إن المراد بمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم هو ما اتفقوا عليه من العقائد والأعمال والإرادات، وأما أقوال السلف كأفراد فليست معصومة، بل هي كغيرها من أقوال البشر يعتريها الخطأ والصواب، والمراد بالعصمة هي ما أجمعوا عليه واتفقوا عليه من العقائد والإرادات والأقوال والأعمال، فكل ذلك معصوم.
ومن هنا فإن الذين يستهترون بأقوال السلف ولا يلقون لها بالاً، ويخالفون إجماعات السلف رضوان الله عليهم فإنهم مخالفون لأمر معصوم ومتفق عليه، فهم من أهل البدع والضلالة والانحراف.
إذا نظرنا إلى كثير من الكتابات التي تكتب في الصحف اليوم مثلاً، أو في بعض الكتب، خصوصاً من العصرانيين الذين تأثروا تأثراً كبيراً بالحضارة الغربية نجد أنهم لا يوقرون كتب السلف ولا أعلام السلف، ولا يحترمونهم أو يقدرونهم، وإنما ينتقدونهم انتقاداً لاذعاً سيئاً؛ بحجة أن هذا الإنسان الناقد رجل والمنقود رجل أيضاً.
وصحيح أن الناقد رجل والمنقود رجل، ولكن الرجال ليسوا على مرتبة واحدة ولا على منزلة واحدة، بل هم متفاوتون كالتفاوت الموجود بين الثرى والثريا، ولهذا ينبغي للإنسان أن يعظم السلف رضوان الله عليهم، ويعرف لهم قدرهم ومكانتهم.
وأصل منهج السلف مأخوذ من القرآن والسنة، والسنة معصومة، ولا إشكال في كونها معصومة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إجماع هذه الأمة لا يحصل على ضلالة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى من اتباع غير سبيل المؤمنين، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
[بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن، وهو جواب عظيم النفع جداً، فقال السائل:
ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار)، إلى غير ذلك من الأحاديث، وما قالت العلماء، وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى؟].
ويظهر من خلال قراءتنا للسؤال الموضوع الذي سيتحدث عنه الشيخ في هذا الكتاب، وهو موضوع آيات وأحاديث الصفات خاصة، وهناك موضوعات عقدية أخرى متعددة، كموضوع القدر، وموضوع الإيمان، وموضوع مصدر التلقي، وغيرها من الموضوعات كما هو المعروف من عادة شيخ الإسلام رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله: [الحمد لله رب العالمين. قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]].
والطريقة التي بدأ بها الشيخ رحمه الله هي: تأصيل هذا الموضوع. وهكذا ينبغي أن يكون كل طالب علم عندما يريد أن يبدأ في تقرير قضية اعتقادية، أن يرجع إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، ومناهجهم ومذهبهم في هذا الأمر.
وأما المتأخرون فإنهم لا يرجعون إلى مذاهب الصحابة، بل يؤسسون العقائد على غير طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريفه للمتكلمين: هم الذين يتحدثون في الدين بغير طريق المرسلين، فيخترعون العقائد، ويخترعون الأدلة لهذه العقائد اختراعاً. ونحن ملزمون باتباع منهاج السلف في المسائل وفي الأدلة أيضاً.
وقول المؤلف: (فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق)، الهدى: العلم النافع. ودين الحق: العمل الصالح، الذي لا يحصل إلا بالإخلاص والاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته؛ محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه].
فاستدل على امتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الحق في مسائل الأسماء والصفات بما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه صلى الله عليه وسلم من أنه بعثه الله بالهدى ودين الحق، وأن هذا القرآن الذي جاء به نور وهدى وشفاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على توضيح الحق، وكان من أكثر الناس قدرة على البيان والتبيين والتوضيح والفصاحة.
وكل هذه المقومات يستحيل معها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أغفل أو سكت أو نسي أو أهمل باب توحيد الأسماء والصفات، فإن مقتضى كون هذا القرآن الكريم بياناً وشفاء وهدى وذكرى وروحاً ونوراً، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فلما كان القرآن بهذه الصفة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وأحرصهم على نجاة أمته، وأكثر الناس بذلاً وجهداً وجهاداً لإصلاح أمته، فهذه المقومات مجتمعة لا يمكن معها بأي حال من الأحوال أن يكون رسول الله قد سكت عن باب الإيمان بأسماء الله الحسنى وبصفاته العلى؛ لأن حاجة الإنسان إلى توحيد الله في أسمائه وفي صفاته أعلى، وإذا كانت أعلى حاجة فإن من ضروريات البيان والفصاحة والهدى الذي هو وصف للقرآن، ومن ضروريات والشفاء أن يكون قد وضح ذلك توضيحاً كافياً وبيناً، فلسنا بحاجة إذاً إلى منهج غير القرآن الكريم في الاستدلال على أسماء الله وصفاته، وعلى ما أخبر به سبحانه وتعالى.
هذا برهان قوي عقلي متقن بشكل كبير، وهذا البرهان العقلي المتقن المنظم بهذا الأسلوب ينتج عنه استحالة أن يكون القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينا الأسماء الحسنى والصفات العلى.
قال المؤلف رحمه الله: [فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!].
وهذا واضح وبين.
وكل فقرة من هذه الفقرات عليها دليل من القرآن والسنة، فقوله: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير)، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46].
وقوله: (الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور)، عليه أيضاً دليل من القرآن. وقوله: (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) مقطع من آية.
وقوله: (وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة)، أخذه من قوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء:59]، وقوله سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، إلى آخر الآية، وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، إلى آخر ما يدل على وجوب طاعة الرسول.
وقوله: (وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة)، مأخوذ من قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، إلى آخر الآية.
وقوله: (وقد أخبر الله أنه أكمل له ولأمته دينهم)، مأخوذ من قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]. ففقرات هذا الدليل، كل فقرة منها يدل عليها دليل من القرآن أو دليل من السنة.
والواجب لله من الأسماء والصفات الكمال المطلق له سبحانه وتعالى، وكل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه واجبة لله عز وجل، وما يجوز عليه هي صفات الأفعال، فإن صفات الأفعال يجوز أن يفعلها ويجوز ألا يفعلها.
وأما قوله: (وما يمتنع عليه)، فهي صفات النقص جميعاً، كالنوم والسنة وكل فقرة من هذه الفقرات فصلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أماكن أخرى فمثلاً: قوله: (ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى)، فصلها ابن تيمية رحمه الله في رسالة مطبوعة ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله، وهي رسالة الأكملية، وبين فيها ما يجب لله تعالى.
وأما قوله: (وما يجوز عليه)، وهو باب أفعال الله سبحانه وتعالى، فقد تحدث عنها ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثاني من درء تعارض العقل والنقل حديثاً طويلاً مفصلاً، وتحدث عنها في رسالة طبعت ضمن مجموع الرسائل التي أخرجها الدكتور محمد رشاد سالم بعنوان: (رسالة في الصفات الاختيارية).
وقوله: (ما يجوز عليه وما يمتنع عليه)، تحدث عنها ضمن بعض القواعد في رسالة التدمرية، فإنه تحدث عن صفات النقص التي تنسب لله سبحانه وتعالى، ونقدها وفصل القول فيها رحمه الله تعالى.
فتم الدليل الأول على استحالة إهمال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإهمال القرآن، وإهمال الصحابة لباب الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن المحال أيضاً أن يكون النبي قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة].
وهذا يشير فيه إلى ما رواه الإمام مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له: (قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو بعظم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما ترك أمراً من الأمور إلا دلّ أمته عليه حتى الأمور البسيطة، مثل موضوع الذهاب إلى قضاء الحاجة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)].
وهذا الحديث رواه بهذا اللفظ الإمام ابن ماجة رحمه الله في سننه من حديث العرباض بن سارية ، في الحديث المشهور الذي قال فيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا) وفي بعض الألفاظ: فأوصنا. فذكر هذا الحديث. وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)].
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهذا الحديث فيه بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عز وجل عنه كان حريصاً على أمته، قال تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
قال المؤلف رحمه الله: [وقال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: (لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)].
وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد فيه نظر، ورواه الطبراني ، وقال الهيثمي رحمه الله: إن رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، وهو ثقة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (قام فينا رسول الله مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه). رواه البخاري ].
ورواه أيضاً مسلم في صحيحه.
قال المؤلف رحمه الله: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟! إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه].
وهذا برهان من البراهين التي تدل على أن القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم قد وضحوا باب الأسماء والصفات توضيحاً كافياً شافياً بيناً، بحيث لا يمكن أن يكون مع هذا البيان إشكال على الناس. وهذا الدليل يسمى قياس الأولى.
وشيخ الإسلام رحمه الله نقل هنا من الأحاديث والآثار ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أموراً صغيرة ودقيقة وعادية، في صلاح الإنسان وفلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه، فمن المحال أن يبين لهم هذه الأمور الصغيرة ويهمل تلك الأمور الكبيرة.
وهذا دليل عقلي يقيني، لا شك فيه؛ فإنه يستحيل أن يوضح لهم الصغيرة ويهمل الكبيرة إلا إذا قدح أحد في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه غير مستقيم العقل مثلاً، ففي هذه الحالة نبطل قوله بأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، ونثبت صحة رسالته بدلائل النبوة المعروفة المفصلة.
وهذا الدليل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله دليل قياس الأولى، وهو: أنه بين الأمور الصغيرة فبيانه للأمور الكبيرة من باب أولى.
وبمثل هذا يمكن أن نرد على العلمانيين الذي يقولون: إن هذا الدين لا دخل له في السياسية.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أصحابه آداب قضاء الحاجة، وقال أبو ذر : (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، فكيف يوضح الرسول صلى الله عليه وسلم دقائق الأمور للصحابة، مثل آداب قضاء الحاجة، وآداب النوم، وآداب الاستئذان، ونحو ذلك، ويهمل قضايا الأمة العامة الأساسية المهمة، مثل قضية سياسة الناس وتطبيق أحكام الله عز وجل؟! هذا لا يمكن أبداً.
فهذا نوع من أنواع الأدلة التي يمكن أن يستدل بها في الرد على العلمانيين الذين يقولون: إن الشرع أهمل قضية سياسة الناس. وفيه الرد أيضاً على المتكلمين الذين يقولون: إنه لا يوجد في القرآن ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة بما يغني ويفي ويكفي في موضوع الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه. أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر].
يقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم لابد أن يكونوا قد تحدثوا في مسائل الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى حديثاً كافياً؛ لأن من لم يتكلم في هذا الموضوع ويوضحه توضيحاً تاماً فله حالتان: إما أن يكون سكت لأنه ليس عنده علم بالحق، فلم يتكلم فيه، وإما أن يكون قال بالباطل ونقيض الحق.
فرد الأول، وقال: لا يمكن أن تكون الحالة الأولى موجودة عند الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن أي إنسان عنده محبة لطلب العلم، ونهمة في العبادة لابد أن يسأل عما يتعلق بصفات الله وأسمائه وأفعاله. وأي إنسان عادي عنده محبة لطلب العلم فإنه عندما يدخل في هذا الدين مباشرة يسأل عن إله هذا الدين وعن صفاته وعن أفعاله وعن عبادته، فمن المستحيل أن يكون الصحابة الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله وقتلوا وجاهدوا في سبيل الله جاهلين بالله وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
وقوله رحمه الله: (أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته)، هذا استدراك؛ لأن بعض الناس قد يفهم من قوله: (أنه يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده)، أن من أكبر المقاصد البحث عن كيفية صفات الله عز وجل، فاستدرك على هذا الفهم الذي قد يطرأ على قارئ كلامه، فقال: أعني: ما ينبغي اعتقاده من الحق، وتصور الحق في هذه المسألة، وليس المقصود معرفة الكيفية؛ فإن معرفة الكيفية غير مدركة للإنسان.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم، هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع من أولئك؟!
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم].
فقوله: (وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق)، أي: هذا فيه تضليل للصحابة وتجهيل لهم، وهذا الاعتقاد لا شك أنه اعتقاد باطل، وقائله ضال منحرف، والكلام عليه كالكلام على الشيعة في سبهم للصحابة رضوان الله عليهم.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه].
أي: أن كلام الصحابة رضوان الله عليهم في موضوع صفات الله عز وجل كلام كثير واسع، ومنه ما نقل وانتشر حتى وصل إلينا، ومنه ما لم ينقل، فمثلاً: كتب التفسير مليئة بنقل أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير آيات الصفات، وكذلك الذي يرجع إلى كتب السلف رضوان الله عليهم في أصول الاعتقاد مثل: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والسنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد ، والشريعة للآجري ، وأصول السنة لـابن أبي زمنين ، وغيرها من الكتب التي ألفت في العقيدة سيجد أقوالاً كثيرة للصحابة رضوان الله عليهم في موضوع صفات الله سبحانه وتعالى.
فمنهج السلف معصوم يقيني، وأصل يقينية منهجهم وعصمته مأخوذة من أصل يقينية مصدرهم وهو الوحي.
وما يشغب به المنحرفون المجترئون على السلف الصالح رضوان الله عليهم هو ضلال وانحراف في حقيقته، وليس هو فكرة موضوعية مدروسة دراسة كافية، ولأجل هذا كان كثير ممن يتحدث عن الحرية الفكرية يريد أن يدخل من هذه الكلمة الفضفاضة العامة للطعن في السلف رضوان الله عليهم، وفي رجالهم وأئمتهم رضوان الله عليهم.
ولا نقول: إن أحداً من أفراد السلف لا يقع في الخطأ، فهم بشر يقعون في الخطأ، ولكن مجموعهم لا يمكن أن يتفقوا على الوقوع في الخطأ، فلو أخطأ واحد منهم في قرن فسيرد عليه آخر في قرن آخر، أو في بلد آخر، فلا يمكن أن يتفقوا على خطأ يعمهم ويتفقون عليه.
فالمعصوم هو منهجهم، وليس أفرادهم. وهذه القضية يقع فيها نوعان من الناس في الخطأ، نوع لا يقر بعصمة منهج السلف بالمرة، فيخالف عقائده الأساسية، وإذا احتج عليه أحد بقول السلف في ذلك أعرض عنه، وقال: هذا كلام رجال لا ينبغي أن تستدل به، وليس استدلالك بصحيح، ولا يوقرهم ولا يقدرهم.
ونوع آخر يقع في خطأ مضاد، وهو: أنه يستدل على الناس بأقوال آحاد السلف، وهذا لا شك أنه غير ملزم؛ لأنها اجتهادات يجتهدونها، وقد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة، والعبرة هي بإجماعهم.
ثم أشار الشيخ إلى قضية مهمة جداً، وهي بطلان نسبة التفويض إلى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد أشار إليها الشيخ رحمه الله ضمن الاستدلال على يقينية منهج السلف وأنه معصوم، وأن الصحابة رضوان الله عليهم تحدثوا في العقائد حديثاً مستفيضاً وواضحاً وبيناً ولا إشكال فيه، وفي ضمن ذلك أشار إلى مقالة بعض المتكلمين الذين نسبوا إلى منهج السلف التفويض.
ومذهب التفويض معناه وحقيقته هو: أن نصوص الصفات الواردة في القرآن وفي السنة ليست على ظاهرها، وإنما لها معان أخرى تخالف الظاهر، فهم يعتقدون أن ظاهر نصوص الصفات الواردة في القرآن وفي السنة التشبيه، فيقولون: إن هذه النصوص ليست على ظاهرها، وإنما لها معانٍ أخرى غير هذه المعاني، ثم قالوا: إن هذه المعاني الأخرى مجهولة بالنسبة لنا ولا نعرفها ولا نستطيع أن نعرفها.
وقال المفوضة: إن الإنسان لا يستطيع أن يتفهم نصوص الصفات، وليس هناك فرق في المعنى بين قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، يقولون: لا نفهم من الأول معنى كما لا نفهم من الثاني معنى.
وقول المفوضة هذا مبني على أصول:
الأصل الأول: هو أن نصوص الصفات ليست على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يقتضي التشبيه والتمثيل.
والأصل الثاني: هو أنهم قالوا: إن نصوص الصفات لا يمكن للإنسان أن يتدبرها وأن يتفهمها؛ لأنه لا فرق بين هذه الآية وتلك الآية؛ لأن الجميع لا نفهمه ولا نعرفه، ثم قالوا: بأن هذا هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وإذا أردنا أن نلخص مذهب التفويض ونضم مسائله بعضها إلى بعض، فإنه يتلخص في أمرين:
الأمر الأول: إنكار الصفات.
والأمر الثاني: عدم تحديد معنىً لنصوص الصفات.
فالذين أنكروا الصفات، قالوا: هذه ليست على ظاهرها قطعاً، فقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لم يستو. وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، ليس لله يدان على حقيقتها. وقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، ليس لله ساق على حقيقتها، وهكذا بقية النصوص الشرعية. فهم ينفون الصفات التي تضمنتها هذه النصوص.
ثم إذا سألت: ما هو المعنى إذاً؟ فلا يعطونك معنى محدداً وإنما يقولون: نفوض ذلك إلى الله عز وجل، يعني: نرد هذا إلى الله، ولا نستطيع أن نفهم لها معنى، هذا هو حقيقة مذهب التفويض.
وقد نشأ مذهب التفويض عندما وقعت الخصومة بين أهل السنة والمعتزلة، فإنه عندما ظهر المعتزلة وأولوا أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى، وقالوا بخلق القرآن، ثم تبنى المأمون القول بخلق القرآن وفتن العلماء، وسجن من سجن منهم، وقتل من قتل منهم، وشرد من شرد منهم، وثبت الإمام أحمد ونصره الله سبحانه وتعالى، كان الناس في تلك الفترة في موضوع صفات الله عز وجل على رأيين: رأي النفاة، ويمثله المعتزلة، ورأي المثبتين، ويمثله أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
وفي هذه الأثناء ظهرت طائفة ثالثة وهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب .
فـعبد الله بن سعيد بن كلاب ظهر بمقالة ثالثة وهي: أنه أثبت بعض صفات الله ونفى بعضها، فأثبت بعض الصفات الخبرية الواردة في القرآن، ونفى الصفات الاختيارية.
ولما ظهر عبد الله بن سعيد بن كلاب انتسب إلى الإمام أحمد وإلى المعارضة التي كانت ضد المعتزلة، وكانت المعارضة ضد المعتزلة في بداية الأمر يمثلها الإمام أحمد وجمهور أهل السنة.
ولما ظهر عبد الله بن سعيد بن كلاب ظهر في مناقشته للمعتزلة بمنهج غريب عن منهج السلف الصالح، وهذا المنهج الغريب هو: الاستدلال على مسائل الاعتقاد بالعقل المجرد، وأقر للمعتزلة بكثير من المقدمات العقلية التي قالوا بها، ومن أعظمها وأشهرها: الاستدلال على وجود الله عز وجل بدليل حدوث العالم، وأن العالم مركب من جواهر وأعراض، وأن الدليل على أن هذا العالم محدث هو الحدوث، الذي هو حصول الشيء بعد أن لم يكن، فالتزم أن الشيء إذا حصل بعد أن لم يكن أن هذا يسمى حدوثاً، وإذا كان هذا حدوثاً فهو دليل على أنه مُحدث والإله قديم، ولا يمكن أن يكون محدثاً، فالتزم بناء على ذلك أن الأفعال الاختيارية التي يفعلها الله عز وجل متى شاء من هذا القبيل، وأن الله عز وجل قديم بذاته وصفاته، وليس هناك حدوث في صفات الله عز وجل.
فلما رأى أن النصوص الشرعية تتضمن إثبات أفعال لله عز وجل، وأنها حدثت بعد أن لم تكن موجودة من قبل قال: إذاً هذا يلزمنا أن نبطل دليل حدوث العالم الذي هو دليل وجود الله عز وجل، ولا يمكن أن نبطله؛ لأن في إبطاله إبطالاً لأصل وجود الله عز وجل، وبناءً على هذا قال: لابد من تأويل النصوص الواردة في إثبات أفعال الله عز وجل، فعندما يقرأ مثلاً: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، يكون معناها: أنه لم يكن مستوياً ثم استوى؛ لأن (ثم) تقتضي الترتيب، فمعنى هذا أن الاستواء حدث بعد أن لم يكن موجوداً، وهذا دليل الحدوث، والله عز وجل قديم، فأول الاستواء وقال: إنه بمعنى استولى، فالتزم بتأويلات المعتزلة في موضوع الصفات الاختيارية.
والمذهب الحق في هذه المسألة هو مذهب أهل السنة، فإن أهل السنة قالوا: إن دليل المعتزلة في إثبات وجود الله دليل فاسد باطل، ونحن لسنا محتاجين في إثبات وجود الله عز وجل للاستدلال بدليل حدوث العالم، وهو: أن العالم مكون من جواهر وأعراض، وأن الجواهر تتعلق بها الأعراض، فإذا تعلقت بها الأعراض فإن هذا يكون دليلاً على حدوثه، وأنه يصبح محدثاً، وكل مُحدَث لا بد أن يكون له من مُحدِث، وإنما نستطيع أن نثبت وجود الله بغير هذا الطريق، فهذا طريق مبتدع مخترع، ولسنا محتاجين إليه.
فنستدل على وجوده بدليل الفطرة، وهو أن الإنسان يشعر من نفسه أن الله عز وجل موجود، وهذه الفطرة يعرفها الإنسان من نفسه.
وأيضاً هناك أدلة عقلية أخرى، وهي: أن هذه المخلوقات إما أن تكون خلقت نفسها، وهذا محال؛ لأننا نعرف أنها لم تخلق نفسها، وإما أن تكون خلقت من غير شيء، وهذا غير مقبول عقلاً؛ فإنه لا يمكن أن يوجد مخلوق بدون خالق، وبناءً على هذا فلا بد أن يثبت الخالق، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]. فنحن لسنا محتاجين إلى هذا الدليل، ولكن المشكلة التي وقع فيها الكلابية هي أنهم التزموا بأدلة المعتزلة الكلامية فأثر ذلك عليهم، فأصبحوا من نفاة الصفات.
ثم بعد ذلك ظهر أبو الحسن الأشعري ، وكان معتزلياً لمدة أربعين سنة ثم ترك الاعتزال، فلما ترك الاعتزال وجد أمامه طريقين:
الطريق الأول: هو طريق الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وعامة السلف.
بعد تركه لمنهج المعتزلة إلى طريقة الكلابية والكلابية كانوا يردون على المعتزلة بقوة مع التزامهم بعض أصولهم، فالتزم أبو الحسن طريقة الكلابية وألف كتاب (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)، ويقصد بـ(أهل الزيغ والبدع) المعتزلة، وألف رسالة أخرى سماها (رسالة إلى أهل الثغر) ثم ألف بعد ذلك كتاباً سماه (الإبانة).
وفي الكتابين الأولين كان على طريقة الكلابية، فإنه نفى الصفات الاختيارية، ونفى بعض ما يتعلق بالصفات العقلية من التجدد، فمثلاً في صفة العلم نفى أن يكون هناك تجدد للعلم مع تجدد المعلومات، وهكذا البصر والإرادة، ونحوها، فهو يقول في الإرادة مثلاً: إن إرادة الله إرادة واحدة كانت فكانت هذه المرادات.
وحين مناقشة أبي الحسن الأشعري في هذه المسألة، وهو أن الأمور التي حصلت بعد مائة سنة مثلاً ولم تكن موجودة قبل ذلك ألم يردها الله عز وجل في ذلك الوقت؟ قال: لا، أرادها الله إرادة واحدة في بداية الأمر فكانت. ولهذا وقع في أخطاء كبيرة.
والمعتقد الصحيح هو أن الله عز وجل يريد كل أمر من الأفعال في وقته الذي يريده فيفعله، فإن ما شاءه الله عز وجل كان، وما لم يشأ لم يكن في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دليل الحدوث أثر عليهم تأثيراً كبيراً، بحيث إنهم كانوا لا يثبتون أي أمر من الأمور التي تكون بعد أن لم تكن موجودة سابقاً.
وعندما ظهر أبو الحسن الأشعري وتلاميذه من بعده رأوا أن هناك كثيراً من الصفات لابد لها من تأويل فأولوها، فمثلاً: أولوا النزول بأنه نزول الأمر، وأولوا الاستواء بأنه الاستيلاء، وأولوا المجيء بأنه مجيء الأمر، وكذلك الإتيان، وهكذا فلما اشتغلوا بالتأويل ظهرت طائفة منهم قالت: إن الناس على قسمين:
القسم الأول: السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويعنون بهم الصحابة والتابعين، وهؤلاء كانوا على مذهب التسليم المطلق، الذي يكون بعد نفي ظواهر آيات الصفات وأحاديثها.
والقسم الثاني: طائفة المتأخرين الذين اشتغلوا بالتأويل.
ومن الأشاعرة الذين أشاروا إلى مسألة انقسام أهل السنة حسب زعمهم إلى: مفوضة ومؤولة أبو سليمان الخطابي رحمه الله في كتابه (أعلام الحديث) في شرح صحيح البخاري وهو كتاب مطبوع.
ومنهم أيضاً: أبو بكر بن فورك في كتاب (مشكل الحديث وبيانه)، وهذا الكتاب ألفه في الرد على كتاب التوحيد لـابن خزيمة رحمه الله، فإنه استعرض الأحاديث التي أثبت فيها الصفات فأولها جميعاً، وذكر في بداية كتابه أن الناس على قسمين: قسم فوضوا، وقسم أولوا، وكلاهما على الحق، هكذا يقول.
ومنهم أيضاً البيهقي في كتابه الأسماء الحسنى، ومنهم أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية، ومنهم ابن خلدون في مقدمة تاريخه المشهور.
ومنهم مفوضة الحنابلة وهم مجموعة من الحنابلة كـأبي يعلى القاضي رحمه الله تعالى وابن الزاغوني والكلوذاني ومنهم ابن الجوزي ومنهم مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي والسفاريني صاحب لوامع الأنوار البهية وغيرهم، فهؤلاء فهموا أن مذهب السلف هو التفويض.
والحقيقة أنه ليس هناك فرق بين مذهب المؤولة ومذهب المفوضة من جهة نفي الصفات من الجميع، فإن المفوضة والمؤولة جميعاً ينفون الصفات، ولكن اختلفوا في المعنى، فالمفوضة قالت: نفوضه لله، والمؤولة قالت: نؤوله بما نستطيع، فالجميع من نفاة الصفات.
ولهذا يرى الأشاعرة أن المفوضة والمؤولة ليس بينهما فرق، ويقولون: إن المفوضة اتبعوا طريقة السلف، والمؤولة اتبعوا طريقة الخلف. وظهرت المقالة المشهورة التي أشار إليها ابن تيمية رحمه الله وهي: (إن مقالة السلف أسلم)، يعني: حتى لا نتورط في أن ننسب للقرآن والسنة معنى غير متأكد منه، فهي أسلم، (وأما طريقة الخلف فهي أعلم وأحكم) يعني: أدق.
ولهذا يرى هؤلاء أن السلف الصالح رضوان الله عليهم وهم الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدثوا في موضوع الصفات بما يغني ويشفي، وأن كلام المتأخرين أقوى وأدل على موضوع الصفات من كلام الصحابة رضوان الله عليهم، ويرون أن هؤلاء الصحابة والتابعين والسلف رضوان الله عليهم مثل العوام الذين يقرءون القرآن ولا يفهمون منه إلا المعاني العامة فقط، وأما الغوص في المعاني والمدلولات فإن هؤلاء لم يصلوا إليه، وإنما وصل إليه الخلف كما يقولون وكما يزعمون.
ولهذا فإن أهل السنة يسمون المفوضة: أهل التجهيل، يعني: الذين جهلوا السلف، وقالوا: إنهم جهلوا معاني النصوص، فلم يفهموها ولم يفقهوها.
وننبه إلى قضية مهمة جداً، وهي أن هناك فرقاً بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، يعني: عندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فإن هذه الآية لها معنى ولها كيفية، فالمعنى أن لله عز وجل يدين تليقان بجلاله لا تشبهان أيدي المخلوقين، وأن هاتين اليدين يدان حقيقيتان لا تشبهان أيدي المخلوقين، وهذا ما يفهمه الإنسان.
فاليد في هذه الآية غير الاستواء، فالاستواء فعل واليد صفة، وليست فعلاً، هكذا نفهمها مع إثباتنا لنفي المشابهة، وأما الكيفية التي هي تحديد كيفية الصفة فلا نعلمها؛ لأن هذا الأمر ليس إلينا، وإنما هو إلى الله عز وجل، وإن كان لها كيفية محددة في نفس الأمر، ولكن لا نفهمها؛ لأن الله لم يعلمنا إياها.
فالله عز وجل يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فنفى عن نفسه مشابهة المخلوقين، ولم يعلمنا بكيفية صفته، وإنما علمنا معناها، فإن هذه الكلمات الموجودة في القرآن من لغة العرب، ولغة العرب واضحة يفهمها الإنسان، ويستطيع أن يدرك معانيها، ولا يلزم من إدراك معناها إدراك حقيقتها على التفصيل، ولهذا نحن نقول: نفهم المعنى ونفوض الكيفية، بينما المفوضة يفوضون المعنى والكيفية، فلا يفهمون لآيات الصفات وأحاديثها معنى.
نرد على هؤلاء بأن نقول: إن الله عز وجل أمرنا بتدبر كتابه ولم يفرق بين الآيات التي في القصص والأحكام والآيات التي في الصفات، قال الله عز وجل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]. ويقول سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]. ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
إذاً: فالقرآن يمكن لنا أن نتدبره ونتفهمه، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يفقه الدين، وفقه الدين يكون بفقه القرآن والسنة، ويدخل في الفقه هنا فقه العقيدة وفقه الأحكام، فالله عز وجل لم يقل لنا: اتركوا آيات الصفات ولا تتدبروها؛ لأنكم لن تفهموا لها معنى، وتدبروا الآيات المتعلقة بالأحكام.
وبناء على هذا نقول: إن الله أمرنا بأن نتدبر آياته، فيجب أن نلتزم ذلك ونفهم أن لنصوص الصفات معنى، ونفوض الكيفية لله سبحانه وتعالى، هذا أولاً.
وثانياً: أنه يلزم من عدم معرفة معاني آيات الصفات الجهل بالله عز وجل، والجهل بالله عز وجل لا شك أنه من أخطر الأمور المتعلقة بالعقيدة، فالإنسان إذا جهل الله، وجهل صفاته، وجهل أسمائه، وقع -والعياذ بالله- في عدم معرفته لله وصفاته وأسمائه، وهذا نقص عظيم في العقيدة، إن لم يصل بالإنسان إلى الشرك.
وثالثاً: إن لازم مقالة التفويض أن الله عز وجل خاطبنا بالألغاز والأحاجي، ومعاذ الله أن يكون هذا القرآن فيه خطاب لنا بالألغاز والأحاجي، فإن الله عز وجل سمى هذا القرآن بياناً، فقال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، والبيان يقتضي أن يكون واضحاً بيناً لا إشكال فيه، ومقالة المفوضة تدل على أنّ هذا القرآن فيه ألغاز وأحاجي لا يمكن للإنسان أن يفهمها، والله عز وجل أراد لنا معرفة الحق، ولم يرد بنا التضليل وعدم تأمل آياته وأحكامه.
وممن قال بمقالة المفوضة من المتأخرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية)، والأستاذ حسن البنا ، والأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه (العقيدة الإسلامية وأسسها).
ومقالة المفوضة لها رواج ضخم عند كثير ممن يجهل أمر الاعتقاد، وعند كثير ممن يتبع بعض المشايخ بدون بصيرة وعلم، فبعض من يتبع الأستاذ حسن البنا يقولون بمقالته بدون علم. وقد قرأت مقالة طويلة في مجلة المجتمع كتبها الدكتور يوسف القرضاوي يقرر فيها أن مذهب التفويض هو مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويقول: إن السلف رضوان الله عليهم لم يتكلموا في معاني صفات الله عز وجل، ويقول: إن الخلاف مع الأشاعرة خلاف بسيط، والسبب في كونه بسيطاً هو أن الأشاعرة اختاروا أحد قولي أهل السنة، هكذا يقول، فهو يقول: أهل السنة لهم قولان: القول الأول: التفويض، والقول الثاني: التأويل. فكون الأشاعرة اختاروا مقالة التأويل لا يعني أنهم مخطئون.
والحقيقة: أن الجميع مذهب واحد منحرف عن جادة أهل السنة والجماعة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر