بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدرس السابق تحدثنا عن مصيبة أحد، والمصيبة كما ذكرت في الدرس السابق هي وصف رباني لما حدث يوم أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، وكما ذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المصيبة لم تكن في مجرد استشهاد سبعين من الصحابة، بل على العكس هؤلاء من أعظم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، لكن المصيبة كانت تكمن في أمور أخرى خطيرة حدثت في يوم أحد، منها: معصية الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وضوح الأمر، وكما ذكرنا أن الأمر لم يكن اجتهاداً من الصحابة، ولكن كان بسبب حب الدنيا، والله عز وجل ذكر ذلك تصريحاً في كتابه، قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152].
المصيبة الثانية: هي استشهاد سبعين من الصحابة؛ بسبب خطأ من الرماة في هذه الموقعة، فاستشهاد هؤلاء السبعين ليست مشكلة، بل هي فضل من الله عليهم، لكن أن يستشهدوا بسبب خطأ فهذا أمر غير مقبول.
المصيبة الثالثة في ذلك اليوم: الإحباط الذي أصاب المسلمين والقعود في أرض القتال واليأس من عدم النصر، وعدم الحركة في سبيل الله عز وجل.
المصيبة الرابعة: الفرار من الزحف.
وذكرنا أن هذا الفرار تم بعد سماع نداء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (هلموا إلي يا عباد الله! هلموا إلي يا عباد الله! أنا رسول الله) ومع ذلك واصلوا الفرار، فمنهم من صعد إلى الجبل، ومنهم من فر إلى المدينة المنورة، ولم يكن هذا كله تحيزاً إلى فئة أو تحرفاً إلى قتال، ولكن كانت مخالفة شرعية واضحة.
إذاً: بسبب هذه المصائب الأربع التي تمت في يوم أحد سمى الله عز وجل هذه الغزوة بالمصيبة.
فلو كانت حياة المؤمنين انتصارات بلا هزائم لدخل في الدين الإسلامي الصادق والكاذب، ولاختلط الحابل بالنابل، لكن عندما تحصل المصائب ينكشف الذي في قلبه مرض، ويبدأ بالمجاهرة بالعداء للإسلام؛ لأن الإسلام نسبياً أصبح ضعيفاً، والدولة الإسلامية بعد أحد أصيبت إصابة كبيرة، فمن كان يخفي في قلبه الكفر ويظهر الإسلام أظهر ما كان يخفي، وفعلاً بعد أحد جاهر كثير من المنافقين بنفاقهم، وقد رأينا أن (300) انسحبوا قبل بدء معركة أحد، فما بالك بعد المصيبة التي حصلت؟ يقول الرواة: نجم النفاق في المدينة المنورة بعد أحد، فالمسلمون عرفوا أناساً كثيرين بنفاقهم، كانوا في الظاهر يصلون ويصومون ويتكلمون بالخير، لكن الشر يكمن في داخلهم، هذا الشر خرج وظهر للناس بعد أحد.
من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف هؤلاء بالوحي، فقد أسر بأسمائهم إلى حذيفة بن اليمان ، فمن الممكن أن نكشف أمرهم بالوحي ويكفي، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن الوحي سينقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يعرف المسلمون المنافقين إلى يوم القيامة، فما هي الطريقة لمعرفتهم؟ الطريقة: هي حدوث المصائب على الأمة الإسلامية سواء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة، فكلما تحصل مصيبة وتضعف الدولة الإسلامية وتمر بأزمة يظهر النفاق.
فهذه طريقة تعرفنا وتفصل لنا نوعية المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، وعندها تستطيع أن تختار الناس الذين تعتمد عليهم في إقامة صرح الأمة الإسلامية، فلن تختار منافقاً ولن تسر بأمر خطير إلى أحد المنافقين، وهذا إن شاء الله سنتكلم عنه بالتفصيل عند الحديث عن الأحزاب وتبوك، فهي غزوات يتضح فيها أمر المنافقين وضوحاً بيناً، لكن أذكركم بالآية الكريمة التي نزلت تعليقاً على غزوة تبوك، وسنفسرها إن شاء الله عندما نتكلم عن غزوة تبوك، قال الله عز وجل: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].
إن عبد الله بن أبي انسحب من جيش النبي صلى الله عليه وسلم بـ(300) مقاتل، وقد يتخيل أن في انسحابهم أزمة، وهذا فهم خاطئ، فإن وجود هؤلاء الثلاثمائة داخل المعركة قد يزيد من خذلان المسلمين الذين ثبتوا، فيغيروا رأيهم، والله عز وجل يقول: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] أي: فيكم أيها المؤمنون الصادقون من يستمع إلى كلام المنافقين.
إذاً: في باطن المصيبة رحمة وخير، فالمسلمون سيعرفون الأشخاص الذين يتكلمون بالسوء على الإسلام معرفة واضحة.
وهذا أمر خطير؛ لأنه إذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لنا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وإذا لم نأتمر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، فيحصل مثل أُحد وأعظم منها.
وأُحد تتكرر كثيراً في حياتنا، كم قد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور وخالفنا هذه الأمور، ويخيل لنا أننا نعمل ما هو أفضل وأصلح لنا ولأمتنا، أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم التعامل بالربا ونتعامل أحياناً بالربا، ونقول: إن هذا فيه خير للأمة، أمرنا بعدم الإباحية والمجون والفواحش، ومع ذلك يرتكبها كثير من المسلمين ويصرحون بها ويجاهرون بها، سواء كان للسياحة أو لحرية المرأة، أو للترفيه، أو لأخذ قسط من الراحة، مبررات كثيرة جداً كلها مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تفعلها وأنت تعلم أنك مخالف، فهذا يؤدي إلى مصائب كثيرة.
فالمصيبة التي حدثت في أُحد هي إحدى نتائج المعصية، وكان هذا أمراً لافتاً للنظر، فلو كان الأمر مرّ بسلام لما عرفنا أن مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام قد تؤدي إلى مصيبة، حتى في وجود ذلك الجيل العظيم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وعلى هذا النسق من التحذير والتنبيه جاءت أحاديث كثيرة جداً، كذلك القرآن الكريم قلّما تجد صفحة أو صفحتين من القرآن الكريم ليس فيها تنبيه أو تحذير من أمر الدنيا، وقد رأينا مصيبة الدنيا في أحد حين قال الصحابة: الغنيمة الغنيمة. حتى بعد النصر وبعد استيفاء معظم صفات الجيش المنصور، وحتى بعد طلب الآخرة في أول المعركة، إن دخل طلب الدنيا فإن هذا يؤثر على الجيش بكامله.
إذاً: هذه المصيبة الكبيرة لفتت الأنظار بوضوح إلى خطورة الدنيا، ولو مر الأمر دون مصيبة أو كارثة لما عرف أحد أن الدنيا خطيرة لهذه الدرجة.
هم يريدون خيراً بهذا الأمر، لكن لا يدركون ما وراءه، فما بالك لو كانوا يريدون شراً؟ هم يريدون أن يتجنبوا إيذاء غيرهم؛ لذلك يريدون أن يخرقوا خرقاً في الجزء الأسفل من السفينة، وهذا سيؤدي إلى غرق السفينة، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً) أي: أن السفينة ستغرق، فالذي عصى والذي لم يعص كلهم سيغرقون، ثم قال: (وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). هذه فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجدير بالأمر أن مرض الدنيا الذي ظهر يوم أُحد كان له جذور سابقة ليوم أحد، فلابد للمسلمين أن يحذروا من هذه الأمراض التي تفشت في جيش أُحد.
إن قصص الشهداء تفتت الأكباد خاصة عندما تقرأ قصة الشهيد الأول والثاني والثالث والعاشر إلى السبعين، هذا لابد أنه سيلفت النظر بوضوح إلى قيمة الشهداء في الميزان الإسلامي، فالقرآن مركز على قضية الجهاد، ويلفت النظر إلى أن الجهاد يكون بالنفس والمال، فالجهاد في غاية الأهمية، لا تقوم أمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وإن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله ذلت: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى تعودوا إلى دينكم).
هذا هو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الواقع الذي نراه في كل صفحة من صفحات القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، ليس المال فقط، بل أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [التوبة:44]، فأنت عندما تجاهد بنفسك فهذا لاشك أنه شيء عظيم، وعندما تفقد نفسك وأنت ثابت في سبيل الله سبحانه وتعالى فهذا شيء أعظم، وعندما تهوى الموت في سبيل الله ويصبح أعظم أمنية عندك فلا شك أن هذا أعظم وأعظم وأعظم، وكل هذا رأيناه في أُحد، وليست المسألة أنك تكون شهيداً بمجرد رغبة عابرة تأتي على الذهن في لحظة من لحظات علو الإيمان أو القرب من الله عز وجل، ليست هذه السنة، السنة أن طريق المسلم طويل وصعب حتى يصل إلى الشهادة، نعم، هناك استثناءات وهناك بعض الظروف لا تكون على هذه الصورة، لكن الأصل أن الطريق طويل.
وكنت مستغرباً لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذكر فيه أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام ذكر أموراً كثيرة لا علاقة لها بالجهاد قبل أن يتكلم عن الجهاد؟ يا ترى! ما هو الرابط بين هذه الأمور وبين الجهاد؟
ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما سأله؟ سأل معاذ بن جبل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً جميلاً، ولكنه صعب، قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال له صلى الله عليه وسلم: لقد سألتني عن عظيم -أي: أمر كبير- وإنه ليسير على من يسره الله عليه -وما هو الطريق؟- قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) الأمر الأول: توجيه النية الكاملة لله عز وجل عند المسلم، حتى يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون مجاهداً، ويصل بعد ذلك إلى الشهادة. قال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وليس من المعقول أبداً أن يكون مجاهداً دون أن يعمل هذه الفرائض، ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا قول الله عز وجل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] حتى بلغ قوله: يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).
فالرسول عليه الصلاة والسلام تكلم عن بعض أعمال الخير من الفرائض والنوافل من صيام وصدقة وقيام كلها مهمة جداً في الطريق للجهاد في سبيل الله، ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ لسانه وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا
إذاً: طريق الجهاد طريق طويل، لا يستطيع أن يصل إليه المسلم دون أن يؤدي الفرائض التي عليه، ولن يصل إلى طريق الجهاد في سبيل الله عز وجل من واظب على المعاصي والمخالفة، وواظب على عدم اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض.
ثم بعد الفرائض النوافل أيضاً، لن يصل إلى الجهاد إلا من قام الليل وتصدق وصلى النوافل وصام صيام النفل، فإن فعل ذلك كله أصبح مستعداً لأن يكون مجاهداً في سبيل الله، فيبدأ في حبه للجهاد في سبيل الله، فإنه لن يصل إلى الجهاد في سبيل الله إلا من أحبه، ولن يصل إلى مرتبة المجاهدين إلا من طلب الجهاد بصدق في سبيل الله، ولابد أن يكون كله في سبيل الله.
إذاً: قضية الإخلاص في العمل قضية واضحة، فلو أنك تقاتل في سبيل القومية، أو في سبيل الوطنية أو في سبيل أهلك أو في سبيل كذا وكذا وكذا، كل هذا لا يصل بك إلى درجة الشهادة، فهذه محطة مهمة من محطات الوصول إلى الشهادة أن تكون مجاهداً في سبيل الله.
وبعد الإخلاص تحب الموت في سبيل الله، وهذه درجة أعلى، فقبل أن تصل إلى الشهادة لابد أن تحبها وتكون طالباً لها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يحبب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قضية الموت في سبيل الله، وإنه لمكروه أن تطلب الموت في أي ظرف، إلا إذا كان في سبيل الله وكنت في أرض القتال، عندئذٍ ستطلب من الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليك بنعمة الموت في سبيله سبحانه وتعالى.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في الحديث: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل) هذه هي أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في البخاري فإن قيل: لماذا يتمنى عملية القتل المتكررة؟ يفسر ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر في البخاري أيضاً يقول: (ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة)؛ لأنه عند دخوله الجنة يلقى خيراً عظيماً جداً نتيجة الشهادة؛ فيتمنى أن يعود فيقتل ليضاعف له من الخير في الجنة.
وقد صح في مسند أحمد بن حنبل والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للشهيد عند الله سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة،ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه).
وكان حمزة قبل الإسلام مجرد رجل يحب الصيد والمتعة واللهو، ويسجد لصنم، عاش حياة ليس لها قيمة ولا وزن في حياة الأرض، وبعدما أسلم انتقل من كونه سيداً في قبيلته الصغيرة إلى كونه سيداً لشهداء الأرض أجمعين يوم القيامة، واستشهد في يوم أُحد رضي الله عنه.
فاستشهد مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه بعد رحلة كفاح طويلة، مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فائتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه)، هذا الحديث في مستدرك الحاكم وهو صحيح.
إن شهداء أحد يردون السلام على من سلم عليهم وإلى يوم القيامة، وزيارة شهداء أُحد أصبحت سنة شرعها لنا صلى الله عليه وسلم، وكان دائم الزيارة لشهداء أُحد إلى مماته، وقبل الممات بقليل خرج صلى الله عليه وسلم ليزور شهداء أُحد ويستغفر لهم، فهذه قيمة كبيرة في ميزان شهداء أُحد رضي الله عنهم أجمعين.
سبحان الله! فأهم قضية عنده الحفاظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وهو في آخر لحظة من لحظات حياته؛ لذلك فإن سعد بن الربيع له قيمة كبيرة في ميزان الإسلام.
واشتاق عبد الله بن عمرو بن حرام اشتياقاً حقيقياً للشهادة، وخرج في غزوة أحد وهو بهذه النية والعزيمة على أن يموت في سبيل الله، ولما رأى عبد الله بن أبي ينسحب بجيشه ذهب إليه ونصحه بالعودة، لكن عبد الله بن أبي أصر على الهروب من أرض المعركة، فلعنه عبد الله بن عمرو بن حرام وقال: تباً لك أبعدك الله! سيغني الله عز وجل عنك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وأكمل المعركة بهذه الحمية، وقاتل قتالاً شديداً حتى قيل: إنه أول من قتل يوم أحد رضي الله عنه وأرضاه، وكان عنده بنات كثيرات وديون.
وبعد استشهاده جاء ابنه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما وأرضاهما أجمعين حزيناً لفقد والده مهموماً، فأخذ يكشف الغطاء عن وجه أبيه ثم يغطي، وكرر ذلك عدة مرات، وكان الصحابة رضي الله عنهم ينهونه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاه؛ لأنه كان يقدر الموقف الذي هو فيه، فلما رأى جابراً منكسراً هذا الانكسار الكبير، يقول جابر : (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه والحاكم .. وغيرهم، وهو صحيح.
انظر إلى قيمة الشهيد، صار في حوار وخطاب مع رب العالمين سبحانه وتعالى بمجرد الشهادة.
فخرج عمرو بن الجموح بهذا الصدق مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في أحد، واستشهد مع الشهداء رضي الله عنه.
كان دعاء سعد بن أبي وقاص دعاءً طبيعياً، يدعو أنه يقاتل أحد الكفار فينتصر عليه ويأخذ سلبه، لكن انظر إلى دعاء عبد الله بن جحش واشتياقه الحقيقي إلى الشهادة في سبيل الله، قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده شديداً بأسه أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
يتمنى أن يقابل أحداً من الكفار، فيتقاتلا فيقتله الكافر، ثم يمثل بجثته، فيقطع أنفه وأذنه؛ ليسأله رب العالمين سبحانه وتعالى: من فعل فيك هذا؟ ومن فعل فيك هذا؟ فيقول: فيك يا رب! وفي رسولك صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل: صدقت.
وانظر إلى تعليق سعد بن أبي وقاص على هذه الدعوة، يقول سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني! كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط. استجاب الله دعاءه كما تمنى، وصدق في ذلك.
هذا الرجل هو الأصيرم من الأوس من بني عبد الأشهل من قبيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، لما أسلم سعد بن معاذ أسلمت كل قبيلته إلا الأصيرم ، تأخر إسلامه إلى يوم أحد، ففي يوم أحد وجد أن الإسلام قريب إلى قلبه، فانتقل إلى المسلمين فوجدهم قد خرجوا إلى أحد، فلحق بهم فوجدهم يقاتلون، فدخل يقاتل معهم، ثم أصيب ووقع على الأرض، واقترب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منه فقالوا: هذا الأصيرم ما جاء به؟ قد كان كافراً! لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون. ومات من لحظته، آخر كلمة قالها: إنه قاتل في سبيل الله، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل الجنة)، في لحظة واحدة فقط، في لحظة إيمان وصدق انتقل من معسكر الكفر إلى الإيمان، ثم أصبح شهيداً، ثم أصبح في الجنة، كل تاريخه في الإسلام نصف يوم تقريباً لم يكمل يوماً كاملاً، يقول أبو هريرة : ولم يصل الأصيرم لله صلاة قط.
فاعلم يا أخي المسلم! أن من أهل الدنيا من يعمل بعمل أهل النار ثم يسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
وكان إذا ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من أهل النار)، فهذا الرجل قاتل في سبيل الوطنية والقومية وليس في سبيل الله، فضاع منه كل شيء مع أنه أبلى بلاءً حسناً في الموقعة، وأدى أفضل من كثير في الموقعة؛ لكنه قاتل من أجل الدنيا فما له في الآخرة من نصيب.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: الرجل يقاتل للمغنم -يريد الغنيمة- والرجل يقاتل للذكر -لكي يقول عنه الناس: شجاع وجريء وقوي- والرجل يقاتل ليرى مكانه -أي: مكانه في قبيلته- فمن في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وروى الترمذي وأبو داود ، وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب).
إذاً: هذه حكم كثيرة موجودة في مصيبة أُحد، في داخل المصيبة جعل الله عز وجل خيراً، وقد تكلمنا على أكثر من حكمة لحدوث المصائب على الأمة الإسلامية، وليس معنى ذلك أننا نبحث عن المصائب، لكن لنعلم أن المصيبة ليست شراً محضاً، بل في باطنها خير كثير قد نرى هذا الخير وقد لا نراه، فالخير موجود، والله سبحانه وتعالى قد لا يأذن بها إلا لأن فيها خيراً للمؤمنين، قال سبحانه وتعالى في كتابه: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166].
إن هذه الكارثة النفسية كادت تودي بهؤلاء جميعاً وتذهب بهم، لولا أن نزل المنهج الرباني لعلاج هذه الهزيمة النفسية، ولإخراج المسلمين من الانكسار النفسي الذي يعقب المصائب والأزمات الشديدة، تعالوا لنعرف كيف يخرجنا الله من أزماتنا النفسية/ ويأخذ بأيدينا ويدخلنا الجنة بعد أن عصينا وأذنبنا وأخطأنا، بل وبعد أن ارتكبنا الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر؟
نحن في حاجة إلى أن نراجع سورة آل عمران؛ حتى نفهم قصة أحد، وسأمر بإيجاز على النقاط.
فالقرآن يلفت النظر إلى جوانب القوة في الإنسان، يأخذ بيده لكي لا يقع، ولكي يقوم بعد هذه المصيبة في لحظات علو الكافر على المؤمن، ففي مرحلة من مراحل الزمن لابد من لفت نظر المؤمن إلى أنه كما أن فيه ضعفاً أدى إلى علو الكافر، فإنه يملك جوانب إيجابية تسمح له بالقيام من جديد: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فعندما ترى دولة غير مسلمة تعلو دول المسلمين فلا يهولنك ولا يحبطنك ذلك، بل انظر إلى ما في يديك من إمكانيات، فإمكانيات الأمة ضخمة، إمكانيات إستراتيجية، وإمكانيات اقتصادية، وإمكانيات مالية، وإمكانيات بشرية .. وإمكانيات كثيرة، بل عندك أشياء كثيرة أكثر من التي فقدتها، وأهم شيء تملكه ولم تفقده هو الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر.
هذه القيمة العليا هي التي ترفع المسلم فوق أي إنسان في الأرض: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فهذه هي التي تجعلنا أعلم من غيرنا حتى في حال ضعفنا ومصائبنا وأزماتنا، ليس معنى هذا ألا يعمل المسلمون ويجتهدوا، ولكن معناه أن يعلموا أن أعظم مقومات قيامهم على الإطلاق: الإيمان، ولو ملكوه على حقيقته فإنهم الأعلى حقاً، وستكون لهم الدولة حتماً كما ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه النقطة الأولى في المنهج الإيجابي لعلاج المنهزم نفسياً.
وكذلك لفت نظر المسلمين إلى شؤم المعصية، وإلى خطورة الدنيا.
وكذلك انتقاء بعض المسلمين ليكونوا شهداء، هذه كلها جوانب إيجابية في الحدث، وعندما ينظر المسلم إلى هذه الجوانب الإيجابية تطمئن النفس وتهدأ الروح.
ويقول في آية أخرى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، مرة قال: (مثله)، ومرة قال: (كما)، فلا تحسب أن عدوك قد انتصر نصراً بلا ألم، أو حقق ربحاً بلا خسارة، فمن المؤكد أنه خسر.
فالمشركون في غزوة أحد فقدوا في بعض الروايات: (22) شخصاً، وفي أصح الروايات: (37) من القتلى، وهو رقم ضخم، والمسلمون استشهد منهم (70) مقاتلاً، لكن موتى بدر من المشركين (70) مقاتلاً والأسرى من المشركين (70)، والله عز وجل ذكر ذلك في كتابه. قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: استشهد منكم (70) الآن، لكن في بدر انتصرتم وأخذتم (70) أسيراً وقتلتم (70) قتيلاً من المشركين، فلابد أن تذكر هذه الإصابات في طرف عدوك حتى تهدأ النفس ويطمئن القلب.
ثم ذكر من صفات هؤلاء المتقين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، وبعد قليل في الآيات قال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، فسبب الفرار من الزحف أن الشيطان استزلهم ببعض ما كسبوا، ثم ذكر العفو مباشرة فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، فالصفحة البيضاء للمذنب تفتح أمامه طريق العمل الجديد.
هكذا تتوازن الكفة عند المسلم فيعمل واضعاً نصب عينيه سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت يخاف من عقابه سبحانه.
إذاً: بهذه الوسائل العشر أخرج الله سبحانه وتعالى المسلمين من أزمتهم النفسية، وقربهم منه وغفر لهم، وغسل ذنوبهم، وأتاح لهم العمل من جديد بصفحة بيضاء، فيا له من أسلوب راقٍ، وأسلوب تربوي متميز.
وخرج من بقي من المسلمين، خرج من ثبت وخرج من فر وعلم أن الله قد غفر له، خرجوا جميعاً إلى منطقة تسمى: حمراء الأسد، وهي تبعد حوالي (8) أميال من المدينة المنورة، وعسكروا هناك في انتظار الجيش الكافر، وبدءوا يستطلعون الأخبار، فعلموا أن الجيش الكافر موجود على بعد (36) ميلاً من المدينة المنورة عند منطقة اسمها: الروحاء، وقد كان الجيش الكافر وقف وقفة هناك، وقال: نحن لم ننتصر إلا انتصاراً جزئياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر كلهم على قيد الحياة، وجيشه في المدينة المنورة ما زال موجوداً، فمن الممكن أن نرجع ونحاربهم مرة أخرى، نغزو المدينة المنورة، ونستأصل شأفة المسلمين وهم في حالة ضعفهم.
كان الكفار يفكرون في ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام يفكر أيضاً في مطاردتهم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واقعياً، فقد أخذ المسلمين معه، لكنهم في حالة من الضعف والتعب والجراح والآلام، فهو يعلم أن الموقعة ستكون صعبة، ويريد أن يرفع من معنوياتهم، لكن لا يريد أن يضيعهم، ولا يريد أن يهلكهم في موقعة قد تكون خاسرة؛ لذلك حاول صلى الله عليه وسلم أن يخذل صف المشركين ويرهبه، فلقي شخصاً اسمه: معبد بن أبي معبد الخزاعي وبعثه برسالة إلى أبي سفيان ، فقد كان أبو سفيان يريد أن يرجع إلى المدينة المنورة ليغزوها، وكان صفوان بن أمية وبعض المشركين معارضين له، وبينما هم في هذا الحوار إذ دخل عليهم معبد بن أبي معبد . فقال لهم: محمد قد خرج لكم في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحركون عليكم تحركاً، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
فخاف أبو سفيان وقال: ويحك ما تقول؟ قال معبد : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال معبد : لا تفعل إني ناصح، وهكذا أُحبط أبو سفيان وانهارت معنويات الجيش المكي كله، وهذا يؤكد أنهم يألمون كما يألم المسلمون: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فلم يكن انتصاراً مبهراً حققوه في أحد، بل وقفوا خائفين مع أنهم (3000) شخص، وكان المسلمون كلهم (700) شخص استشهد منهم (70)، بالإضافة إلى أنهم ضعفاء وجرحى، ومع ذلك لم يستطع أبو سفيان أن يتحرك، بل إنه بعث شخصاً لكي يخذل الجيش الإسلامي، أرسل رسالة مع ركب من عبد القيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يخذله قدر المستطاع. قال لهم: أبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فوصلت الرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصر الصحابة جميعاً على القتال، مع أن المسلمين (630) على أقصى تقدير، والمشركين (3000)، وهكذا خرج المسلمون من أزمتهم النفسية تماماً، وقهروا الانكسار الذي كانوا فيه، وتحولوا إلى شجعان وأبطال مجاهدين في سبيل الله يطلبون الموت من جديد، لا يخالفون أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما عرف المشركون ذلك رجعوا بسرعة إلى مكة، وأنزل الله عز وجل في ذلك قرآناً، قال الله عز وجل: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]، أي: استجابوا لدعوة الرسول للخروج إلى حمراء الأسد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].
وبعد أن هربت قريش، أقام الرسول عليه الصلاة والسلام في حمراء الأسد ثلاثة أيام كاملة، وكأنه هو الجيش المنتصر يتحدى قريش بالبقاء فيها، ومع ذلك لم تأت قريش.
إذاً: كانت هذه مصيبة عابرة في تاريخ المسلمين خرجوا منها سريعاً؛ لأن المنهج الرباني لا عوج فيه ولا خطأ، المنهج الرباني كما قال الله عز وجل: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا على الخير دائماً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر