أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين أو من اليهود .
ورأينا أن العلاقة كانت متأزمة إلى حد كبير جداً مع مشركي المدينة ومع اليهود، وكذلك موقف قريش كان شديد العداوة.
نريد أن نقف وقفة ونحلل موقف الرسول عليه السلام في هذا الوقت.
وقد مر علينا تقريباً ستة أشهر من ساعة بدء المرحلة المدنية من السيرة النبوية.
الوضع داخل المدينة كان فيه شيء من الاستقرار، لكنه استقرار على بركان قابل للانفجار في أية لحظة.
فالمسلمون في هذا الوقت يحكمون المدينة المنورة، لكن هناك قوى خطيرة جداً ما زالت تنتشر في المدينة، وهذه القوى كانت قوى موزعة ما بين مشرك لا يؤمن بالله عز وجل، مثل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين، أو يهودي منحرف علم الحق واتبع غيره.
والوضع خارج المدينة أيضاً كان فيه بعض الاستقرار، لكن هناك اضطرابات كثيرة أيضاً، وهناك معاهدات مع بعض القبائل المحيطة بالمدينة، لكن تهديد قريش للمدينة كان مستمراً.
فعلاقات قريش بالأعراب حول المدينة كانت قوية، ولا يستبعد أبداً أن يحدث هجوم قرشي شامل على المدينة المنورة بتعاون مع الأعراب أو مع المشركين داخل المدينة أو مع اليهود أو مع غيرهم.
فماذا يحدث إن بوغت المسلمون بهذا الهجوم؟
القتال حتى هذه اللحظة كان منهياً عنه، ولو حدث أن هجم المشركون فإن القاعدة التي كانت سارية في مكة: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، والمسلمون الآن أصبح لهم شوكة، وأصبح لهم كيان ودولة، ولا يستقيم لمن أراد أن يقيم دولة إلا أن يكون قادراً على الدفاع عنها، لكن كيف يكون الدفاع، ولم ينزل الأمر بالقتال بعد؟
نزل حكم الله عز وجل بالإذن بالقتال للمسلمين، وتغير الوضع كله وتغيرت المرحلة، نزل قول الله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
فالتشريع في غاية الإحكام ليس عشوائياً أبداً، بل هناك فقه المرحلة.
فالمرحلة السابقة في مكة كانت تستلزم الكف والإعراض، أما هذه المرحلة فتستلزم الإذن بالقتال فقط وليس الفرض، فالإذن حسب الاستطاعة للقتال وحسب التقدير للقوة، لكن حينما يكون فرضاً فليس للمسلمين إلا أن يقاتلوا.
وسنلاحظ التدرج الجميل في التربية، فإنه لا يحمل الناس مرة واحدة على شيء يركونه.
فالناس بصفة عامة تكره القتال، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216].
فبما أن عامة الناس تكره القتال كان هناك نوع من التدرج، المرحلة الأولى إعراض، وهذه المرحلة إذن، وبعد ذلك فرض، وبعد ذلك قتال عامة الناس الذين يصدون عن سبيل الله.
هذا الإذن بالقتال كان بداية تغير استراتيجي محوري مهم في خط سير المدينة المنورة، فقد أذن للمسلمين الآن أن يرفعوا عن أنفسهم الظلم الذي وقع عليهم، إن رأوا أن قدرتهم تسمح لهم بهذا.
فمن هو الذي ظلم المسلمين؟
إن الذي أوقع عليهم الظلم في الأساس هم أهل مكة الكافرين، ولم يكن الظلم من شخص واحد، بل كان ظلماً متعدداً مركباً.
ظلم في الجسد، بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحياناً.
ظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق، واغتصابه بالقوة.
ظلم في الديار في الطرد منها وأخذها، بل وبيعها وأكل ثمنها.
ظلم في النفس بالسب والقذف وتشويه السمعة.
ظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع، ظلمات بعضها فوق بعض.
فماذا يعمل المسلمون حتى يرفعوا هذا الظلم عن أنفسهم؟
لو هجموا على مكة، قد لا يكون هذا أمراً حكيماً في ذلك التوقيت، إذ قوة المسلمين ما زالت ناشئة، وأعداد المسلمين ما زالت قليلة، والمدينة مضطربة بالمشركين واليهود، وليس من الممكن أن نترك المدينة لقتال أهل مكة، وفيها عدد هائل من المشركين واليهود الذين لم يؤمنوا بعد.
إذاً: الحل كان في مهاجمة قوافل قريش التي تتجه إلى الشام.
فهذه القوافل لا تحميها إلا قوة عسكرية بسيطة، وتقدر القوة الإسلامية أن تهاجمها، كما أن هذه القوافل تمر قريباً من المدينة، فلن يكون هناك جهد كبير على المسلمين، وفي نفس الوقت سيرجعون إلى المدينة بسرعة قبل أن تحصل مشاكل من اليهود أو المشركين.
ثم أنهم سيستعيدون جزءاً من أملاكهم المسلوبة، ويوقعون الرهبة في قلوب أعدائهم، فكانت هذه فكرة فيها أكثر من فائدة، وبذلك يرفع المسلمون الظلم عن كاهلهم بمهاجمة قوافل قريش.
وطبعاً هم في حالة حرب حقيقية، وليس هناك أي مجال لما يطعن به المستشرقون والعلمانيون بأن المسلمين يغيرون على الآمن من قريش، هذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة وبين دولة مكة الكافرة، وكل طرف من الطرفين يستحل دم الآخر وماله، وكل طرف من الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عرف في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان والأماكن، والإسلام دين واقعي يرد القوة بالقوة، ويشهر السيف في وجه من أشهر السيف عليه: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:41-42].
ثم بعد ذلك يلومون المسلمين أنهم يهاجمون قافلة من قوافل قريش التي سلبت كل أموال المسلمين، ولا يلومون من سلب أموال شعب بكامله، وهذا يحصل كثيراً ونراه في التاريخ.
كذلك يستاءون لو أن المسلمين قتلوا من قتلهم قبل ذلك وعذبهم وشردهم، ولا يستاءون ممن أباد الشعوب بالبارود والنابالم واليورانيوم والقنابل العنقودية وغير ذلك.
موازين مختلفة ومكاييل متباينة؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل.
إذاً: أخذ المسلمون قراراً بمهاجمة قوافل قريش المتجهة إلى الشام، لكن قبل التخطيط العسكري لمهاجمة قوة قريش لا بد من تربية خاصة لنفوس المسلمين.
الآن هناك تشريع جديد، قانون يسمح بالقتال، فلابد أن نعرف لماذا سنقاتل؟ وماذا لو قتلت في المعركة؟ وماذا لو انتصرت؟
إن هذه الأمور لم يعرفها المسلمون قبل ذلك؛ لأن التشريع جديد والظروف جديدة، لكننا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يعلم المسلمين ليس فقط كيف يقاتلون، ولكن في سبيل من يقاتلون.
فالقتال في الإسلام ليس إلا في سبيل الله عز وجل، ليس في سبيل النفس، ولا القائد ولا في سبيل الدنيا بأسرها، إنما هو في سبيل الله؛ لذلك فإنك تجد دائماً كلمة الجهاد في القرآن أو في السنة تأتي دائماً مقرونة بكلمة: (في سبيل الله) قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
إلى آخر الآيات.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول عليه السلام قال: (والذي نفسي بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل).
وتجد هذا متكرراً في القرآن والسنة، وهو مخالف تماماً لأغراض الحرب عند غير المسلمين, أو عند الجيوش العلمانية من المسلمين، منهم من يقاتل رغبة في سبيل المال أو السلطة أو التملك، ومنهم من يقاتل رهباً وخوفاً من القائد أو العقاب، فليست هناك قضية حقيقية يقاتل من أجلها، ومن ثم يقاتل بلا حماسة ولا روح ولا هدف؛ لذلك فليس عنده أي مانع من أن يهرب من الجيش إن أمكن الهروب، أو يهرب من أرض القتال نفسها؛ لأنه ضاعت النوايا والأهداف، أما القتال في الإسلام فمختلف، هو قتال في سبيل الله، والله عز وجل حي لا يموت؛ لذلك فإن روح الجهاد عالية بصورة مستمرة وتلقائية في كل فرد.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قام بالإعداد التربوي والنفسي على أعلى مستوى، وأصبح الصف الإسلامي فعلاً جاهز للصدام المروع مع قريش، لكن مع ذلك لم يخرج الرسول عليه السلام إلى القتال خروجاً عشوائياً دون تخطيط، بل جهز مسرح العمليات بقدر ما يستطيع، كما قلنا قبل ذلك أنه عقد بعض المعاهدات مع القبائل التي تقع في غرب المدينة المنورة، وهذه القبائل تسيطر على المنطقة التي تمر منها قوافل قريش، فالرسول عليه السلام عقد معاهدات جوار ودفاع مشترك، وبهذه المعاهدات سيحيد على الأقل جانب هذه القبائل، وسيطمئن إلى أنه لن يضرب من ظهره في أثناء الحرب مع قريش، وسيقوم كما سنرى بعقد معاهدات أخرى كلما استطاع مع بعض القبائل الأخرى في المنطقة وحولها.
بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية بالفعل تجوب المنطقة حول المدينة المنورة بحثاً عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام.
ونلاحظ شيئاً مهماً في هذه الدوريات، فهي مكونة فقط من المهاجرين وليس فيها أنصاري واحد، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: المهاجرون هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، فحربهم مع قريش ستبقى حرباً مفهومة عند كل أهل الجزيرة العربية، فيعذر أهل الجزيرة العربية المسلمين تماماً في هذه الحرب، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة وبالذات في أيام الإسلام الأولى التي لم يسمع الناس فيها عن الإسلام.
ثانياً: المهاجرون سيكونون أكثر حمية وأشد قوة في حربهم مع قريش؛ لكونهم يستردون حقاً شخصياً لهم سلبته قريش؛ لذا ستكون فرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة النصر في الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار.
ثالثاً: المهاجرون يعرفون أهل قريش، ويعرفون طرق حربهم وطرق قتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم فترة طويلة من الزمان، فهم يعرفون القادة، ويعرفون إمكانياتهم العسكرية بكل التفاصيل، وهذا الأمر سيعطي فرصة أكبر للنصر.
رابعاً: رفع الروح المعنوية للمهاجرين، فالمهاجرون تركوا الديار والأموال، وهذه فرصة لرفع الروح المعنوية، وتعويض ما خسروه مادياً ومعنوياً.
وقد يكون هناك أسباب أخرى لاختيار المهاجرين قد لا نعلمها، لكن السبب الرئيس في هذا الأمر: هو أن الرسول عليه السلام لم يرد أن يحرج الأنصار بالخروج للقتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأن الأنصار لما بايعوا بيعة العقبة الثانية بايعوا على أن ينصروا الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل المدينة المنورة إن أتى إليهم، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لو أمر الأنصار لأطاعوه، لكنه لا يريد أن يسبب لهم الإحراج، وكان صلى الله عليه وسلم وفياً في كل عهوده، لا يأخذ الناس أبداً بسيف الحياء.
كما أننا وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين لا بد أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة عندما خرج بنفسه للقتال.
هناك ثمان غزوات وسرايا تمت قبل غزوة بدر، من رمضان في السنة الأولى هجرية إلى رمضان في السنة الثانية هجرية، سنة كاملة تمت فيها ثمان غزوات وسرايا.
الغزوة: هي التي كان يخرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحينها كان يستخلف أحد أصحابه على المدينة المنورة.
أما السرية فهي التي يرسل فيها بعض الجنود بقائد من الصحابة، ولا يخرج فيها صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لرسول صلى الله عليه وسلم أربع سرايا وأربع غزوات، فالأربع الغزوات التي خرج فيها استخلف على المدينة أناساً من أصحابه، استخلف مرة سعد بن عبادة، ومرة سعد بن معاذ ، ومرة زيد بن حارثة، ومرة أبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين.
أما تنوع الرجال فأمر مفهوم، فقد كان يربي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على القيادة تدريباً حقيقياً واقعياً.
كما أن قيادة سعد بن عبادة وسعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب الرسول عليه السلام أمر مفهوم أيضاً؛ وذلك لأن سعد بن عبادة سيد الخزرج، وسعد بن معاذ سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقاً هو ولاية زيد بن حارثة رضي الله عنه في سرية ، وأبي سلمة بن عبد الأسد في سرية أخرى، وهذان الاثنان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة المنورة مستغربة جداً، وإن كانت تدل على شيء فإنها تدل على أمور في غاية الرقي، منها:
طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منها: أن المدينة أصبحت كياناً واحدًا، لا فرق فيها بين مهاجر وأنصاري.
منها: زهد الأنصار في الدنيا، وعدم رغبتهم أبداً في الرئاسة أو الملك.
فإذا أضفت إلى كل ذلك أن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان مولى يباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب كافة، حتى قبل أشراف الأنصار وأشراف المهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجميل في ذلك أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعواماً ولا قروناً، بل عدة شهور فقط!
زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه تولى قيادة المدينة لما خرج الرسول عليه والسلام في غزوة سفوان، وكان غزوة سفوان في ربيع الأول من السنة الثانية هجرية، أي: بعد حوالي اثني عشر شهراً من قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
فانظر إلى تربية الإسلام كم هي جميلة، وانظر إلى التغير الهائل الذي يحدثه الإسلام في قلوب الناس، وهذا لا يكون إلا لمنهج رب العالمين سبحانه وتعالى.
أما بالنسبة للسرايا والغزوات التي حصلت فكانت بالترتيب الآتي:
كانت ثمان غزوات وسرايا مثل ما قلنا.
فالسرية الأولى سرية سيف البحر، سيف البحر، يعني: ساحل البحر بكسر السين وليس بفتحه، كانت في رمضان سنة واحد هجرية.
السرية الثانية: سرية رابغ في شوال سنة واحد هجرية، بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه.
السرية الثالثة: سرية الخرار في ذي القعدة سنة واحد هجرية، بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ثم بعد ذلك غزوة الأبواء وتسمى ودان في صفر من السنة الثانية هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تحدث في ذي الحجة ومحرم غزوات وسرايا؛ لأنها أشهر حرم ليس فيها قتال.
بعد ذلك: غزوة بواط، في ربيع أول سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد ذلك: غزوة سفوان في ربيع أول أيضاً سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
السابعة: غزوة ذي العشيرة في جمادى الأولى سنة اثنين هجرية، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثامنة: سرية نخلة في رجب سنة اثنين هجرية بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه.
بنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال في المعارك السبعة الأولى تقريباً، ومع ذلك لم تخل هذه المعارك من فوائد كثيرة جداً.
أولاً: هذه المعارك كسرت الحاجز النفسي الكبير الذي كان عند المسلمين.
فالمسلمون كان عندهم حاجز نفسي، فقد مكثوا أربع عشرة سنة بالتمام والكمال لا يقاتلون.
والمسلمون أمروا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفاً في النفس أو شعوراً بقلة الحيلة، وقد يؤدي إلى ما يسمى بإلف الذل أو الهوان، فجاءت هذه السرايا أو الغزوات البسيطة نسبياً كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم، فقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة مشردة، إلى كونهم دولة ممكنة، لها جيش ينفذ مخططات ويحافظ على الأمن ويرهب الأعداء ويحفظ الكرامة وهكذا، فكانت فعلاً نقلة نفسية في منتهى الروعة.
ثانياً: هذه الغزوات والسرايا دربت الصحابة على فنون القتال، ودربتهم على ركوب الخيل والحرب على الإبل والمناورة والخطة والتحرك والترقب، ففرسان العرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن ليس من الممكن أن ندخل حرباً ضخمة بدون تدريب، خاصة أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، بل مسألة حياة أو موت، مسألة بقاء أمة أو فناء أمة.
ثالثاً: هذه الدوريات العسكرية عرّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، فالمهاجرون ليسوا من أهل المدينة المنورة، ولا يعرفون الطرق والمسالك حول المدينة المنورة.
رابعاً: هذه الدوريات أشعرت القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأة المسلمين في مواجهة قريش، مع أن قريشاً هي أكبر القبائل العربية وأقواها، فلا شك أن هذه الدوريات أدخلت الرهبة في قلوب هذه القبائل وبالذات الأعراب، وبدءوا يحسبون للمسلمين ألف حساب.
خامساً: نتيحة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة غير قبيلة جهينة، كقبيلة بني ضمرة وغيرها من القبائل، من أجل ذلك رسخ المسلمون أقدامهم في المنطقة.
سادساً: أن هذه الدوريات العسكرية أرسلت رسالة واضحة إلى قريش، هذا إعلان رسمي للحرب من قبل الدولة الإسلامية، مع أن قريشاً أعلنت الحرب من قبل، لكن هذا أول إعلان رسمي من الدولة الإسلامية للحرب على قريش.
فالعلاقة لن تستمر بين المسلمين وقريش كما كانت من قبل، لن تستمر كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور لا، ستصبح من الآن علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها.
ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلباً على نفسية أهل مكة، فإنهم يرون قوة المسلمين تتنامى والأعداد تتزايد، وجرأة المسلمين تصل إلى حد مهاجمة قريش لا مجرد الدفاع عن النفس.
فهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية.
إذا كان هذا التحليل ينطبق على السبع المعارك الأولى، فالمعركة الأخيرة التي كانت سرية نخلة، تحتاج إلى وقفة خاصة.
هذه السرية خرجت من المدينة المنورة في شهر رجب سنة اثنين هجرية؛ لاعتراض قافلة لقريش ستمر بمنطقة نخلة، ونخلة منطقة تقع بين مكة والطائف، ولهذه السرية مشكلتان كبيرتان، المشكلة الأولى في المكان والمشكلة الثانية في الزمان.
أما مشكلة المكان: فهي أن منطقة نخلة تقع على بعد حوالي أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة، فهي مسافة طويلة جداً خاصة أن السرية عدد الخارجين فيها اثنا عشر مقاتلاً فقط، أمرها خطير جداً جداً، وفي نفس الوقت نخلة قريبة جداً من مكة، فلو علم المشركون بأمر هذه السرية، فإن قتال هذه السرية سيكون أمراً ميسوراً على جيش مكة.
من أجل هذا كان من المتوقع أن المسلمين يترددون في أمر الخروج في هذه السرية؛ لذلك اختار الرسول عليه السلام طريقة فريدة جداً لإخراج هذه السرية، لم يكرر هذه الطريقة مع سرايا أخرى.
هذه الطريقة: أنه كتب تكليف هذه السرية في كتاب مغلق، وأعطاه لقائد السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وأمره أن يسير بهذا الكتاب المغلق مدة يومين، وبعد يومين يفتح الكتاب ويقرؤه، وبعد أن فتح عبد الله بن جحش الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) وأمره صلى الله عليه وسلم ألا يكره من معه على الخروج إلى هناك، أي: كل واحد يخرج بإرادته الكاملة، وهنا قام عبد الله بن جحش رضي الله عنه وقال لأصحابه: من أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا جميعاً معه واتجهوا إلى منطقة نخلة.
والذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل هذا التوجيه الفريد لهذه السرية هو صعوبة المهمة وبعد المسافة، فلو أنه أمر الصحابة أمراً مباشراً في المدينة بالخروج إلى هذه المسافة البعيدة قد يتردد البعض في التكليف، لكن إذا أتاهم التكليف بعد قطع مسيرة يومين -خمس الطريق تقريباً- فإنهم سيكونون على الاتجاه ولن يترددوا إن شاء الله، ومع ذلك لم يرد صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم هذا الأمر الشاق فرضاً، بل ترك لهم حرية الاختيار، وهو يعرف درجة إيمانهم، وثيق ثقة كاملة في أنهم سيكملون المهمة ويصلون إلى نخلة، وهذا الذي حصل بالفعل. هذه كانت مشكلة المكان.
أما مشكلة الزمان فكانت أصعب، فهذا الخروج كان في شهر رجب، ورجب كما تعرفون من الأشهر الحرم، والعرب بكاملهم سواء كانوا من المسلمين أو من الكافرين يحرمون القتال في الأشهر الحرم.
وكثير من الفقهاء يقولون: إن هذا الحكم نسخ، لكن في ذلك الوقت هذا الحكم لم يكن منسوخاً، فالقتال في الشهر الحرام حرام على المسلمين وعلى الكافرين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بالقتال لا تصريحاً ولا تلميحاً. قال لهم: (فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) فقط.
وصل الصحابة بالفعل إلى منطقة نخلة، ووجدوا القافلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، لكنهم وصلوا في آخر ليلة من ليالي الشهر الحرام رجب، والقافلة متجهة إلى مكة، وبعد ليلة واحدة ستكون داخل مكة، فلو تركوا القافلة حتى تنتهي ليالي شهر رجب ستدخل القافلة حرم مكة، والقتال في مكة حرام كذلك، وستفلت القافلة، وهذه القافلة كانت فرصة كبيرة للمسلمين.
أولا: ستكون أول ضربة لقريش؛ لأن كل الغزوات والسرايا لم تسفر حقيقة عن أي غنائم أو انتصارات.
ثانياً: هذه الضربة في عمق الجزيرة العربية بعيداً جداً عن عقر دار المسلمين، وقريباً جداً من عقر دار الكافرين، فهي تحمل جرأة لا تخفى على أحد، ومن المؤكد أنه يكون لها أثر سلبي ضخم على المشركين.
ثالثاً: لم يكن في القافلة إلا أربعة رجال فقط، فالحراسة ضعيفة، والمسلمون كانوا عشرة، كان عددهم قبل ذلك اثني عشر رجلاً، لكن اثنين منهم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما ضل لهما بعير قبل وصولهم إلى نخلة، فذهبا للبحث عنه فوجد الصحابة القافلة تمر، والصحابة في هذا الوقت عشرة، والقافلة فيها أربعة، إذاً: فرصة القتال ممكنة.
ثالثاً: المسلمون في هذه السرية من المهاجرين، وقد أوذوا إيذاءً مباشراً من قريش، فقائد هذه السرية عبد الله بن جحش كان أبو سفيان بن حرب قد استولى على داره وباعها وأكل ثمنها، فالمهاجرون يشعرون من داخلهم بأذى شديد تلقوه من قريش، فهذه فرصة أن القافلة أمامهم.
لكن في نفس الوقت كانت هذه السرية في آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع فهل يتقيد الصحابة بالقوانين التي انتهكها عدوهم آلاف المرات، ويضيعون فرصة السيطرة على القافلة، أم يرمون بالقانون عرض الحائط ويهجمون على القافلة؟
هل يرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين، وقد جاءت فرصة قد لا تتكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟
هل يراعي المسلمون الآن الشهر الحرام، ولا يعتدون على قريش وقد سلبت أموالهم وهتكت أعراضهم وأراقت دماءهم في مكة البلد الحرام، وفي الأشهر الحرام قبل ذلك على يد أصحاب القافلة أنفسهم، هل يفعلون ذلك، أم ينتقمون لأنفسهم وقد جاءتهم الفرصة؟
كانت أسئلة محيرة جداً في أذهان الصحابة، فقد جلسوا سوياً يتشاورون، وبعد الشورى أخذوا القرار، والقرار كان برفع الظلم الذي وقع عليهم، والهجوم على القافلة في الليلة الأخيرة من شهر رجب.
وبالفعل قامت الفرقة الإسلامية بالهجوم على القافلة، وقتل في هذا الهجوم أحد المشركين وكان اسمه عمرو بن الحضرمي وأسر اثنان من المشركين: عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان ، وفر الرابع وكان اسمه نوفل بن عبد الله بن المغيرة ، وغنم المسلمون القافلة بكاملها، وعادوا إلى المدينة بالأسيرين والقافلة، وقد حققوا انتصاراً لم يحققوه قبل ذلك.
وهذان الأسيران كانا أول أسيرين في الإسلام، والقتيل هو أول قتيل في الإسلام، وهذه أول غنائم في الإسلام، كان يوماً فاصلاً في تاريخ الجزيرة العربية.
وقامت الدنيا بعد هذا الحدث ولم تقعد، وتباينت آراء الناس تماماً في هذا الحدث، فقريش على كفرهم وظلمهم وتكبرهم وإجرامهم في حق المسلمين لبسوا لباس الشرف والدين والأخلاق وقالوا: إن المسلمين انتهكوا الحرمات، وخالفوا الأعراف، وتعدوا على القوانين.
سبحان الله! قريش تتحدث عن الحرمات والأعراف والقوانين؟! ألم تكن مكة بلداً حراماً حرم فيه قتل الحيوان وقطع النبات فضلاً عن إيذاء الإنسان؟
ألم تكن هناك مخالفة لأعراف مكة والجزيرة عندما تخلى الأهل والأحباب والأصحاب عن أشرف الرجال محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كانوا يلقبونه بالصادق الأمين؟
ألم يغروا به سفهاءهم، وأهانوه هو وصحبه، حتى اضطر إلى ترك الديار والأهل العشيرة؟
أليس من قوانين مكة والجزيرة ألا يظلموا وألا يقبلوا بظلم؟ أليست أجساد المسلمين حرمات؟
ألم تشهد مكة البلد الحرام جلداً وإغراقاً وإحراقاً وتقتيلاً لرجال ونساء، ليست لهم جريمة إلا أنهم أمنوا بالله عز وجل؟
ألم تكن هذه الدماء حراماً، أين احترام القوانين؟ أين حفظ الحرمات؟ أين الالتزام بالأعراف؟ لماذا أرادت قريش أن يطبق القانون على المسلمين في مرة واحدة خالفوا فيها، بينما هي لم تطبق على نفسها القانون في مرات ومرات تمت فيها المخالفة بشكل علني وصريح؟
هذا هو الكيل بمكيالين، وهو سلوك كل الظالمين، لا يلجئون إلى القانون إلا إذا كان يحكم لهم، فإن حكم لغيرهم كانوا أول المخالفين، أهذا منطق يعتد به؟!
وإلى الآن -سبحان الله- كثير من الدول الظالمة تعيش بهذا المبدأ الفاسد، كل يوم تنتهك الأعراف العالمية، وتدمر القوانين الدولية، وليس هناك من يتكلم أو يعترض على هذا، فإذا خالف المسلمون مرة قامت الدنيا ولم تقعد.
كثير جداً من دول العالم تمتلك السلاح النووي، ولو فكرت دولة إسلامية في امتلاك السلاح النووي قامت الدنيا ولم تقعد، فما هو الفرق؟ أليس هذا كيل بمكيالين؟ أحرام على المسلمين وحلال لغيرهم؟ هذا لا يمكن أبداً أن يكون منطق الحق والعدل، هذا منطق القوة الغاشمة الظالمة، وهذا كان منطق قريش في ذلك الوقت، فلم تكن ثورة قريش الإعلامية لإيمانها الحقيقي بعدم جواز خرق القانون، إنما كانت الثورة لكونها هي المتضررة، ولو كان غيرها هو الذي وقع عليها الضر ما تكلمت، بل لعلها كانت ستؤيد وتبارك، قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].
كان هذا موقف قريش، فما هو موقف الرسول عليه السلام؟
في الحقيقة إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع في حرج شديد، فالرسول عليه السلام لم يكن عنده وحي تماماً بهذه المسألة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر بصفة عامة خرق القوانين والحرمات، فلم يأمر بقتال في الشهر الحرام، ولم يرده، حتى إنه لم يسعد بما حدث عندما سمع به، بالرغم أن المسلمين عانوا قبل ذلك آلاماً كثيرة جداً، وبرغم أن هذا أول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام، وأول قافلة في الإسلام، لم يفرح بهذا الموقف كله، وتوقف صلى الله عليه وسلم، فالمسألة عنده مسألة مبدأ صلى الله عليه وسلم، وأنكر على الصحابة ما فعلوه. قال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ولم يكتف بذلك، بل أوقف التصرف بالقافلة، وأوقف التصرف في الأسيرين إلى أن يأتي وحي يرشد المسلمين إلى القرار الأحكم في هذه القضية.
هذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الصحابة الذين قاموا بالسرية فقد رأوا أنهم أخطئوا في الاجتهاد، وبقية الصحابة جاءوا إليهم يعنفونهم ويلومونهم، ويلقون على أكتافهم تبعات الحدث الخطير: ماذا فعلتم قاتلتم في الشهر الحرام؟ فكان الموقف متأزماً حقاً.
بينما الجو العام في الجزيرة العربية يسير نحو تحميل هذه الفرقة الإسلامية الخطأ الذي فعلوه، وكانت تتفق على ذلك آراء أهل مكة والمدينة على حد سواء، مع اختلاف طرق التفكير واختلاف التصورات، فنزل الوحي بما فاجأ الجميع، نزل يوضح للناس كافة مؤمنهم ومشركهم الحقائق كما ينبغي أن تكون.
نزل يبين للناس ما اختلفوا فيه، نزل ليخرج المسلمين من المثالية غير الواقعية إلى فقه الواقع والموازنات وفقه الأولويات.
نزل ليفضح مكر الماكرين وكيد الكافرين، ونزل لينصر ويؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم.
نزلت آيات كريمات من سورة البقرة. قال الله عز وجل فيها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217].
نعم. القتال في الشهر الحرام كبير، لكن انظر: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217].
قال الله عز وجل للمسلمين: أنه لا معنى أبداً لتلك الضجة المفتعلة التي فعلتها قريش، ولا معنى أبداً لهذه التمثيلية الهزلية التي قام بها كفار قريش.
فعلى الرغم من أن القتال في الشهر الحرام كان ممنوعاً في ذلك الوقت ولا ينبغي أن يسعى إليه المسلمون، وما زال ممنوعاً كما ذكرنا في رأي بعض الفقهاء، إلا أن ما فعلته قريش أكبر وأعظم من ذلك.
فالكفر بالله عز وجل وعبادة الأصنام من دون الله أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل أكبر من القتل في الشهر الحرام.
كل هذا قريش فعلته، ولم تفعله مرة واحدة بصورة عابرة، إنما فعلته مراراً وتكراراً، حتى أصبح عرفاً سائداً وقانوناً معمولاً به، فكل هذه جرائم أكبر بكثير مما فعله المسلمون وهاجت له قريش.
فسبحان الله! تصبح تمثيلية مضحكة جداً عندما ينادي فرعون كما ذكر ربنا في كتابه الكريم بقتل موسى عليه السلام؛ لأنه كما يدعي فرعون يظهر في الأرض الفساد، قال تعالى وقَال فِرْعَون ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].
من الذي يتكلم؟ فرعون الذي كان يقتل الأبناء ويستحيي النساء.
وهكذا علم القرآن الكريم المسلمين وغيرهم فقه الواقع، فليس من الممكن أبداً في واقع الحياة أن تسير كل الأمور بفقه المثاليات، فقد يحدث أحياناً مخالفات نتيجة اضطرار في بعض الأمور.
من أجل هذا نشأت القاعدة الفقهية المعروفة: دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين، فقد يقبل المرء بضرر ما في سبيل دفع ضرر أكبر منه، مع أن فقه المثاليات يقتضي دفع كل الأضرار وليس بعض الأضرار، لكن هذا غير ممكن وغير واقعي بل هو مستحيل؛ لأنه لا بد أن تحدث أضرار، فالحكمة تأتي في المقارنة بين الأضرار واختيار الأقل.
فالمسلمون وقع عليهم ضرر كبير جداً، وهو الفتنة عن الدين بالتعذيب والقتل والمنع من دخول المسجد الحرام، وليس من الخطأ أن أقبل بضرر القتال في الشهر الحرام وهو أقل؛ لأدفع به ضرراً أكبر وهو الفتنة في الدين والصد عن سبيل الله.
ومع ذلك المسلمون لم يحرصوا على الإتيان بالضرر الأصغر هذا، بالعكس كانوا يتمنون أن لو كان القتال في شعبان وليس في رجب، وقعدوا يتشاورون في هذا الأمر، وكان الموضوع شاغلاً فكرهم، لكن القافلة كانت ستفلت منهم، وسيستمر ضرر قريش الأكبر تجاه المسلمين، ومن المحتمل ألا تكون هناك فرصة ثانية مثل هذه؛ لذلك فإن الله عز وجل من رحمته بالمسلمين الذين خاضوا هذه السرية لم يكتف فقط برفع الإثم عنهم، بل أعطاهم ثواب المجاهدين في سبيل الله أيضاً.
فقد أنزل الله عز وجل قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:218].
كل هذا التعليق على سرية نخلة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
غفر لهم ما تم لهم من قتال في الشهر الحرام وهكذا أيد الله عز وجل موقف الصحابة المجاهدين، ووضح الرؤية لعموم المسلمين، فهدأت النفوس واطمأنت القلوب.
تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحدث تعاملاً في منتهى السياسية والحكمة، يجمع فيه بين القوة والعزة من جانب، وبين التفاهم والتحاور من جانب آخر، فقد أخذ القافلة كغنيمة ورفض أن يردها إلى قريش، واعتبرها جزءاً بسيطاً من ممتلكات المسلمين المسلوبة، وفي نفس الوقت لم يتشدد في أمر الأسيرين، بل قبل في الأسيرين الفداء بالمال، وكان قبول الفداء في عزة عظيمة جداً.
يظهر هذا الكلام في الموقف الجميل التالي:
كان عدد الخارجين في السرية اثني عشر رجلاً، وصل منهم إلى المدينة عشرة، وبقي عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما؛ لبعير ضل لهما، فلم يرجعا مع السرية، فلما تأخرا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يفدي الأسيرين إلا بعد عودة الصحابيين الجليلين إلى المدينة المنورة، وذلك لخوفه من كفار مكة أن يمسكوهما فيقتلوهما، فلما رجعا إلى المدينة المنورة أذن صلى الله عليه وسلم في الفداء.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم قائداً حريصاً على جنوده، حريصاً على عزة أمته.
وفي نفس الوقت كان حريصاً على عدم قطع قنوات الاتصال السياسية مع أعدائه، فقبل فداء الأسرى، وأعطى دية المقتول عمرو بن الحضرمي لأهله، وذلك ليفتح باب التعامل بالمثل، فلو حصل أن وقع في أيدي الكفار مسلم فإنه يكون التعامل بهذه الطريقة.
أغلقت هذه الصفحة مؤقتاً لصالح المسلمين، لكن هذا الموقف كشف عن بعض الأحداث الخطيرة التي من الممكن أن تشهدها الجزيرة العربية مستقبلاً.
كشفت عن مناطق خطرة جداً سيحصل فيها أحداث قريبة بين مكة والمدينة.
مكة فيها كفار قريش، والمدينة فيها اليهود، ماذا حصل بعد هذه السرية؟ ما هو الذي غير الأوضاع بعد هذه السرية العظيمة؟ فبعد هذا الاختراق المرعب لصفوف قريش، وبعد هذا التحدي السافر من القوة الإسلامية الجديدة، لا شك أن قريشاً ستعيد الحسابات تماماً، وسترتب الأوراق من جديد.
فالمسلمون وصلوا إلى مكان لا يتوقع المشركون أبداً أن يصلوا إليه، سيطروا في جرأة عجيبة على قافلة من قوافل قريش على بعد أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة وقريبة جداً من مكة.
ولا يستبعد منهم أبداً تكرار هذا الأمر في أي مكان في الجزيرة، بل قد يتم غزو مكة ذاتها، فلا شك أن هذا سيدفع أهل مكة إلى أخذ تدابير وقائية وقد يفكرون في غزو المدينة المنورة، وهم فعلاً غزوا المدينة قبل ذلك في محاولة كرز بن جابر الفهري ، ولعل المحاولة القادمة تكون أكبر، فقد يفكر المشركون في اصطياد القوافل الإسلامية، وقد يفكرون في الهجوم على القبائل الإسلامية حول المدينة، فهذه احتمالات أصبحت واردة بعد سرية نخلة.
قد يحدث صدام قريب مروع بين قوة المشركين المتمثلة في قريش وحلفائها، وقوة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة. هذا الخطر يتوقع قدومه من مكة.
أما الخطر الأقرب فكان متوقعاً من اليهود، فاليهود إلى الآن لم يظهروا أي تعاطف مع الدين الجديد، اللهم بعض الأفراد المعدودين على أصابع اليد الواحدة.
حاول اليهود الدس والكيد لهذا الدين أكثر من مرة، وازداد كيدهم بعد سرية نخلة، وبدءوا يجاهرون بموالاتهم لقريش الكافرة، مع أن المعاهدة التي بينهم وبين الرسول عليه والسلام كانت تقول: (لا تجار قريش)، لكنهم بدءوا يظهرون الولاء لقريش، بل أظهروا الرغبة الجامحة في أن تأتي قريش وتغزو المدينة المنورة وأبرزوا حتى التفاؤل بالأسماء، واليهود يحبون الرموز، على سبيل المثال: قتل عمرو بن الحضرمي ، عمرو عمرت الحرب، الحضرمي حضرت الحرب، والذي قتل عمرو بن الحضرمي من المسلمين كان اسمه واقد بن عبد الله ، قالوا: واقد أوقدت الحرب. هذه طبيعة اليهود.
إذاً: بعد هذه السرية تبين أن هناك صداماً متوقعاً قريباً مع قريش، وأيضاً هناك صدام قريب متوقع مع اليهود، هذا كله في شهر شهر شعبان سنة اثنين هجرية.
إلى هذه اللحظة كان القتال مأذوناً به وليس مفروضاً على المسلمين بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أذن للمسلمين أن يقاتلوا إن وجدوا في أنفسهم قدرة على القتال، أو أن يختاروا عدم القتال إن رأوا أن ذلك أفضل.
والآية التي أقرت هذا التشريع: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، فالإذن جاء في زمان القتال فيه محتمل، أما الآن فالقتال ليس محتملاً فقط، بل متوقعاً وقريباً جداً يكاد يكون حتمياً.
فلو حدث قتال بالصورة التي نتخيلها من جانب قريش المهزومة في كرامتها، المجروحة في كبريائها، وبمساعدة اليهود الغادرين في داخل المدينة المنورة، كيف سيكون الموقف؟ سيكون الموقف في غاية التأزم، فلا ينفع هنا مجرد الإذن بالقتال، بل يجب أن يفرض القتال على المسلمين لدفع شر هؤلاء الأعداء؛ لأن الإذن سيسمح للبعض بعدم المشاركة، وسيفتح للشيطان أبواباً كثيرة يدخل منها إلى قلوب الضعفاء فيصور لهم صعوبة القتال، وستقاتل قريش مجتمعة مع اليهود، وستقاتل مجتمعة مع قبائل العرب، وهذا أمر صعب، فلا يمكن للمسلم في مثل هذه الظروف أن يؤاثر الدعة ويتجنب القتال.
لكن إن فرض القتال على المسلمين فرضاً فإنهم سيعتبرونه كالصلاة والزكاة، ويعتبرونه واجباً ينفذ، وبذلك تغلق أبواب الشيطان، وستقل حتماً نسبة التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولن يكون التخلف إلا من الضعفاء أو المنافقين، وهؤلاء لا نريدهم في المعركة.
نتيجة لهذه الظروف ينزل الله التشريع المحكم بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية.
فرض سبحانه القتال على المسلمين إذا قوتلوا، وليس للمسلمين اختيار في قضية دفع المشركين إذا هجموا عليهم، بل لا بد من الدفاع حتى الموت، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ [البقرة:216].
فلم يعد القتال مأذوناً به فقط، بل صار مكتوباً -أي: مفروضاً- على المسلمين، ونزل أيضاً قول الله عز وجل الذي يوضح سبب القتال في هذه المرحلة، وبعض الأحكام الخاصة بالقتال. قال الله عز وجل: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:190-193] سبحانه الله.
نريد أن نقف وقفات طويلة مع هذه الآيات، ونريد أن نتصور حال المسلمين وحال غير المسلمين عند نزول هذه الآيات.
حملت هذه الآيات تشريعاً جديداً يحتاج إلى نفوس إسلامية خاصة للعمل بهذه الآيات، ويحمل في نفس الوقت رسالات في منتهى الوضوح إلى المشركين في مكة، وإلى المشركين في خارج مكة، وإلى اليهود كذلك.
تعالوا نعيش مع أهل هذه المرحلة، ونراقب رد فعلهم لهذه الآيات:
أولاً: الناس بصفة عامة تكره الحروب والقتال، ولا يختلف اثنان في أن الحروب تأتي بالدمار والخراب وإزهاق الأرواح، ونحو ذلك من أشياء تورث الحزن والكراهية؛ من أجل هذا ربنا يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216].
لكن ليس معنى هذا: أن القتال إذا تعين على المسلمين لهم أن يتركوه لأنه مكروه، بل بعض المسلمين يصلون إلى درجة من الرقي في الإيمان في حبهم للموت مع أنه مكروه، يتمنون هذا المكروه من أجل إرضاء الله سبحانه وتعالى.
ولقد مر بنا قول الرسول عليه السلام: (لوددت أن أغزو في سبيل الله) وفي رواية: (لوددت أن أقتل في سبيل الله).
وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
الموت مع أنه مكروه بصفة عامة، إلا أنه أصبح محبوباً إلى خالد رضي الله عنه وإلى جيشه، وما ذلك إلا لأنه في سبيل الله، فليس معنى القتال مكروه: أننا نقعد عنه، بل على العكس، كلما ارتقى المسلم في سلم الإيمان أحب هذا المكروه ما دام في سبيل الله.
المعنى الثاني: معنى دقيق جداً ومهم، وهو أن الذي تراه بعينك مكروهاً يجعل الله عز وجل في باطنه الخير: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].
وأحياناً ترى شيئاً محبوباً وتظن أنه خير، ويكون في باطنه الشر: وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216].
هذا الكلام قد يكون غريباً عند عموم الناس ويحتاج إلى يقين كبير وإيمان كامل باختيار رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك لو تدبرت في الأحداث فإنك ستقترب غالباً من رؤية الخير في باطن ما يراه الناس شراً.
على سبيل المثال: القتال مكروه، فيه إيذاء وقتل وتدمير وخراب، لكن انظر إلى الأمة التي تقاتل، والأمة التي لا تقاتل.
الأمة التي تجاهد وتقاتل ترفع رأسها وتعز نفسها، وينظر لها الآخرون نظرة احترام وتوقير.
والأمة التي تزهد في القتال وتعرض عن الجهاد يسلط الله عز وجل عليها الذل، حتى لا تجد لها مكاناً بين الأمم المرموقة في العالم.
الأمة التي تجاهد تحافظ على حقوقها، وتسترد المسلوب منها، والأمة التي تعرض عن القتال والجهاد تنتهك حرماتها وتضيع حقوقها، ولا يخفى ما وراء ذلك من أمور مكروه معروفة.
إذاً: تدبروا الأمر يا إخواني! فإن القتال وإن كان في ظاهره كره، إلا أن في باطنه عزة كبيرة للأمة المسلمة ما دام هذا القتال في سبيل الله.
النقطة الثالثة: عموم المؤمنين قبلوا الأمر دون جدال، وقبلوا القتال في سبيل الله سواء كان مأذوناً به أو مفروضاً عليهم، لكن هناك طائفة من المؤمنين عندما نزل هذا الفرض للقتال رأت الكره ولم تر الخير في باطنه، وأتاها التكليف في لحظة من لحظات ضعف الإيمان، ولم يكن إيمانها بالقوة التي تدفع إلى العمل وإن كان مع الكراهية، وهذه الطائفة ليست منافقة بل مؤمنة، لكنها فترة ضعف وفترة فتور فماذا حصل؟
انطلق هؤلاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: لو تأذن لنا في تأجيل القتال، قالوا ذلك لأنهم خائفون من المشركين واليهود، خائفون من اتحاد هذه القوى على المسلمين، والمسلمون قلة.
ونحن قد نسمع هذا الكلام ونستغرب: كيف يكون هذا الكلام في الصحابة وهم خير الناس وأفضل القرون؟ لكن الحمد لله أن هذا حدث في العهد النبوي؛ لنعرف كيف يتم التعامل مع مثل هذه المواقف؟! ما هي وسائل علاج حالات الضعف الإيماني التي تطرأ على نفس المؤمنين أحياناً؟
الغريب جداً أن هذه الطائفة التي ترددت في أمر القتال لخوفها عندما فرض عليها القتال، كانت هي نفس الطائفة التي كانت تطلب القتال في وقت منعه في أيام مكة.
كان القتال في مكة ممنوعاً؛ لأن قوة المسلمين لم تكن تسمح لهم بذلك، وفصلنا في هذا الأمر في دروس العهد المكي، هذه الطائفة كانت تريد الإسراع برفع الظلم عن الكاهل ولو بالقتال الصعب، أي: لم تكن خائفة! لكنها كانت تعاني من قلة الصبر، والمرحلة كانت تتطلب صبراً من نوع خاص، ألا وهو الصبر على عدم القتال.
أما المرحلة الجديدة، فإنها تحتاج إلى صبر من نوع ثان، وهو الصبر على القتال، سبحان الله! فهؤلاء يعانون من عدم الصبر في مرحلة مكة على عدم القتال، وعدم الصبر في مرحلة المدينة على القتال، لكن هذه الطائفة لم تكن منافقة أبداً، إنما كانت مؤمنة، لكن الإنسان قد يعتريه أحياناً بعض الضعف والقصور في فترة من فترات الحياة، أو ظرف من ظروف الحياة.
وليس هنالك خطر في أن يكون هناك بعض المسلمين على هذه الصورة ما دمنا نقر لهم بالإيمان، لكن الخطر الحقيقي أن تكون الطائفة هذه هي الطائفة الأعم والأشمل في الأمة الإسلامية، أو أن نفشل في علاج هذه الطائفة، فهذا الذي لا نريد أن نقع فيه.
في هذه الطائفة نزل قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] في فترة مكة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ [النساء:77] هذه فترة المدينة إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77].
فهذه الخشية التي تسللت إلى قلوبهم ليست لضعف يقينهم في أن الله عز وجل قادر على نصرتهم، لكن لأن الدنيا تسللت إلى قلوبهم، ومن ثم حرصوا على الحفاظ عليها، وخافوا من فقدانها.
وفي هذه اللحظة من لحظات ضعف الإيمان وغياب الرؤية الصحيحة، نسوا أنهم لن يؤخروا أبداً عن لحظة موتهم، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، نسوا أن نعيم الآخرة لا يقارن أبداً بنعيم الدنيا القليل، ومن ثم لا يجوز أبداً للمؤمن الفاهم الواعي أن يضحي بالآخرة في سبيل تحصيل الدنيا، ولو حاز الدنيا بكاملها.
من أجل هذا تعالوا نر العلاج الرباني وهو يركز على معنى أن الموت محدد في ميعاد لن يقدم ولن يؤخر، معنى أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وأن الآخرة هي كل شيء، قال الله عز وجل تعقيباً على هذه الآيات: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، يعلم الرسول عليه السلام كيف يعالج هؤلاء، ويعلمنا بقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:77-78].
ففي داخل المدينة أو في خارج المدينة سواء كنا في قتال أو في غير قتال سيأتي الموت في اللحظة المحددة.
فلما ذكرت هذه الطائفة عادت إلى الله عز وجل ولم يتخلف منها أحد، وهذا دليل على أن الطائفة كانت مؤمنة، لكن حصل هذا الأمر لنعرف كيف يكون علاجه. هذه كانت النقطة الثالثة.
النقطة الرابعة: قال الله عز وجل في هذه الآيات: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190].
هنا يحدد ربنا سبحانه وتعالى الطائفة التي يجب أن نقاتلها، وهي الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال، ففي هذه المرحلة لم يكن هناك ما هو معروف في الإسلام بجهاد الطلب، والجهاد لنشر كلمة رب العالمين في الأرض، كما هي في الفتوح الإسلامية التي تأتي بعد ذلك، إنما المرحلة مرحلة دفاع عن النفس وعن الإسلام.
ولا بد أن يدرك المؤمنون مدى قوتهم، فلا يطمعون فيما هو أكبر من حجمهم الحقيقي، وهذا الذي نسميه فقه المواقع.
النقطة الخامسة: إن شهوة الانتقام عند المظلوم قد تتفاقم وتخرج عن الإطار المسموح به في الشرع، ونحن لا يجوز لنا أبداً أن نرفع ظلماً وقع علينا بإيقاع ظلم على آخرين.
لذلك يأتي الضابط المهم جداً للقتال في الإسلام، وهو ضابط ثابت مستمر غير منسوخ، معمول به في كل حروب المسلمين إلى يوم القيامة: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
فالله عز وجل لا يحب المعتدي حتى ولو كان من المسلمين، والعدل قانون لا ينصلح حال الأرض إلا به، والعدل لابد أن يكون مع الجميع حتى مع الأعداء المكروهين إلى النفس، يقول تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2] أي: حتى مع الصد عن المسجد الحرام لا تعتدوا، وصور الاعتداء كثيرة، منها الغدر والخيانة وتعذيب الأسرى، ومنها التمثيل بالجثث، والقتال لحظ النفس وليس لله عز وجل، ومنها قتال من لا يجب أن يقاتل، ومنها التجاوز في التدمير والتخريب، ومنها إيقاع الظلم ضد أي إنسان كان، بل إن منها إيقاع الظلم بالحيوان أو بالنبات.
فانظروا إلى التعاليم النبوية التي تضع ضوابط القتال في الإسلام حتى نعرف قبل أن نحمل السيف ونحارب أعداءنا كيف نحارب بأخلاق الإسلام؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
فهذه نصائح تقال لجيش خرج يحارب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه: (اعزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا - لا تغلوا من الغنيمة - ولا تغدروا، ولا تمثلوا - أي لا تمثلوا بجثة قتيل من الأعداء- ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع المعتكفون للعبادة).
هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين، وليس فيها إبادة جماعية، ولا تدمير عشوائي، ليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما أو ناجازاكي أو فيتنام أو كوريا أو ألمانيا أو غيرها من البلدان، ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب أو من بعيد.
إن الجميل جداً في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط كلها والتشريعات الأخلاقية العظيمة لم تأت نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع للقتال، نزلت بهذا التكامل والسمو والعظمة، بما لا يدع أي مجال للشك أن هذا المنهج رباني وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقاً بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية التي يعتريها الكثير من النقص في كل بند من بنودها: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
هناك تشريعات أخرى كثيرة الوقت لا يتسع، لكن الذي أريد أن أقوله وأختم به: إن هذه الآيات لما نزلت كان وقعها شديداً جداً على قريش واليهود وعلى كل الجزيرة العربية، وقد ترقب الجميع أن تدور حرب هائلة بين المسلمين وبين الكافرين.
ترى ما هي مقدمات هذه الحرب؟ وكيف ستكون؟ وما هو رد فعل المسلمين والكافرين لهذه المعركة الهائلة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدروس القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر