وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الرابع عشر والأخير من دروس الفترة المكية من السيرة النبوية.
تكلمنا في الدرس الماضي عن بيعة العقبة الثانية التي مهدت لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة بعد ذلك، ورأينا مدى استعداد الأنصار للبذل والعطاء والكفاح والجهاد، وكيف قبلوا بكل الشروط الصعبة لبيعة العقبة الثانية، المهم تمت البيعة العظيمة، وعاد الأنصار إلى بلادهم يثرب أو المدينة المنورة، وبدءوا بترتيب أوضاعهم من أجل استقبال أفواج المهاجرين من مكة، وقد بدأت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة بعد شهر من البيعة، وتكلمنا عن صعوبة الهجرة وتضحياتها، وعن كفاح الصحابة سواء من الرجال أو النساء، فقد كانت معاناة كبيرة وضخمة، لكنها تمت على خير، ووصل المهاجرون إلى البلد العظيم المدينة المنورة.
لم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل واحد منهم له دور مهم في المرحلة القادمة كما سنرى إن شاء الله.
كانت قريش في أزمة كبيرة، ما من يوم يصبحون فيه إلا ويجدون واحداً من المسلمين قد اختفى، أو عائلة مسلمة اختفت، وبعض الأحيان كانوا يجدون فرعاً كاملاً من قبيلة ليس موجوداً، بحيث إن الهجرة كانت تتم بصورة سرية تماماً، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عرف المشركون أن الهجرة كانت إلى المدينة المنورة، ليس فقط من الشك الذي كان في وفد يثرب الذي جاء إلى مكة قبل ذلك في موسم الحج سنة (13) من البعثة، لكن من أخبار مؤكدة أتت إلى قريش من المدينة المنورة عن طريق أعوان وحلفاء لهم تؤكد هجرة المسلمين إلى المدينة، ويؤكد على هذا ما حصل من أبي جهل وأخيه الحارث لأخيهما من الأم عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، كان مسلماً وهاجر إلى المدينة المنورة مثل بقية المهاجرين المسلمين، وعلم أبو جهل بهجرته، فلحقه أبو جهل وابتكر حيلة من أجل أن يعيد عياشاً إلى مكة، فأقنعه بأن أمه مريضة، وأنها تريد أن تراه قبل أن تموت، وفعلاً أخذت عياش الرقة لأمه، وعاد مع الحارث وأبي جهل، وبينما هو في الطريق قيداه بالحبال وأخذاه إلى مكة وهو مقيد، وقالا لأهل مكة: هكذا فافعلوا بسفهائكم، وحبس في مكة لفترة طويلة.
الشاهد من القصة: أن أبا جهل كان يعرف إلى أين يهاجر المسلمون، وأنهم كانوا يذهبون إلى المدينة المنورة.
سبب هذا الأمر قلقاً لقريش؛ لأنها كانت على فقه كامل بخطورة الموقف عليهم لو انتشر الإسلام، من هذه المخاطر:
أولاً: أن الذين هاجروا من مكة ليسوا أغراباً عن أهل مكة، بل إن كل واحد من زعماء قريش كان له أخ مهاجر أو ابن أو ابنة، وكل واحد منهم بداخله غيظ كبير على الدين الجديد الذي عرضهم لهذه المشكلة، وكل واحد منهم بداخله كذلك حب فطري لأولاده وأقاربه، ويرى أنهم قد بعدوا عنه، فهذه كانت مشكلة كبيرة، وكان من الصعب أن يقبل بها أهل مكة.
ثانياً: أن دعوة الإسلام لو انتشرت في الجزيرة العربية، فمن الممكن أن تفقد قريش الكثير من مكانتها في الجزيرة، فقد كانت تكسب كثيراً من تجارة الحج إلى مكة، ومن تجارة بيع الأصنام، نعم، دين الإسلام يشجع الحج إلى مكة، لكن تجارة الأصنام وتجارة الخمور والزنا والربا ستقف، مصالح كثيرة جداً ستقف لأهل مكة، وكلها سوف تتعطل لو انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية.
ثالثاً: كان المشركون يفهمون جيداً أن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة من أجل قضاء فترة راحة أو استجمام، بل هاجروا لإقامة دولة إسلامية، ولو أقاموا هذه الدولة فلابد أن يعودوا إلى مكة مرة أخرى في يوم من الأيام، وعندما يعودوا إليها، لن يعودوا من أجل السكن فيها، لا، بل سيعودون من أجل أن يحكموا مكة، هكذا يقول المنطق، وطبيعة الدين الإسلامي هكذا تقول، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة (13) سنة، يفهمهم قضية أن الحكم لله، فمؤكد أن المسلمين لن يرضوا أن يبقى أهل مكة على تحكيمهم لهبل أو أنصار هبل في حياتهم، لابد أن يحكموا الإله الذي يعبدونه ألا وهو الله عز وجل، وبالتالي يحكمون مكة، وكان هذا مرعباً لزعماء قريش.
رابعاً: أن هذه الهجرة لم تكن إلى أي مكان، لا، بل إلى المدينة المنورة (يثرب)، وكان لها وضع خاص، ففي اعتقادي أن هذا المكان أكثر مكان لا يحب المشركون أن تكون الهجرة إليه، وذلك لعدة نقاط:
الأولى: أن سكان يثرب هم الأوس والخزرج، وهم من أعز القبائل العربية، ومن أقواها في الحرب، وأشدها ممارسة لفنون القتال المختلفة، ولعل السبب في عدم ظهورهم في الجزيرة العربية، وأن تكون لهم كلمة مسموعة وكبيرة فيها هو الصراع الداخلي بين الأوس والخزرج، فلو حصل اتحاد بين هاتين القبيلتين الكبيرتين فسوف تكون مشكلة حقيقية على بقية القبائل.
الثانية: أن الأوس والخزرج من أصول قحطانية، بينما قريش من أصول عدنانية، وتعرفون كيف كانت أثر القبلية في أيام الجاهلية، فإذا كانت قريش بفروعها لها خلافات كبيرة، مثل ما رأينا خلاف بني هاشم مع بني مخزوم، ومرجعهما إلى قريش، فما بالكم بين قحطاني وعدناني.
الثالثة: أن المدينة المنورة حصينة، وتعتبر حصانتها حصانة جغرافية طبيعية، فلو فكرت قريش في يوم من الأيام أن تغزو المدينة فسوف تتخذ قراراً صعباً.
الرابعة: أن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية المتجهة من وإلى الشام، فتستطيع المدينة المنورة أن تخنق مكة اقتصادياً، يظهر هذا جلياً عندما نعلم أن مكة كانت تتاجر بربع مليون دينار ذهب سنوياً مع الشام، تجارة مهولة، فتخيل في هذا الزمان ما مقدارها! وهذه كانت رحلة موسم الشتاء.
الخامسة: أهل مكة يعلمون أن اليهود يسكنون في المدينة المنورة، وهم أهل سلاح ومال واقتصاد وأعداد غفيرة، وقبائل متعددة، فماذا لو آمن اليهود وانضموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه بالنسبة إلى قريش مصيبة كبيرة، والحقيقة: أن العقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب، ويؤمنون بالأنبياء، وكانوا يعلمون أن نبياً سوف يظهر في ذلك الزمن، وكانت تعرف قريش هذا الكلام عن اليهود، فكان يخيفها هذا الاعتقاد جداً، لولا أن اليهود لم يكن عندهم عقل، وهذا هو السبب الذي جعلهم لا يدخلون هذا الدين.
في يوم الخميس (26) صفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة عقد الاجتماع، وكان أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية، ما عدا قبيلة بني هاشم؛ مثل أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب كلهم عن قبيلة بني عبد شمس، والنضر بن الحارث عن بني عبد الدار، وأمية بن خلف عن بني جمح.. وغيرهم كثير، ولم يسمح لأي قبيلة غير قريش أن تدخل دار الندوة.
وبمناسبة دخول هؤلاء دار الندوة لا يوجد دليل صحيح على قصة إبليس الذي تمثل بصورة الشيخ النجدي وحضر معهم الاجتماع؛ فإن شياطين الإنس في مكة لم يكونوا بحاجة إلى شياطين الجن.
بدأ الاجتماع الخطير، ووضعوا المشكلة التي اجتمعوا من أجلها، وبدءوا بالنظر في آراء الحضور، فالطائفة المعتدلة من زعماء مكة كانوا يرون أن حبس الرسول صلى الله عليه وسلم كافياً، لكن اليمين المكي المتطرف كان رأيه مخالفاً لهذا الرأي، قال أحدهم -ولعله أبو جهل-: لابد من قتل هذا الرجل، وفي الحقيقة أن هذه الفكرة كانت تعجبهم، ولكن لم يكن عند أحد الجرأة أن ينطق بها؛ لأن بني هاشم قبيلة قوية، ومن الذي سيضحي بنفسه وقبيلته ويقف أمام بني هاشم، لكنّ أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي: أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شاباً قوياً، فيحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تجد بنو هاشم أمامها إلا قبول الدية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كل القبائل، ثم خرجوا بالموافقة على هذا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف هذا الحدث: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال:30]، (يثبتوك) أي: يقيدوك أو يحبسوك، أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
هذه الأفكار التي ظهرت في دار الندوة، وهذه التدبيرات كلها تقع تحت كلمة: وَيَمْكُرُونَ . وفي الجزء المقابل: وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش؛ من أجل ألا يقدم زعماء قريش موعد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك مشكلة أخرى كان يفكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر مباشرة في الموعد الذي أخبره جبريل أن يهاجر فيه، فـالصديق سيترك كل شيء، ولا يدري متى سيرجع، وقد لا يرجع بالمرة، ويموت في المدينة المنورة، وسيأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عائلته، فهو سيترك بناته وأولاده وأباه وأمه، وهذه تعتبر مشكلة بالنسبة للصديق.
وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: أن قريشاً سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً، فكيف يعطل المطاردة المشركة له؟ كيف يهرب منهم والكفار كلهم يعرفون أنه مسافر إلى المدينة المنورة، ويعرفون الاتجاه الذي يمشي فيه؟
ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، وكأنه مثل البنك بالنسبة لهم، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعاجيب الزمان!
المهم أن هذه كانت مشاكل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لابد أن يجد لها حلاً.
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق رضي الله عنه في وقت الظهيرة؛ لأن شوارع مكة في ذلك الوقت تكون خالية، ولن يراه أحد إذا ذهب في هذا الوقت، كما أن الصديق لم يكن معتاداً مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الوقت، فيكون هذا أدعى للتخفي.
شيء آخر فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكلف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين، المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاء المشركون ونظروا يرون شخصاً نائماً ومغطى ببردة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتأخرون في ملاحقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، وبعد أن ينتهي من المهمتين يهاجر إلى المدينة المنورة وحده.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهيرة إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي غطى رأسه ببعض الثياب، ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد، فاستغرب الصديق من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً، في نفس اليوم الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبو بكر ، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: (أخرج من عندك، فقال
وانظروا إلى أول رد فعل للصديق رضي الله عنه وأرضاه، أول شيء كان يشغله أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخيل أن يبتعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو للحظات، فقال أبو بكر عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجر: (الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة).
فرح الصديق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة، ولم يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي)، هذا مع الخطورة المعروفة في هذه الرحلة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة الموقف، وأنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقاً؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وتهون أمامه كل المصاعب ويبقى إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سنهاجر، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. من قبل أن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيهاجر معه كان قد جهز راحلتين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراحلة، ولكنه قال للصديق: بالثمن، ودفع ثمن الراحلة للصديق رضي الله عنه.
لا شك أن الصديق كان إنساناً وكان تاجراً وكان أباً وكان زوجاً وكان كذا وكذا وكذا، مثل أي شخص بيننا، لا شك أن عنده أشياء كثيرة تشغله وتعطله مثل أي إنسان، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يعطي للعمل لله عز وجل القدر الحقيقي، من أجل ذلك كان يجد وقتاً وطاقة؛ لأنه يريد أن ينفذ ما أمره به ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الإنسان الذي عاش للإسلام، فـالصديق رجل عاش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، الأوليات عنده واضحة، وهذه من أهم الدروس التي ممكن أن نتعلمها من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أننا نضع الإسلام وواجبات الأمة في المرتبة الأولى من الأولويات لدينا.
أولاً: لن يبيت الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته هذه الليلة، وسيخرج من بيته في أول الليل، ويترك علياً رضي الله عنه وأرضاه نائماً في سريره، ويجلس في بيت الصديق من أجل أن يتجنب الحصار الذي قد يفرض على بيته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن موعد القتل الفجر، فيريد أن يترك البيت قبل الفجر، من أجل أن يفوت الفرصة على المشركين.
ثانياً: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه جزءاً من الليل، يعني: لن يهاجرا مباشرة، وسينتظرا إلى أن تهدأ الحركة في مكة تماماً، في ذلك الوقت سوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من بيت الصديق رضي الله عنه.
ثالثاً: أنهما لن يخرجا من باب بيت الصديق بل من فتحة في خلف البيت لاحتمال وجود مراقبة على باب البيت؛ فقد يتوقعون هجرته معه، فهو الصاحب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: أن المدينة لها طريقان من مكة: الأول: معروف وسهل وقصير نسبياً، والثاني: وعر وصعب وطويل وغير مألوف، ولا يعرفه الكثير من الناس، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من الطريق الصعب؛ طريق ساحل البحر الأحمر، نعم هو طويل وصعب، لكن لا يعرفه كثير من أهل مكة، فستكون فرصة الهجرة بأمان في هذا الطريق أكبر.
خامساً: لابد أن يستأجرا دليلاً يكون معهما في هذه الرحلة الصعبة؛ لأن الطريق غير معروف؛ فالسفر في الصحراء أمر خطير، والدليل لابد أن تكون عنده خبرة وأمانة، وفي نفس الوقت لا يشك المشركون في أمره؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق اتفقا على دليل اسمه عبد الله بن أريقط ، وهذا الدليل من المشركين، وكان هذا الفعل منهما في منتهى الذكاء؛ فإن المشركين لن يشكوا مطلقاً في أمره، كما أنه رجل أمين يكتم السر، وهو في النهاية صاحب مصلحة سوف يؤدي المهمة ويأخذ عليها الأجر، وأكيد أنه أجر مجزٍ.
سادساً: قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في أول الهجرة سيتجه نحو اليمن لا المدينة المنورة لمسافة خمسة أميال -يعني: (8) كيلو متر- للتمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، سيبحثون عنه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعاً: أنهما سيذهبان أولاً إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار في جبل عال، والطريق إليه صعب جداً، وسيمكثان فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك يتحركان إلى المدينة عندما يفقد أهل مكة الأمل في العثور عليهما، وكذلك سوف يتركان الراحلتين مع الدليل عبد الله بن أريقط ، من أجل ألا يرى أحد الراحلتين بجانب الغار، وعبد الله بن أريقط سوف يقابلهما بعد ذلك عند الغار بعد ثلاثة أيام.
ثامناً: يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الوضع في مكة، وتحركات زعماء مكة، فلابد من شخص يأتي لهم بالأخبار إلى الغار كل يوم ليعدلوا على حسبها الخطة لو حصل شيء مخالف للذي رتبوه، فاتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عنه أن الذي سيقوم بذلك هو عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو سيمكث في مكة طيلة النهار، ثم يأتي إلى الغار في أول الليل، ويجلس معهما في الغار ويخبرهما أخبار مكة، ثم يرجع إلى مكة قبل الفجر، ثم في الصباح الباكر يظهر نفسه للناس ويقف أمامهم ليروه؛ ليوهمهم أنه بات في مكة ولم يكن خارجها.
تاسعاً: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، فهو سيرعى الأغنام على آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقدام الصديق رضي الله عنه، وبعد ذلك فوق أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، من أجل أن يضيع فرصة تتبع آثار الأقدام بقدر استطاعته، وهذا شيء في منتهى الروعة؛ مع أنهم مشوا في اتجاه الجنوب، ولكن كذلك أخذوا حذرهم في هذا.
عاشراً: أن الذي سيحضر لهم الطعام والشراب فترة الثلاثة أيام في غار ثور السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكانت حاملاً وفي الشهور الأخيرة من حملها، وإن كان المشركون وضعوا مراقبة على أولاد الصديق الرجال، فمن الصعب أن يضعوها على النساء، كما أنهم لم يعتادوا من النساء أن تقوم بمثل هذه الأدوار، وتذكروا أننا نتكلم عما قبل (1400) سنة سابقة، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة تحمل الطعام والشراب وتسير به مسافة (8) كيلو متر من مكة وحتى غار ثور، ثم تصعد الجبل الصعب، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة! لكن لا تستغربوا، فإنها ابنة الصديق رضي الله عنه وعنها.
انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل فكر بالخروج والذهاب إلى الصديق ، فرأى أن المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس أو المحاكمة، لقد صدر القرار بالقتل، وقد أتوا للتنفيذ مباشرة، فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يخرج؟
أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين، وأن يخرج أمام الناس كلهم، ولن يراك أحد منهم؛ فإن الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، ستعمى الأبصار كما عميت قبل ذلك البصائر.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أمام كل الناس ليلة (27) صفر سنة (14) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، وليس هذا فحسب، بل أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل أن يقول لهم: لا تظنوا أنني قد بت خارج البيت، لا، أنا كنت بالداخل وخرجت أمامكم وأنتم لم تروني.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المشركون، لكن هذا الذي حصل كان لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه بدون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وظهرت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور، وعندما وصلا إلى الغار دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، وعمل عملية استكشافية؛ ليطمئن أنه لا خطر فيه، وعندما اطمأن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون هذا الجزء من الخطة مر بسلام والحمد لله.
هذا ما كان في الغار، أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، وعلي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت، وهم على حالتهم مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمداً قال: خيبكم الله، قد -والله- خرج عليكم.
فانزعجوا وتساءلوا، قبل قليل كان نائماً، ونحن نراه بالداخل وهو نائم وعليه برده، وبعد ذلك وجدوا التراب على رءوسهم، وليس واحداً أو اثنين، بل كلهم على رءوسهم التراب، فقام المشركون ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحير القوم، وقالوا: والله إنه لنائم، فهل يصدقون ذلك الرجل الذي قال لهم: إنه قد خرج عليكم، والتراب الذي رأوه على رءوسهم، أم يصدقون أعينهم؟ فأراد شخص منهم أن يريح الجميع، قال: لنكسر الباب ونرى من النائم بالداخل، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله!
انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بـعلي رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي بن أبي طالب وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (23) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور:
أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة.
ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر.
ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه.
حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، لا شهر ولا سنة ولا سنتين؛ لأن كفار مكة رأوا أن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب أكثر من ساعة، ففي عرفهم أن الساعة كثيرة جداً.
مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه، أخذ معه فرقة وذهب إلى بيت الصديق ، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها: أين أبوك يا ابنة أبي بكر ، قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها. هذا تجاوز كبير في أعراف مكة، أن رجلاً يضرب امرأة بهذه الصورة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت ويقلبه رأساً على عقب، لم يفكر أن يدخل يبحث على أي دليل، مع خطورة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولماذا لم يدخل؟ تذكروا أن زعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في بيت الصديق؛ لذا يجوز أن يكون في بيت آخر من بيوت أصحابه، من أجل ذلك أخذوا القرار الثاني.
القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فإذا كان ما زال داخل مكة أمسكوا به وهو خارج منها.
القرار الثالث: مطلوب حياً أو ميتاً، إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن، ميزانيات ضخمة تنفق لصد الدعوة، ولوقف الدعوة إلى الله عز وجل.
القرار الرابع: المطاردة، استخدام قصاص الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، وفي الحقيقة أن الكفار كانوا في منتهى الذكاء؛ درسوا كل المخارج بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا
ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور؟ يعني: بعدما قطعوا هذا المشوار الطويل (8) كيلو من الصحراء والجبال والشمس والمشقة، وآثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، كم كانت ستأخذ هذه النظرة لو نظروها؟ لكن (يا
هناك قصة مشهورة أن العنكبوت نسجت خيطاً كثيفاً على باب الغار، وقال الكفار: لو دخل من ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه القصة ضعيفة من كل طرقها، وإن كان بعض العلماء رفع درجة القصة إلى الحسن لكثرة الطرق، كذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار قصص ضعيفة لا تصح أصلاً، وحتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضاً، وإلا كيف تفسر أن الغار يكون مفتوحاً والآثار وصلت إليه، والكفار لا ينظرون إلى داخله. هذه معجزة ظاهرة! وليست هي المعجزة الأولى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الأخيرة، فحياته كلها معجزات صلى الله عليه وسلم.
فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه، لكن مازالت المكافأة معلنة مائة ناقة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً.
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره، ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وأحضر له ناقة وأخذوا معهم عامر بن فهيرة في هذه الرحلة المباركة.
انطلقت الرحلة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل في ليلة (1) ربيع أول من سنة (14) من النبوة، والهجرة لم تكن في محرم كما يظن كثير من الناس، إنما كانت في أواخر صفر وأوائل ربيع الأول من سنة (14) من النبوة.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل، وزيادة في الحذر اتجهوا جنوباً وابتعدوا أكثر وأكثر عن طريق المدينة؛ زيادة في ضمان ألا يراهم أحد أبداً، وبعد ذلك سيتجهون إلى الغرب من أجل أن يأخذوا طريق البحر الأحمر الصعب، وعندما خرجوا من الغار كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي بطريقة غريبة، لفتت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تارة، ثم يسير خلفه تارة أخرى، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حب شديد: (يا رسول الله! أذكر الطلب -يعني: المطاردة- فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد -يعني: لو أن أحداً منتظرنا في الأمام- فأمشي بين يديك)، يتمنى الصديق أن لو جاء سهم أن يصيبه هو ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، منتهى الحب لرسول صلى الله عليه وسلم، وأكملت القافلة طريقها واتجهت إلى المدينة.
كان أول اليوم جاهداً في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي آخر اليوم كان مدافعاً عنه، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، والغريب أيضاً أن سراقة مع إحساسه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة وحنين، ومرت الأيام وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب وفيها سواري كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمه لـعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة وعظيمة ولطيفة في الهجرة، لكن المقام لا يتسع لها، وقد ذكرنا كثيراً من ذلك في محاضرات: الصديق الصاحب والخليل، فلا داعي للتكرار.
وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالماً، وكان ذلك في يوم (12) من ربيع الأول سنة (14) من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة وهامة في الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
الدرس الأول: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده.
منها: أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد.
أيضاً: المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق.
فمثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري، مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، وخيل سراقة لا تستطيع المشي في الرمال، أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك.
إذاً: الدرس الأول: أن تبذل الوسع والله عز وجل سيكمل لك العجز من رحمته وكرمه سبحانه وتعالى.
الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل.
الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك يا
الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الناس تحتاج إلى صحبة، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن الصحبة الصالحة.
الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، لكن أين القدوة في ذلك؟ لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي قدوة لكل قائد.
الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل، فتخيلوا فكيف يضيع فرصة مثل هذه، دعا بريدة وأسلم بريدة، وتغير حال بريدة وقبيلة أسلم كلها بعد هذا الإسلام، فانظروا إلى فضل الدعوة.
الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق ، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز وجل في مكان فلا يجده، ليس هناك في حياته مكان لكلمة الظروف، كان يعتذر لكل ظرف يطرأ على حياته؛ يعتذر بأن عنده ظرفاً أعظم، فما هو هذا الظرف؟ هو العمل لله عز وجل، والبذل والتضحية والجهاد في سبيل الله عز وجل.
الدرس الثامن: رأينا شدة محبة الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا كيف أنه لا ينتظر أمراً ولا طلباً، إنما يجتهد هو في إتقان حبه لرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجهز له الراحلة، يبكي من الفرح لصحبته، ينظف له الغار، يسير أمامه وخلفه حماية له، وغير ذلك من المواقف التي ذكرنا بعضها ولم نذكر أكثرها.
حب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من فضائل الأعمال فحسب، بل هو من الواجبات، ومن قدم حباً على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم.
الدرس التاسع: رأينا بذل الصديق وعطاء الصديق ، أخذ معه في الرحلة (5000) درهم، وهي كل ما يمتلك من غير الراحلتين، وقبل ذلك أنفق (35000) ألف درهم في سبيل الله، وسيظل ينفق في المدينة، وسيظل ينفق وهو خليفة، وسيظل ينفق وهو على فراش الموت، هذا هو الصديق، من أجل ذلك يقول الله عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].
الدرس العاشر: وهو شيء مهم لفت الأنظار في قصة الهجرة، ولابد أن نقف معه وقفة، أترون كيف استعمل الصديق عائلته بالكامل في سبيل الله؛ عبد الله ينقل الأخبار، وأسماء تنقل الطعام والشراب، وعامر بن فهيرة يخفي آثار الأقدام، إن الصديق استطاع أن ينقل حبه للدعوة لكل عائلته، بعض الدعاة للأسف الشديد يعانون من مرض العزلة عن عائلتهم، تراهم في منتهى النشاط خارج البيت، ثم لا يشركون أقرب الأقربين إليهم في العمل لله عز وجل، هذا غياب كبير للفهم، وضياع هائل للأولويات، نريد أن نتعلمه من الصديق ، وتذكروا: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة؛ لا يؤمنون إلا بالله عز وجل، لا يتوجهون بالعبادة لأحد سواه، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته؛ إنه إيمان عميق برب العالمين سبحانه وتعالى، واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لرب العالمين، يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، وإنها -والله- إما جنة أبداً أو نار أبداً.
وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة أيضاً الأخلاق الحميدة؛ هذبت نفوسهم تماماً، ارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.
وبالإضافة إلى العقيدة والأخلاق عرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، والله عز وجل يراقب العباد، يراقبهم في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يستثنى من هذا الاختبار أحد (يبتلى المرء على قدر دينه).
ومع كون هذه المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب سواء على الروح أو الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، لكن ليست السعادة المادية الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، لا، إنما هي سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله عز وجل، سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعادة الصلاة ومناجاة الله عز وجل، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، سعادة الدعوة إلى الله عز وجل، سعادة كبيرة عندما ترى شخصاً كان يسجد لصنم، حياته تافهة حقيرة لا تساوي شيئاً، وفجأة تحول إلى عملاق من عمالقة الأرض، أي عقل وأي حكمة وأي شجاعة وأي أخلاق! سعادة عظيمة فعلاً، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا، سواء كانت فتناً في الجسد أو الهجرة أو الإغراءات بالمال أو بالسلطة أو بالنساء.. أو غيرها من الفتن.
والثبات أمام الفتن لا شك أنه يزرع سعادة في قلوب المؤمنين.
لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك دون المرور على فترة مكة، من المستحيل أن تبني أمة صالحة، أو تنشئ دولة قوية، أو تخوض جهاداً ناجحاً، أو تثبت في ميادين القتال والنزال، أو تقف بصلابة أمام فتن الدنيا المختلفة، من المستحيل أن تفعل كل ذلك إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها.
على الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، عليهم أن يقفوا أمام كل حدث، قصر وقته أو صغر حجمه، لابد أن يقفوا أمامه وقوفاً طويلاً طويلاً، هنا البداية التي لابد أن نبدأ منها، بغير مكة لن تكون هناك المدينة، وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين.
كانت هذه هي فترة مكة الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضاً من فترات حياة رسول صلى الله عليه وسلم، تلك هي فترة المدينة المنورة.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر