أما بعد:
فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان يزول الإيمان بزواله.
وقد دل على الإيمان به الكتاب والسنة.
فأما الكتاب فقول الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
وأما من السنة فالأحاديث كثيرة، ومن أجمعها حديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان فقال: (فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وقد أفرد أهل العلم لموضوع القدر مصنفات مستقلة. ومن أقدم هذه المصنفات -المطبوعة الآن- كتاب القدر والأحاديث الواردة فيه، لـعبد الله بن وهب القرشي تلميذ الإمام مالك المشهور المتوفى سنة (197).
ويروى أن للإمام مالك رحمه الله تعالى كتاباً في القدر، ذكر ذلك القاضي عياض وذكره الذهبي رحمه الله تعالى. ويذكر بعض الباحثين: أن أغلب كتاب ابن وهب في القدر من رواية مالك . ولعله هو كتاب القدر وزاد عليه عبد الله بن وهب روايات أخرى.
وممن ألف في القدر مفرداً من السلف أبو بكر الفريابي رحمه الله المتوفى سنة (301هـ)، وكتابه اسمه القدر وهو مطبوع.
وألف أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسائل متعددة في القدر منها رسالة: أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وهي مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى. وأيضاً طبعت ضمن جامع الرسائل والمسائل التي طبعها الشيخ محمد رشيد رضا في مطبعة المنار.
ومن كتبه أيضاً: كتاب الاحتجاج بالقدر على المعاصي. وهو كتاب أيضاً مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل.
ومن كتبه أيضاً: قصيدة له تائية يرد فيها على أحد أهل الذمة الذين احتجوا بالقدر على كفرهم، فرد عليه بقصيدة تائية شرحها الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب مستقل وهو مطبوع أيضاً.
وأيضاً ممن أفرد موضوع القدر ابن القيم رحمه الله في كتاب سماه: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
وهناك كتب متعددة طبعت مؤخراً في القضاء والقدر. من أشهر هذه الكتب كتاب: القضاء والقدر للدكتور فاروق الدسوقي في ثلاثة مجلدات. وكتاب: القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود. والأخير من أفضل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع.
وقد طرح كثير من الناس سؤالاً وهو: هل المسلم مسير أم مخير؟ يعني: هل هو مسير بقضاء سابق يدفعه إلى العمل ولا يستطيع أن يتحرك برغبته، أم هو مخير ينتقي من الأعمال ما شاء ويترك ما شاء؟
وقد تخبط في الإجابة على هذا السؤال كثير من الباحثين. فبعضهم أجاب بأنه: مسير مطلقاً، وأراد بذلك تعظيم الله عز وجل، وإثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده لا شريك له. وبعضهم أجاب بالعكس وقال: إنه مخير مطلقاً. ودافعوا عما سموه بحرية الإرادة الإنسانية، وصنفوا المؤلفات فيها. وحاولوا أن يدفعوا فكرة أن هناك قدر سابق قدره الله سبحانه وتعالى على العباد.
والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإنسان مسير في أشياء ومخير في أشياء. فمن تسيير الله له أن خلقه في هذا الوقت مثلاً. فأنت مثلاً خلقك الله عز وجل في القرن الخامس عشر الهجري ولم يخلقك مثلاً في زمن إبراهيم أو نوح أو موسى أو عيسى أو محمد صلى الله عليه وسلم. فتحديد الوقت الذي خلقت فيه لم تخير فيه، وإنما أنت مسير فيه بتقدير الله عز وجل لك. ولهذا نفذ تقدير الله عز وجل فيك في هذا، وخلقت في هذا القرن.
وكذلك طولك وقصرك ولونك وأمك وأبوك ونحو ذلك أنت مسير فيها ولست مخيراً. فالإنسان لا يختار شكله ولا لونه ولا طوله قبل أن يولد، وإنما ولد على هذه الهيئة التي خلقه الله عز وجل عليها، ولم يكن له في ذلك تدبير ولا تخيير.
وهو مخير من جهة أخرى، فهو مخير في الأعمال والأقوال والإرادات التي يقوم بها. فهو مخير في فعل الصالحات أو المعاصي، وفي قول الحق أو الباطل، وفي الكفر أو الإيمان.
والحقيقة هي: أن هذا الموضوع ليس هو مدار النقاش. فليس خلاف الفرق وخلاف الناس في أن الإنسان مسير في طوله وقصره، فهذا الأمر يعرفونه بالضرورة.
والإنسان كما هو معلوم له فعل اضطراري وفعل اختياري.
فأما الفعل الاضطراري فهو الذي يحدث فيه من غير إرادته، كالطول والقصر واللون والشكل والوقت الذي ولد فيه وأبيه وأمه وأخوته ونحو ذلك، كسقوط الإنسان عندما يسقط من مكان مرتفع فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه مرة أخرى فكل هذه تسمى أفعالاً اضطرارية.
وأما الأفعال الاختيارية فهي التي خير فيها الإنسان، فقد خلق الله عز وجل له إرادة وقدرة ينتج عنها العمل الذي يعمله.
والقدر في اللغة هو: التقدير. والقضاء: الحكم. فالقضاء والقدر معناه: الحكم والتقدير. والفرق بينهما -كما يقول بعض الشراح- هو: أن القضاء يكون بعد وجود الإنسان، والقدر قبل وجوده. فما قدره الله عز وجل حسب علمه سبحانه وتعالى وقبل وجود الإنسان يسمى قدراً، وأما تنفيذ هذا القدر ووقوعه في حياة الإنسان بعد وجوده أو في حياة المخلوقات عموماً بعد وجودها فيسمى القضاء. فإذا اجتمعا كان لكل منهما معنى مستقل عن الآخر، وإذا افترقا كان كل منهما يدل على الآخر فالقضاء مفرداً يشمل القدر، والقدر مفرداً يشمل القضاء.
الشر لا يجوز لنا أن نضيفه إلى الله؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض دعائه قال: (والشر ليس إليك).
وطريق الجمع بين كون الشر ليس إلى الله عز وجل وبين وجوده في الواقع -مع أن هذا الوجود من خلق الله عز وجل- هو أن نقول: إن الشر ليس صفة لله وإنما أثر الصفة، وهو المخلوق الذي خلقه الله عز وجل. ولوجود هذا الشر حكمة ربانية وهي الابتلاء والامتحان والاختبار.
وقال آخرون: إن هذه الأمور ليست من خلق الله حتى يخرجوا من القضية؛ لأنهم لم يفهموا الحكمة من وجودها، قال غلاة الجبرية -وهم ابن عربي الطائي الصوفي المشهور ومن سار معه على عقيدته-: إن هذه المخلوقات هي من أفعال الله والله مقر لها. فلو أن الإنسان فعل الكفر أو المعاصي فليس عليه شيء؛ لأنها من مخلوقات الله، فنسبوها لله واحتجوا بالقدر، وجاءت هذه الطائفة الأخرى تعظم الله عز وجل فنفت القدر وقالت: هذه ليست من مخلوقات الله أبداً، وإنما من مخلوقات العباد، فأشركت في الربوبية؛ لأنه ليس هناك خالق إلا الله عز وجل.
والحقيقة هي: أن هذه من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، والله خلقها ونهى عنها.
فإن قيل: كيف يخلقها وينهى عنها؟ قلنا: خلقها للحكمة وهي الابتلاء؛ ليبتلي بها العباد. فقد خلقها الله عز وجل ونهى العباد عنها، فمن ترك نهي الله عز وجل وفعل هذه المحرمات فإنه يعاقب؛ لمخالفته لنهي الله سبحانه وتعالى، وخلق الطاعات وأمر بها، فمن ترك ما أمر الله عز وجل به عوقب.
فالحكمة من وجود هذه الأشياء المتضادة في الكون هو الابتلاء. وهذه قضية واضحة في القرآن الكريم، فإن الله عز وجل يعلل لخلق الإنسان بالابتلاء، كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
فكل هذه المخلوقات خلقها الله عز وجل للابتلاء والاختبار، فالعبد ليس مهملاً في هذه الدنيا وإنما مختبر. وقد جاءت أحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم تقرر أن هذه الدار دار ابتلاء، وأن الآخرة دار جزاء، ولأجل هذا لو أطاع الإنسان الله عز وجل في الآخرة فلا تنفعه الطاعة؛ لأن دار الابتلاء انتهت بالموت أو بالقيامة الكبرى التي تزيل معالم الدنيا بأكملها.
اختلف المصنفون في درجات الإيمان بالقدر، والحقيقة أن هذا الاختلاف اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، فهم يتفقون في المعنى لكنهم قد يختلفون في اللفظ. وشيخ الإسلام رحمه الله هنا جعلها درجتين، وجعل كل درجة درجتين. وبعضهم يفصلها ويجعلها أربع مراتب.
وهذه الأربع التي تمثل حقيقة القدر كلها تعود إلى صفات الله تعالى.
فالمرتبة الأولى: العلم.
والمرتبة الثانية: الكتابة.
والمرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة.
والمرتبة الرابعة: الخلق.
وكلها تعود إلى الله عز وجل وإلى صفاته. ولهذا يقول أهل العلم: القدر سر الله سبحانه وتعالى؛ ولأجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر بغير علم، وبين أنه يجب على المسلم أن يؤمن بقدر الله سبحانه وتعالى.
هذه المرتبة الأولى، وهي: إثبات علم الله سبحانه وتعالى الشامل العام لكل شيء.
وهذا بداية الإيمان بالقدر. وهي أن يعلم الإنسان ويوقن ويجزم بأن الله عز وجل علمه شامل وعام ليس كعلم المخلوق، فهو يعلم سبحانه وتعالى ما سيخلق إلى الأبد، ونحن لا نعلم مثلاً من الذين سيخلفوننا في هذه المدينة بعد قرن من الزمن؛ لأن علمنا محدود. والله عز وجل يعلمهم ويعلم ماذا يعملون وكيف يعملون على التفصيل الدقيق، فما تسقط من ورقة في ظلمات البر ولا حبة إلا يعلمها، وهي في كتاب عنده سبحانه وتعالى.
فلا يمكن أن يضل أحد في القدر إلا لنقص علمه بعلم الله سبحانه وتعالى. فعندما يكون علم الإنسان وتصوره ناقصاً عن علم الله وسعته وشموليته يضل في القدر. وإذا أدرك هذه الصفة وآمن بها على حقيقتها فإنه لا يضل أبداً. ولهذا يقول الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من علماء أهل السنة: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا - يعني: اعترفوا بصفة العلم - خصموا -يعني: غلبوا- وإن أنكروا - يعني: أنكروا صفة العلم - كفروا.
وهذه هي الدرجة الثانية، وهي: كتابة الله عز وجل لما علمه من مقادير الخلق في اللوح المحفوظ.
واللوح المحفوظ مخلوق من مخلوقات الله عز وجل العظيمة الكبيرة، وهو في السماء السابعة، كما ورد في أحاديث الإسراء، ولم يثبت في صفته حديث صحيح فيما أعلم.
واللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء على التفصيل؛ لأن اللفظ الوارد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ عام، فليس هناك شيء مما هو كائن من المخلوقات ومما يتعلق بأعمال بني آدم أو الجن أو الحيوانات أو بقية المخلوقات إلا وقد كتبه سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ.
قال المؤلف رحمه الله: (فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)].
وهذا الحديث صحيح رواه أبو داود في سننه، والترمذي أيضاً. وأورد ابن أبي عاصم في السنة جملة من الأحاديث بهذا المعنى، وصححها الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث فيه النص على الكتابة، فأول ما خلق الله القلم.
والقلم مخلوق من مخلوقات الله عز وجل.
قلنا: ورد في أحاديث أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جفت الأقلام ورفعت الصحف). وقال: (جفت الأقلام وطويت الصحف). وهذا يدل على أنها مجموعة أقلام. والوارد في النص هنا القلم، فيكون المقصود به الجنس، وأنها أقلام متعددة، كقوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1]، فالإنسان هنا ليس شخصاً محدداً وإنما المقصود به جنس الإنسان.
وفي الحديث: (قال: اكتب. قال: ما أكتب؟). وهذا يدل على أن القلم يتكلم: (قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).
فقوله: (ما هو كائن)، هذه اللفظة عامة تشمل كل شيء، حتى القرآن الكريم مكتوب في اللوح المحفوظ.
قلنا: ليس هناك إشكال في هذا. فقد كتبه الله في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة كتابة قديمة قبل خلق السماوات والأرض؛ لأن الله عز وجل كتب مقادير العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. ثم لما جاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به سبحانه وتعالى في كل وقت بما يناسبه.
والله عز وجل يتكلم متى شاء، وكيف شاء. ويتكلم بحرف وصوت، وليست أصواته كأصوات المخلوقين، ولا كلامه ككلام المخلوقين، بل هو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وهذه الآية دليل على المرتبتين، فإن قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]، فيها صفة العلم، والشمول فيها مأخوذ من قوله: مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]. وما هنا موصولة بمعنى: الذي، وهي من صيغ العموم.
فقوله: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]، يعني: يعلم كل ما في السماء والأرض.
فهذه هي المرتبة الأولى وهي مرتبة العلم.
ثم قال: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، وكتاب هنا جاء على وزن فعال. وفعال يأتي على وزن مفعول وعلى وزن فاعل في المعنى. فكتاب هنا جاء على وزن مفعول، مثل: إله يأتي على وزن مفعول، فنقول: مألوه يعني: معبود. فقوله: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، يعني: أن ذلك مكتوب في كتاب.
قال المؤلف رحمه الله: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]].
ونبرأها يعني: نخلقها. والباري هو الخالق سبحانه وتعالى إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
يعني: الكتابة التي كتبها الله سبحانه وتعالى على خلقه أنواع:
كتابة عامة، وهي الواردة في اللوح المحفوظ.
وكتابة خاصة بالعباد، وهي أنواع. فمنها: كتابة عمرية. ومعنى عمرية: أنه يكتب كل شيء في عمر الإنسان. وهذه الكتابة تكون عندما يخلق الإنسان في بطن أمه، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الحديث المشهور أنه قال: (حدثني الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك)، إلى أن قال: (ثم يرسل إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد).
وهذه الكتابة للملك؛ لأن الذي يؤمر بالكتابة هو الملك الموكل بالإنسان، فيكتب في صحيفته تقدير هذا الإنسان حتى يموت.
ومنها: كتابة حولية. وتكون في كل سنة، ويكون ذلك في ليلة القدر في رمضان. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]. قال المفسرون: المراد: يكتب تقدير السنة للإنسان.
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا في قوله: [ونحو ذلك]، وأثبت كتابة أخرى غير الكتابة في اللوح المحفوظ وجاء لها بمثال واحد، وأجمل الثاني.
فأما المثال الذي جاء به فهو التقدير العمري، وذكر حديث ابن مسعود أو بمعناه.
وأما الثاني؛ فإنه لم يصرح به، وإنما أشار إليه في قوله: [ونحو ذلك].
قال المؤلف رحمه الله: [فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل].
وقد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه وقالوا: (يا رسول الله! أنعمل في شيء مضى وانقضى أم في أمر مستقبل؟)، يعني: هل نعمل في شيء قد كتبه الله علينا سابقاً أو نعمل في شيء مستقبل؟ يعني: نحدثه نحن؟ (قال: بل في شيء مضى وانقضى، قالوا: ففيم العمل؟)، يعني: لماذا نعمل. (قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فنقول: ليس جبراً.
فإذا قيل: كيف لا يكون جبراً وقد كتبنا وانتهى الأمر؟!
فنقول: إننا إذا آمنا بعلم الله الشامل العام فحينئذ يزول عنا هذا الإشكال. فإن هذا الإشكال إنما يرد عندما نظن أن الله لا يعلم ماذا سنعمل. يعني: أننا تحدث لنا أحداثاً في مستقبل الأيام، وسنختار كيف نتعامل معها بإراداتنا وبشهواتنا وبقناعاتنا، وهذا الاختيار علمه الله عز وجل قبل أن نختاره؛ لأن علمه شامل لكل شيء.
وإذا كان علمه شاملاً لكل شيء فمعنى هذا أن اختيارنا علمه الله قبل أن نختاره فكتبه. وليس معنى كتابة الله له في اللوح المحفوظ أنه ألزم العباد بشيء لا يريدونه، وإنما كتب في اللوح المحفوظ ما علم أنه سيقع من العباد باختيارهم.
وما كتبه الله سيقع منا باختيارنا، فلو فرضنا أن الله كتب علينا شيئاً فإننا لا نستطيع أن نغير ما كتبه الله؛ لأننا أصلاً لا ندري ماذا كتب الله علينا؛ ولهذا قال العلماء: القدر سر الله عز وجل.
فهل تركك للصلاة أجبرك الله عليه؟ كلا، لم يجبرك عليه، وإنما كتب ذلك لأنه علم أنك ستتركها.
يتلخص من هذا: أن مدار موضوع القدر هو الإيمان بالعلم، فعندما يؤمن الإنسان أن الله عز وجل يعلم مستقبل الأمور وما سيختاره العبد فحينئذ تزول هذه الشبهة منه.
ونضرب لذلك بمثال محسوس: إذا كان عندنا كتاب فبإمكاننا أن نفتحه أو نتركه مغلقاً؛ لأننا مختارون، ولسنا ملزمين بشيء معين.
وبعد لحظات لا أحد يعلم هل سنفتحه أم لا، ولكن الله يعلم ذلك. فإذا لم نفتحه، وقبل أن نتكلم بهذا كان الله قد كتب سبحانه وتعالى: أننا سنقول: هل سنفتح الكتاب أو لا؟ ثم سنختار عدم فتحه ولم يجبرنا أحد على ذلك، وإنما كتبه الله؛ لأنه عليم بما سنفعل، وعلمه واسع شامل. فبهذه الصورة نفهم هذا الموضوع، وحينئذ فلن يحتج علينا المحتج بأنه مجبور على فعله، بل هو مختار كما بينا.
ويدل على إثبات صفة المشيئة آيات كثيرة جداً في القرآن. وهناك آيات خاصة بصفة المشيئة المتعلقة بفعل العبد، فمثلاً: يقول الله عز وجل: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].
ويقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118].
ويقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30].
فصفة المشيئة لله يجب أن يثبتها الإنسان -حتى يؤمن بالقدر- من خلال إيمانه أنه لا يمكن أن يحدث في كون الله عز وجل إلا ما شاءه الله عز وجل، حتى الكفر والمعاصي والذنوب، فجميع الأشياء لا يمكن أن تحصل إلا بمشيئة الله.
فبعضهم يظن أن كل ما خلقه الله من الأشياء القبيحة والحسنة قد شاءه سبحانه وتعالى، وما دام أنه شاءه فمعنى هذا أنه يقره ويبيحه. وهذا باطل.
قال: إن عندنا نصوصاً واضحة في القرآن والسنة تدل على أن الله عز وجل ينهى عن الكفر وعن المعاصي وعن الذنوب وعن القبائح وعن الظلم والزنا والفجور وشرب الخمور، ونحو ذلك وما دام أن هذه الآيات واضحة، وهي أوامر الله عز وجل فما يحدث في الكون ليس بمشيئة الله؛ لأنه إذا شاءه فمعنى هذا أنه يقره.
فأصل الشبهة فاسدة، لأنه لا يلزم من خلق الله لهذه الأشياء أن يقرها، وإنما خلقها للابتلاء والامتحان. فلا يمكن أن يوجد في الكون شيء لم يرده الله.
إرادة كونية. وإرادة شرعية.
فأما الإرادة الكونية فهي: إرادة الله عز وجل للموجودات. فلا يمكن أن يوجد شيء لم يرده الله أبداً؛ لأنه لا يكون في كونه إلا ما يريد، ولأنه ليس هناك إله آخر يخلق غير الله سبحانه وتعالى.
وأما الإرادة الشرعية فهي: ما أمر الله عز وجل به ونهى عنه.
والإرادة الكونية أوسع، وهي تشمل المخلوقات جميعاً؛ لأن هذه المخلوقات أرادها الله عز وجل وقدرها للابتلاء، ثم أمر ببعضها ونهى عن بعضها.
فالإرادة الشرعية هي ما أمر الله به، وأما ما نهى عنه فليس إرادة شرعية، وإنما هو إرادة كونية.
فموضوع الإرادة كالآتي:
هناك إرادة واسعة تشمل المخلوقات جميعاً، وكل المخلوقات الموجودة في الكون حسنها وقبيحها خيرها وشرها جميعاً أرادها الله كوناً؛ لأنه لا يمكن أن يوجد في كون الله شيء لا يريده.
ثم هذه المرادات والمخلوقات جميعاً منها ما أمر الله به كالصلاة والصيام والحج والزكاة وبر الوالدين ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، فهذه هي الإرادة الشرعية، ومنها ما نهى عنه فهذه تشملها الإرادة الكونية.
فقول المؤلف: [ولا يكون في ملكه إلا ما يريد]، يعني: لا يمكن أن يحصل في ملك الله شيء لا يريده، والمقصود بالإرادة هنا الإرادة الكونية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين. ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد].
فالله عز وجل هو الخالق لكل شيء، وأفعالنا خلقها الله، الصالح منها وغير الصالح. والعبد لا يمكن أن يخلق فعل نفسه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم. والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم. وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]].
فالعباد لهم إرادة حقيقة وهم مسئولون عن أفعالهم، ولهذا يقول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. فنسب العمل إلى العبد. والآيات التي تدل على أن العمل منسوب إلى العبد وأنه مؤاخذ به كثيرة جداً، ومنها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277].
وهكذا بقية الأعمال منسوبة إلى العبد حقيقة. فالعمل فعله العبد، وخلقه الله في نفس الوقت. وهذه نقطة حساسة ينبغي الانتباه لها، وهي: أن بعض الناس يظن أنه إذا كان الله عز وجل خلق فعل العبد فمعنى هذا أن العبد مجبور؛ لأن فعله مخلوق. ونحن نقول: الله عز وجل خلق فعل العبد، وهو ليس بمجبور، فالعمل يتكون من القدرة على العمل ومن الإرادة له. فإذا وجدت القدرة التامة والإرادة الجازمة نتج العمل مباشرة. فالله خلق قدرة العبد وإرادته، فنتج عنهما العمل، فيكون العمل مخلوقاً لله عز وجل.
فنقول: ينسب للعبد على أن العبد سبب في وجوده، كما في قاعدة حدوث الأسباب فمثلاً: إذا أراد الله خلق النبات فإنه ينزل المطر من السماء فيقابل تربة متهيئة فينبت النبات فهذا النبات نبت بسبب المطر، وليس المطر هو الذي خلق النبات، وإنما خلقه الله وإنما يقال: إن المطر سبب وجود النبات؛ لأن الله جعله سبباً.
وهكذا فعل العبد، فقدرته مخلوقة خلقها الله عز وجل، وهذه القدرة تنتج عنها مقدورها، وهو العمل من الصلاة والصيام والشر والخير وشرب الخمر والزنا، وغيرها من الأعمال، فهذه الأعمال تنسب للعبد مع أن القدرة مخلوقة لله.
والله هو الذي خلق القدرة وجعل من صفاتها: أنها سبب في إنتاج العمل، وقد تكون سبباً في عدم وجوده إذا عطلها الإنسان.
فقدرة العبد مخلوقة لله عز وجل، وهي سبب في إنشاء مقدورها، وليست مستقلة في وجود العمل عن الله، وهي ليست مثل العلم الاضطراري، كرعشة المرتعش، أو سقوط الساقط وإنما تختار الأنواع المتقابلة، يعني: أن العبد يجد بين يديه أنواعاً، فيأخذ هذا باختياره ويترك هذا باختياره. وهذا الاختيار ليس مستقلاً عن الله، بل الله عز وجل خالقه سبحانه وتعالى.
وما دام أن الله خالقه فلا ينسب إلى العبد إلا على أنه سبب في وجوده، وهذا السبب اختياري يشعر به الإنسان في نفسه، كما أن المطر سبب اضطراري في وجود الزرع.
وهذه الأسباب يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
أسباب اختيارية، مثل فعل العبد.
وأسباب اضطرارية تنتج مقدورها من غير إرادة، كالمطر وغيره من الأسباب الأخرى.
فالعبد مسئول عن فعله وسيحاسب عليه يوم القيامة، وليس مجبوراً عليه. وهذا يدل عليه القرآن والسنة والإجماع والحس. فمثلاً: أنت تشعر أنك لست مجبوراً، فإذاً: أنت مسئول عن عملك وستحاسب عليه يوم القيامة حقيقة، ولست مظلوماً في ذلك؛ لأنك مختار، وليس عندك إشكال فيه.
وهذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد في السنن، واختلف فيه العلماء صحة وضعفاً، وبعضهم يرى أنه موقوف وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره. ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها].
والمسائل المتعلقة بالقدر في هذا الحديث هي: أولاً: إثبات الكتابة العمرية التي في صحف الملائكة. فالملائكة تكتب ما قدره الله عز وجل على العبد في عمره، ثم تتابع هذه الأقدار؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق هؤلاء الملائكة يتابعون تنفيذ أقداره سبحانه وتعالى في العباد.
والمسألة الثانية هي: مسألة سبق الكتاب. ومعنى سبق الكتاب: أن العبد يعمل في بداية عمره بعمل أهل الجنة أو أهل النار ثم في آخر عمره يختار غير ما بدأه في بداية عمره. فمثلاً: في بداية عمره يكون الظاهر أنه سيكون من أهل الجنة، ولكن الله عز وجل علم أنه في آخر عمره سيختار مثلاً طريق أهل النار فكتبه عليه، فعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (يسبق عليه الكتاب).
ولهذا يقول شراح الحديث -مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله-: هذا الحديث يدل على التحذير من سوء الخاتمة. وبعض العلماء يوجه قوله: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، توجيهاً آخر فيقول: إنه ورد في بعض الروايات أنه قال: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس)، ففهم بعض أهل العلم من قوله: (فيما يبدو للناس)، يعني: أن هذا الرجل الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو المنافق الذي يظهر غير ما يبطن ثم ينكشف في آخر أمره ويموت على الكفر.
وهذا التوجيه ذكره الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم في شرحه لهذا الحديث، إلا أن التوجيه الأول أقوى؛ لأن قوله: (فيما يبدو للناس)، لا يعارض التوجيه الأول؛ لأنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس أنه سيموت عليه، ولكنه سيختار في آخر عمره عمل أهل النار، وهذا ما كتبه الله بحسب علمه الشامل، فيختار طريق أهل النار فيموت عليها. ولهذا يعتبرون هذا الحديث من أحاديث الوعيد في سوء الخاتمة.
وهذا يؤكد الحديث السابق من كتابة الملك ما علمه الله عز وجل من فعل العبد.
ويبدو أن البخاري رحمه الله يفسر قوله: عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] يعني: على علم منا. لأن بعض الناس يفهم من هذه الآية: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23]، يعني: أنه كان عالماً وضل. ولكن يبدو من سياق البخاري رحمه الله أن قوله: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23]، يعني: أن الله عز وجل أضل هذا العبد؛ لأنه علم أنه سيختار الضلال.
وقال أبو هريرة : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (جف القلم بما أنت لاقٍ).
قال ابن عباس في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، سبقت لهم السعادة. يعني: عند الله سبحانه وتعالى بحسب علمه سبحانه وتعالى. وما جاء عن أبي هريرة وابن عباس من المعلقات.
ولكن الحديث المسند هو عن عمران بن حصين قال: (قال رجل: يا رسول الله! أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلقه أو لما ييسر له). -أسأل الله عز وجل أن ييسرنا لليسرى- وهذا الحديث واضح أن أهل الجنة معروفون من أهل النار، وفيه الرد على القدرية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
وعن أبي هريرة قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
فما يحصل من المصائب ومن طلب الإنسان لرزقه كله مكتوب، ولا يعني هذا أن الإنسان لا يفعل السبب، بل يفعل الأسباب ولكن لا يتعلق قلبه بها، فلا يتعلق قلبه بالمال ولا بالدنيا، ولا بالزوجة، ولا بالأبناء، ولا بمتاع الدنيا. وبعض الناس يعصي ربه من أجل الأسباب الدنيوية، فمثلاً: إذا كان عنده وظيفة فقد يعصي الله عز وجل من أجل البقاء في هذه الوظيفة، أو إذا كان عنده مال فقد يعصي الله ويأكل الربا من أجل هذا المال، أو إذا كان عنده زوجة بغي خائنة - والعياذ بالله - فيمسكها لأنها جميلة، وهكذا. فبعض الناس يعتمدون على الأسباب وينسون تقدير الله عز وجل.
وورد في روايات أخرى للحديث: أن هذا الابن لابنته زينب ، وأنه لم يمت. (أنه جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه بيده وأخذت نفسه تقعقع، فبكى صلى الله عليه وسلم، فقال
وهذا الحديث ساقه البخاري رحمه الله في باب: العمل بالخواتيم.
وهذا الحديث حديث طويل، وتشعب العلماء في شرحه على مناهج مختلفة. وأصح ما قيل فيه هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث في مجموع الفتاوى، قال: إن موسى عليه السلام لم يلم آدم على المعصية وهي الأكل من الشجر، وإنما لامه على نتيجة المعصية وهي الخروج من الجنة. فيقول: خيبتنا، يعني: أخرجتنا من الجنة. والخيبة هي تكون بالنتيجة وليست بالمعصية؛ لأن موسى عليه السلام نبي مكلم، ولا يمكن أن يلومه على المعصية وقد تاب منها، وإنما لامه على المصيبة الناتجة عن المعصية وهي الخروج من الجنة.
فاحتج آدم بالقدر على المصيبة ولم يحتج بها على المعصية.
ويذكر العلماء قاعدة في موضوع الاحتجاج بالقدر، وهي: الاحتجاج بالقدر يجوز على المصائب دون المعائب. يعني: لو حصل لك حادث مثلاً، وانقطعت يدك ومات معك مجموعة من الناس، فلو جاءك إنسان ولامك وقال: يا أخي كيف انقطعت يدك؟ فتحتج له بالقدر وأن هذا أمر كتبه الله عليك. ولكن لا يحتج بالقدر على المعائب، كأن يفعل الإنسان معصية ويقول: قدرها الله علي. وإذا كانت المعصية بعد التوبة منها فتعتبر من المصائب. وقد ذكر ابن القيم في شفاء العليل قولاً آخر في توجيه هذا الحديث وهو: أن موسى عليه السلام لام آدم على معصيته بعد أن تاب منها، فاحتج آدم عليه بأن التوبة من المعصية تجبها، وأن فعل المعصية مع أنه تاب منها أصبحت مصيبة في حقه، وليست معصية يريد أن يفعلها. ولهذا يقول العلماء: إن الاحتجاج بالقدر على المصائب مباح، والاحتجاج بالقدر على المعائب والمعاصي مذموم.
فالإنسان لا يجوز له أن يفعل المعصية ويقول: قدرها الله علي. فإذا فعل ذلك فقد ارتكب عدة أخطاء:
الخطأ الأول: أنه ادعى ما لم يعلم وكذب على الله عز وجل.
والأمر الثاني: أنه احتج بركن من أركان الإيمان في غير موطنه وموضعه.
وشرح هذا الحديث يمكن مراجعته في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ويمكن مراجعة شرح كتاب القدر في فتح الباري، وإن كان لـابن حجر فيه اختيارات قد يكون مخالفاً للسنة في بعضها.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح إنه على كل شيء قدير.
الجواب: هي كما قالت عن نفسها -والعياذ بالله- حتى تتوب.
الجواب: الهم والحزن لضيق الرزق إذا كان مجرد هم نفسي كأن يكون الإنسان يتعب نفسياً من ضيق الرزق، وإذا تعب نفسياً أصابه هم وحزن، فإن ترتب على هذا الهم والحزن مثلاً بحث عن الرزق بأي أسلوب ولو كان محرماً فهذا يدل على عدم الإيمان بالقدر. وكذلك إذا جزع مثلاً من ضيق الرزق فهذا يدل على عدم الإيمان.
وأما مجرد المضايقة النفسية العادية التي تحصل للبشر فلا يكون الإنسان محاسباً عليها، إلا إذا تجاوزت حدودها. وبعض الناس قد تصيبه الأمراض النفسية، وهذا يدل على ضعف إيمانه بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان.
الجواب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن الحديث في القدر ليس نهياً عن الحديث الصحيح فيه، وإنما نهاهم عندما وجدهم يضربون كتاب الله بعضه ببعض، فهذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية، فغضب؛ لأنه رآهم يبحثون في القدر بغير المنهج الشرعي، فغضب عليهم ونهاهم عن هذا النوع من البحث فانتهوا، وإلا فإن أحاديث القدر كثيرة. هذا أولاً.
وثانياً: الحديث عن القدر يزيد في الإيمان؛ لأنه ركن من أركان الإيمان، ولا يمكن أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث في ركن من أركان الإيمان.
فالمقصود بالنهي هو النهي عن الكلام الباطل والمنهج المنحرف في الحديث في هذا الموضوع.
الجواب: لا أظن أن مثل هذا يثبت عن عمر ؛ لأن هذا من الاعتداء في الدعاء. والدعاء الصحيح هو: اللهم اكتبني سعيداً.
الجواب: الله عز وجل خلق الإرادة للعبد، والإرادة من حيث هي إرادة ليست فاسدة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة كما في الحديث. فهو أول ما يولد لا تكون الإرادة عنده فاسدة. وإنما هو يرغب في الشر أو في الخير بإرادته، فليست الإرادة فاسدة إلا عندما يفسدها هو برغبته، أو يفسدها غيره فيطيعه، كأن يفسدها أبوه فيطيعه، أو يفسدها صديقه فيطيعه. وإلا فإن الإنسان مختار، والاختيار فيه ظاهر. وبهذا نجمع بين الإيمان بعلم الله السابق وكتابته للأقدار وبين اختيار الإنسان وأنه ليس مكرهاً.
الجواب: القرآن تكلم الله عز وجل به فسمعه منه جبريل فبلغه للرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل له كلام الله عز وجل.
الجواب: إنما الحلم بالتحلم والصبر بالتصبر، والإنسان يحاول ويجتهد أن يصبر نفسه ويدربها على الصبر، ويعلم أن جزعه هذا لا يفيد، وإنما يضر نفسه ولا ينفعها، وحينئذ يشعر بالراحة.
الجواب: الله أعلم بالحكمة. وليس كل خبر أخبر به الله عز وجل لا بد أن نعرف حكمته. وهو له حكمة قطعاً لكن قد لا نعلمها، وعدم العلم بالشيء لا يعني عدم وجوده. وليس هناك نص معين في الحكمة من ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر