إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أخذ يقف موقف السياسي الحكيم في جمع المسلمين على كلمة واحدة، وظهر ذلك جلياً في مؤاخاته بين الأوس والخزرج، تمهيداً للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم عقد المعاهدات والتحالفات مع المشركين الذين كانوا حول المدينة، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكوِّن دولة قوية بأبدع سياسة وأحكم تصرف في التاريخ.

    1.   

    ملخص الخطوات التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الثاني من دروس العهد المدني في السيرة النبوية.

    تحدثنا في الدرس السابق عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وكيف أسس فيها أمة من لا شيء فدولة المدينة المنورة كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمثل إلا قبيلتين صغيرتين في الجزيرة العربية، ولا مقارنة مطلقاً بينها وبين الدول الكبرى الموجودة في العالم، ومع ذلك أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة قوية وقفت على قدم المساواة مع القوى العالمية الموجودة في ذلك الزمن، بل وتفوقت عليها كما سيتبين ذلك إن شاء الله في الدروس والحلقات القادمة.

    هذه الخطوات التي سار عليها صلى الله عليه وسلم وأسس بها الدولة الإسلامية، لابد أن تبرز بعناية كما ذكرنا في الدرس السابق.

    فقد ذكرنا من هذه الخطوات في الدرس السابق الإيمان الجازم برب العالمين سبحانه وتعالى، وبقدرته وبحكمته وعلمه سبحانه وتعالى، وإحاطته بكل شيء، ونصرته للمسلمين، وتأييده لإقامة هذه الأمة إن ارتبط المسلمون به، هذا أمر في منتهى الأهمية، وأساس رئيس من الأسس التي تبنى عليها الأمة الإسلامية.

    الأساس الثاني في غاية الأهمية: وهو الإيمان الجازم بأن ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى به لكونه رسولاً من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فكل ما قاله وشرعه صلى الله عليه وسلم يقع منا موقع القرآن الكريم، فيصبح المصدر التشريعي للإسلام عندنا القرآن الكريم والسنة المطهرة.

    الأساس الثالث في غاية الأهمية: هو الإيمان الجازم بالبعث يوم القيامة وبالحساب، وبأن الله عز وجل مطلع على أعمالنا، ومطلع على قلوبنا، وسيجزينا بالجنة إن عملنا صالحاً، وسيجازينا بالنار إن عملنا غير ذلك.

    وتحدثنا أيضاً عن دور المسجد في بناء المجتمع المسلم، وتنوع هذا الدور من ناحية الحفاظ على إيمان الأمة، والترابط والتراحم بين المسلمين، وإذابة الفوارق بين الحكام والمحكومين، وبين الأغنياء والفقراء .. وغير ذلك من الأمور المهمة جداً في دور المسجد.

    وأيضاً ذكرنا مشاركة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد المسلمين لشعبه في كل أمور الحياة، بما فيها بناء المسجد .. وغير ذلك من الأمور التي فصلنا فيها في الدرس السابق.

    1.   

    كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في المدينة

    وصلنا في الدرس السابق إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة المنورة في ذلك الوقت، وفي خارج المدينة المنورة، وترتبط علاقتها بشكل مباشر مع المسلمين، وذكرنا أن هذه الطوائف نستطيع أن نجمعها في ثلاث مجموعات كبرى: مجموعة المسلمين بشتى أنواعهم، ومجموعة المشركين، ومجموعة اليهود.

    وسنرى اليوم كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع كل طائفة من هذه الطوائف؟ أولاً: مجموعة المسلمين، وهذه أهم مجموعة عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي عصب الدولة الإسلامية، فالمسلمون يقوم على أكتافهم الصرح الضخم الهائل: أمة الإسلام.

    المؤاخاة بين الأوس والخزرج

    أول طائفة من المسلمين: طائفة الأوس والخزرج (الأنصار)، وهؤلاء هم أهل المدينة الأصليون الذين استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمهاجرين رضي الله عنهم وأرضاهم في المدينة المنورة، وقدموا تضحيات كبيرة جداً لإيواء المسلمين، مع كل المخاطر والمشاكل التي قابلت الأنصار نتيجة هذا العمل العظيم، فالأنصار في المدينة المنورة من الأوس والخزرج هما من أكبر القبائل العربية في ذلك الوقت.

    كانت قبيلة الخزرج ثلاثة أضعاف قبيلة الأوس تقريباً، لكن المشكلة الكبرى التي واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلاقة بين القبيلتين قبل الإسلام كانت في منتهى الشراسة والعنف، فآثار الدماء لم تجف بعد من سيوف هؤلاء وهؤلاء، وقد قامت بين الأوس والخزرج حرب مشهورة في التاريخ، يقال لها: يوم بعاث، وكانت هذه الحرب قبل بيعة العقبة الأولى بسنتين فقط.

    فالمطلوب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يوحد الأوس والخزرج في كيان واحد؛ يدافع عن المدينة المنورة ويحل مشاكلها، ويقف مع الرسول عليه الصلاة والسلام في خندق واحد، يقف الأوسي بجانب الخزرجي، ولا يتذكر مطلقاً أي ثأر كان بينه وبين إخوانه من القبيلة الأخرى، وهذا شيء صعب جداً خاصة في هذه البيئة القبلية العربية القديمة.

    اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتماداً كبيراً على صدق إيمان الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم في التأليف بين قلوبهم، فجمع الأوس والخزرج وذكرهم بالله عز وجل، ووضح لهم أن الرابط الأساسي بين المسلمين في هذا الدين الجديد الذي بعث به صلى الله عليه وسلم هو رباط العقيدة، فكل رباط غير هذا الرباط لا ينظر إليه مطلقاً، وكما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أي ديار أهلنا أقرب؟)، يسأل عن ديار أهله من الأوس والخزرج، وكان فرع الرسول عليه الصلاة والسلام بعيداً جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش عدنانيون، والأوس والخزرج قحطانيون، وهما فرعان كبيران جداً، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو من قريش يعتبر أن الأوس والخزرج أهله، فما بالك بالأوس والخزرج الذين هم من فرع واحد، يقال له: بنو قيلة من القحطانيين؟

    وهكذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الوتر الحساس؛ ولصدق إيمان الأوس والخزرج تقاربت القلوب، سبحان الله! الإسلام يغير تماماً من تكوين الإنسان، ويغير من كل الدوافع التي كانت تحركه قبل ذلك، فيترك قوانين الأرض الوضعية المادية؛ لينتقل بعد ذلك إلى قانون السماء الرفيع، وهكذا نسي الأوس والخزرج تماماً كل الثارات القديمة، وتوحدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خندق واحد.

    فهذه أول خطوة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي قبل خطوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعلوم أن الناس يعرفون قصة المؤاخاة، لكنهم لا يعلمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام جلس جلسة مهمة مع الأوس والخزرج؛ ليضع الأساس المتين لبناء الأمة الإسلامية قبل أن يؤاخي بينهم وبين المهاجرين.

    إذاً: أول طائفة تعامل معها صلى الله عليه وسلم هي طائفة الأوس والخزرج، وآخى بينها على أساس الدين.

    المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

    الطائفة الثانية: طائفة المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكان وضعهم الاقتصادي في منتهى الخطورة، فقد تركوا أموالهم، وتركوا الديار والأهل والعشيرة، تركوا كل شيء، وانتقلوا إلى بلد جديد تماماً، وكثير من الذين هاجروا لم يزوروا المدينة المنورة قبل ذلك مطلقاً، وهذه أول مرة يخرجون فيها من مكة إلى المدينة.

    تخيل كيف أن شخصاً ترك كل حياته وأعماله وتجارته، وانتقل إلى حياة جديدة وليس معه شيء، وإلى أرض جديدة ليست مألوفة بالنسبة له، وإلى فرع من القبائل لا يمت إليه بصلة قريبة، أضف إلى كل ذلك أن المدينة المنورة كانت تعاني من الفقر، فالأنصار كانوا فقراء، ونحن نظن أن الأنصار أغنياء، وما ذلك إلا لكثرة عطائهم؛ فالإيثار الذي كان يتميز به الأنصار كان يعطيهم صبغة الأغنياء، لكن عموم الأنصار كانوا فقراء، والقلة منهم كانوا أغنياء، فكيف يؤتى بمجموعة من فقراء المهاجرين الذين تركوا كل شيء وراء ظهورهم، فتحمل المدينة المنورة عبئاً ضخماً بإيواء مجموعة أخرى من البشر، وهم لا يكادون يعيشون وينفقون على أنفسهم، فكيف ينفقون على غيرهم؟ فكيف يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة الضخمة؟ فهذه مشكلة اقتصادية كبرى ستواجه المدينة المنورة عند نزول المهاجرين إليها؟

    الحالة النفسية أيضاً للمهاجرين كانت صعبة جداً، فالمهاجر قد ترك كل شيء وانتقل إلى المدينة المنورة، فهو يحتاج إلى تطييب الخاطر.

    احتوى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأزمة بمنتهى الحكمة، وكل هذا كان بمنهج رباني إلهي، فالله عز وجل قد أنزل قرآناً في هذه الأمور، وأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفعال وأعمال عملها وحدت المسلمين في كيان قوي وجميل جداً.

    ومعلوم أن الإنسان الذي يهاجر من بلده إلى بلد آخر يشعر بشيء من الذلة والضعف، ويحتاج إلى من يقول له: لا، أنت لست ذليلاً ولا ضعيفاً، بل أنت قوي عندما تركت بلدك وتركت كل شيء، وكان من الممكن أن يكون كل شيء معك ولا تؤمن بهذا الدين الجديد، فأنت رجل معظم ومكرم ومقدم على غيرك، هكذا فعل الله عز وجل في كتابه الكريم، فقد أنزل آيات رفعت من قدر المهاجرين؛ فالمهاجر أصبح يفتخر بأنه مهاجر، والأنصاري أصبح يفتخر بأنه آوى مهاجراً، وانظر إلى كلام رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195]، ويقول ربنا سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58]، ويقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:20] إلى آخر الآيات.

    هذه الآيات وغيرها رفعت من معنويات المهاجرين، فهذا الشيء يدعو إلى الفخر فعلاً، بل نتج عنها تهيئة نفسية جميلة جداً للأنصار، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] أي: فقر وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    إذاً: تسابق المهاجرون للهجرة، وتسابق الأنصار للنصرة رضي الله عنهم أجمعين.

    وهذا الأمر ليس موجوداً إلا في المنهج الإسلامي، وانظروا إلى حال اللاجئين في بقاع العالم المختلفة، فأي مجموعة من اللاجئين لأي ظرف من الظروف، سواء كانت ظروفاً عسكرية أو سياسية أو اقتصادية .. أو غير ذلك يمثلون عبئاً ثقيلاً على أهل البلد التي هاجروا إليها، بل اللاجئون أنفسهم يشعرون بذلة وضعف وهوان؛ لكونهم تركوا ديارهم وأرضهم وعشيرتهم وما يمتلكون، والدولة التي آوتهم تشعر بعبء اقتصادي ثقيل وسياسي، ينتج عن ذلك ضغوط عليها من هنا وهناك؛ وما ذلك إلا لأنهم ليسوا مرتبطين برب العالمين سبحانه وتعالى، والأمر في النهاية يعود إلى الإيمان، فالإيمان من أهم أصول بناء الأمة الإسلامية، بل هو أهمها على الإطلاق.

    قال سبحانه في سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:74]، هؤلاء المهاجرون ثم يقول: وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:74] هؤلاء الأنصار أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74].

    إذاً: لا أستطيع أن أبني أي تشريع إسلامي أو قانون إسلامي أو دولة إسلامية إلا بهذه الأصول: الإيمان بالله، والإيمان بالرسول، والإيمان بالبعث .. وغير ذلك من القواعد التي فصلناها في الدرس السابق.

    التهيئة النفسية للمهاجرين والأنصار

    أول شيء عمله الرسول عليه الصلاة والسلام بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى: أنه هيأ الأنصار والمهاجرين لقبول فكرة ترك الديار في مكة، والانتقال إلى المدينة المنورة، وهذا شيء صعب، لكن بفضل الله كانت قوة إيمان المهاجرين والأنصار كفيلة بأن تطبق هذا المعنى كما أراده رب العالمين سبحانه وتعالى.

    فهذا كان أول محور احتوى به الرسول عليه الصلاة والسلام أزمة انتقال المهاجرين من مكة إلى المدينة.

    المحور الثاني في غاية الأهمية: الكفالة السريعة للمهاجرين، فلابد لهذه الأعداد الضخمة التي دخلت المدينة المنورة أن تؤوى بصورة مناسبة، وأول شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيواء المهاجرين كان أمراً عجيباً غير متكرر في التاريخ، فهو عليه الصلاة والسلام أول من بدأ هذا الأمر، ولا نسمع عنه إلا في أمة الإسلام، هذا الأمر هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والفكرة كانت عجيبة، جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار في بيت أحد الأنصار، وبدأ يؤاخي بين كل مهاجري وأنصاري، وجعل الأخوة في كل شيء حتى وصل الأمر إلى الميراث، يعني: لو مات مهاجري يرثه الأنصاري والعكس كذلك، لكن هذا الحكم نسخ بعد ذلك، وأصبحت الأخوة في كل شيء إلا الميراث.

    الكفالة السريعة للمهاجرين عن طريق المؤاخاة

    كانت هذه المؤاخاة مؤاخاة حقيقية، وكان لهذا الأمر تطبيقات عملية كثيرة في حياتهم، ومن أشهر القصص في ذلك ما حدث بين سعد بن الربيع أحد كبار الأنصار رضي الله عنه، ومن شهداء أحد كما سنبين إن شاء الله في الدروس القادمة، وبين المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، والذي كان تاجراً في مكة، لكنه ترك كل شيء، وأتى المدينة المنورة بلا شيء.

    روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: أن سعد بن الربيع رضي الله عنه قال لـعبد الرحمن بن عوف : إني أكثر الأنصار مالاً فسأقسم مالي نصفين. كان سعد بن الربيع رجلاً غنياً عنده أموال كثيرة، ولو أعطى عبد الرحمن بن عوف (5%) أو (10%) من ماله فهذا كثير، ومع ذلك من تجرده وحبه لأخيه وشعوره الكامل بأن هذه أخوة في الله، قال: سأقسم مالي نصفين. ولكي تتأكد من صعوبة هذا الأمر تخيل نفسك أنك تفعل هذا الأمر، تخيل أحد إخوانك في أزمة، فأتيت برصيدك الذي في البنك إذ كنت غنياً، وقمت بتقسيم هذا المال بينك وبينه، هذا أمر شاق وصعب، لكن الأمر الثاني أصعب وأصعب، فقد قال سعد بن الربيع : ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. سبحان الله! هذا أمر عجيب وغريب، لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كان نبيل النفس، قال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ يريد أن يعمل، ويخرج رزقه من تعبه وكده، خاصة أنه أحد التجار المشهورين في الإسلام، فدلوه على سوق بني قينقاع، وتاجر حتى كثر ماله.

    الشاهد في القصة أن المؤاخاة كانت حقيقية، ولم تكن هذه المؤاخاة فقط للإيواء المالي والاقتصادي والسكني للمهاجرين رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكن كانت مؤاخاة في كل شيء، وكان الأخ يطمئن على أخيه في أمور الآخرة، كما كان يطمئن عليه في أمور الدنيا، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه مشهورة، وذلك عندما آخى الرسول عليه الصلاة والسلام بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وأبو الدرداء من الأنصار؛ وسلمان الفارسي ليس من العرب أصلاً، بل هو من الفرس رضي الله عنه وأرضاه، فانظر إلى عمق العلاقة التي كانت بين الاثنين، مع أن كل واحد منهما من أصل بعيد تماماً عن الثاني.

    ثبت في صحيح البخاري : أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه زار أبا الدرداء في بيته، فرأى أم الدرداء متبذلة: وفي رواية: رثة الهيئة، فقال لها سلمان وكان ذلك قبل فرض الحجاب على المسلمات-: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، وفي رواية: ليس له حاجة في نساء الدنيا.

    فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له سلمان : كل، فقال أبو الدرداء : إني صائم، قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل.

    إذاً: وجد سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه مشكلة عند أخيه أبي الدرداء ، وجده منصرفاً تماماً إلى العبادة والصيام والقيام وترك أهل بيته، وهذه مشكلة عائلية حقيقية في داخل بيته، ففرغ سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه وقته لإصلاح مشكلة أخيه، وبدأ يضبط عنده بعض المفاهيم التي كانت ستربك له حياته وأسرته، فجلس معه وأقسم عليه أن يفطر ويقطع هذا الصيام، فقد كان الصيام نفلاً، فقطع أبو الدرداء الصيام، وأكل مع سلمان الفارسي ، فلما كان الليل -أي: أول الليل- أراد أبو الدرداء أن يقوم الليل كله، فقال له سلمان : نم، فنام، ثم ذهب ليقوم فقال -أي: سلمان - نم، فلما كان آخر الليل قام سلمان وقال له: قم الآن، فصليا من آخر الليل، وأراد سلمان أن يعطي له خلاصة درس تربوي فرغ نفسه لهذا الدرس أربعاً وعشرين ساعة، قال: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، وفي رواية الترمذي : ولضيفك عليك حقاً. فأعط كل ذي حق حقه.

    لم يقتنع أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه تمام الاقتناع، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يشكو سلمان إليه أنه جعله يفطر وجعله يقوم من آخر الليل فقط، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان، يعني: ما قاله سلمان هو التوازن الذي يجب أن يكون عليه المسلم في حياته، وهو الحق والعدل.

    الشاهد في ذلك أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه وهو فارسي كان أخاً لـأبي الدرداء وهو عربي أنصاري، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه يدخل بيت أبي الدرداء ، ويخاطب زوجته في حدود الإسلام، ويحل المشاكل التي بينها وبين أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، كما أن أبا الدرداء رضي الله عنه وأرضاه لم يتكلف شيئاً، ولكن أتى بطعام من طعام البيت، وأكل معه سلمان ، ونام معه في نفس البيت، كما أن أبا الدرداء رضي الله عنه وأرضاه لان في يد أخيه سلمان ، مع أنه غير مقتنع بما يقول، لأنه ضيفه في بيته وأخوه في الإسلام.

    فكل هذه الأمور تثبت أن الأخوة التي كانت بين الاثنين كانت أخوة حقيقية، ليست مجرد كلام مكتوب على الورق، وأتمنى أن نجرب هذه الأمور ونطبق هذه المؤاخاة فيما بيننا، أتمنى أن نعيش حياة الأخوة الحقيقية كما كان يعيشها الصحابة الذين بنيت على أكتافهم الأمة الإسلامية، فوالله بغير هذه الأخوة لا تقوم أمة أبداً.

    إذاً: أول أمر فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية احتواء أزمة المهاجرين: أن عظم من أجر المهاجرين وصنع تهيئة نفسية لهم، وفي نفس الوقت صنع تهيئة نفسية للأنصاري؛ لكي يتقبلوا أمر الهجرة وأمر النصرة.

    الأمر الثاني: حقق الكفالة السريعة للمهاجرين، بحيث يكفل كل أنصاري مهاجرياً فتحل الأزمة بسرعة.

    رفع قيمة الأخوة

    أعطى صلى الله عليه وسلم كماً هائلاً من الأحاديث التي تشجع على الأخوة وترفع من أجرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لأنفسه) فقد ربط موضوع الأخوة بالإيمان بالله عز وجل، وهذا الحديث في البخاري ، بل إنه قال في رواية مسلم عن أبي هريرة : (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وعلى هذا النسق جاءت أحاديث كثيرة ترفع من درجة الأخوة في الله؛ ولذلك كانت الطائفتان تفعلان ذلك الأمر وهما يرجوان من الله عز وجل أجراً وثواباً عن الأخوة في الله، فرفعوا من قيمة الأخوة في قلوبهم، وبالتالي كان لها أثر فعال حقيقي واقعي في حياتهم.

    الميثاق الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار لتنظيم العلاقة بينهم

    ما فعله صلى الله عليه وسلم من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ورفع قيمة الأخوة، وتقريب الأمور للمسلمين بأن هناك أجراً وثواباً وجنة نتيجة هذه الأعمال العظيمة التي يقومون بها؛ بعد ذلك كله رأى صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس كافياً لتثبيت دعائم الأخوة في الدولة الإسلامية، فنحن سنكون دولة إسلامية حقيقية، دولة ستواجه تحديات خطيرة، ولا يستقيم أبداً أن يترك هذا الأمر فيها للنفس: أنا أريد أو لا أريد، أنا أحب أو لا أحب، بل لابد من وضع قوانين ودساتير مكتوبة، فوضع صلى الله عليه وسلم ما يعرف بالميثاق، وهو ميثاق مشهور وموجود في أكثر من رواية من روايات السيرة الموثقة، وفيه توضيح كامل للعلاقة بين المهاجرين والأنصار، وأصبح هذا القانون أو الدستور الذي يطبق في أي بلد من بلاد العالم ملزماً لجميع الأطراف.

    هناك بنود كثيرة نمر على بعضها بإيجاز لضيق الوقت.

    الأول: أنهم أمة واحدة من دون الناس، أذاب كل الفوارق بين عموم المسلمين فالمهاجرون والأنصار أمة واحدة.

    الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: (المهاجرون من قريش يتعاقلون بينهم) أي: يدفعون الدية، فلو قتل أحد من المهاجرين أحداً من الناس، وكانت له الدية؛ يجتمع المهاجرون ليدفعوا دية القتيل.

    قال: (وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين) يعني: لو أن أحداً من المهاجرين وقع في الأسر؛ يجتمع المهاجرون سوياً، ليدفعوا فدية هذا الأسير فيفكوا أسره.

    قال: (وكل قبيلة من الأنصار يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين).

    يعني: قسم الرسول عليه الصلاة والسلام المجتمع المسلم إلى عدة طوائف على أساس القبيلة، فالمهاجرون كلهم من قريش، وهذه المجموعة تجتمع سوياً لتفدي عانيها وتدفع الدية عن القاتل منها، وكذلك كل قبيلة من الأنصار، الأوس لوحدهم والخزرج لوحدهم، وقد يقسم الأوس إلى أكثر من فرع، والخزرج إلى أكثر من فرع. قال: (على معاقلهم الأولى) أي: كما كانوا يتعاقلون قبل دخول الإسلام إلى المدينة المنورة.

    وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلا لأن المؤاخاة وحدها لا تستطيع دفع الديات وفك العاني، وليس هناك بيت مال للمسلمين، إذ إن الدولة كانت فقيرة جداً لا ثروات فيها، فلابد للمسلمين أن يخلصوا أمورهم بأنفسهم، إذا كان الأنصاري أخاً لواحد من المهاجرين، وحصلت عليه دية مقدارها مائة ناقة لن يقدر أن يدفعها له، فلابد أن يجتمع قوم على دفعها، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة لهذا الأمر على أساس القبيلة، مع أن الإسلام يكره القبلية في أمور، ولكنه لا ينبذها بالكلية، بل لابد من أن يطور هذه الرابطة؛ لتخدم الإسلام والمسلمين في إطار الشرع، فجعلها في أمور المؤاخاة وفي أمور المواساة والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين: فك الأسير، ودفع دية القاتل لأهل القتيل، والمساعدة في أمور المجتمع المختلفة بروابط الرحم التي بين القبيلة.

    فكل واحد منهم يحرص على أن يحل مشكلة إخوانه عن طريق هذا القانون، وهذا القانون لا يستقيم تطبيقه أبداً إلا إذا رسخت معاني الأخوة التي تحدثنا عنها قبل ذلك؛ لذلك فإن التشريع الإسلامي كله لا نقدر أن نأخذ منه جزءاً ونترك جزءاً، قال تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، فكل جزئية تكمل موضوعاً معيناً، وفي النهاية هذا الشرع المتكامل يصلح لإدارة الدنيا والدين.

    إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أقر مبدأ القبلية، ولكن في هذه الجزئية، ومبدأ القبلية مقبول في الفقه الإسلامي، ولكن في إطار الشرع كما ذكرنا، مثال ذلك: إذا اعتدي على حرمات دولة من دول الإسلام والمسلمين، فإن الشرع يفرض على أهل الدولة في داخل الخلافة الإسلامية الكبرى أن يقاتلوا في سبيل الله للدفاع عن أنفسهم، فإن لم يستطع أهل القطر الواحد أن يدفعوا عن أنفسهم لزم الأقرب فالأقرب أن يساعدهم، لكن لا يتعين القتال على أهل المغرب إذا احتلت بلدة من بلاد المشرق، إن كان أهل المشرق يستطيعون رد المعتدي.

    فهذا الوضع يقبله الإسلام، ويقبله في أمور أخرى، كالزكاة، فلا تخرج الزكاة من قطر إلى آخر حتى تكفي أهل القطر، وهكذا بالضبط مع كل أمور الإسلام، فالإسلام واحد يكفي الأرض إلى يوم القيامة.

    ولو افترضنا أن قبيلة من القبائل كانت فقيرة إلى الدرجة التي لا تستطيع فيها أن تدفع الفدية أو الدية، تأتي نقطة أخرى في الميثاق؛ لتحل هذه المشكلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً)، يعني: شخصاً كثير الأطفال، وعليه أزمات متلاحقة. قال: (لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل).

    فلو افترضنا أن هناك قبيلة لم تستطع أن تدفع عن أحد المسلمين دية كانت عليه أو فدية، فلابد أن يجتمع المسلمون جميعاً، فهم مجتمع متماسك.

    الثالث: (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين)، دسيعة يعني: عظيمة، أي: أن المؤمنين يجتمعون على من بغى منهم، أو طلب ظلماً أو أحدث إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، ثم يقول: (وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم) أي: يجتمع كل المسلمين على من ارتكب ظلماً أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، بغض النظر عن القبيلة، حتى ولو كان أخي من أمي وأبي، إذا ارتكب الظلم أو الإثم أو العدوان فأنا عليه ولست معه في ظلمه وعدوانه، وهذا قانون أيضاً مكتوب، ويطبق في الدولة الإسلامية.

    الرابع من بنود من نقط الميثاق وهو في غاية الخطورة والأهمية يقول: (ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن)، فالدولة الإسلامية الآن ستدخل في صراعات شتى مع قبائل كثيرة من القبائل المشركة، سواء في داخل المدينة المنورة أو في قريش أو في الجزيرة العربية بصفة عامة.

    فلو أن شخصاً من هذه القبائل دخل في الإسلام، وأخوه لم يدخل بعد في الإسلام، ودارت حرب بين الدولة المسلمة والقبيلة الكافرة، وقتل بعض أفراد القبيلة المسلمة منهم هذا الأخ الكافر، فقد تتحرك في نفس الأخ المسلم عواطف الأخوة والنسب والدم لأخيه الكافر الذي قتل، فينتقم من أخيه المسلم الذي قتله؛ لذلك يأتي هذا القانون الذي هو في غاية الأهمية قبل أن يفرض القتال على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم في الميثاق: (ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر)، فإنه سيحصل أن بعض المؤمنين يقتلون الكفار في المعارك التي ستدور بعد ذلك في المدينة المنورة وما حولها، وليس المفهوم من السياق: المؤمن يقتل أي كافر بدون وجه حق، ولكن المقصود في الحروب الإسلامية التي ستكون بعد ذلك.

    وهناك بنود أخرى في الميثاق كثيرة، ولكن الوقت لا يتسع، لكن الذي يهمني أن أذكر البند الأخير في هذا الميثاق العظيم: قال صلى الله عليه وسلم: (وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم)، أي: إلى المصدر الرئيسي للتشريع الإسلامي في الدولة الإسلامية: الكتاب والسنة.

    إذاً: كان هذا هو الميثاق الذي وضعه صلى الله عليه وسلم لتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، وذلك لاحتواء أزمة المهاجرين، ودخول هذا الكم الكبير من المهاجرين إلى المدينة المنورة، فقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم خطوات منظمة كما رأينا منها:

    تعظيم أجر المهاجرين، التهيئة النفسية للمهاجرين والأنصار، الكفالة السريعة للمهاجرين عن طريق المؤاخاة، رفع قيمة الأخوة، الميثاق الذي وضعه لينظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار.

    الكفالة طويلة المدى للمهاجرين

    جاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: (يا رسول الله! اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل، فقال صلى الله عليه وسلم: لا).

    فالرسول صلى الله عليه وسلم واقعي، فهو لا يريد من الأنصار أن يدفعوا مبالغ كبيرة وقد يندمون بعد ذلك، فأراد الأنصار أن يعطوا المهاجرين فرصة للنمو داخل المجتمع المسلم الجديد، فقال الأنصار للمهاجرين: إذن تكفونا المئونة ونشرككم في الثمر، فقال المهاجرون: اللهم. فبدأ المهاجرون يعملون في أرض الأنصار، ويقسمون الناتج بينهما، وبذلك تفاعل المهاجرون داخل الدولة الإسلامية، ليسوا مجرد معسكرات لاجئين في خيام، فيكونون عبئاً على الدولة التي استضافتهم، ولكن أصبحوا عنصراً فعالاً داخل المجتمع.

    إعطاء الحريات للمهاجرين داخل المدينة المنورة

    المحور الأخير في تثبيت أركان الدولة الإسلامية مع شتى فرقها أو طوائفها: هو إعطاء كل الحريات للمهاجرين أن يفعلوا مثل الأنصار في المدينة، كحرية التملك، وحرية الزواج؛ وحرية الدخول في مجالس الشورى، وحرية قيادة الجيوش، بل قيادة الدولة نفسها، والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين، وخلفاءه من بعده من المهاجرين، إلى أزمنة طويلة، ولا نعلم أنصارياً تولى خلافة المسلمين أبداً.

    فقد رسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وأعطيت لهم كل صلاحيات أهل البلد، فذابوا ذوباناً طبيعياً في البلد، وأصبحوا عنصراً رئيساً من عناصر المدينة المنورة، وبعد عدة سنوات لم يعد هناك فارق بين المهاجرين والأنصار، بل كلهم ينتمون إلى المدينة المنورة الدولة الإسلامية الأولى، وهذا في منتهى الرقي، فقد أعطى هذا الترسيخ ثباتاً وقوة للدولة الإسلامية، فكل شخص يدافع عن المدينة؛ لأنها بلده وموطنه الأصلي الذي عاش فيه، فقد نسي تماماً قصة البلد الذي جاء منه، بل كثير من المهاجرين بقي في المدينة المنورة حتى بعد فتح مكة وعودة الديار التي كانت مسلوبة منهم إليهم، فقد ظلوا يعيشون في المدينة بعد أن أصبحت المدينة هي دولتهم.

    إن هذا العمل له تطبيق في واقعنا، فأمريكا فعلت نفس هذا الفعل، وكأنها تقرأ التاريخ الإسلامي، فالذي يراجع تاريخ أمريكا يجد شيئاً عجيباً، فقد كان تعداد سكان أمريكا في أوائل القرن الثامن عشر خمسة ملايين، أما الآن وبعد مائتي سنة صار تعدادهم أكثر من ثلاثمائة مليون، وأصبح لها قوة كبيرة وقاهرة، ولها أساطيل وجيوش ومخابرات ومصانع، ولها دولة كبيرة وعملاقة، والسبب في ذلك أنها فعلت ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام قبل (1400) سنة، فقد حققت أمريكا الوحدة بين أفرادها، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام وحد الأوس مع الخزرج، ثم وحد الأنصار مع المهاجرين وجعلهم كلهم كياناً واحداً، كذلك حدت أمريكا نفسها حتى صارت (52) ولاية في بعض قارة كاملة، وتمثل دولة واحدة ورئيساً واحداً، فلابد أن يعطيها هذا قوة.

    الأمر الثاني الذي فعلته أمريكا هو نفس الأمر الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين، فقد قامت أمريكا بإعطاء فيز للناس الذين يأتون من خارج أمريكا ليعيشوا فيها، ويأخذون حقوق المواطن الأمريكي، ومع مرور الوقت يذوبون في المجتمع الأمريكي، ويصبحون أمريكيين يدافعون عن أمريكا كأنها بلدهم، فعندما تراجع التاريخ تجد أن أصول الأمريكان من ألمانيا وإنجلترا وإيرلندا والشرق الأوسط، ومن المسلمين والنصارى واليهود، طوائف شتى مرت عليهم السنوات تلو السنوات، وأصبحوا في الأخير أمريكيين يساعدون الأمريكيين، وأعطوهم حرية التملك والزواج والدخول في مجالس الشورى، فجدك الأكبر ولد في أمريكا، وكلنا رأينا الانتخابات السابقة التي قبل فيها أحد اللبنانيين أن يترشح في رئاسة الجمهورية لأمريكا.

    فهذا العمل عمله الرسول عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، ولكن عمله صلى الله عليه وسلم كان راقياً عظيماً، فهو لم يجعل الدافع لهذا التمازج والاختلاط الرائع بين الطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية أمراً من أمور الدنيا فقط، بل جعله كما علمه ربه سبحانه وتعالى مجتمعاً أخوياً متماسكاً، مرتبطاً بالآخرة، بالإضافة إلى سعادة الدنيا، فليس هناك ظلم في إقامة الدولة الإسلامية ولا إبادة ولا فساد؛ لأن التشريع قائم على شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وضع لنا هذا التشريع، وأراد به سعادة الدنيا والآخرة، بينما التشريعات الأخرى قد تحقق نوعاً من السعادة في الدنيا، ولكنها سعادة منقوصة لا شك في ذلك، فهناك أنواع كثيرة جداً من التعدي والظلم والفساد كما ذكرنا، وليس فيها همة إلى الآخرة.

    هذا هو المثال الراقي للإسلام، فالإسلام يستطيع أن ينعمك في الدنيا وينعمك أيضاً في الآخرة، فكفالة المهاجرين كانت كفالة طبيعية حتى ذابوا داخل المجتمع المدني لأزمنة لا يعلم عددها إلا رب العالمين سبحانه وتعالى.

    هكذا حلت أزمة المهاجرين داخل المدينة المنورة، وبالعكس انقلبوا من كونهم أزمة إلى قوة للدولة الإسلامية.

    المهاجرون إلى الحبشة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

    في الحبشة أكثر من (80) شخصاً، وهم عند ملك لا يظلم عنده أحد، لكن الحبشة غير مؤهلة لإقامة دولة إسلامية، وذكرنا تفصيلات ذلك عند الحديث عن دروس الفترة المكية من السيرة النبوية، ولما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشعر بشيء من الاستقرار، أرسل يستدعي بعض المهاجرين في الحبشة؛ ليساعدوه في إقامة الصرح الضخم الهائل الذي سيقيمه في المدينة المنورة؛ وذلك لأن الدولة الإسلامية تحتاج إلى طاقات كثيرة، وفي نفس الوقت لم يندفع النبي صلى الله عليه وسلم اندفاعاً عاطفياً وأتى بكل المهاجرين الذين كانوا في الحبشة لمساعدة المسلمين، فإنه لو فعل ذلك قد يضيع على المسلمين فرصة بقاء بعض المسلمين؛ لأنه قد يحصل استئصال للقاعدة الإسلامية الموجودة في المدينة، وهذا وارد؛ لأن قريشاً لن تسكت، واليهود لن يسكتوا، والمشركين من الأوس والخزرج لن يسكتوا، والقبائل حول المدينة لن تسكت، وفارس والروم لن يسكتوا، فكل هذه مخاطر ضخمة حول الأمة الإسلامية.

    فأبقى صلى الله عليه وسلم عدداً لا بأس به من المهاجرين في الحبشة إلى أن تستقر الأوضاع تماماً، ويطمئن إلى أن دولة الإسلام لا تستأصل، وما جاءت هذه المجموعة إلا بعد صلح الحديبية بعد ست سنوات كاملة، وذلك بعد أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة المنورة أصبحت دولة لا تستأصل، وقتها جاء كل المهاجرين الذين كانوا موجودين في الحبشة.

    مسلمو القبائل البعيدة وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

    المسلمون في القبائل البعيدة عن المدينة المنورة، منهم في اليمن وفي غفار وفي أسلم، ومنهم الذين كانوا في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، أبقاهم صلى الله عليه وسلم في أماكنهم ولم يأمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة؛ لأن كل واحد من هؤلاء كان نقطة مضيئة في مكانه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشتغل بالدعوة في داخل المدينة وما حولها، لكن النقاط البعيدة جداً لم يصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، كان موجوداً في قبيلة دوس في اليمن، والمسافة بين اليمن والمدينة أكثر من (1000) كيلو متر، فكيف يصل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فبعث طفيل بن عمرو الدوسي ليقوم بالدعوة في هذا المكان.

    و ضماد الأزدي يقوم بالدعوة في الأزد.

    و أبو ذر الغفاري يقوم بالدعوة في غفار وعمرو بن عبسة يقوم بالدعوة في أسلم، وهكذا كل واحد في مكانه، ومع مرور الوقت كثر المسلمون في هذه القبائل المختلفة، وجاء الوقت المناسب، واستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القبائل، فأتى منها المسلمون، وزادت قوة المسلمين في المدينة المنورة.

    فقدوم هؤلاء في أول الأمر قد يلفت الأنظار إلى قوة المدينة المنورة، وقد يحفز الناس على استئصال المسلمين في المدينة المنورة بسرعة، وفي نفس الوقت يقلل من فرصة الدعوة في قبائلهم، فآثر صلى الله عليه وسلم أن يبقى الوضع كما هو عليه بالنسبة لهم، إلى أن تستقر الأوضاع، وبالفعل استدعاهم بعد صلح الحديبية.

    مسلمو مكة وكيفية التعامل مع وضعهم

    آخر طائفة: هي طائفة المسلمين المستضعفين في مكة، الذين لم يستطيعوا أن يهاجروا وليس لهم حيلة، فهؤلاء أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالكتمان قدر المستطاع، فلا يخرجوا سرهم ولا يعلنوا إسلامهم؛ حتى لا يستأصلوا، إلى أن يأتي الله عز وجل بأمره، ولم تحل مشكلة هؤلاء إلا بعد فتح مكة، وظلوا في مرحلة السرية طيلة ثمان سنوات من عمر العهد المدني.

    إذاً: هذا كان تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الطوائف المختلفة من المجتمع المسلم، وهاأنتم ترون التصرف النبوي في منتهى الحكمة، ويتغير باختلاف الظرف الذي يعيش فيه المسلم.

    1.   

    المشركون وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

    هذه مجموعة ثانية خطيرة تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في فترة بناء الدولة الإسلامية في أولها؛ واستمر التعامل مع هذه الطائفة إلى قبيل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي مجموعة المشركين، ومثل ما قلنا من قبل: إن المشركين كانوا من طوائف شتى.

    المشركون من أهل المدينة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

    الأولى: المشركون من أهل المدينة من الأوس والخزرج، فهؤلاء كانوا في غاية الأهمية بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإستراتيجية العمل مع المشركين في داخل الدولة في الحالة السلمية هي إيصال الدعوة، والجوار بالتي هي أحسن، وتجنب الصدام قدر المستطاع، بل التعاون في القضايا المشتركة.

    تعالوا لنرى موقف المشركين في المدينة من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي طبيعته؟ وكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كل واحد منهم؟

    بعض المشركين لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة قرروا الخروج منها، منهم أبو عامر الفاسق الذي كان معروفاً بـأبي عامر الراهب .

    هذا الرجل عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة قرر أن يخرج منها، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار أوضح فيه ما في داخله، وقرر الخروج من المدينة، هذا الرجل كان اسمه: أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في أحد.

    هذا الرجل كان يدعي أنه راهب، وأنه على دين الحنيفية، ولبس المسوح وادعى العلم أيام الجاهلية، فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، جاء إليه أبو عامر الراهب، وبدأ يحاوره، قال أبو عامر : ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال صلى الله عليه وسلم: (جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال الراهب: فأنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها) أي: هناك تحريف كبير في الديانة التي أنت عليها الآن. قال أبو عامر الراهب : بلى عليها، إنك أدخلت يا محمد! في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر الراهب : الكاذب أماته الله طريداً غريباً وحيداً)، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتهمه بالكذب، وأن الله عز وجل سيميته طريداً غريباً وحيداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (أجل. فمن كذب فعل الله تعالى به ذلك).

    فكان أبو عامر الراهب كذلك؛ فإنه لما دار هذا الحوار بينهما وجد التفاعل من الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعامل معه كزعيم للمدينة المنورة، فبعد أن رأى ذلك لم يستطع أن يجلس في المدينة المنورة، وخرج منها وعاش في مكة المكرمة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بـأبي عامر الفاسق بدلاً من أبي عامر الراهب .

    عاش أبو عامر الفاسق في مكة المكرمة ثمان سنوات كاملة، إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في سنة ثمان من الهجرة، فهرب من مكة واتجه إلى الطائف، ثم بعدها بقليل أسلم أهل الطائف سنة تسع من الهجرة، فهرب من الطائف وعاش في الشام، وهناك مات طريداً غريباً وحيداً، فهو وأمثاله من الناس الذين خرجوا من المدينة المنورة وعددهم بضعة عشر رجلاً، تركوا المدينة المنورة وهجروها إلى غيرها من البلدان، واستراح منهم العباد، لكن المجموعة الكبرى من مشركي الأوس والخزرج بقيت على شركها تعيش في داخل المدينة المنورة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أصبح بعد ذلك زعيم المنافقين، هذا الرجل كان زعيم الخزرج، وكانت له مكانة كبيرة في المدينة المنورة عند أوسها وخزرجها سواء، وهو الوحيد الذي اجتمع عليه الأوس والخزرج لكي ينصبوه ملكاً على المدينة، وذلك قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينسجون له الخرز ليتوجوه كملك على المدينة المنورة، وهو أول اجتماع للمدينة المنورة على رجل واحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفجأة تغيرت الأحداث، وظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به ستة من الخزرج من قبيلته، ثم اثنا عشر رجلاً في بيعة العقبة الأولى، ثم ثلاثة وسبعون رجلاً في بيعة العقبة الثانية، كل هذا لم يعلم به عبد الله بن أبي ابن سلول .

    مع أنه كان رئيس وفد المدينة للحج في العام الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة الثانية عام (13) من البعثة النبوية، وكان وقتها مشركاً؛ وكان وفد المدينة يضم داخله (300) شخص من يثرب، منهم (75) مسلماً و(225) مشركاً، ولأنه كان زعيم الوفد كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الوفد، ولما شك أهل قريش في إسلام بعض رجال الوفد ولقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم نفى ذلك بشدة، وقال: لو حدث هذا لاستشارني قومي.

    وفي ربيع أول من العام (14) من البعثة، أي: بعد ثلاثة شهور أو يزيد قليلاً، هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وصار رئيساً وزعيماً على المدينة المنورة، وهكذا استلم الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان سيستلمه عبد الله بن أبي ابن سلول ، فتحرك الحقد في قلبه على الرسول عليه الصلاة والسلام على أشد ما يكون.

    تخيل موقف عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقد كان سيتوج ملكاً على المدينة لأول مرة في تاريخ المدينة، ومعلوم أنه زعيم في قومه، ورئيس وشريف وغني وذو سلطان، وفجأة سحبت منه الإمارة، وأعطيت لرجل ليس من الأوس والخزرج أصلاً، وهذا في عرف العرب مستحيل، مستحيل أن رجلاً من قبيلة أخرى يرأس قبيلة ثانية، ويجتمع عليه الناس، هذا أمر غريب عند العرب، فـعبد الله بن أبي ابن سلول رفض هذا الأمر رفضاً كلياً، ولكي يقبله لابد أن يصير مؤمناً صادق الإيمان حقيقة، ولابد أن يصير أنصارياً، لكن من عنده ضعف إيمان أو ليس عنده إيمان أصلاً لن يقبل بهذه الفكرة أبداً، فوجد أن معظم الذين حوله يؤيدون الرسول عليه الصلاة والسلام، بل حتى المشركين الذين لم يدخلوا في دين الرسول صلى الله عليه وسلم وقف معظمهم على الحياد، فلم يجد أحداً ينصره على الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف حائراً كيف يتصرف؟! وكان في حالة من الحقد والضغينة على الرسول عليه الصلاة والسلام. فماذا عمل؟

    ظل يراقب الأوضاع، ورفض الدخول في الإسلام، وظل على شركه وعايش المسلمين داخل المدينة المنورة، وفي نفس الوقت أخذ يبحث عن فرص يؤذي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجه من المدينة، فأخذ يتعاون مع المشركين ضد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقدم إستراتجيته الدعوة السلمية قدر المستطاع مع مشركي يثرب، فقد كان هناك أمل كبير في أن يدخلوا الإسلام، ويصبحوا أنصاراً للدعوة الإسلامية، فكان يقدم الحسنى قدر استطاعته، ويدعو الناس بالتي هي أحسن، من ذلك ما رواه البخاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار وأردف أسامة بن زيد رضي الله عنهما وراءه، وذهب ليعود سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه).

    كان سعد بن عبادة من سادات الخزرج، وزاره النبي صلى الله عليه وسلم في أول أيام المدينة المنورة، قبل بدر وقبل إسلام عبد الله بن أبي ابن سلول ، فمر صلى الله عليه وسلم على مجلس به أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فالدعوة بالتي هي أحسن تقتضي أن المسلمين يخالطون غيرهم، ولكن لا يتأثرون بشركهم ولا بآثامهم ولا بمعاصيهم.

    روى البغوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)، قال ابن المبارك رحمه الله في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.

    إذاً: المجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، والرسول عليه الصلاة والسلام مر على هذا المجلس، ومن المسلمين الذين في هذا المجلس: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وهو من الخزرج، ومنهم أيضاً عبد الله بن أبي ابن سلول سيد الخزرج، فلما مر حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم غبر على الناس، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول رافعاً صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغبروا علينا. وقال شيئاً فيه نوع من الحدة، مما يدل على أنه غاضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الحقد في هذه الكلمات، فقال: لا تغبروا علينا. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تجاهل هذه الكلمة ولم يعلق عليها، بل نزل من على حماره صلى الله عليه وسلم، وسلم عليهم، ثم وقف ودعاهم إلى الله عز وجل، وقرأ عليهم القرآن، فما كان يترك رجلاً ولا قبيلة ولا مجموعة من الناس إلا وعرفهم بدعوته صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول وهو يغلي من الغضب: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول: إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك -أي: كن في بيتك- فمن جاءك فاقصص عليه.

    فوقف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بلى يا رسول الله! فاغشنا به في مجالسنا. قال: عكس كلام عبد الله بن أبي ابن سلول تماماً، مع أن عبد الله بن رواحة شاب صغير، وعبد الله بن أبي عظيم القوم، لكن لابد له هنا أن يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من حمية الشباب المسلم، قال: فاغشنا به في مجالسنا؛ فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون، وأخذ كل فريق يناصر صاحبه، فمجموعة المسلمين كانت مع عبد الله بن رواحة ، ومجموعة المشركين كانت مع عبد الله بن أبي ابن سلول ، واللطيف في الرواية قوله: فاستب المسلمون والمشركون، ولم يذكر اليهود، فماذا فعلوا؟ كانت فرصة أمام اليهود لإثارة الفتنة، فأثاروا مشكلة بين المسلمين والمشركين، حتى كادوا يتثاورون بالسيوف.

    فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه أحد زعماء الخزرج، وقال له: (أرأيت الذي فعل أبو حباب ؟ -يريد عبد الله بن أبي ابن سلول - قال: كذا وكذا وكذا، فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله! ...) وانظر إلى مدى إيضاح الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان سعد بن عبادة رجلاً من أهل المدينة، وقد عاش التجربة التي عاشها عبد الله بن أبي ابن سلول ، رآه وهو يتوج كملك ثم تسحب منه الإمارة- فقال: (يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة -يعني: يجعلوه ملكاً على القوم-، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت) أي: أنك يا رسول الله! ما زلت في المرحلة الأولى من مراحل الدعوة في المدينة المنورة، ولم يستمع إلى كلمات كثيرة من القرآن الكريم، ولم يحي حياة كاملة معك، فاعذره هذه الفترة، واعف عنه واصفح، لعل الله عز وجل يفتح قلبه بعد ذلك للإسلام، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحاول قدر المستطاع أن يوصل الدعوة بالتي هي أحسن إلى مشركي الأوس والخزرج، وكان يحاول تجنب الصراع قدر ما يستطيع.

    لم يكن معظم المشركين في يثرب على شاكلة عبد الله بن أبي ابن سلول ، وإنما وقفوا على الحياد، وهؤلاء مارس معهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الدعوة الإسلامية بالتي هي أحسن، ووصلوا بها إلى قلوبهم، كما حدث مع عمرو بن الجموح ، ومع غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    إذاً: هذا كان موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من مشركي المدينة المنورة.

    كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي الأعراب والقبائل الكبرى المحيطة بالمدينة

    كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبعث للمشركين الأعراب بعض من يدعوهم إلى الإسلام، وكان يتخير أفراد قبيلتهم، فمن أخطر القبائل التي كانت حول المدينة المنورة قبيلة غفار، أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فأتى بنصف أهلها، ودعا لها صلى الله عليه وسلم بقوله: (غفار غفر الله لها)، واستمرت فيهم الدعوة دون أن ينتقلوا إلى داخل المدينة المنورة، كانوا في ديارهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم من يعلمهم ويدعوهم إلى الله عز وجل.

    وفي نفس الوقت أبرز النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب قوة المسلمين؛ حتى لا يغتر هؤلاء بأن المهاجرين هاجروا في حالة ضعف أو قلة إلى المدينة المنورة، فيغيرون على المدينة المنورة طمعاً فيها، فأظهر لهم قوة كما سيظهر لنا بعد ذلك، عندما كان يرسل صلى الله عليه وسلم السرايا حول المدينة المنورة.

    أما المشركون في القبائل الكبرى التي كانت حول المدينة المنورة، فقد حاول صلى الله عليه وسلم أن يعقد معهم بعض المعاهدات، كما عقد معاهدة مع قبيلة جهينة، وهي قبيلة كبيرة في غرب المدينة المنورة، وكان هذا العقد في منتهى الأهمية؛ لأن غرب المدينة المنورة هو طريق القوافل القرشية المارة من مكة إلى الشام، فإذا أمن صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة استطاعت الجيوش الإسلامية بعد ذلك التحرك في أمان في غرب المدينة، وقطع الطريق على قوافل قريش، كما سيتبين بعد ذلك.

    إذاً: كانت سياسته مع القبائل الكبرى المحيطة بالمدينة المنورة محاولة عقد المعاهدات والأحلاف قدر المستطاع، تبقى مشكلة كبيرة جداً، ألا وهي مشكلة مشركي قريش، فبعض الناس يظنون أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انتقل مسافة (500) كيلو متر عن مكة المكرمة فإن مكة هدأ بالها، ولم يعد عندها مشكلة مع المسلمين، وأنه ستهدأ الأوضاع، ولن يُطْلَبَ المسلمون في هذه البقاع البعيدة عن مكة المكرمة.

    ولكن هذا ليس صحيحاً، يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، فلابد أن المشركين في مكة سيسعون قدر المستطاع لغزو المدينة المنورة، وإخراج المسلمين منها، وللتعاون والتحالف مع أعداء المسلمين هنا وهناك لاستئصال شأفتهم تماماً، وهذا ما حدث بالفعل وبطرق مختلفة كما سنرى، وهذا الكلام كله يثبت لنا حقيقة مهمة جداً، وهي أنه لا خيار في المعركة، حتى وإن تجنب المسلمون المعركة، بل لابد أن تحدث سنة التدافع التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى في خلقه وأرضه وإلى يوم القيامة، تدافع أهل الحق وأهل الباطل، حتى وإن كان أهل الحق لا يريدون أهل الباطل بسوء، لابد أن يبحث أهل الباطل عنهم ليتم اللقاء كما أراد رب العالمين سبحانه وتعالى للحرب بين الحق والباطل.

    فيا ترى ماذا عمل المشركون؟ كيف خططوا؟ وكيف دبروا؟ وكيف تعاونوا؟ وكيف أثروا على مشركي يثرب هناك؟ وكيف عقدوا بعض الأحلاف مع القبائل حول المدينة المنورة؟ وكيف حاصروا المدينة المنورة؟

    هذا حديث يطول، وأسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا على الخير دائماً حتى نتناول هذا الأمر وغيره من الأمور إن شاء الله في اللقاءات القادمة.

    ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767983288