عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون؛ قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
قال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وعن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء! وخذوا طريق من كان قبلكم. رواه أبو داود .
وقال الدارمي : أخبرنا الحكم بن المبارك أنبأنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا! فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ! إني رأيت آنفاً في المسجد أمراً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن ! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله! ما أدري لعل أكثرهم منكم، تم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.
والله المستعان، وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ].
أولاً: في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة)، ووصف هذه الموعظة بأنها (وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون)، وهذا فيه عدة فوائد:
ولذلك فإن أكثر المسلمين اليوم لا يتعظون بالمواعظ، وأكثر ما يتعرض الناس في حياتهم اليومية للموت بينهم، كم من الجنائز نصلي عليها وندفنها، وكم من أخبار الموتى؟!
طربنا الآن من خلال ما نرى وما نسمع وما نقرأ، ومع ذلك تجد المتعظ والمستبصر والمستفيد من عبرة الموت -وكفى بالموت واعظاً- قليل جداً.
بل أصبحت تجمعات الناس واجتماعاتهم والجنائز والمآتم والتعازي شبيهة بالأعراس، أكل وشرب وحديث وابتسامات وضحكات وبيع وشراء.
فالناس يحتاجون إلى الموعظة من قبل الدعاة والمصلحين، وهكذا كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه والسلف الصالح، كانوا يتخولون الناس بالموعظة وقلوبهم أنقى من قلوب الناس اليوم، وأكثر استعداداً للخشوع والخشية.
أما الناس اليوم فهم أحوج إلى الموعظة وإلى الخطاب الوعظي، وكنت أتمنى لو أن كل خطيب من خطباء الجمعة هم أكثر من يجتمع حولهم عموم المسلمين في كل مكان أن يخصصوا خطباً متقاربة ولو في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة على الأقل يخصص منها خطبة أو خطبتين للمواعظ.
والعجب أننا نقرأ ونسمع مثل هذه الأحاديث بين مجتمع كمجتمعنا عاش على السنة، ونشأ على السنة وعرفها، وفيه من طلاب العلم والعلماء من يبين هذه الأحكام ويقرؤها ويدرسها في المناهج وفي الدروس وفي المجالس وعند العلماء والعامة، ومع ذلك نجد فئة من شبابنا بعضهم قد يكون من المتدينين ومن الدعاة يثقل عليه سماع مثل هذا الأصل، ويجدون حرجاً من تدريسه وبيان أصل السمع والطاعة لولاة الأمر.
ومعروف أن السمع والطاعة بالمعروف، وأنها لولي الأمر المسلم، ولكن مع ذلك فإن هذا الأصل أصبح ثقيلاً؛ بسبب كثرة الأهواء والشعارات، وردود الأفعال أو التصدي لمنكرات الأمة بردود الأفعال على غير أصول شرعية.
ويؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمر عليكم عبد)، مما يدل على أن السمع والطاعة ليست للخليفة الراشد أو الوالي المختار، أو لمن يحبه الناس فقط، بل السمع والطاعة لولي الأمر براً كان أو فاجراً، عادلاً كان أو ظالماً، راشداً كان أو غير راشد، وسواء كان بخلافة أو بملك عادل أو بملك عضوض، وسواء كان الإمام بالاختيار أو بالقوة، إذا تمكن السلطان المسلم وجب له السمع والطاعة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمر)، ومعنى (تأمر) فرض إمارته عليكم، انظر دلالة اللغة ودلالة تعبير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وإن تأمر عليكم عبد)، والعبد المقصود به: الرقيق، أي: لو تأمر عليكم من لا يملك -في الأصل- لنفسه شيئاً، بل هو منبوذ، ومع ذلك لو تأمر بقوة السيف وتسلط على المسلمين؛ وجب له السمع والطاعة بالمعروف، وهذا يؤكد خطورة هذا الأصل، وضرورة أن يفقهه طلاب العلم والعلماء، وأن تبين أحكامه للناس.
وهؤلاء الذين يقولون هذا الكلام جهلة، والإسلام درجات، لكن دعوى الإسلام قد تعصم المسلم أو تعصم قائلها، لكنها لا تعني أن يكون على السنة والاستقامة، فأهل الإسلام -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- سينقسمون؛ منهم من يبقى على السنة وعلى الصراط المستقيم، ومنهم من ينحرف يميناً وشمالاً، كما ورد في حديث السبل وغيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، يقصد الصحابة، فكيف بمن بعدهم؟
وفعلاً الصحابة رأوا اختلافاً، وعايشوا في حياتهم ظهور أول الفرق.. الرافضة والشيعة وفرقها المختلفة: الشيعة الغالية وغير الغالية وغيرهم، ثم القدرية، وأوائل ظهور التجهم والاعتزال بدأ في آخر عهد الصحابة، وكذلك المرجئة بدأت بذورها في آخر عهد الصحابة.
إذاً: الاختلاف واقع، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر وخبره صدق أنه من يعش فسيرى اختلافاً كثيراً.
ثم إذا وجد الخلاف فهناك وصية من النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد ضرورة البقاء على السنة، قال: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
فقوله: (فعليكم بسنتي) يؤكد أنه عند الاختلاف تكون هناك سبيل واحدة هي التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها والاستمساك بها وسلوكها، وهي سبيل السنة، وهذا مما يدل على أن (أهل السنة) مصطلح شرعي؛ لأنهم الذين أخذوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره.
ثم في الأثر الذي يليه عن حذيفة وعن ابن مسعود وعن أبي موسى الأشعري كلهم في هذا الحديث اجتمعوا على أمر، واتفقوا على بيان نهج من مناهج السنة.
ثم قال: (فاتقوا الله يا معشر القراء) ويقصد بالقراء: طلاب العلم؛ لأن طالب العلم أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ثم إذا أتقنه وتعلمه شرع في تعلم الفقه في الدين، بحسب ما يتيسر له من المقدرة والوقت، فطلاب العلم الناشئين مثلما نسميهم الآن: طلاب الحلقات.. طلاب المدارس.. صغار السن من الشباب الذين يحضرون مجالس العلم والدروس، هؤلاء يسمون القراء في مصطلح الصحابة والتابعين.
وقوله: (فاتقوا الله يا معشر القراء! وخذوا طريق من كان قبلكم)، يعني: على السنة، (طريق من كان قبلكم) ليس المقصود بها مطلقاً، (من كان قبلكم)، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا مفهوم من السياق.
أولاً: قول أحد رواة الأثر: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد) وهذا يؤكد نهجاً من مناهج المسلمين في طلب العلم، وهو الحرص على تلقي العلم واغتنام جميع الفرص للاستفادة من علم العلماء.
فهؤلاء من حرصهم لم يكتفوا في أخذ العلم بالدروس التي كان ابن مسعود وغيره من الصحابة يلقونها في المساجد والمجامع وفي غيرها، بل كانوا يحرصون على تلقي العلم من العالم حتى وهو يمشي إلى المسجد أو يمشي إلى حاجة من الحاجات، وكانوا يقفون -أي: طلاب العلم- عند أبواب العلماء، حتى إذا خرجوا استثمروا أوقاتهم معهم، وأخذوا من الدرر العلمية والفقهية من هؤلاء العلماء.
ثم ذكر أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه خرج إليهم، وقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن ؟ يعني: عبد الله بن مسعود ، وهذا يشير إلى أدب العلماء مع بعضهم، أبو موسى وابن مسعود كلهم صحابة كبار، وكلهم علماء، لكن مع ذلك تواضع أبو موسى الأشعري إلى حد أنه وقف موقف التلميذ الصغير في صيغته للسؤال، وفي أدبه، وفي عدم استعجاله، وعدم دخوله على ابن مسعود بطريقة غير مناسبة وصبر وصار ينتظر أخاه ابن مسعود كما ينتظر الطلاب والتلاميذ الصغار الذين عند الباب، وسألهم: هل خرج؟ وكان بإمكانه أن يطرق عليه الباب، لكنه التزم الأدب، لا سيما والأمر بالميزان الشرعي خطير؛ لأنه رأى بدعة عظيمة استهولها واستعظمها.
قال: (فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن !) انظر الاستهلال في الحديث، فيه قمة الرفق والأدب وحسن المدخل، وهو لا يريد أن يثير انفعال ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن القضية خطيرة، فاستهل بكلام مناسب أراد أن يدخل به في علاج هذه القضية، قال: (يا أبا عبد الرحمن ! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً)، خير لكنه على وضع منتقد؛ لأنهم يسبحون ويهللون، لكن الوضع الذي سبحوا به وهللوا وضع مبتدع، فانظر إلى تعبير العالم الفقيه بحسنه وجودته.
قال: (فما هو؟ قال: إن عشت فسترى، ثم قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً..) إلخ القصة، وذكرها مفصلة.
ثم ذهب ابن مسعود إلى هؤلاء القوم وحصل بينهم ما حصل، وورد أنه حثا عليهم التراب، وأنه عنفهم وأخرجهم من المسجد.. إلخ.
ثم قال ابن مسعود لـأبي موسى : (أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء) ثم كرر هذه العبارة فيما بعد قال: (فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء)، نستفيد من هذا أنه لا ينبغي للمسلم أن يتجاوز ما شرع الله عز وجل عند أداء العبادة؛ لأن ما شرعه الله فيه الكفاية، فلا يجوز للمسلم أن يغلو ولا يزيد بدعوى أنه يريد أن يزيد من التطوع، أو يزيد من الحسنات؛ فإن الحسنات والأجر في التزام ما شرعه الله عز وجل، وفيما شرعه الله الكفاية، وفي التجاوز الابتداع؛ ولذلك قال: فعدوا سيئاتكم) بمعنى: إن كنتم حريصين على التقوى والورع والاستقامة والتعبد لله عز وجل؛ فكفوا عن السيئات واحرصوا على ما شرعه الله من العبادات وفعل الخيرات، ففي هذا الكفاية، أما أن تزيدوا في الدين فهذا من الابتداع؛ ولذلك نجد أن ابن مسعود عارض هذه المسائل وهي في ميزان الناس اليوم تعتبر مسائل صغيرة، لكنه عارضها بشدة وقوة، مثل التسبيح بالحصى، وبعض الناس قد يقول: المسألة سهلة، وبدل أن أسبح بالأصبع أسبح بالحصى أو بالعد، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحياناً أعداداً للتسبيح والتكبير، لكن أسلوب العد فيه نكارة، ثم أداء العبادة بشكل جماعي هذا إضافة بدعية ليست من السنة.
إذاً: هذه الأمور مستصغرة عند الناس، لكن مع ذلك أنكرها ابن مسعود وأيده على ذلك الصحابة، أنكرها إنكاراً شديداً حتى صار منه ما صار من ذلك الموقف الحازم من هؤلاء القوم، وتفرست فيهم؛ لأن سياق القصة كان لها مراحل، وهؤلاء القوم الذين نهاهم ابن مسعود لم ينتهوا كلهم، بل ربما انتهى بعضهم، فذهبوا يعملون أشياء من ضمنها أنهم خصصوا مسجداً للعبادة يتعبدون فيه غير مساجد المسلمين، خصصوا مسجداً من المساجد يجتمعون فيه، فنهاهم وأخرجهم منه، ثم لما رأوا أنه يتتبعهم خصصوا مسجداً لهم ثم أمر بهدمه، ثم خصصوا دويرة لهم فأمر بهدمها، فتتبعهم، فلما رأى منهم الإصرار على البدعة وأنهم لا يفقهون ولا يطيعون من هو أفقه منهم، ولا يرجعون إلى الحق ولا يرعوون؛ توسم فيهم أن يكونوا من الخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخوارج بأوصاف، وفعلاً كما قال الراوي هنا، نعرف أن ابن مسعود رضي الله عنه مات قبل ظهور الخوارج، فالذين عرفوا القصة وسمعوها لما ظهر الخوارج بعد وفاة ابن مسعود رضي الله عنه يقولون: إنهم رأوا هؤلاء الذين نهاهم ابن مسعود فلم ينتهوا، رأوهم مع الخوارج يجالدون المسلمين بالسيوف، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء والبدع والافتراق: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه)، والكلب مرض خطير إذا أصاب الإنسان أهلكه رويداً رويداً حتى يموت.
فالشاهد: أن البدع مهما كانت صغيرة لكن إذا أصر عليها أصحابها؛ فقد تقود إلى ما هو أكبر منها؛ لأن الإصرار على البدعة دليل على الهوى، والهوى لا بد أن يتمادى بصاحبه، ثم غالب هذا النوع هم الذين وصفهم الله عز وجل بالأخسرين أعمالاً: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104]، فهو بالبدعة يظن أنه يحسن خاصة إذا لم يستفد من نصح الناصحين ووعظ الواعظين، فتستهويه البدعة إلى بدعة أخرى، وهكذا تتكاثر حتى يقع الإنسان في الافتراق عن الجماعة والسنة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر