أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة بدر وآثارها العظيمة في الجزيرة العربية، وذكرنا موقف قريش وموقف المدينة المنورة وموقف الأعراب، ووقفنا عند ردة فعل اليهود على هذا الانتصار المبهر في غزوة بدر الكبرى.
فأنتم تعلمون أن داخل المدينة المنورة ثلاث قبائل يهودية: قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة.
وفي شمال المدينة المنورة تجمع ضخم لليهود يقال لهم: يهود خيبر، وقد عمل الرسول عليه الصلاة والسلام معاهدة مع اليهود، وحاول اليهود مراراً وتكراراً حاولوا أن يخالفوا هذه المعاهدة وأن ينقضوا الميثاق، وتحدثوا كثيراً بالسوء عن الصحابة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وعن رب العالمين سبحانه وتعالى، وتطاولوا كثيراً في هذه الكلمات، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضبط النفس ويحاول التحكم قدر المستطاع في أعصاب الصحابة، لكي يمنعهم من الصدام مع اليهود؛ لأن الوضع ما زال مضطرباً داخل المدينة المنورة.
وبعد انتصار الرسول عليه الصلاة والسلام على قريش في بدر عاد إلى المدينة المنورة وهو يرفع رأسه بعزة وقوة وبأس، وأرهب ذلك معظم الجزيرة العربية، لكن كان رد فعل اليهود غريباً، فقد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام بداية دخوله المدينة المنورة جمع اليهود -يهود بني قينقاع، وحذرهم من مغبة الطغيان والمخالفة المستمرة التي كانوا عليها، وقال لهم: (يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً)، وبالطبع هو لا يكرههم على الإسلام أو على الإيمان، ولكن يقول لهم: إن قريشاً لما ظهرت على أمر الله عز وجل أذلها الله عز وجل، وهذا له بوادر وظواهر عند اليهود، فهم يخالفون بصورة مستمرة ويسيئون الأدب مع الأنبياء ومع رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن رد فعل بني قينقاع كان عنيفاً جداً، قالوا: يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لن تلقى مثلنا.
إذاً: فهذا إعلان صريح من اليهود وتهديد واضح من اليهود بالحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وقد عرفنا المعاهدة التي بها كف الحرب بين الطائفتين، بل وتجعل واجباً على اليهود أن يناصروا المسلمين في حربهم ضد من يغزو المدينة المنورة سواء من قريش أو من غيرها، لكن الآن بدأ انشقاق كبير داخل المدينة المنورة، وأعلنوا استعدادهم لحرب الرسول عليه الصلاة والسلام وهددوه وتوعدوه؛ ضعوا كل هذا بجانب؛ الذكريات القديمة لليهود في خلال السنتين الماضيتين من التكذيب المستمر والادعاء بالباطل على المسلمين وعلى آيات الله عز وجل وعلى الحبيب صلى الله عليه وسلم.
عندما قابل كان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام، أنزل الله عز وجل آيات بينات توضح العلاقة بين اليهود والمسلمين في مرحلة قادمة، وهي آيات أنزلت في يهود بني قينقاع، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، ويخبر الله بني قينقاع أن يتعظوا بما حدث في لقريش: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، لكن كانت بصائر اليهود مطموسة تماماً، فلم يفقهوا هذه الآيات ولم يهتموا بها.
إذاً: هذا هو الموقف الذي كان بين اليهود وبين المسلمين، ولم يقف الموقف إلى هنا، بل إنه تصاعد أكثره، فقد حدث أن امرأة من المسلمين قدمت إلى سوق بني قينقاع، وجلست إلى أحد الصاغة اليهود تبيع وتشتري منه، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، أي: يحاولون أن يقنعوها بأن تكشف وجهها، فرفضت المرأة ذلك، فأتى أحد اليهود من ورائها وربط طرف ثوبها في رأسها دون أن تنتبه، فعندما وقفت انكشفت سوءتها فصرخت، فجاء مسلم وقتل اليهودي الذي فعل ذلك، فاجتمع يهود بني قينقاع على المسلم وقتلوه، فكانت بوادر أزمة ضخمة جداً في داخل المدينة المنورة؛ حيث إن قبيلة بني قينقاع اجتمعت على قتل المسلم بعد أن قامت بجريمة كشف عورة المرأة المسلمة، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبمجرد أن وصل إليه الأمر جمع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجهز الجيش وانطلق مباشرة إلى حصون بني قينقاع، وحاصر يهود بني قينقاع فيها، وأصر صلى الله عليه وسلم على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره.
وهكذا حرك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الجيش بأكمله من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، وإنه ليحز في نفس الإنسان الآن أن يرى عورات المسلمات تكشف في أماكن كثيرة من العالم، بل وتنتهك الحرمات إلى درجة القتل والاعتداء على المرأة، وإلى درجة أمور يستحي الإنسان من ذكرها، تحصل كل هذه الأشياء ولا تتحرك جيوش المسلمين.
حرك الرسول عليه الصلاة والسلام حرك جيشاً كاملاً من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، هذه هي عزة الدولة الإسلامية وكرامتها، فإنه حصل نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، وانطلق بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال سقوط دماء كثيرة نتيجة القتال بينه وبين بني قينقاع، وتعرفون أن بني قينقاع من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، لكن مع هذا كله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ذلك هو ثمن بسيط جداً جداً أمام حفظ كرامة الدولة الإسلامية.
وبالفعل بدأ الحصار يوم السبت في نصف شوال سنة (2) هجرية، يعني: بعد غزوة بدر بأقل من شهر، وحاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع أسبوعين بالتمام، حتى ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حكم الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، وليس فقط لكشف وجه المرأة المسلمة ولا لقتل المسلم، بل لتراكمات طويلة جداً، فإن اليهود في مخالفات مستمرة منذ أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي سب علني لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وسب للصحابة، وإثارة للفتن بين المسلمين، فكان لابد أن تكون هناك وقفة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هذا يعرفنا على واقعية المنهج الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذه اللحظة أن قوة المسلمين تسمح بردع قوة اليهود، فقام صلى الله عليه وسلم بحصار اليهود وقتالهم، ولو قارنا هذا الموقف مع موقف سابق مر بنا في فترة مكة، وهو قتل سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، فإنه عندما قتلت سمية اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، ولم يحرك مجموعة الشباب المسلم الموجود في فترة مكة لقتال أبي جهل ؛ لأنه يعرف أن القوة الإسلامية لا تسمح بهذا الأمر في ذلك الوقت؛ من أجل ذلك لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإجراء في فترة مكة، لكن الآن قد أذن بالقتال، بل فرض على المسلمين، وقوة المسلمين تسمح، فاختار الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القرار.
فإذا أردنا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم في علاقتنا مع المشركين أو مع اليهود أو مع أعداء الأمة بصفة عامة، علينا أن ندرس جيداً الظرف الذي أخذ فيه صلى الله عليه وسلم القرار أياً كان هذا القرار.
نزل اليهود على حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وخرجوا من حصونهم، والقرار كان قتل بني قينقاع، هنا جاء وكان عبد الله بن أبي ابن سلول قد أسلم منذ أيام قليلة، أي: لم يمض على إسلامه شهر، وكان حليفاً لبني قينقاع، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن في مواليه في بني قينقاع، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه جريمة عسكرية كبرى وفتنة كبيرة تحدث في المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ القرار، فكرر ابن أبي الطلب مرة وثانية وثالثة، ثم أدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لبسه أثناء الحرب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسلني)، وغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال له: (ويحك أرسلني)، لكن المنافق عبد الله بن أبي أصر على إمساك الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. هكذا قال بمنتهى التصريح.
إن عبد الله بن أبي كان حليفاً لبني قينقاع، وبنو قينقاع فيهم جيش قوامه (700) رجل، (400) حاسر و(300) دارع، يعني: (400) من غير دروع، و(300) عليهم دروع الحرب، هؤلاء السبعمائة قد منعوا عبد الله بن أبي -كما يقول هو- من الأحمر والأسود، فهي القوة العسكرية الرئيسية المساعدة لـعبد الله بن أبي زعيم الخزرج قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يمنعونه من الأحمر والأسود أي: من كل الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يقتلهم جميعاً في لحظة واحدة، لكن ابن أبي يقول: إني والله امرؤ أخشى الدوائر، أي: تدور الدوائر بعد ذلك على المدينة فلن ألقى شخصاً يحميني، قال ذلك ولم يفكر في الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر في الجيش الإسلامي، ولم يفكر في انتمائه، بل إن كل تفكيره كان في عقائده الجاهلية التي كان عليها، فعلاقته باليهود كانت أشد توثيقاً من علاقته برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعذره؛ لأن إسلامه لم يزل حديثاً، وكان يؤمل كثيراً في إسلامه خاصة أن وراءه مجموعة كبيرة من الناس، فعامله صلى الله عليه وسلم بالحسنى في هذا الموقف، وقبل منه أن يفتدي هؤلاء، ولكن اشترط عليه أن يتركوا المدينة المنورة بأكملها، فقبل اليهود بذلك، وخرجوا من المدينة المنورة إلى منطقة تسمى أذرعات بالشام، ويقال: إنهم قد هلكوا بعد فترة وجيزة هناك، وبهذا انتهت قصة بني قينقاع من المدينة المنورة.
ظهر لنا في قصة بني قينقاع بعض الملامح.
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقف هذه الوقفة الجادة القوية مع اليهود إلا بعد أن اطمأن على قوة الجيش والاقتصاد والدولة الإسلامية، بحيث إن السوق الإسلامي أصبح قوياً وموجوداً وله حضور في المدينة المنورة، وتعلمون أن كل التجارة كانت في سوق بني قينقاع، فإذا كانت التجارة معتمدة اعتماداً كاملاً على بني قينقاع، وبعد ذلك خرجوا إلى الشام، فكيف سيكون الحال داخل المدينة المنورة؟ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمن نفسه من هذا الأمر من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة، وعمل السوق الإسلامي، وصار الماء ملكاً للمسلمين بعد أن كان ملكاً لليهود، وقد تكلمنا على بئر رومة قبل ذلك في الدروس الماضية من العهد المدني.
إن الجيش المسلم جيش معتمد على أفراده تماماً لا يعتمد على معونات خارجة عن المدينة المنورة، بل يعتمد على المهاجرين والأنصار، ليس مثل عبد الله بن أبي الذي يعتمد على اليهود في حمايته، وهذا الوضع شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يأخذ قرار الحرب بسهولة.
الملمح الثاني مهم لنقف عليه في غزوة بني قينقاع: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ير التساهل مطلقاً مع اليهود بعد هذا الموقف الذي فعلوه مع المرأة المسلمة ومع الرجل المسلم الذي قتل؛ لأن فعلهم كان مخالفة صريحة للمعاهدة التي بينه وبينهم، ولو سكت صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود للمعاهدة مرة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك -لزاد اليهود من تطاولهم، وبالتالي يبدءون الدخول في مرحلة ثانية من الاستهزاء بالدولة الإسلامية وبكرامتها، وعندما يكون هناك تساهل بالأمر الجديد سيعملون أشياء أخرى أكثر وأكثر، وحدود اليهود ليست لها نهاية.
ورأينا هذا الفعل من اليهود سواء في السابق أو في اللاحق، وسنظل نراه من اليهود إلى يوم القيامة؛ لأن هذه طبيعة من طبائع اليهود.
ففي العصر الحديث خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين وكانت الهجرة إلى فلسطين ممنوعة عليهم، وسكت المسلمون، وبعد ذلك تملك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين بكاملها، كذلك المسلمون لم يحركوا ساكناً، واستقدم اليهود السلاح الخفيف في داخل فلسطين، كذلك سكت المسلمون عن ذلك، واستقدم اليهود السلاح الثقيل في داخل فلسطين، وكذلك سكت المسلمون عن ذلك، ثم جاء قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والمسلمين، وكذلك السكوت هو السائد، فقامت إسرائيل سنة (1948) ثم قامت حرب سنة (1956)، ثم قامت الحرب سنة (1967)، ثم أشعلت حرب سنة (1982) ضد لبنان وهكذا كلما نسكت يأخذ اليهود منطقة أكبر، كنا نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود (1967)، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود الانتفاضة، والآن اليهود يعملون الجدار، وسنطالب بالعودة إلى حدود الجدار، وهكذا تساهل وراء تساهل وراء تساهل، حتى أدي للذي نراه الآن.
لذلك تجنب الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المأساة، وأخذ قراراً حاسماً وسريعاً بحصار بني قينقاع، وعقابهم بالطريقة التي شرعت في المعاهدة التي بينه وبينهم قبل ذلك بسنتين.
إذاً: هذا هو الوضع الحاسم الذي علمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم.
الملمح الثالث من ملامح غزوة بني قينقاع: قوة العلاقة بين اليهود وبين المنافقين من المسلمين، المنافقون أسماؤهم إسلامية وصفاتهم إسلامية وشكلهم إسلامي، لكن يتعاملون مع اليهود بمنتهى الحمية والقوة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، واستغل اليهود هذه العلاقة في أيام الرسول صلى عليه الصلاة والسلام، واستغلوها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى زماننا الآن وإلى يوم القيامة، فالعلاقة وطيدة وأكيدة بين اليهود والمنافقين، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه بتعبير غريب وواضح جداً، قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [الحشر:11].. إلى آخر الآيات، فجعل الله عز وجل المنافقين إخواناً للذين كفروا من أهل الكتاب، فهذا الأمر واضح جداً في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وواضح من خطوات السيرة النبوية كما ترون.
إذاً: هذا هو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من بني قينقاع.
شبيه بهذا الموقف في هذه الفترة أيضاً ما فعله صلى الله عليه وسلم مع رجل من يهود بني النضير، كان هذا الرجل يقود حرباً ضروساً ضد المسلمين، ليس كل القبيلة يقودون هذه الحرب، وإنما هو واحد منها كان اسمه كعب بن الأشرف ، وهو من قادة بني النضير وزعمائها، هذا الرجل كان يصرح بسب الله عز وجل وبسب رسوله الكريم وكان شاعراً مجيداً ينشد الأشعار في هجاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولم يكتف بذلك الأمر، ولكنه ذهب ليؤلب القبائل على الدولة الإسلامية، ولم يكتف بهذا الأمر، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وألب قريشاً على المسلمين، وبدأ يتذاكر معهم قتلى المشركين في بدر، بل إنه فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى، وتعلمون أنه من اليهود وهو يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول من عند رب العالمين؛ سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام، قالوا: أديننا أحب إليك، أم دين محمد وأصحابه، وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال الكافر: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51].
طبعاً هذا الكلام شجع قريشاً على الحرب، ولم يكتف كعب بذلك، بل زاد على ذلك أموراً تخرج عن فطرة العرب وأدبهم بصفة عامة، سواء كانوا في الإسلام أو في الجاهلية، بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
إذاً: كعب بن الأشرف ارتكب عدة جرائم ضخمة، سب الله عز وجل، وسب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهجى الصحابة، وهجى الصحابيات بأفحش الكلام، وحرض قريشاً على الانتقام لقتلاها في بدر، وكل هذا مخالفة صريحة للمعاهدة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في المعاهدة: ألا تجار قريش ولا تنصر على المسلمين، فكل هذه الأشياء جعلت الرسول يأخذ قراراً في منتهى الحسم بقتل كعب بن الأشرف ، فقال صلى الله عليه وسلم: (من لـ
هناك تعليقان على هذا الموقف:
التعليق الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قتل كعب بن الأشرف وحده دون قبيلته، بينما أخرج قبيلة بني قينقاع بكاملها عندما خالفت، فالفرق بين الموقفين: أن قبيلة بني قينقاع أولاً كانت تجاهر بالعداء كقبيلة، والموقف بعد بدر كان واضحاً، وصراعها مع الرسول صلى الله عليه وسلم كان معلناً، بينما قبيلة بني النضير لم تجاهر بهذا العداء إلى هذه اللحظة، بل بعد قتل كعب بن الأشرف جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تقر العهد وتطيل المدة.
إذاً: الفرق بين القبيلتين: أن قبيلة بني قينقاع كانت معادية كقبيلة كاملة، والأخرى أحد أفراد القبيلة هو الذي كان يعادي، والسيئة عند الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعم. هذا هو التعليق الأول.
التعليق الثاني على موقف بني قينقاع وموقف كعب بن الأشرف : هو وضوح مدى الانحراف الجنسي عند اليهود، ومدى إثارة الغرائز واستخدام ذلك للإفساد في الأرض، ففي قصة المرأة المسلمة حاولوا أولاً كشف وجهها، ثم بعد ذلك كشفوا عورتها، وفي قصة كعب بن الأشرف أخذ يتحدث عن نساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين بالفاحشة، وبكلام لا يستقيم أبداً لإنسان صاحب فطرة سليمة.
إذاً: هذه كانت طريقة من طرق اليهود، كانوا يستخدموها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل عهده وبعد موته، فقد فشا فيهم الزنا حتى قال صلى الله عليه وسلم: (أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) وهذا ينشأ عامة في تاريخهم، وإلى الآن معظم وسائل الإعلام والسينما والمواقع الإباحية والبرامج والأفلام الجنسية تمت بصلة كبيرة إلى اليهود، فأكثر من 50% من وسائل الإعلام يملكها اليهود، وأكثر من 80 أو 90% من الإعلانات التي تقدم خلال هذه الوسائل من برامج وأفلام وغيرها تقوم في الأساس على إثارة الغرائز الجنسية وعلى النساء، ولابد أن ينتبه المسلمون لهذه النقطة.
إذاً: بعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم من بني قينقاع ومن كعب بن الأشرف استقر الوضع داخل المدينة المنورة نسبياً، وأصبح الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قوةً كبيرة جداً داخل المدينة المنورة، وأعلن معظم الناس الإسلام في المدينة، نعم. منهم منافقون، لكن الذي يحكم المدينة المنورة حكماً تاماً كاملاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك خاف اليهود من المسلمين بعد الموقف الحاسم الذي حصل مع بني قينقاع، وبدأ بنو النضير وبنو قريظة يتربصون بالمسلمين.
إن موقف قريش كان موقفاً سيئاً جداً، فهي تعاني من أزمة اقتصادية ضخمة، وذلك بقطع طرق التجارة عن الشام، كذلك تعاني من أزمة سياسية ضخمة، وذلك بإهانة كرامتها وضياع هيبتها في الجزيرة العربية بعد الهزيمة المرة على يد المسلمين، خاصة أن الكفار كانوا أضعاف الجيش الإسلامي، كذلك تعاني من أزمة اجتماعية، وذلك بقتل سبعين من أشرافها، وكل واحد من عائلات هؤلاء الأشراف يريد أن يأخذ الثأر لأبيه أو لعمه أو لخاله أو كذا من أقاربه، كذلك تعاني من أزمة دينية؛ لأن الله عز وجل أخبر أن الحرب مستمرة بين الكفار والمسلمين، ما دام المسلمون على دينهم. قال الله عز وجل في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:36]، إذاً: هذا هدف واضح عندهم، والرسول عليه الصلاة والسلام ينشر الإسلام في المدينة وما حولها، وبالتالي يرفع من درجة الفوران والغيلان في داخل مكة المكرمة، فيا ترى ماذا سيعملون؟ لنرى الآن ماذا سيفعل القرشيون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين في المدينة المنورة.
قلنا قبل ذلك: إن الكفار أوقفوا التصرف في قافلة أبي سفيان التي نجت من بدر؛ وذلك لتجهيز جيش ليحارب المسلمين، هذه القافلة كانت تقدر قيمتها بخمسين ألف دينار ذهبي، فهي كمية هائلة من الأموال، ومع ذلك كل هذه الأموال أنفقت للصد عن سبيل الله، وبدأت قريش تجهز الجيش من داخل مكة، بل بدأت تستنفر القبائل المحيطة المساعدة والمعاونة لها، وكونت بالفعل جيشاً كبيراً قوامه (3000) مقاتل، وأخرجت كل زعماء مكة على رأس الجيش المكي، وعلى رأس كل هؤلاء أبو سفيان ، وأكبر المساعدين له في هذه الموقعة هو صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد ، هذه هي القوة البشرية التي جهزوها.
أما قوة السلاح فجهزوا (3000) بعير و(200) فرس، و(700) درع، وخرج مع الجيش (15) امرأة من نساء قريش، تتقدمهم سيدة مكة الأولى في ذلك الوقت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ، وكذلك زوجات القادة العظام الكبار في جيش مكة، زوجة صفوان بن أمية ، وزوجة عكرمة بن أبي جهل ، وزوجة الحارث بن هشام .
وفوق كل هذا حرب إعلامية ضخمة في الجزيرة العربية بكاملها تحفز الناس على حرب المسلمين، وقاد هذه الحملة أبو عزة الجمحي ، الأسير الذي أسره صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وأطلقه مناً بغير فداء، وأخذ عليه عهداً ألا يشارك ولا يحفز المشركين على حرب المسلمين، فهاهو الآن يخالف العهد ويحفز العرب بكاملهم على حرب المسلمين، وهذا سيكون له مردود في غزوة أحد كما سنرى إن شاء الله.
القيادة العامة للجيش لـأبي سفيان ، وقائدا سلاح الفرسان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ، وكان اللواء مع بني عبد الدار.
إذاً: هذا هو إعداد جيش مكة، ومع أن هذا الإعداد إعداد كبير جداً، إلا أن هذه الموقعة أسهل على المسلمين من موقعة بدر للأسباب التالية:
أولاً: فقدت قريش معظم قادتها، فهذا الجيش يخلو من أسماء ضخمة في تاريخ مكة، فليس هناك الوليد بن المغيرة ولا أبو جهل ولا عقبة بن أبي معيط ولا النضر بن الحارث ولا أمية بن خلف ، وقتلى بدر من المشركين كثير جداً.
ثانياً: المسلمون يعلمون بأمر الحرب ويستعدون لها، حيث إن الخبر وصل من مكة إلى المدينة المنورة مباشرة، وعند الرسول عليه الصلاة والسلام وقت للإعداد، فسيخرج بعدة المقاتل لا بعدة المسافر.
ثالثاً: الحرب ستكون في المدينة أو بجانب المدينة المنورة، فعلى على المشركين أن يسيروا مسافة خمسمائة كيلو متر إلى المدينة المنورة حتى يدخلوا في المعركة، فهو مشوار طويل جداً في الصحراء، والجيش قوامه (3000) مقاتل، فقد تكون هناك مشقة على الجيش، بينما سيخرج المسلمون من المدينة المنورة إلى أحد أو إلى ما حولها حسب اختيار المكان، والمسافة التي سيقطعونها (5) كيلو أو (10) كيلو أو (20) كيلو من المدينة المنورة، فالوضع بالنسبة للمسلمين أقل مشقة.
رابعاً: الحالة المعنوية؛ فمعنويات المسلمين مرتفعة، بينما معنويات الكفار في الحضيض، فقد كانوا مغلوبين في بدر، ومروا بأكثر من أزمة خلال السنة الماضية، وآخر الأزمات كانت أزمة سرية زيد بن حارثة ، ففي هذه السرية أخذت القافلة من صفوان بن أمية ، وكان فيها بضاعة تقدر بمائة ألف دينار، فكانت ضربة قاسية جداً لقريش، خاصة أن القافلة كانت تسير على مسافة بعيدة جداً من المدينة المنورة، مما يثبت لنا الكفاءة العسكرية والمخابراتية للقوة الإسلامية في المدينة المنورة، فكل هذا يضعف جداً من نفسية الجيش المكي، وكل هذا يبين أن جيش المسلمين له علو وقوة وبأس، مع أن عدد الجيش الإسلامي أقل من عدد الجيش المكي، لكن عوامل نصره كانت كثيرة.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن جيش مكة يستعد للخروج، فاجمع الصحابة للشورى، ولو راجعنا صفات الجيش المنتصر لوجدنا أن كل الصفات العشر تتكرر ثانياً في الجيش الذي خرج من المدينة إلى أحد، لكن سيحصل اختلاف في نقطة أو نقطتين، لكن إلى الآن الجيش الإسلامي يسير تماماً كما كان جيش بدر يسير.
فمن العوامل التي تحققت في الجيش المسلم:
أولاً: الشورى.
جمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليتشاوروا جميعاً، فأول شيء قرروه قبل التفكير في أي طريقة للقتال أن يؤمنوا المدينة المنورة، فقاموا بتشكيل فرقة لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستهدف، وقد يحصل أي جريمة لاغتياله صلى الله عليه وسلم، وهذا سيؤثر على المدينة المنورة، وكان على رأس هذه الفرقة كبار الأوس والخزرج: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير ، وهي من أقوى الفرق الإسلامية، وبدأت تحوط بيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد النبوي، وتسير معه في كل مكان.
ثانياً: وضعوا فرقاً لحماية مداخل المدينة المنورة، حتى لا يباغت المسلمون ليلاً أو نهاراً.
ثالثاًً: وضعوا دوريات مراقبة حول المدينة المنورة لاستطلاع مكان الجيش المشرك وخطواته وتحركاته.
رابعاً: جميع المسلمين في المدينة المنورة من الأوس والخزرج والمهاجرين كانوا لا يتحركون إلا بالسلاح حتى في أثناء الصلاة، فقد كان السلاح ملازماً لهم باستمرار، وهذا يوضح لنا صفة مهمة جداً من صفات الجيش المنتصر، وهي صفة الإعداد الجيد: مخابرات قوية أتت بالأخبار، حصار، حماية قوية للرسول عليه الصلاة والسلام، وحماية قوية للمدينة، واستعداد كامل للقتال.
ثم فكروا في الموقف الذي يقومون به: هل يخرجون خارج المدينة أو يمكثون بداخلها؟ أين يحاربون؟ يختارون أرض القتال هم أم يختارها العدو؟ وقبل أن يختاروا القرار قص عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام رؤيا. قال لهم: (إني قد رأيت والله خيراً، ثم قال: رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً -خدشاً أو كسراً- ثم قال: ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة).
إذاً: رأى الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة أشياء. أولاً: رأى أن بقراً تذبح، وأول ذلك صلى الله عليه وسلم بأن نفراً من أصحابه يقتلون، وأول الخدش أو الكسر الذي في سيفه بأن رجلاً من أهل بيته يقتل، وأول إدخال يده في درع حصينة بالمدينة المنورة، أي: أنه يقاتل في المدينة المنورة، لكنه ذكر هذه الرؤيا ليس على أنها قرار يملى على المسلمين، ولكن في صورة رأي يستأنس به؛ لأنه لو كان وحياً ما جاز له أن يستشير الصحابة في هذا الأمر، لكنه يرى أن الأمر متروك للشورى ورأي المسلمين، فكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في المدينة، بل صرح بعد ذلك بهذا الرأي وقال: (يقاتل المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيت)، يعني: لو بقي صلى الله عليه وسلم وجيشه في المدينة المنورة فإن جيش مكة سيضطر إلى دخول المدينة المنورة، وستكون الحرب حرب شوارع، والحرب التي تكون من هذا النوع تكون صعبة جداً على الجيش المهاجم للبلد، لكن معظم المسلمين كان لهم رأي آخر، خاصة الذين لم يشتركوا في موقعة بدر، كانوا يودون الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة المنورة، حتى قال قائلهم: (يا رسول الله! كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم)، وكان من أشد المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنه قال كلمة عجيبة للرسول عليه الصلاة والسلام، قال: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، فانظروا إلى هذه العزيمة، وانظروا إلى القناعة برأي الخروج.
كان معظم الصحابة على هذا الرأي، ولم يكن على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القليل، وكان من هؤلاء: عبد الله بن أبي ابن سلول
، وكما تعملون أن عبد الله هو زعيم المنافقون، ولم يكن موافقاً على رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ومقتنعاً به، وإنما ليسهل عليه الفرار إلى داخل المدينة المنورة، فكل منهم سيقاتل على رأس شارع أو من داخل بيت، وسيكون هناك سهولة للفرار من الموقعة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام نزل على رأي الشورى حتى وإن كان مخالفاً لرأيه، حتى وإن كان يتأول في رؤياه أن نفراً من أصحابه سيقتل، وأن واحداً من أهل بيته سيصاب، وأنه من الأفضل أن يقاتل في داخل المدينة، لكنه عندما رأى أن ذلك ليس وحياً من رب العالمين سبحانه وتعالى نزل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية، وقرر الخروج من المدينة المنورة لقتال المشركين.صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالصحابة يوم الجمعة، ووعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وبشرهم بالنصر إن هم صبروا وإن هم ساروا على نهج الله عز وجل وعلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالفعل فرح الناس بالخروج وتجهزوا بنشاط، وبعد أن صلى الرسول عليه الصلاة والسلام العصر في يوم الجمعة في ستة من شوال، حشد أهل العوالي وحشد المدينة المنورة، وجمع الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وبدأ يستعد شخصياً للخروج للقتال، فأخذ معه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ودخل بيته، ليجهزاه بعدة الحرب، ولبس صلى الله عليه وسلم العدة الكاملة، لبس درعين وأخذ سيفه وخرج من بيته، وقبل أن يخرج من بيته اجتمع الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم مع المهاجرين، وقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فأحس الصحابة أنهم برأيهم هذا قد خالفوا رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان قد سمح بالشورى في هذا الأمر إلا أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلم الجميع أن رأيه هو الأحكم والأعلم والأفضل، فاستحيا الصحابة أن يخالفوا الرسول عليه الصلاة والسلام وخافوا من ذلك فقالوا: نرد الأمر إليه مرة ثانية، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عدة الحرب، قالوا له: يا رسول الله! ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اتخذ القرار وأعد العدة واتفق الصحابة على القتال، فقال لهم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته -لباس الحرب- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).
ونستفيد من هذا فائدة عظيمة جداً وهي الحسم وعدم التردد، وهذه كما تذكرون صفة مهمة من صفات الجيش المنتصر، وقلنا: إن من صفات الجيش المنتصر التحفيز بالجنة، فقد حفز الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين بالجنة في خطبة الجمعة، وفي خروجه لصلاة العصر، وعندما سمع الناس نداء الجهاد في سبيل الله خرجوا من كل مكان، وخرج كما تعلمون جميعاً حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه وأرضاه، مع أنه كان حديث عهد بعرس، فقد كانت ليلة الجمعة ليلة الدخول على زوجته، لكنه عندما سمع نداء الجهاد في سبيل الله خرج مباشرة دون تردد.
إذاً: أن الصحابة في معركة أحد خرجوا فعلاً لله عز وجل، وهذا كان في عموم الجيش المسلم، إلا طائفة المنافقين التي كانت في جيش الجيش المسلم، وسنرى أمرها الآن.
وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يجهز جيشه، ويعد العدة ويصف الصفوف؛ حتى يخرج على تعبئة من المدينة المنورة، فجهز (1000) مقاتل من المدينة المنورة، وجعل على كتيبة المهاجرين مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وعلى كتيبة الأوس أسيد بن حضير رضي الله عنه، فهو الذي كان يريد الخروج بعد أن رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر ولم يشترك فيها أسيد ، وقال: (يا رسول الله! لو كنت أعلم أنك تلقى قتالاً لخرجت معك، فقال له صلى الله عليه وسلم: صدقت)، فهاهو اليوم جاء ليخرج ويحقق مراده في الجهاد في سبيل الله، وجعله الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس كتيبة الأوس، وجعل على رأس كتيبة الخزرج الحباب بن المنذر الذي أثبت كفاءته في موقعة بدر.
وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة درع، ولم يكن مع المسلمين في هذه الموقعة خيول، فلم يكن يملك أحدهم الخيول إلا القليل جداً، وبعض الروايات تذكر أنه كان مع المسلمين خمسون فرساً، لكن هذه الروايات غير صحيحة.
إن إعداد الرسول عليه الصلاة والسلام للجيش الإسلامي في غزوة أحد كان بقدر المستطاع، فقد أعد لهم القوة التي يستطيع صلى الله عليه وسلم، بدايةً من المخابرات السليمة وحماية المدينة المنورة، وتجهيز العدة، وإعداد الأفراد وإعداد السلاح، وهكذا خرج صلى الله عليه وسلم بهذا الإعداد الجيد.
كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قيادة الكتائب التي خرجت في هذه الموقعة إلى عمالقة العسكريين الإسلاميين، مثل مصعب بن عمير وأسيد بن حضير وحباب بن المنذر وغيرهم من قادة الصحابة، ورد صلى الله عليه وسلم الأطفال الذين لا يستطيعون القتال في غزوة أحد، رد عبد الله بن عمر وقد كان رده أيضاً في غزوة بدر، ورد زيد بن أرقم ورد زيد بن ثابت ، ورد أبا سعيد الخدري ورد أسامة بن زيد رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنهم كانوا جميعاً صغيري السن.
ومن هذا يتبين لنا صفة من صفات الجيش المنتصر، هو توسيد الأمر إلى أهله، وهذا الكلام قد تكلمنا عنه في بدر، والآن نلقاه بكامله منطبقاً على الجيش الذي خرج في أحد، وكما قلنا في بدر رد الرسول صلى الله عليه وسلم أحد المشركين وقال: (لا أستعين بمشرك) تكررت كذلك في غزوة أحد، فقد جاءت كتيبة كاملة التسليح للاشتراك مع المسلمين للقتال في أحد، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: هذه كتيبة من اليهود من حلفاء الخزرج، يعني: كانوا متحالفين منذ القدم مع الخزرج، يرغبون في المساهمة للقتال ضد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل أسلموا؟ فقالوا: لا، فأبى صلى الله عليه وسلم وقال: لا أستعين بمشرك).
إذاً: جيش أحد محاكاة كاملة للجيش الإسلامي الذي خرج ببدر، ومن المفترض أن هذا الجيش يحقق نتائج مثل بدر، وسنرى فعلاً أن هذا الجيش مادام محافظاً على هذه الصفات فإنه يحقق نفس النتائج، وهذه سنة إلهية.
كذلك ملمح آخر مهم من ملامح الجيش المنتصر رأيناه في غزوة أحد، وهو الاعتماد على الشباب، فجيش أحد هو جيش بدر بالإضافة إلى آخرين، وسأحكي لكم حكاية تريكم كيف كان الشباب يشاركون في موقعة أحد.
أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه لقدرته على الرماية، وهو ما زال طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمره (13) أو (14) سنة، ولم يجز سمرة بن جندب رضي الله عنه؛ لأنه كان صغيراً في السن، وليست له القدرة على الرماية حسب رؤيته صلى الله عليه وسلم، فأجاز الأول ورفض الثاني، فجاء إليه سمرة وقال: يا رسول! أنا أقوى من رافع أنا أصرعه، بمعنى: أنني عندما أصارعه أغلبه، فأمرهما الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصارعا أمامه؛ ليختبر القدرات العسكرية والقتالية عندهما، فتصارعا فغلب سمرة رافعاً ، فأجازه الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: تحقق في جيش أحد الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر، والتحفيز على الجنة حب الموت في سبيل الله، والحسم وعدم التردد، والإعداد الجيد، وتوسيد الأمر إلى أهله، وقيمة الشباب والشورى والأخوة، كل شيء تقريباً في بدر كان موجوداً في أحد، وإذا كان الجيش بهذه الهيئة فإنه سينتصر بإذن الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنهم لو مكثوا على هذا المنهج سوف ينتصرون، وهذه بشرى من رب العالمين سبحانه وتعالى لكل من أخذ بهذه المبادئ.
خرج الجيش الإسلامي وأخذ الطريق في اتجاه أحد؛ لأنه علم أن الجيش المشرك عسكر عنده، وحاول الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر المستطاع أثناء السير أن يسير من وسط المزارع التي حول المدينة المنورة؛ حتى لا يكتشف من قبل الجيش المشرك، ووصل بالفعل إلى منطقة أحد، ومن بعد رأى الجيش المشرك، وعندما أصبحوا على مسافة قريبة من أرض المعركة حدث تمرد هائل في الجيش المسلم، فقد خرج عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وقال: إنني لا أوافق على القتال في أرض أحد، إنني أرى أنه لن يحصل قتال، فسأعود إلى المدينة المنورة وليس بمفردي، وسآخذ معي كل من أتيت بهم، وكان تعداد الذين أتى بهم (300) مائة شخص، أي: 30% من الجيش! ومعلوم أن جيش الكفار (3000) يعني: جيش المسلمين أقل من جيش الكفار بكثير، ومع هذا كله ينسحب (300) شخص من أرض المعركة.
وقف عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه أمام المنافقين وهم ينسحبون من أرض المعركة يقول لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، فقالوا: لا نعلم أن هناك قتالاً، فحاول معهم مرة أخرى وأخرى، لكنهم رفضوا، فقال لهم: أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم نبيه، ونزل قول الله عز وجل: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167].
قد يظن الإنسان أن هذه خسارة كبيرة جداً للجيش الإسلامي، لكن بالعكس. قال الله عز وجل يصف حال المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، فوجود المنافقين في داخل الصف المسلم خطر كبير جداً، فإنه من الممكن جداً أن يكونوا عيناً على المسلمين، أو قد يدلون بآراء فاسدة في الجيش المسلم، بل قد يثيرون بعض الشبهات في داخل الجيش المسلم تجعل بعض المؤمنين الصادقين يترددون في أمر القتال، وهذا عين ما حدث في غزوة أحد، فإن الكلمات التي قالها عبد الله بن أبي قبيل الدخول في أرض المعركة بقليل أثرت في طائفتين من المسلمين الصادقين المؤمنين: بني حارثة من الأوس، وبني سلمة من الخزرج، قالوا: الأولى أن نعود ونقاتل في المدينة، فإن جيشنا قليل وجيشهم كثير، وفكروا جدياً في الرجوع، لولا أن الله عز وجل ثبتهم بصدق إيمانهم، فقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة، وأقنعوهم بالبقاء في أرض المعركة في أحد؛ حتى يكملوا اللقاء، وفي حقهم نزل قول الله عز وجل: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، قال الله عز وجل: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]؛ لأنهم ثبتوا فعلاً في أرض القتال ولم يفروا.
ودخل الرسول عليه الصلاة والسلام أرض أحد، وبدأ ينظر إلى الأرض بنظرة عسكرية ثاقبة، وبدأ يحط معسكره في المكان المناسب، واختار مكاناً في منتهى العبقرية؛ اختار مكاناً يكون عن ظهره وعن يمينه جبل أحد، فتكون له حماية طبيعية من جبل أحد، وفي نفس الوقت كان جيش مكة في مكان منخفض نسبياً وهو في مكان مرتفع، وهذا يعطيه قدرة أكبر على القتال، واكتشف صلى الله عليه وسلم في أرض القتال أن بجانبه جبل صغير عرف بعد ذلك في التاريخ بجبل الرماة، وهذا الجبل كان على شمال الجيش الإسلامي، ويعتبر ثغرة ضد مصلحة الجيش المسلم؛ لأنه لو استطاع الجيش الكافر أن يلف حول هذا الجبل لدخل على المسلمين من ورائهم، وسيكون الجيش الإسلامي محصوراً بين المشركين من الأمام ومن الخلف؛ ولكي يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام هذه النقطة الحساسة في أرض التقال، انتخب من أصحابه خمسين رامياً ماهراً وضعهم على جبل الرماة، وأمرهم أن يصدوا عنهم هجمات الفرسان المشركين، هؤلاء الخمسون كان على رأسهم الصحابي الجليل عبد الله بن جبير الأوسي البدري رضي الله عنه وأرضاه، كان من أعظم الصحابة وأمهر الرماة فيهم، وذكر الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الأوامر والنصائح له وللفرقة التي معه، نريد أن نقف وقفة طويلة جداً مع أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام للفرقة التي كلفت بحماية هذا الجبل.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهم الأمر بطريقة فريدة، طريقة تجعل فهم هذا الأمر بصورة خاطئة يعتبر أمراً مستحيلاً، فتعالوا واسمعوا الكلام الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التوجيه الأول: خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم القائد عبد الله بن جبير أمام الرماة جميعاً.
قال له: (انضح عنا الخيل بالنبل)، هذه الجملة لوحدها تكفي المهمة في منتهى الوضوح، أي: مهمتك ومهمة الرماة أن تمنعوا خيول المشركين من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، وليس المنع عن طريق القتال، ولكن عن طريق الرمي من أعلى الجبل، والنضح يعني: الرمي؛ لأن خيل المشركين لن تقابل بخيل من المسلمين، فالمسلمون ليس لهم خيول في موقعة أحد، ولن يستطيع الرماة بسيوفهم أن يقاتلوا هؤلاء المشركين الفرسان، فلابد أن يكون الصد عن طريق الرماية.
إذاً: هذا أمر في منتهى الوضوح وكان كافياً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف به.
التوجيه الثاني: (لا يأتون من خلفنا) الواضح من الأمر الأول أن الغرض عدم الالتفاف حول الجيش الإسلامي، لكن كذلك يريد أن يوضح لهم الأمر على أتم وجه، فقال: (لا يأتون من خلفنا).
التوجيه الثالث: (إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك)، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام يرى تماماً كل الذي سيحصل بعد ذلك في أحد، وينبه الصحابة مرة ومرتين وثلاثاً وما زال في التنبيه: (إن كانت لنا -لو كسبنا- أو علينا -لو خسرنا- لا تتركوا الجبل).
الأمر الرابع: (لا نؤتين من قبلك)، يحرك فيه المشاعر، لا يخسر كل هؤلاء المسلمين الحرب بسبب مجموعة الخمسين هذه، وكل هذا الكلام للقائد عبد الله بن جبير وكل الرماة يسمعون هذا الكلام.
ليس هذا فحسب، فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك عبد الله بن جبير وانتقل إلى مجموعة الرماة، وبدأ يخاطبهم بنفسه، وقال لهم كلاماً في منتهى العجب، فالتوجيهات الأربعة الأولى كانت موجهة لـعبد الله بن جبير .
أما التوجيه الخامس: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم) يعني: حتى في حال الهزيمة المرة القاتلة التي سيقتل فيها جيش المسلمين بكامله وتنزل الطيور تنهش أجساد المسلمين لا تتحركوا مع كل ذلك، فانظر إلى عظم هذا الأمر سبحان الله!
الأمر السادس: (وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، يعني: في حالة النصر الساحق وفرار المشركين، واحتلال المسلمين لمعسكر الكافرين أيضاً لا تبرحوا مكانكم، أظن بعد ذلك إذا حصلت مخالفة فستكون مخالفة متعمدة، ولو حصلت مخالفة متعمدة لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام لا تتوقع نصراً أبداً، وهذا الذي سوف نراه في موقعة أحد.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام وجه هذه التوجيهات المباشرة الواضحة الجلية هذه إلى فرقة الرماة الخمسين، ونزل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى إلى جيشه، وبدأ يحفز الناس على الجهاد في سبيل الله، ويذكرهم بالجنة، ثم يحفزهم على التنافس في أعمال الخير وأعمال الجهاد وأعمال القتال، فجعل بينهم نوعاً من التنافس على شيء مهم جداً، أخذ صلى الله عليه وسلم سيفاً بتاراً قوياً ورفعه بين الصحابة، وقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، قال هذا الكلام في وسط مجموعة من المقاتلين الأشداء من المهاجرين والأنصار، فقام إليه أكثر من واحد، منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمر بن الخطاب .. وغيرهم وغيرهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه وأرضاه وهو من الأنصار، فقال: (وما حقه يا رسول الله؟! قال: أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني)، فقال سماك بن خرشة بمنتهى القوة: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! وهكذا أعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل الذين تقدموا له قبل ذلك، وأعطى السيف أبا دجانة رضي الله عنه وأرضاه، أخذ أبو دجانة السيف وأخرج من جيبه عصابة حمراء وربطها على رأسه، فقال الأنصار: لقد ربط أبو دجانة عصابة الموت، كان يضع هذه العصابة الحمراء على رأسه عندما يطلب الموت، وبدأ يمشي متبختراً بين صفوف المسلمين والمشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذه مشية يكرهها الله ورسوله إلا في هذا الموطن)، ففي هذا الموطن يستحب أن نظهر العزة والقوة أمام الكفار، فالله عز وجل يحب هذه المشية في هذا الموطن، وسوف نرى إن شاء الله بعد ذلك ما الذي عمله أبو دجانة بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه هي حالة الجيش المسلم.
على الجانب الآخر كذلك كان هناك تحميس وتحفيز في الجيش الكافر، فقد بدأ أبو سفيان ترتيب جيشه، فوضع خالد بن الوليد على الميمنة، ووضع عكرمة على الميسرة، ووضع صفوان على المشاة، وهؤلاء يعتبرون من عمالقة الفرسان في الجيش المشرك، ووضع عبد الله بن ربيعة على رماة النبل، وأعطى اللواء لبني عبد الدار.
ويذكر التاريخ أن بني عبد الدار كانوا دائماً يحملون اللواء قبل الإسلام وكذلك بعد الإسلام ففي بدر كانوا يحملون اللواء، وفي أحد كذلك كانوا يحملون اللواء، ففي غزوة أحد أراد أبو سفيان أن يستثير حماسة بني عبد الدار، فقال لهم كلاماً في منتهى القسوة حتى يخرج كل ما في نفوسهم. قال لهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، يعني: أنتم كنتم مشاركين في الهزيمة، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، يعني: إن لم تكونوا بقدر حمل هذا اللواء سلموه لي وأنا سوف أتصرف، وهكذا أثار حمية وغضب بني عبد الدار، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع، وسبحان الله! صدقوا في كلماتهم؛ فقد أبيدوا عن بكرة أبيهم حول اللواء في موقعة أحد كما سنبين إن شاء الله.
إذاً: هذه كانت محاولة من أبي سفيان لاستثارة الهمة عند الجيش المشرك لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل إن النساء بدأن يحمسن جيش المشركين للحرب ضد المسلمين، وقفت هند بنت عتبة ومن معها من النساء يشجعن الجيش المشرك على القتال وينشدن الأشعار في ذلك، وهي أشعار كثيرة جداً ليس المجال أن نفصل فيها، لكن الشاهد أن كل هذه الأشعار كانت عبارة عن علاقات دنيوية أرضية مادية ليس إلا، بينما كان التحفيز على الجانب الآخر في جيش المسلمين بالجنة. وشتان!
وحاول أبو سفيان تفكيك الصف المسلم، راسل الأنصار قال لهم: خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، لا حاجة لنا إلى قتالكم، وكأنه يقول: نحن نريد محاربة القرشيين فقط، علاقتنا بكم أيها الأوس والخزرج! جيدة منذ القدم، لا نريد أن نقاتلكم، لكن هيهات! كيف لهذه الكلمات أن تقع في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وهم من أعظم الناس إيماناً، وقد رد الأنصار عليه رداً في منتهى العنف وأسمعوه ما يكره فعلاً.
واقتربت ساعة الصفر ودنا الجيشان من بعضهما البعض، قامت قريش بمحاولة أخرى لتفكيك الصف المسلم؛ خرج أبو عامر الفاسق الذي كفر برسول صلى الله عليه وسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق ، وقد هرب إلى مكة، والآن خرج مع جيش مكة لمحاربة المسلمين في موقعة أحد، فـأبو عامر الراهب قرر أن يحاول تفتيت الصف المسلم، فخرج ونادى على قومه الأوس، قال: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر -يريد تذكيرهم بنفسه، وكان ابنه حنظلة بن أبي عامر في صف المسلمين، لكن شتان بين الاثنين- فقال الأوس: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! سبحان الله! قالوا ذلك مباشرة؛ لأنهم يعرفون قصته ويعرفون تاريخه، فقالوا له كلمات بمنتهى القوة والبأس، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شراً، يقصد أنهم تغيروا، وسنرى بعد ذلك عندما يبدأ القتال أن أبا عامر الفاسق سيقاتل قتالاً شديداً في صف الكفار ضد المسلمين، وسيرمي الحجارة الكثيرة على الجيش المسلم.
إذاً: هذه كانت المحاولة الثانية من قريش لتفكيك الصف المسلم، ولكن فشلت أيضاً، والتقى الجيشان، وستبدأ بعد قليل موقعة من أشرف المواقع في تاريخ المسلمين، وهذه الموقعة في أولها كانت شديدة الشبه بموقعة بدر الكبرى التي مرت بنا في الدروس الماضية، لكن بعض التغييرات البسيطة في الصف المسلم أدت إلى نتائج عكسية هائلة كما تعلمون.
هذه التفصيلات وهذه المناورات التي دارت في أرض أحد لها موضوع خضم جداً يحتاج منا إلى تفصيل.
ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا ذلك في الدروس القادمة.
ونسأل الله أن يجمعنا على الخير دائماً، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر