وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:144]، وقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفيه: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أمراء الجور ما صلوا)، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رجلاً تصدق بصدقة، ثم تتابع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم ، وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: (من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة).
باب ما جاء أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة.
هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن ، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه، فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله: (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه).
وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: لا يوفق للتوبة ].
بين الشيخ في هذا الباب أموراً تخفى على كثير من الناس، وهي خطر البدعة وحكمها وأنها أشد من كبائر الذنوب، وأن صاحب البدعة غالباً لا يوفق للتوبة، وهذا فيه إشارة صريحة إلى فضل التمسك بالسنة، وأن المستمسك بالسنة بإذن الله موفق ومعان ومهتدٍ، حتى وإن وقع منه شيء من التقصير فإن الله عز وجل سوف يوفقه للتوبة ويعينه عليها، بخلاف صاحب الكبيرة، فمن فضل السنة أن صاحبها يوفق للتوبة، وهذا داخل في عموم فضل الإسلام.
ثم ذكر الشيخ الأدلة على أن البدعة أشد من الكبائر، فاستدل بقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وهذا فيه إشارة إلى أن أعظم البدع الشرك بالله.
القسم الأول: البدع المكفرة، وهي بدع الشرك، والبدع التي تخل بأصول الإسلام الناقضة للدين، أو إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، أو الإعراض عن الدين بالكلية، حتى ولو لم يكن في ذلك شيء من الشرك الصريح، فإنه يعد من البدع الكفرية.
والقسم الثاني من البدع: البدع المغلظة التي هي من كبائر الذنوب بل من أعظم الكبائر، والبدع المغلظة هي الأكثر مما يقع فيه كثير من أهل البدع في العصور المتأخرة، والتي منها على سبيل المثال: الموالد البدعية والبناء على القبور، واتخاذ المزارات والمشاهد، والتبرك بما لم يرد الشرع ببركته.. ونحو ذلك، هذه بدع كبيرة ومغلظة.
والقسم الثالث: بدع صغيرة، يقع فيها أكثر جهلة المنتسبين للبدع إذا لم يقعوا في كبائر البدع، وقد يقع فيها بعض المنتسبين للسنة، مثل: التزام السبحة عند التسبيح، أو التزام شعار معين، أو تقليد الأشخاص، ومثل بعض التصرفات التي تكون عند المآكل وفي الجنائز، فهذه غالباً من أنواع البدع الصغيرة.
إذاً: الشرك هو أعظم أنواع البدع، ولذلك أدخله الشيخ هنا للاستدلال على أن البدع أشد من الكبائر، كذلك الكذب على الله عز وجل وارد في قوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:144]، وهو باب واسع يدخل فيه التشريع بما لم يشرعه الله عز وجل، والابتداع أي: إحداث البدع، ونسبة البدع إلى الشرع، والقول بأنها من شرع الله ودينه، كل هذا داخل في الافتراء والكذب على الله.
ثم استدل بقوله عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، فهذا أراد به أن صاحب البدعة مرتكب ذنباً عظيماً، ومما يتحمله صاحب البدعة أنه يتحمل أوزار الذين يقلدونه إلى يوم القيامة.
وأيضاً: أن السنة الحسنة لا يمكن أن تكون حسنة إلا وقد أقرها الشرع، فإذا أقرها الشرع فالأصل أنها مشروعة، لكن الإنسان قد يبدع في الوسيلة، فمن سن سنة حسنة، أو وسيلة تؤدي إلى أمر مشروع، وعلى سبيل المثال: المؤسسات الخيرية كلها من السنة؛ لا بذاتها وإنما لأنها أدت إلى العمل بالسنة، والعمل بمقتضى الإسلام بتعاون المسلمين، ومن التعاون على البر والتقوى، ومن نشر المبرات والخيرات بين الناس، والعلم النافع والصدقات وتعاضد المسلمين بينهم.
إذاً: الوسيلة المؤدية إلى تطبيق السنة تعتبر سنة حسنة، ولذلك فإن كل من أحدث مشروعاً خيرياً انتفع به المسلمون وصار فيه قدوة فقد سن سنة حسنة؛ لأنه جاء على مقتضى السنة.
وأيضاً: قد يرد أن السنن تنسى أحياناً ويغفل عنها، فمن أحياها فقد سن سنة حسنة، والدليل على هذا ما في الحديث نفسه: (أن رجلاً تصدق بصدقة)، والصدقة من السنن التي سنها الله وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا الرجل إنما عمل عملاً أدى إلى دفع الناس إلى العمل بالمشروع، فعمله الذي هو سنة حسنة من أداء الصدقة، وفعل الصدقة، فهو قام بوسيلة إلى عمل الخير، ولم يحدث عملاً جديداً، ولم يكن هو المشرع للصدقة، أو ابتدع حكماً شرعياً لا في العقيدة ولا في الشرع، إنما عمل بمقتضى ما أمر به الله وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم على وسيلة أو بفعل كان فيه قدوة، وكذلك بقية النصوص: (من دعا إلى هدى)، ثم قال: (من دعا إلى ضلالة) والمعنى واحد.
إذاً: ليس المقصود كما يفهم بعض من أثار هذه الشبهة وقال: إنهم يزعمون أن صاحب البدعة لا تقبل له توبة، وهم ما قالوا: لا تقبل له توبة، وحتى لو قالوا هذه العبارة فلا يقصدون أنه لو تاب لا يتوب الله عليه، وإنما يقصدون أنه لا يوفق للتوبة، وهذا أمر مستفيض عند السلف، وليس من الأمور التي اخترعوها من عند أنفسهم، بل هذا هو مقتضى النصوص، ومقتضى استقراء الواقع، ويندر أن صاحب بدعة يتوب، خاصة دعاة البدع، أما الأتباع والهمج والرعاع فهؤلاء ليس لهم حكم؛ لأن قلوبهم ليست مؤصلة للبدعة، بل فطرهم وقلوبهم قابلة للحق، فمتى ما سمعوا بالحق رجعوا إلى الحق، وهذا لا يسمى أصالة صاحب بدعة، بل هذا تابع، لكن القصد هنا هم الزعماء والكبار والمنتفعون بالبدع أو رءوس البدع والدعاة إليها، فهؤلاء لا يوفقون، ولذلك لا نسمع في تاريخ الافتراق والأهواء والبدع بأن أحداً رجع من هؤلاء الرءوس إلا ما لا يتجاوز العشرات إذا بالغنا في التمحيص، وإلا فلا نعرف من مشاهير أهل البدع والأهواء الدعاة القائمين على البدع ما يزيد على أصابع اليد الكبار، مثل الأشعري والجويني والرازي والغزالي .. ومن يشابههم، فهؤلاء من كبار أئمة أهل الكلام، ومن دعاة البدع والمؤصلين للبدع، فهؤلاء تابوا ورجعوا لكنهم ندرة، ولهم من الفضل والعلم والفقه ما جعل الأمر يكون سبباً لتوبتهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الإصرار الكامل، كانوا رواد حق، والله أعلم أن نياتهم صالحة رغم ما وقعوا فيه من أخطاء، وكانوا يعظمون العلم الشرعي والدين، ولهم من الفضائل ما يتوقع أنهم يوفقون للتوبة، لكن هؤلاء ندرة وقلة.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه)، فهذا أحسن وصف لأهل الأهواء، وهو من الدلالات الظاهرة على ما قال به السلف من أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة.
إذاً: ليس قولهم -أي: قول السلف بأن صاحب البدعة لا يتوب- جاء من فراغ، إنما جاء من الاستدلال بمثل هذا النص، ومن استقراء الواقع.
الجواب: أقصد أن جنس البدع أعظم من جنس الكبائر، وإلا فقد يكون بعض مفردات البدع أهون من الكبائر، فالبدع الصغيرة صنف منها هي أهون من ارتكاب الفواحش والكذب ونحو ذلك، لكن القصد الجنس، وعموم البدع لا شك أنها أعظم من الكبائر؛ لأن من البدع ما هو شرك وكفر، والبدع المغلظة أيضاً أشد من الكبائر، حتى إن بدع أهل الافتراق الذين يدخلون في عموم الأمة وأهل القبلة بدعهم أشد من مخالفات أصحاب المعاصي والكبائر.
الجواب: لا، ما يلزم أنه يرى تكفيرهم، والذي أعرف أن الشيخ لا يرى تكفيرهم عموماً، والخوارج ليسوا كفاراً، ولكنهم من أهل البدع، ولا يلزم من قتال المبتدع أن يكون كافراً، ولذلك قاتلهم الصحابة وعلى رأس الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما سئل عنهم، قال: هم إخواننا بغوا علينا، ثم قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، فينبغي أن نفهم أنه لا يلزم من القتال الكفر، فقتال أهل البغي والخارجين عن الإمام وقد يكونون من الصالحين، لكنهم تأولوا ويقاتلون، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره أن من خرج على إمام له بيعة وله عهد أو خرج عن الجماعة فإنه يقاتل كائناً من كان، وإن كان ظاهره الصلاح، فأمره إلى الله عز وجل، وأيضاً أهل الذنوب الذين تقتضي ذنوبهم قتلهم مثل المرجوم الزاني إذا استحق الرجم، فهذا لا يخرج من الملة وإن قتل في ظاهر الأمر قتلة فيها نوع من التعزير الشديد، لكن لله في ذلك حكمة بالغة.
فهذا علي رضي الله عنه والصحابة معه اجتهدوا في تنفيذ القتل متى يكون، وكأن الإمام علياً والله أعلم وتخصيص علي بالإمام دون بقية الصحابة هذا من سمات الرافضة والشيعة، فهو خليفة من الخلفاء الراشدين، والمهم أن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج كانوا يرون أن قتالهم محل خلاف، لكن علي الذي هو إمام المسلمين في ذلك الوقت، كان لا يرى قتالهم حتى يحدثوا ويقاتلوا، وهذا ظن غالب عندي، أنه يقصد أننا لا نتحقق من بدعتهم حتى يعملوا بمقتضاها، لأننا لا نستطيع أن نلزمهم بأنهم ارتكبوا بدع التكفير، لأنه قد يكون قول بعضهم، أو لهم في التكفير معاذير لجهل أو تأويل نحو ذلك، فلما قاتلوا عليها تبين إصرارهم على بدعة التكفير التي هي فعلهم للقتال واستباحهم للدم، ودليل على أن هذه البدعة تعمقت فيهم، وأنها ليست مجرد عوارض أو قول البعض، بل هي إجماعهم وقد اتفقوا عليها، فمن هنا استباح علي قتالهم؛ لأن بدعتهم ظهرت وتأكدت من خلال أفعالهم، أما الأحاديث فهي مطلقة، فبعضها رد في الخوارج القدامى، وبعضها في الخوارج المتأخرين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، -ثم سرد صفاتهم والقول فيهم إلى أن قال:- فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن لمن قتلهم الجنة)، فهذا الذي جاء في سياق الحديث هو في خوارج يخرجون في آخر الزمان، وهم على القول الراجح في كلام كثير من المحققين من أهل العلم أنهم غير الخوارج الأولين؛ لأن هؤلاء جاءت فيهم نصوص، وهؤلاء جاءت فيهم نصوص، وكلهم خوارج.
إذاً: قتل الخوارج لا يدل على خروجهم من الملة، ولا أن بدعتهم بدعة مكفرة.
الجواب: الشرك الأكبر هو صنف من أصناف الكفر الأكبر، والكفر الأكبر أشمل من الشرك؛ لأن الكفر قد يكون بغير شرك مباشر، فقد يكون بترك أعمال الإسلام، أو بالإعراض عن الدين، أو الاستهزاء بالله عز وجل، أو الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، فهذا كفر، لكن ليس له صورة الشرك، فعلى هذا يكون الشرك نوعاً من أنواع الكفر الأكبر، والكفر الأكبر يشمل الشرك وغيره. والله أعلم.
أما الأمثلة على الشرك الأصغر، فمنها الرياء، والسمعة، وهذا من أوضح أمثلة الشرك الأصغر، والرياء هو الخلط في أمر يجب الإخلاص فيه للخالق عز وجل، وسواء كان قلبياً أو من أعمال الجوارح، فيجب أن يخلص لله عز وجل، وهذا الرياء فيما إذا كان لم يصل إلى صرف العبادة لغير الله، فإذا صرفت العبادة لغير الله صار شركاً، أما إذا كان مجرد مراعاة الخلط في عمل يجب أن يكون فيه الإخلاص لله عز وجل، فيكون من الرياء الأصغر، وصوره كثيرة، وأبرزها الرياء والسمعة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر