفق عليه.
أتى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الموعد ومعه العباس رضي الله عنه، وبعث أبا بكر وعلياً كلاً منهما على مدخل من مداخل الشعب للمراقبة.
وهذا الاجتماع سيغير خريطة الأرض، ولابد لكل منا أن يسأل نفسه: أين كان أعداء الله وقت أن تم هذا الاجتماع المهيب؟ أين كان أبو جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.. وغيرهم من قادة قريش؟ أين كان أحبار اليهود: حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف.. وغيرهما؟ أين كان كسرى وقيصر ؟ كل هؤلاء كانوا نياماً، كلهم كانوا غافلين، لا أحد كان يعرف بهذا الاجتماع الذي سيتم، مع أن كلهم بعد ذلك عروشهم ستتزلزل نتيجة هذا الاجتماع، هذا -والله- تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، شيء لا يتخيله عقل، مجموعة بهذه القلة وهذا الضعف، في مثل هذا المكان الذي لا يرى على خارطة الأرض، وبعد ذلك سيكون هذا الاجتماع سبباً في تغيير كل شيء على الأرض في غضون سنوات قلائل.
بدأت مراسم المباحثات شديدة الأهمية، كانت كلمة الافتتاح للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما زال مشركاً، وواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً له، وأتى به لأداء دور سياسي معين، ما هو هذا الدور؟
أولاً قد نستغرب من شيء كهذا، لماذا يحضر مشركاً في مباحثات بهذه الخطورة؟
هذا الدور هو لتوضيح مكانة بني هاشم في مكة، ولإعلام الأنصار أنهم سيأخذون الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن له قبيلة كبيرة ذات شرف، فيحرصون على أن يكونوا هم البديل الحقيقي لبني هاشم، وكون العباس مشركاً يعطي بُعداً سياسياً آخر، وهو أن بني هاشم مؤمنهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العكس من ذلك لو جاء حمزة فقد يقع في أنفسهم أنه أتى لأنه مؤمن لا ليمثل بني هاشم، وسنرى في كلام العباس رضي الله عنه ما يثبت هذه التحليلات.
قال العباس : يا معشر الخزرج! -والعرب كانت تسمي أهل المدينة كلهم خزرجاً، سواء كانوا من الأوس أو الخزرج -إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
هنا انتهت افتتاحية العباس ، وكانت سريعة وموجزة، وقد وضح من خلالها الدور الذي أتى من أجله.
ثم جاء دور الأنصار في الكلام، وكانوا في منتهى الأدب، فقد كانت هناك ردود كثيرة ممكن أن تقال للعباس ، ويدخلون معه في جدل عقيم، على سبيل المثال: يمكن أن يقولوا له: تقول: إنه في عز وفي منعة وهو في جوار المطعم بن عدي من بني نوفل، ولم يقف بجواره أحد من بني هاشم؟ أو أن يقولوا: أنت تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن ينحاز إلينا، وما فعل ذلك إلا لأنه أوذي وضرب وظلم ورجم بالحجارة، وسب وألقي التراب على رأسه، وألقيت عليه رحم الجزور، وأنتم تنظرون إليه كغيركم، أين كنتم وهو يطوف بالقبائل يبحث عمن ينصره وعلى مسمع منكم ومرأى، والقبائل كلها ترفضه؟! بل ليتكم ساكتين فحسب، فإن أبا لهب عمه كان يمشي وراءه ويقول: لا تصدقوه إنه صابئ كذاب، أين كنت أيها العباس الهاشمي العزيز والرسول صلى الله عليه وسلم يعاني كل هذه المعاناة أمامك وأمام كل بني هاشم؟
كل هذا كان من الممكن أن يقال أو أكثر منه، لو كانت هذه المباحثات سياسية بحتة، يريدون أن يحققوا فيها أكبر المصالح، ويستغلوا الظرف الحرج الذي وقع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الوضع في الأنصار لم يكن هكذا أبداً، لم تكن المباحثات سياسية دنيوية، بل كانت إيمانية بحتة، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا أنصاره وأتباعه، وطوع إرادته، جاءوا وهم يعلمون أن المنة والفضل لله ولرسوله، وأن العمل والبذل عليهم وعلى المسلمين جميعاً، فكانوا يفهمون دورهم جيداً، من أجل ذلك قالوا في أدب رفيع: قد سمعنا ما قلت -يكلمون العباس رضي الله عنه-، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ييسر على الناس أمر الإيمان، كان يقبل أن يقوم الرجل بالفرائض فقط ولا يؤدي النوافل، وكان يقول: (أفلح إن صدق)، (إن صدق دخل الجنة) وليس هذا فحسب، بل كان يعطي الأموال من أجل أن يتألف قلوب الناس للإيمان.
أما الآن وهو في هذا الموقف الحرج فإنه يشترط شروطاً قاسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبني أمة، وفرق كبير بين بناء فرد صالح يعيش لنفسه ولأسرته، وبين فرد صالح في ذهنه وتفكيره أنه يحمل هم الأمة الإسلامية، ولا يعرف أن ينام وهو يرى حوله المنكر والظلم والكفر، ولو رأى أخاه يُظلم لابد أن ينصره، لو رأى أحداً يمس كرامة الأمة الإسلامية يقوم ويدافع عنها كما يدافع عن ابنه أو زوجته أو أمواله أو حياته، هذا هو الفرد المسلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيه في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية؛ من أجل ذلك قال لهم ما سيأتي، كما أنه كان يعلم أنه يخاطب أناساً على قدر المسئولية، كان يكلم الأنصار، ذكر لهم خمسة بنود:
الأول: قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)، السمع في النشاط سهل، لكن في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول: تبايعوني على السمع والطاعة، لكن الغرض هو توضيح الرؤية تماماً، سواء كنت كَسِلاً أو نَشِطاً لابد أن تسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتطيع له.
البند الثاني: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، كذلك النفقة في اليسر سهلة، لكن في العسر تحتاج إلى أناس معينين.
البند الثالث: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا هو دور الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم.
البند الرابع: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم)، الجهاد وكلمة الحق.
البند الخامس: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، ليس فقط تمنعوني فحسب، بل تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؛ حبك لرسولك ولدينك ولأمتك لابد أن يكون أكثر من حبك لنفسك ولزوجتك وأولادك.
واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبني مسلماً من طراز خاص سيحمل هم الأمة كلها!
إن الناس يحتاجون لمن يقودهم إلى الخير، والإسلام يريد الذي يدافع عنه، ما أكثر من يعتدي على حرمات المسلمين، من سيدافع؟ ومن سيحمي؟ من سيجاهد ويكافح؟ من سيبلغ رسالة ربنا لكل الأرض؟ هذا هو الفرق بين البيعة الأولى والبيعة الثانية.
ويكفي أن البيعة الأولى التي اهتمت ببناء الفرد المسلم من دون جهاد أنها عرفت في التاريخ باسم بيعة النساء، بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بهذه الشروط الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.
قام البراء بن معرور رضي الله عنه يتكلم عن وفد الأنصار، وقد كان رئيس الوفد المسلم، مع العلم أن البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه لم يسلم إلا منذ ثلاثة أيام، أسلم وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة، لكنه كعادة الأنصار ولد إيمانه عملاقاً.
قال البراء بن معرور رضي الله عنه: (والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا -يعني: نساءنا- فبايعنا يا رسول الله! -وانتبه فهو الذي يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم- فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر) يعني: يشجعه على البيعة، أترون إلى مدى اشتياق الأنصار للبيعة على الجهاد؟ هذا هو الجيل الذي سينصره الله عز وجل، لكن وأثناء كلام البراء اعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، أحد الصحابة الأجلاء القدماء الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى، قال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -أي: بيننا وبين اليهود عهوداً- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟).
الحقيقة أن موقف الأنصار خطير، فهم عقدوا معاهدات مع اليهود، وسيقطعونها، لكن ما الذي سيحصل لو أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتشر ووضعه استقر هل سيرجع مرة أخرى إلى مكة؟ وإذا رجع إلى مكة كيف سيكون وضعهم مع اليهود؟ قد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: كيف تفترض أنه ممكن أن يتركك وأنت محتاج له؟
لكن حقيقة كلام أبي الهيثم كان بمثابة التحميس والدفع للأنصار بالمبايعة، فهو متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتركهم، لكنه يخاف أن أحد الأنصار المشاركين في البيعة يفكر هذا التفكير؛ فيكون خائفاً من اليهود على مستقبل المدينة، فلو أن أبا الهيثم رضي الله عنه أثار هذه النقطة في هذه اللحظات سيغلق كل أبواب الشيطان، وسيريح الأنصار، من أجل ذلك تكلم بمثل هذا.
تبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!) إن قدر القيادة لا ينقص لو أن أحداً من الجنود اعترض على نقطة ما يريد التوضيح، والقيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل على العكس، القيادة الواعية لا تخيف الناس أو تكتم أفواههم، بل المفروض أن تشجع كل الناس أن يقولوا كل ما في صدورهم، وحينها سيشعر الناس أن قيادتهم ليست مفروضة عليهم، مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا منكم وأنتم مني).
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يعلمنا أن أي إنسان قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر لابد أن يخطئوا، وليس شرطاً أن يكون مخطئاً كذلك، لكن نريد معرفة وجهة نظره، نستفسر، نتعلم، نضيف، نحذف، نعدل من أجل أن نصل إلى الأفضل، هذه هي العلاقة السليمة بين القائد والجند، وكذلك إذا أحس الجند أن القائد معهم في نفس المشكلة يشكو مما يشكون منه، يتألم مما يتألمون منه سيبذلون قصارى جهدهم، لكن على النقيض من هذا؛ لو أنهم أحسوا بتكبر القائد، وبسعادته وقت حزنهم ، وترفهه وقت بؤسهم، وأمنه وقت خوفهم، وراحته وقت تعبهم، لو شعروا بهذه الأشياء كلها فمن المستحيل أن يعملوا بحماسة وجدية، لأنهم فقدوا مصداقية القائد، والقدوة فيه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال في منتهى الصدق والتعاطف مع أبي الهيثم والأنصار: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، فتشجع الأنصار عندما سمعوا هذه الكلمات، وقاموا مسرعين إلى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حصلت معارضة أخرى بعد هذا الكلام، قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يخاطب قومه قبل أن يبايعوا، وقال لهم: (هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، فقال العباس بن عبادة: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس -يعني: كل الناس-، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم -يعني: لو أسلمتموه- خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو -والله- خير الدنيا والآخرة).
العباس بن عبادة أيضاً من السابقين، ويعرف جيداً علامَ يبايع، لكنه يخاف أن يكون أحد الأنصار غير مستوعب لهذه التضحيات كلها، فيحاول أنه يوضح الرؤية على قدر استطاعته للأنصار، فرد عليه الأنصار وقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.
إذاً: لابد من المبايعة له صلى الله عليه وسلم، فقاموا يبايعون، لكن قبل أن يبايعوا سألوا: ما الثمن لمصيبة الأموال وقتل الأشراف؟ ما الثمن للطاعة المطلقة في النشاط والكسل؟ ما الثمن للنفقة في العسر واليسر، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللجهاد والنصرة، وحرب الأحمر والأسود من الناس؟ قالوا: (فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لكم الجنة)! الثمن لكل هذه التضحيات الجنة، ليس هناك وعد بشيء آخر، لا وعد بدولة ولا بتمكين ولا بنصر، مع أنه لابد أن يحصل كل هذا في يوم من الأيام، لكنك قد تموت شهيداً قبل التمكين بسنوات، قد تموت طريداً شريداً معذباً، قد يحدث كل ذلك، لكن المهم أنك ذاهب إلى الجنة، هذا هو المهم.
لما سمع الأنصار هذه الكلمة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن عندهم غير كلمة واحدة قالوها بعد ذلك، قالوا: (ابسط يدك يا رسول الله -يريدون مبايعته- فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يديه للأنصار من أجل أن يبايعوه)، لكن قبل أن يضع أي أنصاري يديه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه وأمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم -اعتراض ثالث- وقال يكلم الأنصار: (رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نحن نعلم جيداً أنه رسول، ونعلم أن هناك جنة، ولكن الكلام سهل، كل الناس يريدون الجنة، لكن لابد أن تعرفوا العمل المطلوب منكم من أجل الدخول إلى الجنة، لابد أن تعملوا أشياء صعبة، قال أسعد بوضوح: (وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإن كنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وأما إن كنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله).
قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه ليؤكد على نفس المعنى من جديد، لكن بألفاظ أخرى، من أراد أن يحيا حياة آمنة؛ يعبد الله عز وجل في بيته، أو في مسجده ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل، ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض، ولا بالجهاد في سبيل الله، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالعمل الدءوب لله، ولا بالتضحية من أجل الله عز وجل، فعليه أن يبايع بيعة النساء، هذه تكفيه، أما من أراد أن يبايع بيعة الرجال، وبيعة الحرب فعليه أن يفقه هذه البيعة فقهاً جيداً، فهذه الاعتراضات كلها من أناس هم من السابقين أصحاب بيعة العقبة الأولى، أرادوا بها أن يوضحوا للأنصار ولنا الصورة بأكملها، لكن الأنصار كلهم كانوا يفهمون شروط البيعة؛ لذا قالوا في منتهى الوضوح والحماسة: (يا أسعد : أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة). يعطيهم الجنة بهذه الشروط؛ لأنه يعرف أن بداخلهم صدقاً كبيراً، لذا كان يعطيهم الجنة، وتمت البيعة الخالدة بيعة العقبة الثانية التي غيرت وجه التاريخ، والثمن الجنة.
أولاً: سيتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مَن مِن الأنصار؟ لابد من وجود من يمثل الأنصار.
ثانياً: كيف يكون التعامل بين المهاجرين والأنصار، لو حصلت مشكلة من الأنصار لمن المرجع؟ ولو حصلت مشكلة من المهاجرين لمن المرجع؟
أمور إدارية هامة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون هناك من يمثل الأنصار، فجعل لكل خمسة من الأنصار نقيباً، فيكون كل ستة مجموعة، ولما كان الأنصار (73) خرج منهم (12) نقيباً.
أيضاً كان من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتقيهم بنفسه، أو أن يأخذ أصحاب بيعة العقبة الأولى؛ لأنهم كانوا اثني عشر، أو أن يكل ذلك إلى مصعب بن عمير ، أو إلى البراء بن معرور رئيس الوفد، أو أسعد بن زرارة لأنه أحد السابقين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام، وهي قاعدة أن على الشعب أن ينتخب ممثليه انتخاباً حقيقياً، ليس فيه تدخل من القائد الأعلى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومكم بما فيهم).
حرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، هم أدرى بحالهم، وعندما يختار الشعب حكومته بحرية حقيقية ليس فيها أي تدخل من أي جهة، يسمع لها بعد ذلك بمنتهى الحب، ويطيعها بمنتهى الأمانة، يحس فعلاً أنها حكومته وليست مفروضة عليه، هذا ما كان يريد أن يزرعه الرسول صلى الله عليه وسلم بداخل الأنصار، وداخل الأمة الإسلامية بكاملها إلى يوم القيامة.
جلس الأوس والخزرج سوية لأول مرة في تاريخهم لاختيار نقبائهم، وكانوا قبل ذلك يتقاتلون ويتصارعون، ويذبح كل واحد الثاني من أجل كرسي الحكم، لكنه الإيمان، فعندما آمنوا تغير كل شيء، كل واحد يضع يده الآن على كتف الآخر.
إن الذي جمع الأوس والخزرج هو نبل الغاية، وسمو الهدف، عندما كان الكرسي هو الهدف، كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له، ولما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية لم يعد للكرسي قيمة، بل أصبح مسئولية وتكليفاً لم يعد تشريفاً، انقلب التنافس على الكرسي إلى التنافس على الجنة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، هذه هي عظمة الإسلام.
في لحظات كان النقباء هم: أسعد بن زرارة ، البراء بن معرور ، عبد الله بن عمرو بن حرام ، سعد بن عبادة ، عبادة بن الصامت ، سعد بن الربيع ، عبد الله بن رواحة ، رافع بن مالك ، المنذر بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، كان هؤلاء تسعة هم نقباء الخزرج.
أما نقباء الأوس فكانوا ثلاثة: أسيد بن حضير ، وسعد بن خيثمة ، وأبو الهيثم بن التيهان وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر رضي الله عنهم أجمعين.
و يختفي من أسماء الأوس البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه لم يحضر أصلاً من المدينة المنورة إلى مكة.
بعد هذا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع هؤلاء النقباء قال لهم فيه: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم) يعني: أنتم مسئولون عن كل الأنصار، (وأنا كفيل على قومي -يعني: المسلمين من أهل مكة- فقالوا: نعم).
إذاً: الآن قسم المسئوليات، الاثنا عشر هؤلاء مسئولون عن الأنصار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عن المهاجرين، وبعد ذلك طلب منهم أن يختاروا واحداً منهم يكون رئيساً لهم، وبالتالي يسهل عملية الاتصال والمتابعة والإدارة وغير ذلك من الأمور، فاختاروا أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه أصغر النقباء رضي الله عنه، لما يظهر عليه من موهبة فذة.
وبهذا انتهت مراسم البيعة الفريدة بنجاح في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله عز وجل، وصدق الله عز وجل إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
عندما بحثت في أسماء الصحابة الذين حضروا هذه البيعة من الأنصار وجدت قرابة السبعين من هؤلاء -يعني: تقريباً كلهم- اشترك في غزوة بدر الكبرى، يعني: لم تكن البيعة كلام وحسب على الجهاد، لا، فكلهم نفذوا، (70) تقريباً من هؤلاء حضروا غزوة بدر الكبرى.
ثم حوالي نصف هذا العدد اشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل المشاهد والغزوات؛ لأن كثيراً منهم استشهد في الغزوات الأولى.
أيضاً حوالي ثلث أصحاب بيعة العقبة الثانية مات شهيداً في سبيل الله عز وجل، يعني خمسة من اثني عشر. يعني: القيادة في نظرهم كانت مسئولية لم تكن أبداً تشريفاً أو منصباً.
أيضاً لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء الأنصار المبايعين في بيعة العقبة الثانية الفرار أبداً، لا في أُحد ولا في حنين ولا غيرهما، لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال.
خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]. صدقوا الله عز وجل فصدقهم الله عز وجل.
كان على الأنصار أن يركضوا مسرعين إلى رحالهم؛ لأنهم عرفوا أن قريشاً قد تأتي في أي لحظة، لكن لم يحصل هذا، وإنما قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، الذي قام قبل قليل يقول للأنصار: أنتم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس، قام وقال: (والذي بعثك بالحق! لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا). وانتبهوا: أن القتال في منى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، فهم كانوا قد بايعوا على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وليس في منى ولا في مكة، لكن العباس بن عبادة يعطي ما هو فوق البيعة، فهو يبحث عن الجنة.
فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في منتهى الوضوح، قال: (لم أؤمر بذلك)، أي: لم أؤمر بالقتال بعد، نعم بايع الأنصار على الجهاد، لكن ليس الآن وقت التطبيق، وهذا من فقه الموازنات؛ لو تقاتل الأنصار الآن مع المشركين فلاشك أن الأنصار سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ أين الدعوة؟ أين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ أين بناء الأمة الإسلامية؟ فعلاً كان لابد للمسلمين أن يتجنبوا القتال تماماً في هذا الوقت؛ من أجل ذلك رجع الأنصار إلى خيامهم، وناموا مع الوفد المشرك الذين أتوا معه، ولم يشعر بهم أحد حتى من وفدهم.
في اليوم الثاني علمت قريش بموضوع اللقاء، من الذي أعلمهم؟ الله أعلم، إما الشيطان الذي صرخ بالليل، وإما أن شخصاً رآهم، فذهبت قريش لمقابلة زعيم يثرب عبد الله بن أبي ابن سلول ، وبدأت تتكلم معه في خطاب يجمع بين الترغيب والترهيب، قالوا: يا معشر الخزرج -يكلمون عبد الله بن أبي ابن سلول - إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، يعني: نحن نحبكم، لكن لو استمريتم على هذا الأمر سنحاربكم، وأنت تعرفون جيداً من هي قريش؟ فلما سمع عبد الله بن أبي ابن سلول هذه الكلمات قام يقول بمنتهى الحمية: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا على مثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.
نعم هو صادق من داخله؛ لأنه لم يعلم أي شيء عن هذا اللقاء؛ لأن المسلمين تكتموا بكل شيء عن موضوع اللقاء أو الإسلام، ولم يكن يعلم المشركون منهم من المسلمين في داخل وفدهم، هذا كان رد عبد الله بن أبي ابن سلول، أما رد المسلمين الذي بداخل الوفد، الذين قاموا بالبيعة، فنظر بعضهم إلى بعض ولم يتكلموا، وكأن شيئاً لم يكن.
اقتنعت قريش بكلام الوفد اليثربي، وتركوه وعادوا مرة أخرى إلى مكة، لكن بعدما عادوا إلى مكة علموا أن ظنهم كان في محله، فرجعوا مرة أخرى بسرعة من أجل أن يمسكوا بوفد يثرب فوجدوه قد رحل؛ لأنهم تقابلوا للبيعة في آخر ليلة من ليالي الحج، تحسباً لهذه الظروف التي حصلت، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عمل حسابه لها.
ارتحل الوفد، لكن من بعيد رأى زعماء مكة اثنين من المسلمين؛ رأوا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، والمنذر بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، وهذان الاثنان هم من النقباء ، أما المنذر بن عمرو فاستطاع الهروب، لكنهم أمسكوا بـسعد بن عبادة سيد الخزرج، رجل عزيز لم يهن في حياته قط، لكن زعماء مكة أمسكوا به وضربوه وجروه على الأرض.
موقف في منتهى الخطورة، نظر المسلمون في مكة إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب، ولا يستطيعون حراكاً؛ لأنهم لو تحركوا من أجل إنقاذه سيعلم مشركو مكة أن هناك بيعة تمت، وأن هناك لقاء تم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يتحرك من أجل نصرة سعد بن عبادة وهذا أيضاً من فقه الموازنات.
كان جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ممن رأى الموقف، وسعد بن عبادة رضي الله عنه كان يجير لهم القوافل عندما تمر بالمدينة المنورة، فأجاروه من قريش، وعاد سعد بن عبادة إلى قافلة الأنصار، ووصلوا إلى المدينة في أمان، وبدأ الأنصار في المدينة يمهدون لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من مكة، بدءوا جميعاً يستعدون لوضع النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: المدينة المنورة.
هذه كانت بيعة العقبة الثانية بكل الشروط التي فيها، وبكل الملابسات، وهناك دروس أخرى كثيرة لكن المقام لا يتسع لها.
وبدأت الهجرة، والهجرة لم تكن شيئاً سهلاً، لم تكن عقد عمل أهدي لهم في بلد غني، كانت الهجرة تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات.
كانت الهجرة الاستعداد لحرب ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل في كل الأرض، كانت استعداداً لحرب الأحمر والأسود من الناس، هذه هي الهجرة، ولم تكن هروباً، بل استعداداً لتكاليف أشق، ولواجبات أكثر وأعظم.
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة، وانتظر هو فلم يهاجر، لم يكن همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه ويؤمن حاله، أو يحافظ على أمواله، كان كل همه أنه يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، ليعلمنا أن القيادة ليست نوعاً من الترف أو الرفاهية، بل مسئولية وتضحية وأمانة.
أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره لكل المسلمين في مكة بالهجرة، وليس في مكة فحسب، بل أي مسلم موجود على الأرض كان لابد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، إلا من استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يمكث في مكانه، لسبب من الأسباب.
كان هذا هو الوضع في هذه الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو مختلف عن هجرة الحبشة، فليس كل المسلمين هاجروا إلى الحبشة، كما أن طبيعة المكان وظروف المكان تختلف من الحبشة إلى المدينة، كان المهاجرون إلى الحبشة يريدون فقط الحفاظ على أنفسهم؛ لئلا يستأصل الإسلام إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة، لم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة أبداً، بل كان المسلمون مجرد لاجئين عند ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
كانت المدينة صالحة لإقامة أمة إسلامية بخلاف الحبشة فإنها لا تصلح، لأن في الحبشة معوقات كثيرة جداً لبناء الأمة الإسلامية، مثل: اختلاف اللغة والتقاليد، وعدم استقرار الوضع، ولأن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد فقط وهو النجاشي رحمه الله، فهو ملك لا يظلم عنده أحد، وإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، لكن في المدينة الوضع غير هذا، الهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل على أنصار المدينة، والجو العام في المدينة أصبح محباً للإسلام، أو على الأقل كان قابلاً للفكرة، ومن ثم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية لكل المسلمين.
بدأت الهجرة العظيمة، ووقعت تضحيات مهولة مع إصرار وعزيمة، لكن كانت هناك أشياء كثيرة تخفف من آلام الهجرة، وهو إحساس المسلمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة، وقبل ذلك شعورهم بالمعية مع الله عز وجل، وشعورهم أن قائدهم معهم، وسيهاجر ويضحي ويتعب مثلهم، واستقبال الأنصار لكل من هاجر بحفاوة بالغة، وكأنهم إخوانهم من قديم. هذه الأشياء كلها كان تخفف كثيراً من آلام الهجرة، ومع ذلك كانت الهجرة صعبة.
قصص الهجرة كثيرة وعظيمة، وحقيقة أن المقام لا يتسع لتفصيلاتها، ويكفي أن كل واحد من المهاجرين قد ترك وراءه شيئاً عزيزاً عليه.
فمثلاً: أبو سلمة رضي الله عنه وأرضاه، هاجر وترك زوجته وابنه في قصة مشهورة مؤلمة، لكن كان أبو سلمة يفهم واجبه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها تفهم دورها، فصبرت سنة كاملة بعيدة عن زوجها، وسنة كاملة بعيدة عن ابنها الذي أخذه زوجها بعد فترة قصيرة عندما هاجر أبو سلمة، ثم بعد سنة كاملة هاجرت إلى زوجها ومعها ابنها الآخر، هاجرت مسافة (500) كيلو متر لوحدها، تضحيات مهولة.
وصهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه ترك وراءه كل ثروته، ترك ما جمعه خلال السنين الطويلة، ترك كل رصيده وهاجر إلى المدينة، ترك وظيفته التي كان مستقراً فيها وهاجر.. وغيره وغيره وغيره، كل قصص الهجرة فيها تضحيات ضخمة.
وفوق أن الصحابة تركوا كل شيء وراءهم، إلا أنه كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهم؛ فالكفار لم يكن عندهم أي مانع من قتل أي شخص إذا أمسكوا به، وعلموا أنه مسلم يريد أن يهاجر، بل أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فما بالكم بأي شخص ضعيف أو حليف، أو أي شخص من قريش ؟!
ممكن أن يسأل سائل: لماذا هاجر عمر رضي الله عنه علناً والرسول صلى الله عليه وسلم يهاجر سراً؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وعموم المسلمين سيقلدونه، سواء في زمن مكة، أو في الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه وأرضاه، وليس مطلوباً منهم ذلك، لكن المطلوب هو الحذر والاحتياط، والأخذ بالأسباب الكاملة لتأمين عملية الهجرة، والهجرة في حد ذاتها لم تكن هدفاً، إنما كان الهدف الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، ويجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة.
لكن على الناحية الثانية أيضاً: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان سليماً، لم تكن هناك مخالفة شرعية، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض على هذا الكلام، ولو وجدت مخالفة شرعية لاعترض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدل المسار للمسلمين، لكن هذا لم يحصل، فهجرة عمر بهذه الصورة صنعت رهبة كبيرة في قلوب الكافرين، أوقفت تفكيرهم تماماً، وهذا كان فيه فوائد كثيرة:
منها: أنه هاجر معه (20) شخصاً من ضعفاء الصحابة!لم يستطع أحد من المشركين أن يقترب منهم، ولو أنهم خرجوا بمفردهم كان من الممكن أن يقتلوا، لكن لما أذل الله المشركين بهذه الصورة سهلت هجرة هؤلاء الضعفاء، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول: إن إسلام عمر كان فتحاً، وارجعوا بذاكرتكم إلى قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
يقول عبد الله بن مسعود : إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة.
وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
كان في هجرة الصحابة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، لكنها كانت خطوة لابد منها على خطورتها لبناء الأمة الإسلامية؛ وبهذا هاجر معظم المسلمين في مكة، وكل هذا تم في شهرين اثنين فقط، محرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة، يعني: بعد حوالي شهر واحد فقط أو أقل من بيعة العقبة الثانية، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان بقاؤهما بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم.
يا ترى كيف ستكون هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وما هو رد فعل المشركين؟
وما هي تفاصيل الخطة البارعة التي سيضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟
سنتكلم عن كل هذا في الدرس الآتي بمشيئة الله تعالى.
وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر