إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
  6. شرح كتاب الإبانة - ذكر ما نطق به الكتاب بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما نطق به الكتاب بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقةللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حث القرآن الكريم على لزوم الجماعة ونهى عن الفرقة والاختلاف، وحذرنا من سلوك سبيل الأمم السابقة في اختلافها وتفرقها، وأعلمنا الله سبحانه أنه ما اختلف الذين من قبلنا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وحسداً.
    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ذكر ما نطق به الكتاب نصاً في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة].

    هذا باب جديد ذكر فيه الآيات التي أمرت بالتزام الجماعة، والآيات التي نهت عن التفرق وترك الجماعة.

    كما أنه أمر بذلك فيما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأمر بلزوم الجماعة وترك الفرقة، والأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين.

    قال: [أما بعد: فاعلموا يا إخواني وفقنا الله وإياكم للسداد والصواب، وعصمنا وإياكم من الشتات والانقلاب! أن الله عز وجل قد أعلمنا باختلاف الأمم الماضين، وأنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل، والكذب عليه والتحريف لكتابه، والتعطيل لأحكامه والتعدي لحدوده.

    وأعلمنا تعالى أن الشيء الذي يكون سبباً في الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته، وكل ذلك وجميعه قد قصه الله عز وجل علينا، وأوعز فيه إلينا، وحذرنا منه أن نقع فيه، وخوفنا من ملابسته، ولقد رأينا ذلك في كثير من أهل عصرنا، وطوائف ممن يدعي أنه من أهل ملتنا. وسأتلو عليكم من نبأ ما قد أعلمناه مولانا الكريم، وما قد علمه إخواننا من أهل القرآن وأهل العلم وكتبة الحديث والسنن.

    وما يكون فيه إن شاء الله تعالى بصيرة لمن علمه ونسيه، ولمن غفله أو جهله، ويمتحن الله به من خالفه وجحده، بألا يجحده إلا الملحدون، ولا ينكره إلى الزائغون، قال الله عز وجل ...].

    يبدأ الآن في سرد الآيات التي تأمر بالائتلاف وتنهى عن الاختلاف والتفرق والتشرذم، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الجماعة المقصود بها: هي جماعة الإخوان، أو هي جماعة التكفير، أو الجماعات الإسلامية، أو جماعة الجهاد. كل هذا خبط عشواء، فإن إنزال هذه الأدلة على هذه الجماعات الكائنة القائمة على الساحة الآن أمر غير رشيد، ولم يفهمه أحد من السلف، ولا من المعاصرين من أهل العلم، ولم يقل بذلك إلا بعض أصحاب هذه الجماعات.

    يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجماعة)، فتظن أن هذه الجماعة هي جماعتك التي تتجه إليها، أو تسمعه صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية).

    فتقول: لابد لي من جماعة أنضم إليها وأوافقها، وأسمع وأطيع لها، وإلا فميتتي ميتة جاهلية.

    والصواب أن هذه الآيات وهذه الأحاديث التي أمرت بلزوم جماعة المسلمين، تعني بالجماعة جماعة الإمام الأعظم، جماعة الخليفة الذي عينه المسلمون وعينه أهل الحل والعقد، هذا الخليفة وهذا الإمام الأعظم هو الذي يعين الولاة والأمراء والسلاطين، فهذا الخليفة هو الرجل الذي أمرنا بأن من أتى بعده ينازعه قاتلناه حتى قتلناه.

    وما يفعله كل جماعة من الجماعات القائمة تجاه هذه الآيات والأحاديث، أمر يدعو إلى الحيرة والشتات والفرقة، مع أن الأصل الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والدعوة إلى الائتلاف وترك الاختلاف، ولكنك لو أنزلت هذه الآيات والأحاديث على كل جماعة أو على جماعة بعينها من هذه الجماعات؛ فإن كل الجماعات الإسلامية بعيدة عن هذه الآيات والأحاديث؛ فأين الحق وأين الباطل إذاً؟

    ولذلك منتهى الكلام سيأتي معنا عند التعرض لذكر الأوامر والنواهي في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بلزوم الجماعة وترك الاختلاف.

    قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة ...)

    [قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]].

    هذه الآية من آيات سورة البقرة، وقد تكلم عنها الحافظ ابن كثير كلاماً رائعاً ممتعاً، وخير من يتكلم عن الاجتماع وترك الفرقة هو الحافظ ابن كثير ، كما يتكلم عنه كذلك ابن تيمية عليه رحمة الله.

    فيقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية نقلاً عن ابن عباس : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

    وأنتم تعلمون أن آدم هو أول نبي بعث، أما نوح فهو أول رسول بعث.

    يقول ابن عباس: كل أصحاب تلك القرون كانوا على الحق وعلى توحيد الله عز وجل الذي جاء به آدم حتى اختلفوا، فلما اختلفوا أرسل الله عز وجل الرسل مبشرين ومنذرين، فكان أول من أرسل نوحاً.

    ولـابن عباس قول ثان، وهو: أن الناس بين آدم ونوح كانوا على الضلال المبين وترك التوحيد، حتى أرسل الله عز وجل إليهم نوحاً ليدلهم على التوحيد.

    والرأي الأول أرجح.

    وقال قتادة في قول الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعاً، أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد والإيمان الصادق.

    ولهذا قال تعالى: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213] -أي: مع المرسلين- لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]، أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، أي أن الحسد هو السبب الذي جعل بعضهم يبغي على بعض، وما أتاهم الحسد إلا بعد أن قامت عليهم الحجج بإرسال المرسلين وإنزال الكتب عليهم؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الحسد بين أهل العلم -وفي رواية قال: الغيرة بين العلماء- أشد منها بين السيوف في أغمادها.

    فإذا دب الحسد بين قوم لابد أن يبغي بعضهم على بعض؛ ولذلك ثبت في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، لا أقول: إنها حالقة الشعر، ولكنها حالقة الدين).

    والراجح في هذا الحديث أنه حديث حسن.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون). أي: نحن آخر الأمم، ونحن أول الأمم بعثاً يوم القيامة ودخولاً الجنة.

    وإذا كنا في تعداد الرسل والأمم فنحن آخر أمة، أما من جهة البعث والحساب والجزاء ودخول الجنة فنحن أول الأمم. قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا -يعني: غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا- وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفتم فيه هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى) وهذا اليوم يوم الجمعة.

    ثم اختلفوا في يوم يتخذونه لأنفسهم؛ فاختلفوا اختلافاً عظيماً جداً، فاستقر رأيهم -أي: رأي اليهود- على اتخاذ السبت، واستقر رأي النصارى على اتخاذ الأحد، ولكن الله هو الذي تولى هداية هذه الأمة ليوم عظيم وهو يوم الجمعة؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم الجمعة هو خير يوم طلعت عليه الشمس، فالناس لنا فيه تبع، غداً لليهود وبعد غد للنصارى).

    ثم يبين النبي عليه الصلاة والسلام فضائل هذا اليوم:

    أولاً: فيه صلاة الجمعة، وهي مجمع ومحشر لجميع المسلمين المكلفين.

    الأمر الثاني: فيه خلق آدم.

    الثالث: فيه مات آدم.

    الرابع: فيه تقوم القيامة، وغير ذلك من فضائل هذا اليوم التي عددها شيخ الإسلام ابن القيم، وكذلك الإمام السيوطي من بعده في رسالة مستقلة.

    وقال ابن وهب : عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة.

    واختلفت كذلك في القبلة، فاستقبلت النصارى واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. أي: للبيت الحرام.

    واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك؛ لقوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أي: خاشعين واقفين.

    واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.

    واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق في إبراهيم عليه السلام.

    واختلفوا كذلك في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود؛ لأن بعض الناس يتصور أن اليهود يؤمنون بعيسى، وهذا تصور خاطئ، فإن بين اليهود والنصارى من العداء ما لا يعلمه إلا الله؛ بسبب أن اليهود كفرت بعيسى، بل هي التي حاربت عيسى بمجرد أن بعثه الله، والنصارى لا ينسون قط إيذاء اليهود لعيسى نبيهم، ولكنهم يتحدون على الأقل في الظاهر؛ لأنهم أيقنوا أن الخطر الأوحد الذي يواجههم هو الإسلام وأهله، فأرادوا أولاً أن يتخلصوا من هذا العدو المطبق بهم من كل جانب، فإذا تخلصوا منه زعموا أنهم سيواجهون بعضهم بعضاً.

    كل أمة سياسية تنضح بهذه الحقائق، ولكن هيهات هيهات أن يتخلصوا من هذا العدو الأوحد ومن الإسلام والمسلمين، فإن الله عز وجل أخبرنا عن لسان رسوله أن الحرب دائمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، اليهود والنصارى في جانب، والمسلمون في الجانب آخر، والحرب دائرة بين الفريقين، لا تنطفئ نارها حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! خلفي يهودي تعال فاقتله.. خلفي كافر تعال فاقتله، وحتى ينزل عيسى عليه السلام من السماء فيحارب في صف أمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أحد أفرادها، ويضع يده في يد المهدي المنتظر، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهما شعار النصارى.

    والعجيب أن النصارى يعبدون الصليب، ولم يتخذوا لهم عيسى صنماً، أو نصباً أو تذكاراً، بل قصة الصليب عندهم أن اليهود صلبت عليه عيسى عليه السلام، فكيف تتخذ أمة ما أوذي عليه نبيها إلهاً يعبدونه من دون الله؟ الأولى بهم أن يطمسوا هذا العار إن صح وهو غير صحيح، وقد أعلمنا القرآن أنه رفع إلى الله عز وجل: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].

    فهم يعتقدون أن عيسى صلب على هذا الصليب، فكيف يعبدون الصليب من بعده؟ فيقال لهم: الأولى أن تتبرءوا من كل شيء على هيئة الصليب، لأنه يذكركم بما نزل بنبيكم.

    أما الكلام في عيسى، فقد تكلمت فيه اليهود وقالوا في أمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً، وجعله الله روحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.

    قال الربيع بن أنس في قوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] قال: أي: عند الاختلاف، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف.

    أي: أن هذه الأمة كانت على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، فأقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم؛ ولذلك أخرج البخاري (أن نوحاً يدعى يوم القيامة فيقال له: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فتدعى أمته: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: ما أتانا من بشير ولا نذير، فيقول الله تعالى لنوح: من يشهد معك؟ فيقول نوح: محمد وأمته، فتأتي هذه الأمة وتشهد لنوح بأنه قد بلغ وأدى ونصح) وهكذا مع كل نبي.

    فهذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم يشهدون لجميع الأنبياء، كما أنهم يشهدون على جميع الأمم السابقة بأن الله تعالى أرسل إليهم الرسل وأنزل معهم الكتب.

    قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض...)

    وقال الإمام ابن بطة: [وقال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]]. فالذي كلم الله هو موسى عليه السلام، ونبينا عليه الصلاة والسلام في ليلة المعراج أيضاً كلم ربه.

    قال: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253]، وهذا يعرف بحديث المعراج، وأن الله تبارك وتعالى جعل في كل سماء من السموات السبع أنبياء معينين، وهذا يدل على مراتب الأنبياء، وأنهم كذلك درجات.

    قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87]، أي: بجبريل عليه السلام، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)، أي: الذين جاءوا من بعدهم (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: الحكمة والكتب السماوية، (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا)، يعني: بعد أن جاءتهم البينات اختلفوا، فقامت عليهم الحجج وانتشر فيهم العلم، فاختلفوا من بعد ذلك، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253]، أي: لو أراد ربك ألا يقتتلوا لفعل،وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

    قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام...)

    [وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]]، ولابد أن تعلم أن كل نبي ورسول أرسله الله إنما أرسل بالإسلام؛ ولذلك الدين المشترك بين جميع الأنبياء والمرسلين هو الأمر بعبادة الله وحده وترك الشرك.

    فما من نبي أرسله الله ولا رسول إلا أمر أمته بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو أصل الإسلام الذي أرسل الله عز وجل به الأنبياء والمرسلين.

    قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم...)

    [وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]].

    قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أي: أحزاباً وجماعات وطوائف، فلست منهم يا محمد! في شيء، إن الله لن يحاسبك على تفرق اليهود، ولا على تفرق النصارى كما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة).

    فهذه الأمة صارت فرقاً وشيعاً وأحزاباً، هل النبي عليه الصلاة والسلام سبب في ذلك؟ لا؛ لأنه قد حذر من الفرقة والاختلاف، وأمر بالاعتصام والائتلاف، ولكن هذه الأمة ركبت ما ركبه اليهود والنصارى والأمم السابقة من التفرق والتشرذم والاختلاف، فلما كان بهم شبه منهم وكان الأولون في النار؛ أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من اتخذ الفرقة والتشيع والتشرذم في شريعته عليه الصلاة والسلام؛ أنهم سيجازون بدخول النار؛ ولذلك قال: (كلها في النار إلا واحدة).

    وفي صحيح البخاري : عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات وديننا واحد)، يعني: وإن اختلفت أمهاتنا فلا يختلف ديننا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

    فما من رسول إلا وقد أرسل بالإسلام، وإن اختلفت أمهاتهم، هذا أسود وذاك أبيض، هذا أحمر وهذا أصفر، هذا أعجمي وهذا عربي.. كلهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم، ومنازلهم ومراتبهم؛ إلا أنهم متفقون على وحدة الدين، وهي الأمر بعبادة الله تعالى وحده.

    فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] أي: يا محمد! لا تخف ولا ترتجف، فهؤلاء لا يمتون إليك ولا تمت أنت إليهم إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:159] أي: حسابهم على الله، فإنهم سيموتون ثم يبعثهم الله عز وجل، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159] من التفرق والشيع.

    قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق...)

    [وقال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:93]].

    الله عز وجل أنزل بني إسرائيل أحسن منزل، وأرسل إليهم أنبياء كثيرين؛ قال: وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [يونس:93] أحل لهم الحلال وحرم عليهم الخبائث، (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ) أي لما أرسل الله تعالى إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب، وقامت عليهم الحجج العلمية والشرعية اختلفوا، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:93].

    من هذه الآيات وغيرها تعلم أن من اختلف في دين الله عز وجل اختلاف شهوة فحسابه على الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

    قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعدما جاءهم العلم...)

    [وقال تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14].

    الله عز وجل يتوعد ويهدد أنه لولا كلمة سبقت منه أن يؤجل حسابهم ليوم القيامة لحاسبهم على ظهر هذه الدار، ولكن سبقت كلمة من ربك أن يتركهم، وألا يقضي بينهم ولا يحاسبهم إلا في يوم الحساب الأعظم، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14].

    ولذلك إذا فسد الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله، وإذا صلح الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله؛ لكن لا يمنع أن يكون عكس ذلك، فأين كان ولد نوح ووالد إبراهيم عليهما السلام؟ وأين كانت امرأة فرعون وامرأة لوط؟

    فلا يلزم من هذا الأصل أن ينطبق، فالأصل أن يكون أبناء الصالحين صالحين: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، لكن لا يمنع أن تجد قصصاً في الواقع مخالفة لهذا؛ ولذلك قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ [الشورى:14] أي: الذين أوتوا الكتاب من بعدهم ومن أصلابهم، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14]، يعني: ليسوا على يقين كامل بأن هذه الكتب من عند الله، فلما يعملوا بها؛ لما عندهم من شك وريب.

    [وقال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:4-5]].

    [قال الشيخ: إخواني!

    فهذا نبأ قوم فضلهم الله وعلمهم وبصرهم ورفعهم، ومنع ذلك آخرين إصرارهم على البغي عليهم والحسد لهم إلى مخالفتهم وعداوتهم ومحاربتهم، فاستنكفوا أن يكونوا بأهل الحق تابعين، وبأهل العلم مقتدين، فصاروا أئمة مضلين، ورؤساء في الإلحاد متبوعين، رجوعاً عن الحق، وطلب الرئاسة، وحباً للاتباع والاعتقاد.

    والناس في زماننا هذا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لاتبعوه، أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعاً وشيعاً].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087860992

    عدد مرات الحفظ

    774459292