إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فالإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أخبر أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أنه سأله على الإيمان؟ فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره).
فالإيمان باليوم الآخر ركن أساسي من أركان الإيمان. وهو يتضمن الإيمان بما بعد الموت. فيشمل الإيمان بفتنة الناس في قبورهم وعذاب القبر ونعيمه، ويشمل - كذلك - القيامة والحشر والبعث والحساب والحوض والميزان وما يلحق بذلك من الجنة والنار.
وحياة الناس تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الحياة الدنيا. والحياة البرزخية. والحياة الأخروية.
فأما الحياة الدنيا فهي مدار الأمر والنهي والتكليف، وهي التي يعيش فيها الناس منذ ولادتهم الأولى إلى الموت.
وأما البرزخ فيبدأ من موت الإنسان إلى أن يبعث الله عز وجل من في القبور ويحشرهم في مكان واحد، ثم بعد ذلك يبدأ اليوم الآخر الذي يشمل جميع الناس.
والدليل على وجود الحياة الدنيا: عيشنا فيها الآن.
والدليل على وجود البرزخ: قول الله عز وجل: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. فهذا يدل على أن هذه الحياة المشار إليه في الآية حياة متوسطة بين الحياة الدنيا وبين الحياة الأخرى، كما دل على ذلك قوله: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
والحياة الدنيا هي التي فيها التكليف. وأما حياة البرزخ والحياة الأخروية فليس فيها تكليف، وإنما فيها الجزاء والحساب.
فأما الفتنة: فإن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى].
فلا شك أن الناس يفتنون في قبورهم. والدليل على ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الناس يفتنون في قبورهم مثل فتنة الدجال)، أو قال: (قريباً من فتنة الدجال). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة هذه الفتنة كما في حديث البراء بن عازب الذي رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن البراء بن عازب رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه: أن المؤمن يسأل عن ربه فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. ويقال له: وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقال له: ومن نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ففتنة الناس في قبورهم ثابتة.
فأما الشهداء فورد فيهم نص عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف على رؤوسهم فتنة)، يعني: أن قتالهم في سبيل الله وبريق السيوف الذي واجهوه وقتلهم في سبيل الله يرفع عنهم الفتنة في القبر. وهذا حديث صحيح صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في كتابه: أحكام الجنائز.
فالشهداء لا يمتحنون في قبورهم، ولا يأتيهم ملكان يسألانهم عن الرب وعن النبي وعن الإسلام.
وأما الأنبياء فلا يمتحنون في قبورهم. والدليل على ذلك أمران:
الأمر الأول: هو أن الأنبياء أولى من الشهداء. فإذا كان الشهداء لا يمتحنون في قبورهم فالأنبياء أولى منهم؛ لأن فضل النبوة أعلى من فضل الشهادة. وإذا كان فضل الشهادة مانعاً من الفتنة في القبور ففضل النبوة أولى.
وثانياً: أن الإنسان يسأل في قبره عن النبوة والأنبياء، فيقال له: من نبيك؟ وهذا يدل على أن المسئول عنه عظيم. وإذا كان يسأل عن الأنبياء فلا شك أن هذا يدل على أنهم لا يسألون في قبورهم، وإنما ينعمون مباشرة.
ويفتن بقية الناس المسلم والكافر، وهو الصحيح الذي عليه أهل السنة من أن الفتنة في القبور تكون على المسلمين وعلى الكفار. ويدل عليه حديث البراء بن عازب الطويل، والذي صنف فيه الذين يسألون ويفتنون في قبورهم.
قال: (فأما المؤمن)، ثم قال: (وأما المنافق)، وفي بعض الألفاظ: (والكافر). وهذا يدل على أن المؤمن يسأل ويفتن. وكذلك فيه دليل على أن الكافر أيضاً يسأل ويفتن، وكذلك المنافق؛ لأن هؤلاء جميعاً ورد النص فيهم في حديث البراء بن عازب ، وكذلك دل على هذا عموم الأدلة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن هذه الأمة تفتن في قبورها. وكلمة الأمة تشمل أمة الاستجابة وأمة الدعوة.
فالكفار يفتنون على الصحيح. وهذا ما رجحه ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح. وكتاب الروح عمدة في هذا الباب؛ لأنه اشتمل على كثير من الأحاديث الواردة في قضية البرزخ وتعلق الروح بالبدن فيها وما يتبع ذلك من مسائل.
والنصوص الواردة في الامتحان عامة تشمل الأمم جميعاً. وإن كانت الأدلة لم ترد إلا في هذه الأمة وفي اليهود. ولكن عموم الأدلة تشمل عموم الناس.
إذاً: فقول الشيخ: (الناس) ليس على عمومه، فالأنبياء والشهداء لا يمتحنون في قبورهم.
الأمر الأول: على ثبوت الحديث في هذا.
والأمر الثاني: على استنكار بعض أهل العلم لتسمية الملائكة بالمنكر والنكير.
فأما الحديث الوارد في هذا: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما رواه الترمذي وابن أبي عاصم في السنة والآجري في الشريعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا مات جاءه ملكان في قبره أحدهما المنكر والآخر النكير فيسألانه). فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الاسمين: وهذا الحديث حديث ثابت صحيح.
وأما استنكار بعض أهل العلم لتسميتهما بالمنكر والنكير فلا شك أنه إذا ورد الحديث في هذا وثبت فلا يرد هذا الإشكال أبداً؛ لأنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح الاعتراض على كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
كما يمكن أن نجيب عن هذا الإشكال بأنهما ليسا منكراً ونكيراً في ذاتهما، وإنما عند الشخص الذي يفتنانه، وقد يكون منكراً بمعنى: مخيفاً. ولهذا ورد في صفتهما في الحديث: إنهما أسودان أزرقان. ولا شك أن هذه الصورة مخيفة للإنسان.
واستدل أهل السنة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه من القرآن الكريم بما يأتي:
قال الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].
وهذا النص واضح بأن النار التي يعرضون عليها قبل يوم القيامة. ولهذا قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]. فهذه النار التي يعذبون فيها ويعرضون عليها غدواً وعشياً هي قبل يوم القيامة. وليس هناك نار يعرضون عليها إلا في القبور وبعد الموت.
ولهذا وردت آثار عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في أن أرواح آل فرعون في طيور سود تعذب. وظاهر الآية واضح في إثبات عذاب القبر.
وقال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27].
فهذه الآية تدل على عذاب القبر؛ لأنه لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن القبر وبين أن الناس تمتحن فيه قرأ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]. ولهذا أجمع المفسرون على أن هذه الآية ورادة في عذاب القبر ونعيمه.
وقال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، إلى آخر الآية.
وهذه الآية من الآيات التي استدل بها الإمام البخاري رحمه الله على إثبات عذاب القبر. فقد عقد باباً في كتاب الجنائز باب: عذاب القبر. وسرد مجموعة من الآيات منها هذه الآية، وجعلها دليلاً على إثبات عذاب القبر. ووجه الدلالة من هذه الآية من ناحيتين:
الناحية الأولى هي: أن الله عز وجل يقول: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93]، يعني: في أثناء الاحتضار. وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ يعني: يستعدون لها بالضرب. وذلك أن روح المنافق والكافر إذا أراد الملائكة أن يخرجوها تتفرق في بدنه فلا يجمعونها إلا بالضرب، يضربونها من هنا وهناك، ثم يجمعون هذه الروح ويخرجونها.
فإذا كان الميت يعذب في غمرات الموت بسبب فسوقه وكفره؛ فإنه يعذب في قبره من باب أولى. وهذا الوجه أفاده الشيخ حافظ حكمي في كتابه معارج القبول.
والوجه الثاني: هو أن هذه الآية فسرت بآية أخرى في سورة محمد، وهي قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27].
فقالوا: إن الضرب على الوجوه والأدبار من الملائكة للفاسقين والكافرين يكون بعد الموت وقبل الدفن.
ووجه الدلالة حينئذ هو: أنه إذا كان الميت يعذب قبل دفنه فبعد دفنه من باب أولى. وهذا أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في كلامه على هذه الآية.
وقال الله عز وجل: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101].
والمرتان الواردتان في الآية ليس المقصود بهما الآخرة. والدليل على ذلك قوله تعالى: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]. فعندنا في هذه الآية ثلاثة أنواع من العذاب:
العذاب الأول، والعذاب الثاني، والعذاب الثالث يكون في الآخرة؛ لقوله تعالى: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]. فأخبرت الآية أنه يعذبهم مرتين ثم بعدها يردون إلى العذاب العظيم. والعذاب العظيم يكون في الآخرة يوم القيامة. وأما المرتان فقال المفسرون فيها: إنهما عذاب في الدنيا وعذاب في القبر.
وقد روى ابن أبي حاتم والطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: العذاب الأول في الدنيا، والعذب الثاني في القبر. وروي عن غيره أنه قال: العذاب الأول بالجوع والقتل، والعذاب الثاني في القبر. ولهذا قال الحافظ ابن جرير الطبري المفسر المشهور: إن كل الآثار الواردة في تفسير المرتين متفقة على أن الثاني منهما عذاب القبر، واختلفوا في الأول. فبعضهم على أنه في الدنيا بشكل عام، وبعضهم يجعلها بالقتل والسبي، وبعضهم يجعلها بالجوع والفقر، وما إلى ذلك. وكلها تجمع على أن العذاب الأول في الدنيا، والعذاب الثاني يكون في القبر. وهذا دليل صريح واضح على أن الناس يعذبون في قبورهم.
ففي حديث ابن عباس المشهور في الصحيحين: (عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين وقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الثاني فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
وروي أيضاً عن البراء بن عازب ، وعن عدد كبير من الصحابة. وقد ساق هذه الأحاديث مفصلة الشيخ حافظ حكمي في كتابه معارج القبول عن هؤلاء الثلاثين جميعاً. وهي جميعاً متفقة على أن الناس يعذبون أو ينعمون في قبورهم. ولهذا قال الشيخ حافظ حكمي في كتابه معارج القبول: بأن أحاديث عذاب القبر ونعيمه بلغت حد التواتر المعنوي.
والتواتر هو: نقل جماعة عن جماعة يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس.
وهنا قد نقل جماعة كثيرة عن جماعة كثيرة، وأسندوه إلى شيء محسوس، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره.
والتواتر ينقسم إلى قسمين:
تواتر لفظي. وتواتر معنوي.
فأما التواتر اللفظي فهو: أن يتواتر حديث بلفظ معين. كقوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وأما التواتر المعنوي فهو: أن ترد مجموعة أحاديث بأوجه مختلفة، وكلها تدل على معنى واحد.
ومن التواتر المعنوي مثلاً المسح على الخفين، ورؤية الله عز وجل يوم القيامة، وأحاديث النزول، وأحاديث العلو، وأحاديث عذاب القبر ونعيمه.
ومن الجهمية الذين أنكروا عذاب القبر ونعيمه بشر بن غياث المريسي المشهور الذي رد عليه السلف. فقد رد عليه عثمان بن سعيد الدارمي
. وليس هو صاحب السنن بل صاحب السنن هو عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي . وأما عثمان فهو المصنف في العقائد، وله كتاب: الرد على الجهمية، وكتاب رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد.فالشاهد: أن الخوارج والمعتزلة نفوا عذاب القبر ونعيمه. وكذلك العقلانيون عموماً لا يثبتون عذاب القبر ونعيمه.
الدليل الأول: قول الله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] فقالوا: معنى هذا: أنهم إذا كانوا يعذبون في قبورهم فسيذوقون أكثر من موتة. وهذا مخالف للآية.
والجواب على هذا بسيط وسهل وهو: أن هذه الآية وردت في أهل الجنة، وليس في أهل القبور. ولهذا فطريقة أهل البدع دائماً هي: أنهم يأتون بالنصوص ويضعونها في غير موضعها ويشبهون على الناس بذلك. فينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يميزوا ويفصلوا.
ومسألة هل الأموات في قبورهم يسمعون أو لا يسمعون مسألة مشهورة عند أهل العلم، اختلف فيها أهل العلم بناءً على الأدلة الواردة فيها. وقد كان اختلاف السلف رضوان الله عليهم في هذه المسألة اختلافاً بسيطاً لا يترتب عليه ما رتبه عليه أهل البدع، وذلك لوجود أدلة تنفي السماع وأخرى تثبته؛ ولهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة هو ألا يقال: إنهم يسمعون مطلقاً، أو لا يسمعون مطلقاً. وإنما يقال: إنهم يسمعون في ما ورد النص فيه بأنهم يسمعونه، كرد السلام مثلاً، وكأهل قليب بدر لما وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. قالوا: يا رسول الله! تكلم جيفاً قد بليت؟ قال: ما أنتم بأسمع لكلامي منهم، لكنهم لا يجيبون).
ووردت أيضاً بعض الأحاديث التي تدل على أن بعض الموتى يسمعون. ولكن هذا لا يعني أن هذا السماع سماع مطلق. وهذا هو الصحيح من كلام أهل العلم.
ثم جاء أهل البدع ورتبوا على هذه المسألة أمرين:
الأمر الأول: أن بعضهم أنكر عذاب القبر ونعيمه؛ لظنهم بأنهم لا يسمعون. وليس في هذا أي وجه لنفي عذاب القبر. وإذا افترض أنهم لا يسمعون فهذا لا يعني أنهم لا يعذبون في قبورهم، فقد يكون بيننا وبينهم حاجز فلا يسمعون، كحاجز البعد مثلاً، وهكذا.
وجاءت طائفة أخرى من أهل البدع أثبتوا أنهم يسمعون ورتبوا على ذلك أنه يستغاث بهم، ويدعون من دون الله، فاصبحوا يقولون: مدد يا فلان، أو يقولون: إن فلاناً يشفع لنا عند الله عز وجل. ونحو ذلك من الشركيات. وليس بين هذا وذاك أي ارتباط. فإنهم إذا سمعوا في قبورهم فهذا لا يعني بالضرورة أنهم لا بد أن يدعوا ويستغاث بهم!! بل لو كانوا أحياءً في الدنيا لما جاز أن يدعوا فكيف إذا كانوا أمواتاً في القبور؟!!
فإذا قيل: إنه في قبره له علاقة بالدار الآخرة، قلنا: وإذا كان له علاقة بالدار الآخرة فلا يلزم من هذا أن يُستغاث به ويطلب منه المدد، ونحو ذلك؛ لأن هذا من الشرك.
وهذا القول قول فاسد من حيث العقل؛ لأن هذا الكلام الذي نقوله عن عذاب القبر ونعيمه وعن الغيبيات جاءنا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم ثبت صدقه عندنا بما لا يدع مجالاً للشك. فقد ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل لا نظير له. ومن ذلك: أن الوحي الذي جاء به الرسول ونسبه إلى الله عز وجل يدل على صدقه بشكل مؤكد، حيث أنه أخبر فيه عن مغيبات ستقع فوقعت. وأخبر فيه عن أمور في طبيعة البشر فثبت بالدليل العلمي الآن أنها صحيحة.
وأيضاً: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وآياته التي جاء بها مثل انشقاق القمر نصفين، ونبع الماء من بين أصابعه. وفي ذات الوقت فالرسول صلى الله عليه وسلم ليست طبيعته كطبيعة السحرة والكهنة. وقد يقول قائل مثلاً: انفلاق القمر نصفين يفعله السحرة والكهنة، فنقول: السحرة والكهنة لهم طبيعة خاصة، فتجد فيهم الكذب والوسوسة والحمق، وغيرها من الأمور، بينما هذه الأشياء ليست موجودة في الرسول صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مستقيم الفطرة والطبع، ولم يحفظ عليه خطأ، أو تصرف غير طبيعي، وإنما كانت تصرفاته جميعاً طبيعية، وكانت أخلاقه كريمة، وكان صادقاً لا يكذب. ومع هذا جاء بهذا الوحي العجيب الخارق، فلا يصح عقلاً أن يكون غير صادق.
والدليل على هذا قصة هرقل في حديث ابن عباس الطويل لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عمرو بن أمية الضمري ، وفيه: (من محمد رسول الله إلى
فلما وصلته هذه الرسالة قال: اطلبوا لي أحداً من العرب في بلاد الشام، فجيء له بـأبي سفيان ومجموعة -يصلون إلى العشرين- من أهل مكة.
فقال: من أقربكم نسباً من هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي؟ قال أبو سفيان : أنا. قال: تقدم. فتقدم. ثم قال له: إن سائلك عن هذا الرجل فإن كذب فكذبوه.
فسأله أسئلة شاملة لأحوال الرجل من كل جهاته. فسأله عن دعوة النبي، وعن طبيعته الشخصية، وعن علاقته بهم، وعن تاريخه. فسأله: هل يكذب؟ قال: لا قال: هل يغدر؟ قال: لا وهذه الأسئلة عن الطباع الشخصية.
وسأله عن التاريخ وعن الواقع الموجود، فقال: هل هناك من آبائه من ملك؟ قال: لا. قال: هل هناك أحد منكم جاء بهذه الدعوة قبله؟ قال: لا.
وسأله أيضاً عن دعوته، فقال: بماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا بأن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وبالصبر والصدق والعفاف، والبعد عن الزنا والكذب.
ثم استدل من هذا كله أنه نبي. ولهذا قال: إنه لنبي، وإن كان ما تقولون حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. ولو ظننت أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولغسلت عن قدميه وشربت مرقتها. فقد عرف أنه نبي. لأن أحواله تدل على نبوته.
وإذا ثبتت النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم فيلزمنا الإيمان بها وتصديقها.
وأركان النبوة أربعة: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. كما ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. ويمكن أن ترد هذه الأربع إلى ثلاثة:
التصديق والاتباع والانقياد. فالتصديق يعني: لخبره. والاتباع يعني: لمنهجه وطريقته. والانقياد يعني: لأمره من جهة الفعل، ولنهيه من جهة الترك.
الحال الأول: أن يكون من المسلمين أو ممن ينتسب إلى الإسلام.
والحال الثاني: أن يكون من غير المسلمين.
فإذا كان من المسلمين فنقول له: إذا أقررت بنبوة النبي فلا بد أن تلتزم بما أخبر به. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجود عذاب القبر ونعيمه. وقبل ذلك أخبر القرآن الكريم به.
وأما إذا كان كافراً لا يؤمن بالنبوة ولا يؤمن بالله فنثبت له أولاً صدق النبي. والأدلة على صدقه كثيرة جداً. فإذا أثبتنا له صدقه بحيث لا يكون هناك مجال للشك في صدقه فنقول: إن هذا الصادق أخبر بعذاب القبر ونعيمه فيلزمنا الالتزام بما أخبر به وتصديقه.
أموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
يعني: إن الحياة بعد الموت وحشر الناس حديث خرافة.
وأصل كلمة حديث خرافة عند العرب أن رجلاً كان يسمى خرافة زعم أنه أخذته الجن ثم جاء إلى الناس يحدثهم بغرائب وعجائب، فأصبح كلامه مثلاً فيقال: هذا حديثه حديث خرافة يعني: أن حديثه هذا فيه غرائب كحديث خرافة الذي زعم أنه أخذته الجن. ولهذا كانوا يقولون:
حديث خرافة يا أم عمرو
وكانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع -يعني: للدنيا- وأرض تبلع -يعني: في القبور- ولا يهلكنا إلا الدهر. وكانوا ينكرون أن يبعث الناس لرب العالمين يوم القيامة.
أما الفلاسفة فمثل ابن سيناء والفارابي ونحوهما كانوا ينكرون بعث الأجساد ويقولون: إن الأجساد لا تبعث يوم القيامة؛ لأنها تفتت وتصبح ذرات تتكون منها مخلوقات أخرى، فلا تعود مرة أخرى.
وقد كفر أهل العلم الفلاسفة لثلاثة أمور:
الأمر الأول: بأنهم قالوا بقدم العالم.
والأمر الثاني: قالوا بإنكار علم الله بالجزئيات.
والأمر الثالث: أنكروا البعث الجسماني. وقالوا: إنما هو للأرواح فقط.
ويفسر الفلاسفة عذاب الآخرة للأرواح بقولهم: إن الروح بعد أن يموت الجسد ويتفرق إذا كانت منعمة انتقلت إلى شخصية منعمة ومبسوطة في الدنيا، وإذا كانت معذبة كأن يكون صاحبها قد ظلم الناس في الدنيا انتقلت إلى شخص فقير معذب.
وأما الباطنية فيفسرون البعث والقيامة بأنه انتقال روح الشخص المعذب إلى روح كلب أو خنزير مثلاً، أو حيوان معذب يطرد ويؤذى ويجرح ونحو ذلك. ويعتقدون أن الشخصية المنعمة تنتقل إلى حيوان آخر ينعم ويعتنى به ويغسل ويكون له من أحسن ما يكون. ويقولون: الروح هي الروح هنا وهناك، سواء كانت في جسد إنسان أو كانت في جسد حيوان فهي هي. وحينئذ تعذب هناك أو تنعم هناك، ولا شك أن هذا كفر بالله رب العالمين.
الجواب: المقصود بالشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله، وهذا ظاهر النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى ببارقة السيوف)، وبارقة السيوف هو: الجهاد.
الجواب: من كان أعلى مرتبة من الشهداء كالصديقين فيرى بعض أهل العلم: أنهم لا يفتنون. ويرى آخرون أنهم يدخلون في العموم.
الجواب: أما الحديث الأول، وهو قوله: (ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبد مؤمن). فليس المقصود بالتردد هنا التردد في الإرادة، وإنما المقصود به كما فسره في الحديث: أنه يكره الموت وأكره مساءته. يعني: أن صورة الحال هي صورة تردد، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالتردد الذي يوصف به العباد، وهو عدم الإقدام على الفعل للجهل به وبعاقبته. فهذا لا يمكن أن ينسب لله عز وجل. وإنما المقصود بالتردد هو: أن هذا العبد يحبه الله، وهذا العبد يكره الموت، والله عز وجل إذا أحب عبداً كره ما يكره. ولكن سابق قضاء الله عز وجل هو أن يموت. ففيها أمران: سابق قضاء الله عز وجل.
والأمر الثاني: أن الله يكره ما يكرهه العبد. فهذه هي صورة التردد، ثم الله عز وجل يمضي قضائه السابق. فليس التردد الوارد في الحديث هو التردد الذي يحصل عند الناس؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان مثلاً يتردد في شراء الشيء أو تركه؛ للجهل بقيمته، والله عز وجل عالم بكل شيء سبحانه وتعالى.
وحينئذ فالقاعدة في هذا الموضوع هي: أن ترد الأحاديث المشكلة إلى الأحاديث المحكمة الواضحة.
وثبوت العلم لله عز وجل واضح لا إشكال فيه، وثبوت إرادته وفعله لا إشكال فيه أيضاً. فإذا ورد حديث ظاهره أنه مناقض لصفة العلم فلا بد أن يفسر بما يوافق هذه الصفة، وأن يفهم من السياق العام في هذا النص. فمثلاً: هذا الحديث واضح مشروح في نفس الحديث. قال فيه: (يكره الموت وأنا أكره مساءته). فهو مفسر في هذا الحديث.
ومثله: حديث الدهر، قال: (يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار). ففسر معنى قوله: (وأنا الدهر)، يعني: وأنا خالق الدهر؛ لأن الله ليس هو الدهر قطعاً. وإنما الدهر الليل والنهار الذي نعيش فيه. ولا يقول عاقل عرف الآيات والأحاديث الواردة في تميز الله سبحانه وتعالى عن خلقه، وما ثبت له من الصفات والأسماء العلى: إن الله هو نفسه حقيقة الدهر. وإذا تصورنا أن هذا الحديث يدل على هذا المعنى فإننا نفسره على تقدير حذف مضاف، وهذا معتاد في لغة العرب، ومن الأمثلة على ذلك: قول الله عز وجل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف:82]، والجمال لا تسأل، فلا يأتي شخص يترك الناس ويسأل الجمال ويقول: هذا هو المفهوم من ظاهر النص؛ لأن العير المقصود به القافلة التي يوجد فيها ناس يوجهونها. وهذا هو المقصود. والقرية هي التي يوجد فيها أشخاص يعيشون فيها، ونحو ذلك. وهذا يدل عليه السياق.
قال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) يعني: وأنا خالق الدهر؛ يعني: كيف يسب الدهر وأنا خالقه؟ فلا يصح أن يسبه أحد وأنا خالقه. وقوله: (أقلب الليل والنهار)، شرح لقوله: (وأنا الدهر).
فمثل هذه النصوص يرجع فيها إلى كلام أهل العلم ولا يستعجل في تفسيرها. وفي كتاب القواعد المثلى للشيخ محمد بن صالح العثيمين ، قاعدة في هذا الموضوع وضحها وذكر أمثلة كثيرة عليها، وبينها بياناً شافياً، فجزاه الله خيراً.
الجواب: تكون عن الرب والدين وعن نبيهم الذي أرسله الله عز وجل لهم.
الجواب: يقول الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] يعني: سواءً كان جاهلاً أو متعلماً، فهذه لا يحتاج لها علم. وهي من العقائد الأساسية الطبيعية العادية. وهل أحد من المسلمين لا يعرف أن الرب هو الله؟ فلو جهل ذلك لكان غير مسلم أصلاً. وكذلك الدين، والإسلام والنبوة. وهذه الثلاثة فصلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب الأصول الثلاثة.
والأصول الثلاثة هي: معرفة العبد ربه، ونبيه ودينه ففصلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب تفصيلاً بيناً في الأصول الثلاثة.
الجواب: الغيبيات لا يصح أن تحاكم إلى الحسيات. بل لا بد فيها من التصديق الجازم بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الإنسان مؤمناً بالنبوة فلا شك أنه سيصدقها حتى ولو لم ير بعينه.
وهناك ردود تفصيلية أخرى ذكرها بعض أهل العلم وهي: أنه لا يلزم من عدم الحركة الآن في الدنيا عدم ما يترتب عليها من العذاب. فالنائم مثلاً: يحلم بأحلام مزعجة ومؤذية، ويشعر أنه مطارد وأنه سيقتل، وهو نائم لا يتحرك. ثم إذا استيقظ أخبر الناس بذلك وهم لم يروا شيئاً يدل على هذا.
فالشاهد: أن العمدة الأساسية في الرد هو أن نقول: هل تثبتون النبوة أو لا؟ فإن أثبتوا النبوة لزمهم الإقرار مباشرة؛ فكيف يكذبون النبي الذي أخبر بذلك؟ وإذا كانوا لا يثبتون النبوة فيقال لهم: نبوة النبي ثابتة بالأدلة، وهي كذا وكذا وما يتبع ذلك.
الجواب: الاستغاثة بصفة من صفات الله عز وجل جائزة، وهي مثل الاستعاذة بكلماته كما في الحديث: (أعوذ بكلمات الله التامات) .
الجواب: لا. وإنما المعنى: لا يعذبان في عمل كبير يشق عليهم عمله. ولهذا ورد في بعض الألفاظ: (ما يعذبان في كبير، بلى، إنه كبير)، يعني: كبير من جهة الإثم.
وقوله: (ما يعذبان في كبير)، يعني: أنه من جهة العمل بسيط يمكن التحرز منه.
الجواب: لا؛ لأن الذي يعذب في القبر الأجسام والأرواح أيضاً. وهناك قاعدة ذكرها أهل العلم في علاقة الروح بالجسد بالنسبة للحياة في الدنيا والبرزخ.
ففي الحياة الدنيا العمل مبني على الجسد والروح تابعة له. أما في القبر فالعكس. فالروح هي الأصل والجسد تابع لها. فالعذاب يكون على الروح والجسد في القبر. وهذا هو قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح الذي عليه العمدة.
الجواب: قصد المؤلف هنا: أنه لا يكفر مرتكب الكبيرة. ويقول أهل العلم في تفسيرهم لهذه الآية: إن الخلود نوعان: خلود بمعنى: طول المكث. وخلود بمعنى: التأبيد. فالوارد في هذه الآية معناه: طول المكث. فمعنى الآية: أنه من طول مكثه في النار - والعياذ بالله - وهذا يشبه الذي يكون خالداً في النار.
الجواب: بالنسبة للكفار فعذاب القبر عليهم دائماً، وبالنسبة لعذاب المسلمين فهو بحسب أعمالهم، فيعذبون بقدر ذنوبهم، ثم ينعمون بعد ذلك.
الجواب: الله عز وجل عادل. فإذا عذب عبده في قبره بمقدار ذنوبه جميعاً فلا يعذبه في الآخرة مرة أخرى، وإذا عذبه في قبره ببعض الذنوب فيعذبه في الآخرة ببعضها الآخر. وقد لا يعذب في قبره ويعذب في الآخرة بجميع ذنوبه. ولكنه لا ينعم قبل ذلك. وهذا كله راجع إلى حكمة الله عز وجل وإرادته سبحانه وتعالى.
الجواب: من عقيدة أهل السنة أنهم لا يسألون عن كيفية الصفات؛ لأن كيفية الصفات لا نعلمها أصلاً؛ لأننا لم نرها ولم يخبرنا الرسول بكيفيتها. فنحن نؤمن بيد الله ولا نعرف كيفيتها، ونؤمن بقدم الله ولا نعرف كيفيته، ونؤمن بعيني الله ولا نعرف كيفيتها، ونؤمن بصوت الله وكلامه ولا نعرف كيفيته. فالكيفية غير معلومة لدينا. وهذا الإنسان الذي تخيل هذه الشبهة كان أساس مشكلته أنه يريد أن يعرف الكيفية. ولهذا إذا قطع الطمع في معرفة الكيفية فإنه يزول عنه الإشكال. ونحن لا ندري كيف ينزل. وإنما نؤمن أنه ينزل مع اختلاف الليالي واختلاف المناطق.
ولكن إذا تخيلت أنه ينزل ويطلع مثل الإنسان فتكون قد شبهت الله عز وجل بخلقه، وهذا لا يجوز. فلا يجوز لنا أن نتصور كيفية صفات الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا عن كيفية صفات الله ونحن لم نرها؛ لأنها من الغيب.
وصفات الله لها كيفية لا نعرفها، والله أعلم بها. وإنما نثبتها؛ لأن القرآن أخبرنا أن لله صفات، وبين أن هذه الصفة غير هذه الصفة، فعلم الله غير يد الله غير قدم الله وهكذا. وأما تحديدها وطبيعتها فلا نعرفها؛ لأنها من الغيبيات. ولا يجوز التفكير فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. فخير للإنسان ألا يفكر في هذا الأمر فهو مضيعة للوقت، ومأثم أيضاً على الإنسان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر