أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثاني من دروس السيرة النبوية العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
وفي هذا الدرس إن شاء الله سنتحدث عن حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية، ولكن على العالم أجمع كما سيتبين لنا إن شاء الله، وهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية.
ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله عز وجل سماه بالفتح المبين، الفتح الذي جاء في الآية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] الكثير من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أنه سبحانه وتعالى قد رضي عنهم تصريحاً في كتابه الكريم قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وكان عددهم (1400) صحابي، فهذا الجمع الهائل من الصحابة صرح ربنا سبحانه وتعالى أنه قد رضي عنهم، وهذا أمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع الهام الخطير، لكن لا نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بالرجوع إلى ما ذكرناه في الدرس السابق، وقد ذكرنا فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب قال كلمته المشهورة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، ومن ثم كانت السنة السادسة من الهجرة هي السنة التي تلت غزوة الأحزاب، وكان في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة لخصناها في آخر الدرس السابق، ومجمل هذه الآثار: أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة لها قوة وهيبة وعظمة في قلوب جميع العرب بما فيهم قريش، وأن قريشاً بدأت تفتقد إلى الأعوان والأحلاف والأصحاب، وميزان القوى بدأ يسير في صف المسلمين على حساب قريش، هذا الأمر سيكون له مردود هام جداً في صلح الحديبية، كما سيتبين لنا الآن.
في شهر شوال من السنة السادسة من الهجرة، يعني: بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا: رأى أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين، ورؤيا الأنبياء حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة عمرة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش، وهذا أمر صعب جداً، فهم قبل سنة واحدة فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل: ( 4000 ) من قريش والقبائل التي تحالفها، و( 6000 ) من غطفان، جاءوا يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة واحدة من غزوة الأحزاب في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتجهز لأداء العمرة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من المعاهدات أو الصلح أو الاتفاقيات.
لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم قبل الجميع من الصحابة ذلك دون تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر، مع أن السفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء للعمرة أو غيرها يحمل خطورة شديدة جداً عليهم، والمسلمون قد تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، فقد انتهكت حرمة البلد الحرام قبل ذلك كثيراً، ومع ذلك لم يتردد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قبول الأمر النبوي بالذهاب إلى العمرة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك التي يعيش فيها، أي: الأعراف الدولية في ذلك الوقت، أعراف الجزيرة العربية، وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة آمن مهما كان بينه وبين قريش من خلافات، فهل ستحترم قريش هذه القوانين القديمة أم لا؟! هذا ما سنراه.
فخرج المسلمون سعداء قد شرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، وهذا مهم جداً في بداية أي عمل، لذلك سيدنا موسى عليه السلام كان يقول: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، فالإنسان عندما ينشرح صدره لعمل ما يكون أداؤه فيه أداء متميزاً.
لم يكن هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للذهاب إلى هذا المشوار الصعب، لكن في المقابل من الناحية الأخرى جميع المنافقين تقريباً لم يستطيعوا الخروج إلى هذا المشوار الصعب، وترددوا كثيراً وفكروا كثيراً، وفي النهاية أخذوا القرار الحاسم أنهم لن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة؛ لأن هذا المشوار في نظرهم مشوار مهلك، كيف نذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، ليس معنا أسلحة الحروب؟
لذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد اسمه الجد بن قيس .
كذلك الأعراب حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعاً أبوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك هذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم ( 1400 ) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم في الغزوات السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريباً بإذن الله عز وجل، فسنرى -إن شاء الله- نتائج عظيمة جداً نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا ( 1400 ) وفي رواية: ( 1500 ) صحابي، وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (6)هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة، وهذا من النوافل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ولبس لباس العمرة وبدأ بالتلبية؛ كل هذا ليدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك عيوناً كثيرة لقريش على الطريق، وهذه العيون لاشك أنها ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة، وهو لا يريد حرباً مع أ÷ل مكة ولم يذهب إلا للعمرة، وما رآه في الرؤيا هو فقط مجرد العمرة؛ ولذلك لم يخرج صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بسلاح المسافر، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة كان يلبي: لبيك اللهم لبيك.. إلى آخر الدعاء.
وصل صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى منطقة تسمى كراع الغميم، وهو على بعد ( 60 ) كيلو أو ( 64 ) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً قد جمعت جيشاً وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة.
فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززاً مكرماً ممنوعاً، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة.
فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا ( 1400 ) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها، فوقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه.
فمثلاً: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم: نذهب أو لا نذهب؟ مع خطورة الأمر.
إذاً: ما دام ربنا سبحانه وتعالى أمر بكذا أو نهى عن كذا فلا مناقشة ولا تردد، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في قضية عسكرية فأخذ الشورى فيها، فقد جمع أصحابه في هذا الموقف الخطير الذي هم فيه، وشاورهم: هل نحارب هؤلاء الذين تجمعوا لنا أم نعود ولا ندخل إلى مكة؟ هل نغير على قبائل الأحابيش الخالية الآن من الرجال؛ لأن معظم جيش الأحابيش خرج للوقوف عند كراع الغميم؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض فكرة الالتفاف حول هذا الجيش والميل على قبائلهم الفارغة من الجنود وقتلهم وسبيهم، فيكون ذلك عزة وقوة للمسلمين على الكفار، هذه كانت آراء مطروحة من الرسول صلى الله عليه وسلم طرحها على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ليختاروا ما يناسبهم، وعرض بعض الصحابة رضي الله عنهم آراءهم، فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشاً كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي ( 200 ) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في الظروف الضيقة المحدودة جداً، تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، كما حدث في غزوة الأحزاب قبل كذا، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيراً ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جداً بقضية الصلاة، ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا ( 1400 )، فـخالد بن الوليد قائد فرسان المشركين رأى المسلمين في صلاتهم في حال الركوع والسجود، ورأى الجيش كله لا يرى مَنْ أمامه في وضع السجود، فوجدها فرصة للإغارة على المسلمين فهو فكر بذلك دون أن يظهر ما فكر فيه إلى أحد، لكن خالد بن الوليد لم يأخذ قراراً حاسماً، مع أنه يرى أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل الذين حوله: هل هناك صلاة ثانية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون أحوال المسلمين: نعم هناك صلاة يسمونها صلاة العصر، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم.
فرأى خالد بن الوليد أن هناك فرصة للهجوم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولم يخبر بذلك أحداً من أصحابه من المشركين، فلما جاء وقت صلاة العصر وقف صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمؤمنين فنزل عليه الوحي بصفة صلاة الخوف، وصلاة الخوف صلاة خاصة لا يقوم بها المسلمون إلا في الظروف الضيقة جداً، في حال ما إذا كان المسلمون في ميدان القتال ويخافون من عدوهم أن يغير عليهم فإن لهم أن يصلوا صلاة الخوف.
ومن صفة هذه الصلاة بأن الإمام الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش، والنصف الآخر يقف للحراسة، وبعدما يصل الإمام إلى الركعة الثانية يقعد للتشهد ولا يقوم، وبقية الناس تسلم وتنتهي من صلاتها ركعتين؛ لأنهم يصلون صلاة قصر المسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى ليقف في الحراسة ويأتي الذين حرسوا الجيش في صلاته الأولى ويصلون خلف الإمام ركعتين أيضاً، فالإمام يقف بعد التشهد الأوسط ويصلي ركعتين التي بقيت له من الصلاة الرباعية التي هو صلاها فيصلي بنصف الجيش الثاني ركعتين، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف صلى أربع ركعات، ونصف الجيش صلى الركعتين الأوليين، والنصف الثاني صلى الركعتين الأخريين.
إذاً: هذا الحكم نزل في الحديبية أمام خالد بن الوليد ، فـخالد بن الوليد كان يريد أن يهجم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولكن لم يقدر؛ لأن نصف الجيش وقف للحراسة، فقال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون، يعني: هؤلاء عليهم حماية غير طبيعية، حماية فوق طاقة البشر، كيف صلوا هذه الصلاة للمرة الأولى في حياتهم بهذه الكيفية، من أعلمهم بما فكر فيه خالد ، مع أنه لم يطلع أحداً على ما كان يفكر فيه؟ ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في أن يسلم؛ فهو أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة.
المهم لم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الدخول في قتال مع المشركين، وبعد ما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة أخذ الجيش وانحرف عن جيش خالد بن الوليد متجنباً إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهو صلى الله عليه وسلم مصر على استكمال الأمر حتى نهايته، وخالد بن الوليد حين رأى ذلك الموقف أصبح متردداً في قضية القتال، وقال: إن القوم ممنوعون، ورجع سريعاً إلى مكة ليخبرهم بهذا الأمر.
لقد أكمل صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مكة المكرمة إلى أن وصل إلى مكان يعرف بالحديبية، ويوجد هناك بئر، وهذا الموضع قريب جداً من مكة المكرمة، يقع بين التنعيم وبين مكة المكرمة، ويبعد التنعيم حوالي ( 5 ) كيلو من مكة المكرمة، فهو عليه الصلاة والسلام دخل في حدود مكة المكرمة نفسها، وأصبح الموقف شديد الحرج، ففي أي لحظة من اللحظات القادمة قد يحدث قتال عند إرادة دخول مكة المكرمة، لكن قبل دخول مكة المكرمة حدث أمر مفاجئ، حدث أن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم توقفت عن المسير، فالصحابة اجتمعوا ليدفعوا الناقة إلى القيام وإكمال المسيرة إلى مكة المكرمة، وكان الجميع متحمساً جداً لدخول مكة المكرمة، ورفضت الناقة أن تقوم، فقال الصحابة: (خلت القصواء خلت القصواء) أي: امتنعت عن القيام وعن التقدم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلت القصواء وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس من خلق القصواء أن ترفض الأمر الموجه إليها، وما ذاك لها بخلق: (ولكن حبسها حابس الفيل) يعني: أنه سبحانه وتعالى أراد لها ألا تتقدم، فهو أمر من الله عز وجل للناقة.
وقوله: (حبسها حابس الفيل) يعني: الفيل الذي كان يركبه أبرهة عندما أراد دخول مكة المكرمة، لكن الله أمره ألا يدخل، فوقف الفيل ولم يستطع أبرهة أن يدفع الفيل لدخول مكة، فهذا الأمر تكرر تماماً مع الناقة النبوية.
وقد تكرر هذا الموقف مع الناقة قبل ذلك، ومن أشهر المواقف التي حدثت مثل ذلك: عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ترك عليه الصلاة والسلام الناقة تسير إلى أن استقرت في مكان ما، وقال للصحابة من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: (دعوها فإنها مأمورة)، فنفس الموقف يتكرر في الحديبية؛ بسبب هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة مهمة جداً، وستفسر لنا هذه الكلمة أموراً كثيرة آتية بعد ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن أحس وشعر أن هناك وحياً واضحاً في هذه القضية، قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أنه سيقبل بالصلح مع قريش، فهو عليه الصلاة والسلام كان يشعر أن هناك وحياً في هذه القضية لم يكن مباشراً، لكنه فهمه من خلال وضع الناقة وعلم أنها مأمورة؛ وعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يريد قتالاً يتم بينه وبين قريش في ذلك الوقت، لذلك سيقبل عليه الصلاة والسلام بأي خطة تعظم حرمات الله، فهو يشترط في الخطة أن تعظم حرمات الله، فلن يقبل بظلم على المسلمين، ولن يقبل بمخالفة شرعية صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر في غاية الأهمية.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد مصالحة وخطة ليس فيها قتال، وهذا أيضاً سيفسر لنا قبول الرسول عليه الصلاة والسلام بصلح الحديبية بصورة واضحة؛ لأنه أمر مرضي له صلى الله عليه وسلم.
وبعد بقاء المسلمين في منطقة الحديبية أرسلت قريش أحد الرسل؛ جاء لكي يحل المشكلة بين المسلمين وبين قريش، وهذا الرسول هو بديل بن ورقاء الخزاعي فهو ليس من قريش وإنما من قبيلة خزاعة، ومعروف أن قبيلة خزاعة حليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب خزاعة، وقريش لم ترسل رجلاً منهم، لم ترسل زعيماً من زعمائهم يهدد ويتوعد، لا، لأن قريشاً تريد أن تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام بالسلم، وبنوع من الحسنى، وبتجنب القتال قدر المستطاع، ونحن قد نستغرب ونقول: كيف قبلت قريش العزيزة المنيعة القوية القبيلة الكبيرة المعظمة عند جميع قبائل العرب بلا استثناء، كيف تقبل هذه القبيلة الكبيرة بالجلوس مع الرسول عليه الصلاة والسلام في طاولة المفاوضات، مع عدم الضغط المباشر على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن الذي حصل في السنة السادسة من الهجرة أثر تأثيراً كبيراً على سلوك قريش، الذي حصل من سرايا وغزوات متتالية في العام السادس من الهجرة كان فيه رفع الراية الجهاد وإظهار الهيبة الإسلامية والعزة الإسلامية في كل مكان، فكل هذا كان له تأثير سلبي واضح على نفسيات قريش، وكان له تأثير معنوي إيجابي رائع جداً عند المسلمين، مما جعل الموقف يكون بهذه الصورة.
لقد كان المسلمون على بعد عدة كيلو مترات قريبة جداً من مكة المكرمة، وبهذه العزة يقفون ينتظرون رسل قريش، وقريش لا تستطيع أن ترسل زعيماً من زعمائها وإنما تبعث واحداً وسيطاً يتوسط عند المسلمين أن يعودوا، فذهب بديل بن ورقاء الخزاعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليمنعه قدر المستطاع من دخول مكة، فقريش لا تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في ذلك الوقت، ولا تريد أن تحدث معه قتالاً؛ لأنها تشعر أنها أضعف من المسلمين، مع أن المسلمين ليس معهم إلا سلاح المسافر فقط، فوقف بديل بن ورقاء وحاول أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم تهديداً خفيفاً، لكن هذا التهديد لم يكن من قريش؛ لأن بديل بن ورقاء ليس قرشياً، فقال بديل مهدداً: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل. يعني: ما تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وهما فرعان من قريش يعيشون في مكة تركتهم نازلين قريباً جداً من الحديبية، (معهم العوذ المطافيل) يعني: معهم الأبناء والأولاد وهم يريدون حربك يا محمد، فالحرب ستكون ضارية بينك وبين قريش، ثم يكمل بديل بن ورقاء ويقول: وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فماذا كان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد رتب الرسول عليه الصلاة والسلام الكلمات ترتيباً سياسياً حكيماً بارعاً، وبين له فيه أنه فهم الموقف تمام الفهم، وأن قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة لم يكن قدوماً متهوراً غير مدروس، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل حسابه لكل نقطة، فماذا قال؟ قال: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين) يعني: نحن لسنا مخالفين لقوانين الجزيرة العربية، وإنما أنتم الذين تخالفون قوانين الجزيرة العربية، وقوانين قريش نفسها تقضي بأن ندخل إلى مكة المكرمة لأداء العمرة إذا أرادنا ذلك، بل على قريش أن تحمينا وتحرسنا بسيوفها، فنحن نسير وفق هذا القانون وأنتم تخالفون هذا القانون.
فهو في منتهى القوة يقول: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين).
الأمر الثاني: أنت تهددني بقريش وأنهم قد جمعوا العوذ المطافيل وجمعوا جيوشاً ليحاربوني، لا، أنا أعلم بوضع قريش، قال: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم) يعني: ليست قادرة على محاربة المسلمين، فقريش أضعف من أن تحارب، فقد عادت من الأحزاب في خزي واضح بعد أن فشلت في غزو المدينة المنورة، وقريش لم تحرك جيشاً واحداً لقتال المسلمين في خلال السنة السادسة من الهجرة، مع اقتراب المسلمين أكثر من مرة من حدود مكة المكرمة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القوة التي هو فيها الآن، ويفاوض من هذا الوضع القوي، ولذلك كلماته مسموعة وكلماته مرغوبة عند بديل بن ورقاء وعند القرشيين جميعاً، فقال هذه الكلمات: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا..)، فبدأ يعدد عروضاً في منتهى الوضوح، فقد أعطاهم ثلاثة عروض ليختاروا منها ما يشاءون.
العرض الأول: (فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: هذا العرض يقضي أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من قريش أن تضع الحرب بينه وبينهم مدة من الزمان، وهذه المدة سنة سنتان ثلاث عشر، ويتركون ما بيني وبين الناس، أنا أدعو الناس وهم يدعون الناس، وكل واحد يتصرف دون خشية من الطرف الآخر أن يدخل معه في حرب.
فهذا العرض يفسر لنا أن ما حدث في صلح الحديبية من كون القرشيين يطلبون المعاهدة والمدة كان مطلباً إسلامياً في البداية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب هذه المدة؛ لأنه يعلم تمام العلم أن الدعوة في الجو السلمي أكثر إنتاجاً وأعظم تأثيراً وأسرع إلى قلوب الناس منها في جو الحروب، لذلك كان يطلب صلى الله عليه وسلم من قريش أن تضع الحرب بينها وبينه مدة من الزمان؛ ليسمح له فيها بالدعوة في كل مكان دون قتال.
العرض الثاني: (وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا)، يعني: لو أرادوا أن يسلموا ويبقوا مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا فعلوا ذلك، فنحن نرحب بهم في الإسلام.
إذاً: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمات وهو بسلاح المسافر فهذا يدل على عزة الإسلام فعلاً.
العرض الثالث: (وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)، يعني: قتال إلى النهاية حتى الموت، فنحن لا نخشى القتال، بل نطلبه ونحبه؛ لأنه في سبيل الله عز وجل.
والسالفة أي: الرقبة، فهذا كان وضع الرسول عليه الصلاة والسلام، كلمات في منتهى القوة، وعروض ثلاثة واضحة جداً.
فقال بديل : سأبلغهم ما تقول، وأخذ العروض الثلاث وانطلق إلى مكة المكرمة، وعندما ذكر بديل هذه الأمور لزعماء مكة، كان المتوقع منهم أن يثوروا ويغضبوا، كيف يقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات، وهو على بعد خطوات قليلة من مكة المكرمة، وهم في عقر دارهم ومعهم الجيوش، لكن هذا لم يحدث، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب القرشيين.
هكذا يرفع المسلمون رءوسهم عندما يعتزون بدينهم.
لقد حاولت قريش قدر المستطاع أن يتجنبوا اللقاء والصدام مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان بسلاح المسافر، فأرسلوا الحليس بن علقمة ، والحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة زعيم الأحابيش المحالفين لقريش، فقريش للمرة الثانية لم ترسل قريش أحد زعماء قريش؛ لأنه قد يتهور في قرار لا يستطيع القرشيون تحمله، فأرسلوا الحليس بن علقمة ، والرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الحليس قال: (هذا من قوم يعظمون البدن)، يعني: من قبيلة بني الحارث بن عبد مناف وهم قوم متدينون يحترمون قواعد البيت الحرام وأعراف البيت الحرام، ويعظمون البدن، ويحترمون من جاء لأداء العمرة أو الحج في مكة المكرمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عامله بما هو أهله، فأرسل في وجهه البدن؛ ليشعره أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يعظمه الحليس بن علقمة وقومه، فعندما أرسل البدن في وجهه واستقبله الصحابة يلبون: لبيك اللهم لبيك، لما رآهم الحليس بن علقمة قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فالرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يكسب قلب الحليس بن علقمة حتى قبل أن يتم بينه وبينه كلام، فقد كان عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقه في منتهى الروعة، فـالحليس بن علقمة كافر، وبديل بن ورقاء كافر، وأبو سفيان كافر، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل قبل ذلك، وكل هؤلاء كفار، لكن كل واحد له طريقة تعامل، فهناك كافر غادر، وهناك كافر من نبلاء القوم، وهناك كافر لا يعظم أي دين، وهناك كافر يعظم الدين وإن كان ديناً باطلاً.. هكذا كل واحد له طريقة في التعامل، والرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الرجل على قدر علمه وقدر بيئته وقدر ظروفه، وهذه هي الحكمة في حقيقتها.
إذاً: الرسول الثاني لقريش فشل في أداء ما تتمناه قريش، بل بالعكس فقد رجع إليهم وقال لهم: اسمحوا له بالدخول إلى مكة لأداء العمرة، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، لكن قريشاً ضربت بكلامه عرض الحائط، وقالوا: هذا الكلام لا يستقيم نحن نريد أن نمنعه مهما كانت الأعراف والقوانين.
لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي ، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة ، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا.
إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
و عروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك..)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].
فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود : (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش.
فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة ، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة ، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـالصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه.
فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) يعني: أنت كنت قد عملت معي معروفاً قبل كذا، ولأجل هذا المعروف لن أجيبك على هذا السباب الذي وجهته إلي، وحفظ للصديق معروفه القديم، والحمد لله أنه كان هناك معروف من الصديق ؛ لأننا لا نريد الحرب أن تقوم، والرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى لحرب مطلقاً في هذه الرحلة بفضل الله.
فلما هدأ الموقف وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم من جديد، وفي أثناء هذا الكلام كان عروة بن مسعود الثقفي يتحدث مع الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يمد يده يتناول لحية الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، فكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه واقفاً بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رآه يمد يده ويمسك لحية الرسول عليه الصلاة والسلام أهوى بنعل السيف على يد عروة بن مسعود الثقفي ليمنعها من الوصول إلى لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الموقف مهم جداً؛ لأن اسم المغيرة الكامل هو المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه وأرضاه فهو ابن أخي عروة بن مسعود ، فهذا فيه إبراز معنى الولاء عند المسلمين لله ولرسوله وللمؤمنين، حتى وإن كان الذي يتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام الآن هو عم المغيرة بن شعبة مباشرة، فعم المغيرة بن شعبة أبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة يسمع ويطيع للرسول الهاشمي صلى الله عليه وسلم ولا يسمع ولا يطيع لعمه الثقفي، فهذا منتهى الولاء والتجرد للإسلام والمسلمين.
فهذه الرسالة وصلت إلى عروة بن مسعود الثقفي ونقلها حرفياً إلى قريش، ولا شك أنها كان لها أبعد الأثر في قلوب القرشيين، وهناك أمور كثيرة حصلت في أثناء زيارة عروة بن مسعود للتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأشياء ليست كلاماً من الصحابة إلى عروة بن مسعود الثقفي ، ولكنها أفعال فعلت للرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأفعال كانت تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه الأفعال ليست متكلفة؛ لأن حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كلها كانت تفانياً في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن إظهار هذه الأمور في ذلك الوقت وفي هذه المحادثات كانت مقصودة لاشك، وكان لها أبلغ الأثر عند عروة بن مسعود ، فنترك عروة بن مسعود يصور ذلك الأمر، فهو لما رجع إلى قريش ذكر لهم ما رأى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال للقرشيين: (أي قوم والله، لقد وفدت على الملوك على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً).
فهذا الكلام كان له أبلغ الأثر عند القرشيين وعند عروة بن مسعود نفسه، ثم بدأ يذكر أفعال الصحابة قال: (وإذا أمرهم محمد ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) يعني: عروة بن مسعود مع أنه رسول قريش إلى المسلمين يأمر قريشاً أن يسمعوا لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، وخطة الرشد هذه هي الخطة التي ليس فيها قتال، وهو لم يأت إلا لعمرة فاتركوه يؤدي العمرة ويرجع إلى المدينة.
انظر كيف أثر تفاعل الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام من إظهار قوة الصف عند المسلمين وعزة المسلمين ورفعتهم وهيبتهم، كل هذه الأمور كانت أمام عروة بن مسعود لها أبلغ الأثر على القرشيين وعلى أعداء المسلمين؟!
لقد هزمت قريش هزيمة نفسية قاتلة، وبدأت تفكر تفكيراً جدياً في الصلح، لكن ما هي بنود الصلح؟ ما هي ظروف الصلح التي يفكرون فيها؟ كانوا قبل ذلك يرفضون الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاولة المفاوضات؛ لأنهم لا يعترفون به أصلاً، وهاهم الآن حين رأوا هذه العزة العظيمة للمسلمين يتفاوضون معهم، وبدءوا يفكرون في الصلح، لكن هناك مجموعة من شباب قريش المتحمسين المتهورين أرادوا أن يقطعوا كل طريق للصلح، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي ( 50 ) شخصاً من المشركين وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل وكان وقتها مشركاً، قامت هذه المجموعة بالتسلل إلى معسكر المسلمين ليلاً ليقتلوا بعض المسلمين، وهم غرضهم أن يبدأ القتال ثم بعد ذلك ستكون الحرب الكبيرة بين المسلمين وبين قريش.
فما الذي حصل مع هؤلاء؟ لقد كانت هناك مجموعة من الحرس يحمون المسلمين، وعلى رأس الحرس محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه، فاعتقل محمد بن مسلمة هؤلاء الخمسين المشرك، فماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هؤلاء الخمسين؟ لقد أطلقهم صلى الله عليه وسلم جميعاً مناً بلا فداء؛ لإبداء حسن النوايا ولإبداء الرغبة في الصلح، كأنه يقول لقريش: هذه رغبة حقيقية عندنا فنحن لم نجئ للقتال إنما جئنا معتمرين، ويريد صلى الله عليه وسلم أيضاً الصلح والهدنة؛ لينتشر الإسلام في الجزيرة العربية بأسلوب سلمي، قال الله سبحانه وتعالى يصف هذا الموقف في كتابه الكريم: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24]، فقوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24] يعني: بعد أن أخذتم هؤلاء الخمسين أسارى.
لقد أرسلت قريش ثلاثة رسل حتى الآن: أرسلت في البداية بديل بن ورقاء الخزاعي من خزاعة، وأرسلت بعد ذلك الحليس بن علقمة من بني الحارث بن كنانة، وأرسلت بعد ذلك عروة بن مسعود الثقفي من ثقيف، وهؤلاء الثلاثة من خارج قريش، أرسلتهم محاولة للتوسط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في كل مرة يبلغهم بشيء، لكي يوصلوه إلى مكة المكرمة، لكن إلى الآن لم تستمع قريش مباشرة إلى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هؤلاء الرسل لم يبلغوا الأمر بصورة مرضية؛ إما لشيء في صدورهم، أو سوء فهم لقضية من القضايا؛ فلذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل رسولاً من المسلمين، يستطيع بواسطته أن يصل بالمعاني التي يقتنع بها المسلمون ويطالبون بها، يوصلها بوضوح إلى زعماء قريش؛ ليتجنب فتنة ليس لها أصل، فالرسول صلى الله عليه وسلم فكر في إرسال سفير ورسول، فمن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يرسله؟ أول من أراد أن يرسله إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وعمر بن الخطاب كما تعلمون رجل قوي مفاوض له حكمة وقوة ورأي سديد جداً، فهو في كثير من المرات ينزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه وأرضاه، فيما عرف بموافقات عمر رضي الله عنه، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يختار عمر بن الخطاب أنه كان في جاهليته سفيراً لقريش.
وكانت الزعامة في قريش موزعة على عشر قبائل، كل قبيلة عليها دور من الأدوار في قيادة مكة، والدور الموكل إلى بني عدي -التي هي قبيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- كان دور السفارة في قريش، والذي كان يقوم بهذا الدور من قبيلة بني عدي هو عمر بن الخطاب نفسه، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبعث رسولاً قديماً من رسل قريش تعترف به كسفير، فهذا في غاية الأهمية وله عمق إستراتيجي واضح، فهذه كانت وجهة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن على غير المعتاد اعتذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أن الأمر ليس وحياً، وإنما هو رأي من الرسول عليه الصلاة والسلام له أن يراجع فيه ويعرض رأيه، فعرض عمر بن الخطاب رأيه في منتهى الوضوح ومنتهى الصراحة وقال: (يا رسول الله! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت) يعني: أنا من قبيلة ضعيفة، قبيلة بني عدي بطن ضعيف من بطون قريش، لو حصل وقتل عمر بن الخطاب فلن يتحرك له أحد، ثم قال: (فأرسل
و عثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة شريفة لها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم يقول: (وإنه -أي:
إذاً: كان اختيار عمر موفقاً لـعثمان جداً هذا أولاً.
ثانياً: عثمان بن عفان مشهور بالحلم والحكمة، فعنده القدرة على أن يتفاوض ويؤدي المهمة كما ينبغي أن تؤدى.
ثالثاً: عثمان بن عفان رجل محبوب جداً في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريماً واسع الكرم، يعطي عطاء بلا حدود، وكل أهل مكة قبل ذلك استفادوا منه، فهو عند أهل مكة محبوب، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع، وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متزوجاً في البداية من السيدة رقية ، فلما ماتت تزوج أم كلثوم ، وهو الآن هو زوج ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام أم كلثوم ، ولن يضحي الرسول عليه الصلاة والسلام بزوج ابنته هكذا إذا أرسله، فمن الواضح أنه يريد الصلح والهدنة مع قريش.
هذه أمور كثيرة جداً تجعل موقف عثمان بن عفان مترجحاً في هذه السفارة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع ذكر اسم عثمان بن عفان وجد أنه الرجل المناسب، وقبل تشريح عمر بن الخطاب لإرسال عثمان بن عفان إلى قريش، وبالفعل كان هو رسول المسلمين إلى قريش، وهذا يرينا مدى سعة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه قبل بتغيير رأيه دون أن يثور على عمر بن الخطاب أو يتهمه بعدم القبول لرأيه وبالتقصير في حق المسلمين؛ لأنه ليس هناك وحي في هذه القضية.
إذاً: كان هذا موقفاً من أعظم المواقف في تاريخ المسلمين، كيف أن عند الحاكم استيعاباً لكل القدرات الموجودة في الجيش، وهذا الموقف لا يجب أن يمر دون أن نذكر أنه من أعظم مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، حيث أوكلت إليه هذه المهمة العظيمة الخطيرة جداً، والتي تعبر عن مدى ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه في اختياره للتحاور والتفاوض مع المشركين.
وفي هذا الموقف نفي كل الشبهات التي قيلت في حقه بعد ذلك من المغرضين ومن أعداء المسلمين.
وخرج عثمان بن عفان من عند الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قريش بمهمة شديدة الوضوح، فقد أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أمور واضحة:
الأمر الأول: عليه أن يخبر قريشاً أن المسلمين لم يأتوا إلا معتمرين، وأنهم ما أرادوا القتال في هذه الرحلة إلى مكة المكرمة، وأنهم سيقبلون أي خطة تعظم فيها قريش حرمات الله عز وجل، هذا أول أمر وأهم أمر.
الأمر الثاني: أن يدعو قريشاً إلى الإسلام.
حتى في هذا الموقف نرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بهداية قريش إلى الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: أن يأتي المستضعفين من المسلمين في مكة، والمستضعفون في مكة هم الذين لم يستطيعوا لضعفهم أن يهاجروا إلى المدينة المنورة، فهو صلى الله عليه وسلم أمر عثمان بن عفان أن يذهب إلى هؤلاء المستضعفين سراً ويتحدث إليهم بتبشيرهم أن الله عز وجل سيعز المسلمين يوماً، وأنه لن يستخفي أحد بعد ذلك بالإسلام في مكة، وهذه بشارة نبوية، ومكانها في هذا التوقيت في غاية الأهمية؛ لأن المستضعفين في مكة المكرمة يرون قريشاً تحاصر المسلمين في الأحزاب وتقاتل المسلمين مرة بعد مرة، والآن يمنعون المسلمين من دخول مكة، فهذا الوضع قد يؤثر سلباً على نفسيتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يهتم جداً بنفسيات هؤلاء المستضعفين، مع أنهم ليسوا معه في دولته في هذه اللحظة، لكنه يهتم بكل رعايا الدولة الإسلامية كل بحسب ظروفه ومكانه. إذاً: هذه كانت مهمة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
وبالفعل ذهب عثمان بن عفان إلى مكة المكرمة ليؤدي المهمة العظيمة، ومع أنه رسول والرسل عادة في عرف هذه البلاد وغيرها لا تقتل، إلا أنه لم يعتمد على هذا الأمر فقد أخذ بكامل الأسباب؛ لكي لا يحدث له أي أذى، ولكي تتم المهمة على الوجه الأكمل.
أول ما دخل طلب إجارة أبان بن سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنه وكان وقتها ما زال مشركاً، فدخل في إجارة أبان ، وأبان رجل قوي وفيه لين ورحمة ولطف، وعلاقته قوية بـعثمان بن عفان ، وسيدافع عنه لصلة الرحم والقرابة والمعرفة، وبصفة اللين التي يتميز بها أبان بن سعيد وفوق هذا كله توفيق رب العالمين سبحانه وتعالى هو الذي جعل سيدنا عثمان بن عفان يطلب إجارة أبان بن سعيد بالذات، وأبان بن سعيد قبل قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية كان في رحلة تجارية إلى الشام، وهناك في الشام التقى مع راهب من النصارى، وهذا الراهب ذكر له أن هذا الوقت سيظهر فيه رسول في بلادهم.
فـأبان بن سعيد مهيأ نفسياً، فهذا الذي يقف خارج مكة هو رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الإحساس جعله يدافع عن عثمان بن عفان بكل طاقته، فاستطاع عثمان أن يؤدي المهمة على الوجه الأكمل، فدخل عثمان بن عفان مكة في عزة، دخل سفيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقف مع (1400) صحابي خارج مكة المكرمة يطلب دخولاً للعمرة، وعرض عثمان عروضه بمنتهى القوة أمام قريش، وقريش في الحقيقة استقبلته أحسن استقبال، استقبلته استقبال السفراء، وسمعت منه ما قاله، بل وعرضت عليه أن يطوف حول البيت الحرام، وتصور مدى اشتياق عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه للطواف حول البيت الحرام، له ست سنوات كاملة في المدينة المنورة ولم يطف في هذه السنوات الست ولا مرة بالبيت الحرام، لكن مع هذا الاشتياق الذي كان عند عثمان بن عفان ومع هذا الأجر العظيم في الطواف حول البيت الحرام، إلا أن عثمان بن عفان قال قولاً صارماً واضحاً لقريش، يعبر عن مدى ولاء المسلمين لقائدهم صلى الله عليه وسلم، قال: (لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا موقف من أعظم مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ومن أدقها فهماً وفقهاً، فهو قال لهم: إنني لا أستطيع أن أتحرك قيد أنملة إلا بأمر من قائدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الموقف من عثمان بن عفان أحدث هزيمة نفسية لقريش، وعرفت أن الصف المسلم قوي صلب لا يمكن أن يخترق، فمع أن عثمان بن عفان جاء على بعد ( 400 ) كيلو أو ( 500 ) كيلو طلباً لهذه العبادة، ومع ذلك لا يستطيع أن يؤديها إلا بأمر من الحبيب صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا موقف عظيم فعلاً هز قريشاً، وقريش بعد هذا الموقف بدأت تفكر تفكيراً عملياً سريعاً في الصلح مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يبق فقط إلا أن يحددوا بنود هذا الصلح، فالصلح أصبح أمراً واضحاً عند قريش بعد هذا الموقف، ومن قبله مواقف المسلمين العزيزة في المفاوضات التي تمت عند الحديبية.
ما الذي حصل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة المكرمة بعد أن أدى مهمته؟ وما رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لما حصل لـعثمان بن عفان ؟ وكيف ستكون بنود الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين المشركين؟ وكيف سيكون تطبيق هذه البنود على حياتنا وعلى واقعنا، وعلى ما نشاهده اليوم من معاهدات؟ هذا ما سنعرفه إن شاء الله في الدرس القادم وغيره.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر