الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين قد حذّر من الفتن بجميع أنواعها، فتن الشهوات، وفتن الشبهات، لكنا لو استعرضنا نصوص الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح لوجدنا أن فتن الشبهات الفتن في الدين والعقيدة هي الأخطر وهي الأنكى والأشد، وهي التي جاء النهي عنها أكثر من غيرها بإجمال، أما فتن الشهوات فقد جاء النهي عن مفرداتها: النهي عن أكل الربا، والنهي عن الزنا، والنهي عن الانغماس في الدنيا والافتتان بها، جاءت نصوص متواترة وكثيرة في النهي عن فتن الشهوات، لكن ما جاء في نصوص الكتاب والسنة عن فتن الشبهات جاء على سبيل التحذير من مناهج الشبهات وأهلها؛ لأنها تخل بالعقيدة؛ ولأنها مرض يصرف القلوب والعقول عن العقيدة وعن الحق، وأصحابها هم الذين وصفهم الله عز وجل بالأخسرين أعمالاً، قال تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] فأعظم أخطار فتن الشبهات التي هي مطاعن في العقيدة والدين أن أصحابها يظنون أنهم على هدى، ولذلك قال السلف: إن صاحب البدعة لا يتوب أو لا تقبل له توبة. هم لا يقصدون أنه لو تاب لا يتوب الله عليه، فإن الله يتوب على من تاب من أي ذنب ولو كان الشرك، لكنهم يقصدون بذلك بأن صاحب البدعة وصاحب الضلالة لا يوفق للتوبة؛ لأنه يظن أنه على هدى، فهل يتوقع ممن يظن أنه على هدى أن يحرص على التوبة؟ بالعكس، المسلم الذي يُبتلى بالشهوة يعرف أنه وقع في ذنب، هذا هو الغالب، بل عامة المسلمين الذين يقعون في فتن الشهوات سواء كانت فتن الدنيا، أو فتن المعاصي، أو فتن الفسق والفجور، فإن أصحابها غالباً يعرفون أنهم ارتكبوا الموبقات، ولذلك تجد الذين يتوبون من هذا الصنف هم الأكثر، لكن صاحب الشبهة مريض القلب والعقل يظن أنه على هدى، فلا يسعى إلى التوبة إلا من بصّره الله عز وجل.
وجاء في النصوص الإشارة إلى أن عواقب فتن الشبهات ليست على أصحابها فقط، بل تعم الأمة، ولذلك الفتن في العقائد ابتلي بها غالب الأمة بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وبقيت فتن البدع والشركيات جراح غائر في جسد الأمة إلى يومنا هذا، وليعلم كل عاقل أن أعظم سبب لما تعانيه الأمة المسلمة اليوم من الذل والهوان والشتات هو الافتراق في الدين، الذي هو فتن الشبهات، والذي هو الخروج عن السنة والجماعة، وذكر عز وجل أن هذا سبب الفشل وذهاب الريح، قال سبحانه: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] فالأمة الآن تعيش أقسى ما مرّت عليه في تاريخها من مظاهر الفشل وذهاب الريح، والخذلان، وقلة البركة، والتناحر والتناطح؛ لأنها وقعت فيها الفرقة في الدين، والفرقة في الدين مع أنها أمر قدّره الله على جميع الأمم وعلى هذه الأمة، إلا أنه مع ذلك نهى الله عنه ويسّر العلاج والوقاية منه، وأعني بذلك الإشارة إلى شبهة كثير من الجاهلين وأصحاب العلمنة وما يسمون بالليبراليين .. وغيرهم، الذين يزعمون أننا نبالغ عندما نقول: إن الأمة افترقت، وأن الذين أوقعوا الأمة في هذا الحرج هم الذين خرجوا عن السنة والجماعة، وهم الذين استباحوا دماء أهل الحق والخير في كل البلاد التي فيها فتن وقلاقل.. إلى آخرها، يقولون: أنتم بهذا تفرّقون، نقول: نحن نحكي عن الواقع، ونريد للأمة أن ترجع إلى أسباب عزها بالاعتصام بالكتاب والسنة، يقول تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، إذاً: أعظم سبب الذل والهوان الذي أصاب الأمة، وتسلّط الكفار من اليهود والنصارى، وتسلّط أهل الأهواء والبدع الذين ينتسبون للإسلام، وهم ربما يكونون في بعض البلاد أشد نكاية بالأمة من الكفار أنفسهم، هو الفرقة في الدين، وأن الأمة لن تخرج من وهدة الذل والهوان والشتات والتقاتل إلا بالرجوع إلى مصدر العزة وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، والالتفاف تحت لواء السنة والجماعة كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالفرقة واقعة من سنن الله، ووقوعها ليس حجة في أن نرضى بها، بل وقوعها يستلزم منا أن نعالجها، وأن نحذّر من بقي من بعض فصائل الأمة التي لا تزال على الفطرة، وأن نناصح الذين افترقوا، ونبيّن لهم وجه الحق، ونقيم عليهم الحجة، ونعيدهم إلى سواء السبيل، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر افتراق الأمم الماضية: اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، ذكر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة، أي: أن كلها سلكت مسلك الشبهات، وهلكت بالشبهات والضلالات والبدع، إلا واحدة، والهلاك هنا -وهذا ما ينبغي التنبه له خاصة عند طلاب العلم- لا يعني هلاك الخروج من الملة بالضرورة، ولا هلاك الخروج من الإسلام، وهلاك الخلود بالنار، لكن الهلاك هنا هو هلاك الذنوب وأعظم الذنوب هو المعاصي والفرقة في الدين.
وهذه الفرق التي افترقت ووقعت في فتن الشبهات هي على نوعين: فرق غلت وخرجت عن أصول الدين وعن مسلّمات الدين وثوابته أو بعضها بعناد، وبما يقتضي أنها ردت الحق القطعي، فهذه خرجت من الملة، وهي الغلاة من أكثر الفرق الذين وقعوا في كفريات مخرجة من الملة، لا سيما الذين قامت عليهم الحجة، واستبان لهم وجه الحق فعاندوا، وهؤلاء قلّة، أما بقية أهل الأهواء والبدع وهم الأغلبية فهم أهل تأوّل، وإن كان تأولاً فاسداً، فهؤلاء وقعوا في البدع والمحدثات التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعوا في الضلالات، لكنهم يبقون تحت مسمى الأمة الواجب إرشادهم ونصحهم، والتحذير من مناهجهم، وحماية من سلم من الأمة من غوائل شبهاتهم.
فأقول: بعض المفتونين من أبناء المسلمين ومن أبناء السنة بالذات الذين لم يعرفوا حقيقة الحق الذي كان عليه نهج السلف، يضيقون بدعوتنا إلى السنة، ويضيقون ببيان واقع الأمة حينما نقول: الأمة افترقت، يقولون: لا، في هذا الوقت العصيب لا تقولون: الأمة افترقت، بل نقول: الأمة افترقت، لكن نقوله بأسلوب ناصح مشفق، وإلا كيف ننقذ الأمة من هذا الواقع المؤلم الذي صوّر الأمة وكأنها لا تستحق أن تحمل معاقد العز والقوة والرفعة في الحياة أمام الأمم، ما الذي أوقعنا في هذا الحرج الآن؟ الذي أوقعنا هو الفرقة والرضا بالفرقة والسكوت عن الفرقة، نعم، لا نعالج الفرقة بالعنف كما يفعله بعض المتعجلين، ولا نعالج الفرقة أيضاً بالتشهير في مثل هذه الظروف، إنما نعالجها بغرس ثوابت الدين ومناهج الحق في قلوب الأجيال، على منهج علمي سليم يحميهم بتوفيق الله عز وجل من غوائل هذا الهجوم الشرس الذي دهمنا عبر شتى الوسائل التي لم يعرف التاريخ مثلها، الوسائل التي غزت قلوب أجيالنا وعقولهم، غزت عقيدة الأجيال وثوابتهم في كل نواحي الحياة، فلا بد من مجابهة هذا الغزو بأسلوب علمي موضوعي يقوم على الدليل والحكمة وحسن العرض، ويقوم أيضاً على تحصين قلوب الأجيال وعقولها من غوائل الشبهات، حينما نفعل ذلك نجد من المنتسبين إلى السنة من أبنائهم -مع الأسف- الذين اغتروا وتأثروا بتلكم التيارات الجارفة نجدهم يضيقون بمنهج الدعوة إلى الاعتدال والسنة، يضيقون بتحذير الأمة من الافتراق والبدع، ويقولون هذا تفريق، وليس هذا تفريقاً إنما قد يكون أحياناً كما يحصل من بعض الجهلة والمتجاوزين قد يكون بأسلوب غير حكيم فيضر، ولذلك أكثر ما يتذرع به هؤلاء الذين يعترضون على الدعوة إلى السنة ومحاربة البدع بالأسلوب الحكيم، أكثر ما يعترضون بتصرفات بعض المتعجلين من أبناء السنة، الذين يقع منهم فعلاً ما يكون فيه حرج وصد عن الحق من الأساليب القاسية والعبارات الجارحة.. ونحو ذلك، وهذا يجب بيانه؛ لئلا يلتبس الحق على الناس.
ما المقصود بفتن الشبهات؟
المقصود بها كل ما يؤدي إلى بدعة أو ضلالة أو فرقة وخروج عن جماعة المسلمين، أهل السنة والجماعة، أو خروج عن السنة، وكل ما يؤدي إلى خلل في العقيدة أو المنهج الذي تمثله العقيدة، وكل ما يؤدي إلى خلل في المواقف تجاه مشكلات الحياة؛ لأن العقيدة الصحيحة الصافية كما أنها علم فهي كذلك عمل، كما أنها أمور اعتقادية علمية فهي كذلك أمور اعتقادية عملية، تتمثل بالأقوال والأفعال وبالمواقف، وهذا نجده في أصول العقيدة التي رسمها السلف الصالح على ضوء القرآن والسنة، نجدهم حينما تحدثوا عن العقيدة وحينما بينوها وشرحوها بيّنوها على أساس أنها تمثّل جميع أصول الدين، وجميع ثوابت الدين، وجميع مسلّمات الدين، سواء منها ما كان علمياً اعتقادياً كأركان الإيمان وما يتفرّع منها، أو ما كان منها عملياً كأركان الإسلام وما يتفرّع منها، ويدخل في هذا وذاك الأمور القولية الثابتة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كذلك بيّنوا الأصول والثوابت العملية التي هي الإطار العام الذي يحكم العقيدة؛ لأن أمور العلم والاعتقاد في قلوب الأفراد لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه قد يتكلم بالحق المؤمن والمنافق، لكن يبقى محك الاختبار العمل والمواقف.
ولذلك نجد في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل المصالح العظمى من ثوابت الدين، مواقف المسلم تجاه المسلمين وتجاه غير المسلمين، وتجاه الحياة كلها جعل كل ذلك من العقيدة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، (من غشّنا فليس منا)، (عليكم بالجماعة) وأمر صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة، وأمر بالحفاظ على مصالح الأمة العظمى وجعلها من ثوابت الدين، وأمر بدرء المفاسد على الأمة، وبرفع الحرج عن الأمة، كل هذه من ثوابت الدين التي يجهلها كثير من أبنائنا في الوقت الحاضر؛ لأنها ما بُيّنت على الوجه الذي يتناسب مع مستجدات العصر، فقد كان السلف رحمهم الله في كل زمن يعرضون العقيدة بحسب النوازل؛ لأن العقيدة كما أنها ثوابت قطعية -وهي مقتضى نصوص الكتاب والسنة- فهي كذلك مفاهيم علمية وعملية ومواقف، وهي تطبيقات ضرورية لمقتضى الكتاب والسنة، ولذلك من الشبهة التي قيلت عن السلف: إن عقيدتهم فيها ردود أفعال، فهؤلاء زعموا أن السلف تكلموا في أمور الاعتقاد في القرن الثاني بأمور لم يتكلم عنها السلف في القرن الأول، ثم تكلموا عن أمور في القرن الثالث مثل: بدعة القول بخلق القرآن.. ونحوها، وبعض مسائل حول الصفات لم يتكلم عنها السلف الأولون في القرنين الأولين، فقالوا: هذا إحداث في العقيدة، نقول: لا، هذا ليس إحداثاً في العقيدة، هذا يعتبر من مواقف العقيدة تجاه الأحداث؛ لأن الإسلام دين شامل لكل زمان ومكان، والحياة دائماً فيها مستجدات، وأعظم وأخطر هذه المستجدات مستجدات العقائد والأفكار التي تقول بها الأمم والموروثة، في القرن الأول الهجري لم تكن هناك شبه كثيرة، لكن وجدت بعض الشبهات، فكان الكلام فيها بقدر ما تحتاجه الأمة، لكن في القرن الثاني اتسع الخرق بدخول الفلسفات ودخول مذاهب الأمم والديانات السابقة على المسلمين؛ بسبب الترجمات، وبسبب دخول أفراد من هذه الأمم إلى الإسلام ظاهراً، وحينما عرفوا العربية عرضوا مذاهبهم الباطلة على صورة مصطلحات إسلامية، فجاء مذهب القدرية وجاء مذهب المرجئة، ثم جاء مذهب المعتزلة، ثم جاء مذهب الجهمية.. إلى آخره، كل ذلك نتيجة إدخال العقائد الموروثة من الأمم الضالة على المسلمين من خلال أشخاص عرفوا كيف يكيدون للأمة، وهؤلاء أدخلوا عقائدهم وشبههم بمصطلحات جذّابة للشباب الذين عندهم عشق للأفكار الغريبة، فتلقفوا هذه الأفكار عن الفلاسفة.. وغيرهم، ثم صاغوها بصياغة تحمل مصطلحات إسلامية، فدخلت على أجيال المسلمين هكذا، فالله عز وجل سخّر السلف لحماية الدين، وسخّرهم للدفاع عن الحق، فاضطر السلف رضي الله عنهم أن يواجهوا هذه الوافدات بما يقابلها من مقتضى النصوص، فظهرت معان لم تكن ظاهرة في القرون الأولى؛ لأنها لم تكن موجودة في القرون الأولى، هذه إشارة عابرة إلى شبهة أن السلف قالوا بأشياء لم يقل بها من سبقهم، وأنهم في كل عصر يحدثون أشياء ليست ردود أفعال، ردود الأفعال هي العواطف التي لا تقوم على أدلة شرعية، ردود الأفعال هي الانتصار للرأي، كما ينتصر هؤلاء العقلانيون الذين أثّروا في عقول بعض شبابنا، هؤلاء هم الذين عندهم ردود الأفعال، أما السلف فإنهم يواجهون مشكلات العصر بما يتناسب مع مصطلحات أهله، بمقتضى النصوص والقواطع الشرعية.
فعلى هذا فتن الشبهات: هي كل ضلال أو بدعة أو شرك أو خلل في العقيدة والمنهج الثابت للسلف سواء كان علمياً أو قولياً أو عملياً، فكل ما يخل بهذا ويخرج عن أصول الاعتقاد عند السلف، فإنه يعتبر فتناً وشبهات.
الشبهات أنواع:
النوع الأول: شبهات عارضة، وهذه خاصة، يعني: تحدث لشخص بسبب ما عنده من أفكار ومن خيالات وأحياناً تصل إلى حد الوساوس وغيره، هذه فتن وشبه خاصة يتعرض لها بعض الأفراد، بعض أفراد المسلمين تكون عنده أوهام وشكوك، شبهات في القدر، أحياناً في مقام الألوهية نسأل الله السلامة، غالباً هذا وسواس قهري، وأحياناً في بعض مسائل الدين في بعض أحكام الشرع، في علل التشريع، لكن بقدر قوة إيمان الشخص تزول بإذن الله، أو تكون مرضاً خاص به عندما يصل الأمر إلى حد الوسوسة، فإذا كانت مرضاً فهي لا تضر بإيمان الإنسان، بل ربما يؤجر على مكابدة هذا المرض، لا يهمنا هذا الشيء الفردي، فالأوهام والخطرات التي تكون للأفراد ليست هي الفتنة العامة، وإنما هي فتنة قد تضر بالشخص نفسه، فما دام لم يدع إليها فهو داخل في النوع الأول: وهي الشبهات الفردية.
النوع الثاني: الشبهات التي تؤثر في أصول الاعتقاد، وتصبح مذاهب يدعو إليها أصحابها، سواء كانت مستوردة أو مخترعة من قبل أشخاص أنفسهم، سواء كانت بسبب أوهام ووساوس لكن يدعو إليها صاحبها، أو كانت مقننة بفكر وثقافة معينة، كل ذلك يعتبر من الشبهات غير العارضة، بل من الشبهات الدائمة التي تبقى ويكون لها ضحايا من أبناء المسلمين.
النوع الثالث: الشبهات التي تصرف القلوب والعقول عن الهدى والحق صرفاً كاملاً أو جزئياً.
النوع الرابع: الشبهات العامة التي تؤدي إلى فرقة بين المسلمين، والفرقة أنواع: فرقة غير ظاهرة، وفرقة ظاهرة، سواء كانت فرقة عن عموم الأمة، أو عن عموم أهل السنة والجماعة، أو فرقة عن منهج العلماء ومنهج أهل الحق والعقد، سواء كانت فرقة في الدين، أو فرقة فيما يتعلق بمصالح الأمة العظمى.
والفرقة في الدين كالبدع والمحدثات وغيرها، والفرقة في المصالح العظمى كالخروج على العلماء والخروج على الولاة، وعن مقتضى السمع والطاعة.
والخروج عما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم من ضرورة الجماعة والسمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وضرورة اجتماع الكلمة وحفظ الحقوق المعتبرة بين الأمة لأفرادها ومجموعاتها.
والخروج الذي يؤدي إلى الإخلال بمصالح الأمة العظمى، مثل: الإخلال بالأمن، أو الإخلال بقوة الجماعة وتماسكها، أو سلوك مسالك الإنكار التي تؤدي إلى فساد أعظم، وهذه كلها غالباً تحدث من فئات متدينة، بل لا أعرف أن هذه الشبهات تحدث إلا من متدينين؛ لأن غير المتدين يسلك مسالك لا تكون على شكل رايات دينية، إلا بعض أصحاب المصالح الشخصية الذين يغررون بالغوغاء باسم الدين، كما حدث في فتنة ابن الأشعث .. وغيرها، يغررون بالمتدينين باسم الدين، وتجد هؤلاء الرءوس لا يهمهم إلا السلطان أو الانتقام من الخصوم.
أو مصالح معينة شخصية أو أممية، لكن تجدهم يستغلون عواطف الناس ثم يتبين الحق، كما حدث من ابن سبأ من يتتبع سيرته يجد أنه أظهر الغيرة والحرقة على دين الأمة وعلى مصالحها، فاستثار طائفة من جُهّال شباب المسلمين في ذلك الوقت حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، فاستمالهم إلى مذهبه، ثم تبيّن أنه يهودي كائد خبيث، يعتبر بمثابة رأس الاستخبارات اليهودية في ذلك الوقت، على حسب المصطلحات المستعملة اليوم.
إذاً: كل ما يؤدي إلى الفرقة والخروج عن الجماعة، أو يؤدي إلى الإخلال بمصالح الأمة العظمى، بجماعتها وبأمنها وبقوتها وعزتها، حتى وإن كان باسم الدين يعتبر من أعظم الشبهات التي حدثت في التاريخ، وهي أعظم ما يحدث في يومنا هذا وأخطره على الأمة؛ لأنها ملبسة غير بينة وغير واضحة، لو جاء واحد يحمل لواء الإرجاء لعرفه العلماء وقالوا: هذا مرجئ، أو لواء الاعتزال لقالوا: هذا معتزلي، لكن إنسان يقول: أنا مشفق على الأمة، أنا أريد أن أقضي على الفساد.. وكذا وكذا، فهذا أكثر الناس لا يميّز فيه بين المنهج الحق والمنهج الباطل، هذه من الشبهات المجملة وأسبابها كثيرة.
أهم أسباب ظهور فتن الشبهات في هذا العصر.
هناك أسباب علمية منهجية يفهمها طلاب العلم ويفهمها العلماء، وهي في الحقيقة البذرة الأساسية التي تنطلق منها إلى اليوم الفتن، خاصة من المتدينين أصحاب الغلو والتكفير والتفجير.. وغيرهم.
السبب الأول: الخلل في منهج التلقي والاستدلال، تجد الواحد منهم يستدل بأدلة قوية صريحة من القرآن والسنة، فالإنسان الذي يجهل منهج الاستدلال يسلّم؛ لأنه يتلو عليه آية، لكن أسلوب تطبيق الآية على الواقعة هي المزلّة التي تحتاج إلى الراسخين في العلم في القضايا الكبرى والمصالح العظمى، فالخلل في منهج التلقي والاستدلال يعتبر من أعظم أسباب انتشار الشبهات، خاصة شبهات الغلو والتكفير وغير ذلك على الذين اغتروا بها.
أيضاً هذا المنهج نفسه سبب رئيس في ظهور مظاهر الانفلات والعلمنة، وضعف الولاء والبراء، وما يسمى بالليبرالية وغيرها من التوجهات الآن التي اجتذبت عدداً كبيراً من شبابنا، نحن الآن نعيش غوائل تيارين خطيرين، كل منهما شر، أنا في تقديري -وربما تستغربون- أن الأخطر منهما على المدى البعيد: هو تيار العلمنة والإعراض عن دين الله، هو تيار الليبرالية، هو تيار العقلانية المميعة، الذين يريدون أن يكون المسلم كالأوروبي والأمريكي، ولكنه يحمل شعار الإسلام واسمه فقط، كما يقولون: مظهر بلا مخبر، مع أنه إذا اختل المظهر اختل المخبر لكنهم يجهلون، هذا أخطر على المدى البعيد؛ لأنه يؤسس على فكر مقنن ودعوة هادئة، وينساب إلى الشباب عبر أساليب ومصطلحات وألفاظ يغتر بها أكثرهم، ولأنه يحمل معنى التنوّر، والثقافة، والفكر، والحرية، والرأي والرأي الآخر، والإنصاف، والعدل، والتجرد العلمي، يحمل شعارات خادعة فعلاً، ولأنه لا يستعجل، بل يهمه النتائج ولو بعد عقود، لا يهمه أن ينجح بعد سنتين أو ثلاث أو عشر، فهو ينخر في عقل الأمة منذ أكثر من عقد في جميع بلاد المسلمين.
أما الاتجاه الآخر فصحيح أنه خطير، وهو الذي نعانيه الآن، وهو اتجاه التكفير واتجاه الغلو، لكنه مثل نار السعفة إذا أوقدت فيها دقيقتين ثلاث دقائق تنتهي، صحيح أن الغلو استمر عندنا بعض الوقت، ولم أعلم أن الغلو في العصور الماضية يكون له مثل هذا الانجذاب، لكن هذا له أسبابه، أهمها ذنوبنا، يجب أن نعترف، لكن ومع ذلك ينتهي الغلو، وليس له حبل طويل، ليس عنده إستراتيجية بعيدة المدى؛ لأن صاحب الغلو نظرته بين رجليه لا يتعداها، وصاحب الغلو ينتهي ويَهْلَك؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء والبدع في جملتها وحذّر منها وحذّر من السبل، لكنه ما أمر بقتال أحد غير الخوارج؛ لأنهم يهلكون الحرث والنسل باسم الإصلاح، أي: أن الذي يدعو الآن إلى الليبرالية أو العلمانية أمره واضح ونفاقه واضح، حتى الذين ليس عندهم تدين يدركون أن هذا الليبرالي أو العلماني يستهدف الفضيلة وكرامة المرأة، ويستهدف ظهور الفجور والمعاصي، ويدندن حول إشاعة الشهوات أمره واضح، لكن الخوارج وأمثالهم على مرِّ التاريخ يحملون شعار الدين والغيرة، ولذلك يقلبون عقول الشباب المتدين خلال دقائق وساعات، خلال جلسة واحدة يتحوّل الشاب الذي يستهدفونه من شاب هادئ رقيق محترم إلى شخصية عدوانية شرسة، باسم الحرقة على الدين، فينفخونه مثل: نفخ البالون فينفجر.
إذاً: شبهات الغيرة على الدين خطيرة جداً؛ لأنها تحمل مضامين الانتصار للإسلام وللعقيدة، لكن العبرة بالعمل، ولذلك كثيراً ما تأتي أسئلة حينما أتكلم عن بعض رءوس البدع والمشاهير، ونقول: منهجهم غير سليم، يقول: أنت تتهم نيته؟ أقول: يا أخي أنا لا أستطيع أن أتكلم في نيته، ولا اطّلعت على قلبه، ولا يعلم النية إلا الله عز وجل، لكن هناك شرط آخر وهو صلاح العمل وليس صلاح النية فقط، فلا بد أن تصلح النية ويصلح العمل، فهؤلاء دعاة التفجير ودعاة التكفير، ودعاة الفساد في الأرض باسم الجهاد الذين يستحلون دماء رجال الأمن، ويستحلون دماء المخالفين لهم، والذين انتهكوا موبقات باسم الغيرة على الدين، نقول: هؤلاء عالجوا الخطأ بخطأ، نحن نتفق وإياهم على كثير من أمور العقيدة، خاصة الذين هم أهل سنة، نتفق نحن وإياهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نتفق وإياهم على ضرورة الإعداد للجهاد، نتفق وإياهم على أن الأمة بحاجة إلى تغيير إلى الأحسن، بحاجة إلى أن نصحح الأخطاء، نتفق وإياهم على ضرورة دفع الباطل، لكن الكلام على الأسلوب، ما يدفع المنكر بمنكر، بعض الناس إذا جئت له بالدليل قد لا يفقه الاستدلال، لكن عبر التاريخ يفهمها الصغير والكبير والمتعلم والعالم، على مدى تاريخ هذه الأمة، كم من طوائف غيورين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا استعملوا العنف لإنكار المنكرات، ثم يؤدي الأمر إلى تجذّر المنكرات واستفحالها وزيادتها، ويؤدي الأمر إلى فساد أعظم، ألا نعتبر؟ هل يمكن أن يزال المنكر بالتكفير والتفجير، واستهداف رجال الأمن، واستهداف المنشآت السكنية، واستهداف المستأمنين من الكفار الذين يعيشون في بلادنا، ودخلوا بتأشيرات رسمية هم في ذمتنا وذمة الدولة؟ هل استهدافهم هذا يؤدي إلى إنكار المنكر وإقرار المعروف؟ وهل أدى إلى إنكار شيء من المنكر؟ بل العكس، وأي إنسان عاقل فضلاً عمن يتقي الله ويخافه أي إنسان عاقل فضلاً عمن يتق الله ويخافه، يعرف أن الفساد لا يُدفع بفساد ولا يُدفع بالقتل والإهلاك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، وهاتوا لي حادثة أُزيل فيها المنكر بالعنف أدت إلى نتيجة محمودة، وليس أول مرة أُسأل هذا السؤال، بل عشرات المرات، وإلى الآن لم يأتني جواب، وسأقف على الأمثلة بعد قليل، والسعيد من اعتبر بعبر التاريخ..
الذين يقعون ضحايا الغلو عندنا من شبابنا هم غيورون، وما فعلوا ذلك إلا غيرة على الدين والعقيدة، لكن هل مجرد الغيرة مع فساد العمل يعتبر محموداً أو يسكت عنه؟ لا والله، هذا من ضمن المنكر الذي يجب إنكاره مع المنكرات الأخرى، يقول: أنتم تسكتون عن المنكرات الأخرى، لا، وهذا كذب، لم يسكت العلماء والدعاة الصالحون عن المنكرات الأخرى، لكن يناصحون بما شرعه الله وبما يقدرون عليه، والأمر لله من قبل ومن بعد، كون المنكرات تزيد هذا من تقصيرنا ومن ذنوبنا، لكن الإنكار والنصح موجود، لكن بالرفق، والنتائج على الله عز وجل ليست علينا، لكن الذين يسلكون مسلك العنف في إنكار المنكرات هل نفع إنكارهم؟ بل أدى إلى منكرات عظمى، بل أدى إلى تسويغ المنكرات، بل أدى هذا إلى ظهور المنافقين حتى تحكموا وتكلموا في مصالح الأمة العظمى؛ بسبب وجود مثل هذه التصرفات الهوجاء باسم الدين، واغتر بها كثير من شبابنا، وتعاطف معها كثير من متدينينا، وهذا جهل مطبق، نعم يجب أن ننكر المنكرات، ويجب ألا نرضى بالفساد، ويجب أن نناصح ولاة أمورنا، وندعو لهم بظهر الغيب أن يهديهم الله ويسددهم ويصلح حالهم، ونلتف حول مشايخنا وندعو لهم بالسداد والتوفيق، وندعو لهم بأن ييسر الله لهم القيام بالواجب.
هذا هو المنهج الرشيد الصالح، أما أن يكون الواحد مجرد غيور ثم تستغل غيرته في أن يتبنى هذه المناهج التي تؤدي إلى الفساد في الأرض، والحاصل من هذه التفجيرات وغيرها إزهاق أرواح، أليس أعظم المنكرات بين المسلمين في تعامل بعضهم مع بعض هو قتل النفس البريئة.
إذاً متى أدى القتل إلى إزالة الفساد؟ لا نعرف هذا لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً، وأنا أتعجب من الذين تلتبس عليهم النصوص أين عقولهم؟ الله عز وجل خاطبنا بعقولنا، صحيح أن العقل لا يقدّم على الشرع، لكن الله عز وجل جعل العقول مميزة لدلالات الشرع.
كذلك من أسباب ظهور الشبهات: وسائل الإعلام بشتى أنواعها، وسائل الإعلام أشد نكاية على الأمة من جميع الوسائل الأخرى، حتى القوة العسكرية التي ضرب بها الكفار بعض بلاد المسلمين ويهددوننا بها، ليست أشد من وسائل الإعلام؛ لأنها بيّنة واضحة، ولأنها ظلم مكشوف لا يرضاه عاقل، لا مسلم ولا غير مسلم.
وكل عقلاء الأمم الآن يدركون أن هذا الانتهاك لحرمات بلاد المسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال.. وغيرها، كلهم يدركون أن هذا ظلم، لكنهم يخافون من جبابرة الدنيا اليوم، أما الذين يؤيدون إما لهوى وإما رغبة وإما رهبة، لكن لا يوجد أحد يؤيد بعقله السليم ما يحدث الآن من نكاية بالأمة.
إذاً: فتن الشبهات الإعلامية التي تنساب على عقول شبابنا وبناتنا ونسائنا ورجالنا بهذا الشكل المغرر هذا هو الخطير الآن على المدى البعيد، أما القوة العسكرية ستقاوم بقوة، والأمة لا تزال فيها طائفة على الحق ظاهرين بإذن الله، والفرج قريب، وكلما اشتدت انفرجت، والله عز وجل جعل مع العسر يسرين، يجب أن نتفاءل، لكن مع التفاؤل نعمل، والانتصار على القوة العسكرية محتوم إن شاء الله، وهو وعد الله الصادق، لكن المشكلة الأفكار التي لا يتنبه لها أحد إلا القليل، المشكلة الشبهات التي تنساب على عقول أبنائنا وبناتنا حتى في غرف النوم، عبر الإنترنت (حمار الدجال)، عبر الفضائيات، عبر مجالس السوء، عبر كثير من الوسائل التي توافرت، حتى الجوال الآن في جيب كل واحد إلا القليل النادر، وفيه من الشر المستطير ما يقلب عقيدة الإنسان في دقائق، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) من كثرة ما يأتي من أفكار منحرفة تنساب إليه وهو لا يشعر، الآن نفاجأ سواء في وسائل إعلامنا أو في مجالسنا أو في بعض مظاهر اجتماعاتنا، أو من بعض شبابنا، نفاجأ ببروز أفكار خطيرة هدّامة تهدم العقيدة، وتهدم العقول، وتهدم الفضيلة، كثير من الشباب الآن بدءوا يتنكرون للعقيدة، بدءوا يتنكرون لآبائهم وأجدادهم وأسلافهم، بدءوا يتنكرون لدعوة الحق التي هي سبب هذا العز الذي نحن فيه، إنها دعوة التوحيد التي رفع رايتها الإمام محمد بن عبد الوهاب ، ومع ذلك تظهر أجيال من أجيالنا تريد أن تهدمها بشبهات السوء، وتتنكر لها، بل تحملها مسئولية ما يحدث من انحرافات، العقيدة التي هي معقد العز الكتاب والسنة، العقيدة التي هي أصل الإسلام.
هذه الدعوة المباركة وجد الآن من أبنائها من يريد أن يهدمها، ويتهمها بشبهات قالها أسلافه ممن تصدوا للدعوة من الكفار وكبار رءوس البدع، ثم نسمعها من أبناء جلدتنا من أين جاء هذا؟ جاء عبر هذه الوسائل، انسابت إلينا ونحن في غفلة، بل فرطنا، فهذه مسئوليتنا، وليت جهود الذين يتعجلون بالأعمال العنيفة تنصب إلى استصلاح الأجيال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] لو كل منهم اهتم بنفسه وبأسرته وبذويه وبالشباب من حوله، ورباهم على الاعتقاد الصحيح، ونمّى فيهم الغيرة على الدين بأسلوب منهجي سليم بعيداً عن التشنج والأعمال العنيفة، لكان للأمة من أمرها رشداً في هذا الواقع المؤلم، لكن شبابنا فرقوا ما بين المذاهب المتميعة وما بين المذاهب المتشددة.
وأنا عندي يقين بحكم التخصص فيما ندْرُسه وما ندَرِّسه، وما نتلقاه من تقارير وبحوث نعرف أن المحرك الأساس لهذه الفتن باسم الدين في بلدنا وفي غيرها عوامل خارجية، عوامل حاقدة حاسدة لنا، ما بين أصحاب فكر من الأصل يعادوننا، وإن كانوا يحملون اسم الدين والإسلام وما أكثرهم، فهؤلاء استغلوا غيرة شبابنا ودخلوا عليهم وتمسلموا لهم وتمذهبوا وكأنهم على مذهبهم، ثم زجوا بهم إلى مثل هذه التوجهات التي بدأت بذورها في آخر زمن الجهاد الأفغاني، الجهاد الأفغاني الأول بريء، لكن في آخره حينما نزحت جماعة التكفير والهجرة، ونزحت جماعة التبيّن، ونزحت الاستخبارات بمختلف أشكالها، بدءوا يصوغون أفكار بعض شبابنا بصبغة دينية سلفية، لكنها تحمل مضامين سياسية ومضامين فكرية ومفاهيم خاطئة نعرفها، ولو يتسع الوقت لأتيت بوثائق وما يشبه الوثائق، فرجع بعض شبابنا المتأخرين من أفغانستان وهم يحملون التنكر لبلادهم ومجتمعهم وعلمائهم ودولتهم، بدءوا يطعنون في ذمم العلماء، ثم طعنوا في الدولة وبيعتها وحقها في الشرع بمجرد وجود مفاسد، خالفوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الأمة ستجد أمراء من مختلف الأنواع والأصناف، منهم التقي، ومنهم الفاجر، وأمر بالسمع والطاعة للجميع، لكن بالمعروف، وأمر بالتناصح والدعاء لولاة الأمر، في أحاديث لا تكاد تخفى على أحد وهي كثيرة وصحيحة، حتى في موضوع المظالم، المسلمون في كثير من بلادهم يلقون مظالم من ولاتهم يجب أن يصبروا على الظلم، حتى الظلم الشخصي من الأثرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث صحيح، قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) العجيب أن الذين جاءوا من أفغانستان من مكفّرة، وبذروا التكفير عندنا، ليست متأخرة الأجيال في حرب أفغانستان، بل ظهرت في عدة أماكن، لكن نشير إليهم؛ لأنهم هم الأخطر، وهم الذين غروا الشباب؛ لأنهم يحملون راية الجهاد، ولأنهم أسهموا في الجهاد الأفغاني، فصار هذا سبب فتنة لبعض شبابنا، وإلا جاءنا الشر من الدول المجاورة ومن بعض أقاليمنا، ومن بعض أفكار موروثة قديمة واستخباراتية وغيرها، كلها اجتمعت وصاغت هذا التوجه الذي تبنى أن يكفّر ويفجّر في بلادنا، وكانت بذرة هذا التوجه هي الطعن في ذمم العلماء، لست أفشي سراً، لكنه سر عند كثير من الشباب؛ لأنهم حجبوا عنه، ففي سنة (1411)هـ أو (1412)هـ جاءت نشرة من نشرات ابن لادن قرأناها في مجلس من المجالس، قرأنا النشرة، وإذا بصاحبها ابن لادن يتهم الشيخ ابن عثيمين بأنه كبير السن ويلمز الشيخ ابن باز رحمه الله بأنه خرّف وكفيف؛ لأنه أصدر بياناً ضده، وأفتى ضده، قال: إن مسلك ابن لادن هذا مسلك غير شرعي، وليس على منهج السلف، فقال بعض الحاضرين: يمكن نُقلت له أخبار غير صحيحة، قلت: إن بقي لكم زمن ولم يتب هذا الشخص فلن يكتفي بلمز المشايخ، بل سيتهم الأئمة، وابن لادن يعتبر رمزاً للمجاهدين، وستأتي أجيال تتبنى اتهام ذمم العلماء وستكفرهم، وأكثرهم يضحك ويسخر.
وبعدها بسنوات قليلة نسمع هنا في القصيم عن غلاة يقولون عن المشايخ: هيئة كبار العملاء، هذا في سنة (1415) أو بعدها بسنة أو سنتين، وقتها اجتمعت ببعض طلاب العلم من القصيم وقلت لهم: يا جماعة هؤلاء الذين قالوا: هيئة كبار العملاء هذه كلمة ليست عادية، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وليست مسألة شباب متحمس، فالشباب المتحمس لا يعرف يصوغ هذه الكلمة، هذه كلمة مقننة، كلمة لها ما وراءها، وإذا لم تداركوا الأمر وتناصحوا هؤلاء الشباب بالحق وتبصروهم، فأخشى أن يكفّروا العلماء وأن يستحلوا الدماء، فلم يعجبهم مثل هذا الكلام واعتبروه مبالغة، ثم بعدها بسنين قليلة تكفّر الدولة وتستحل دماء رجال الأمن، رجال الأمن الذين هم بعد الله عز وجل مؤتمنون على حفظ أمن هذه البلاد، الشبهات القديمة التي أدت ببعض شباب الأمة الغيورين في عهد الصحابة وما بعدهم يقعون في غوائل هذا التغرير، فكون إنسان يأتي وهو يحمل فكر التكفير والإفساد في الأرض، والحقد على العلماء والدولة وغيرهم بدون رشد، ثم يأتي إلى شباب صغار في مقتبل العمر في سن المراهقة ثم يحشوهم من بعد ذلك، ثم يجندهم، هذه خيانة للأمة والعقيدة والدين والسنة والسلف.
سأضرب لكم مثالاً واحداً، لكي لا نطيل، والباقي نذكرها مجرد تذكير تاريخي بالعناوين.
جاء في صحيح البخاري أن عمر سأل عن فتنة الرجل في أهله، في دنياه، وهذه غير مقصودة، لكن المقصود أن أول فتنة هي بعد كسر الباب الذي هو قتل عمر ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل وقوعها، وسماها فتنة وهي أول فتنة.
هذه الفتنة ظهرت في عهد الخليفة الراشد عثمان ، في عهد الصحابة وهم خيار الأمة.
كيف نشأت؟ هذا الذي يهمنا، يعني: أكثرنا لا يستوعب أن يوجد في عهد الصحابة أناس يتجمعون ويتكتلون ويأتون ويقتلون خليفتهم، أمر عظيم وشنيع لا يكاد يتصور لولا أنه وقع، في عهد خيار الأمة الذين بشّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فها هو التاريخ يعيد نفسه، فنحن في زمننا يطعن في ورثة الأنبياء في علمائنا.
نسأل الله أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر الإسلام ويعز المسلمين، وأن يهيئ لهذه الأمة في كل مكان راية رشد، وأن يقيم علم الجهاد، وأن يجمع كلمتنا، وأن يوفق ولاتنا وعلماءنا وشبابنا إلى الحق والهدى، ويجمعهم على السنة والحق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر