إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
  6. شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك

شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلكللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن الأمم التي قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة؛ وذلك حين تبتعد الأمة عن المنهج القويم، وتفقد هويتها وشخصيتها، فتبحث عما يكملها عند غيرها من أمم الكفر، فلا تجد عندهم إلا الضلالة والبعد عن الله، فتتبع خطاهم في طريق لا يزيدها إلا بعداً وانغماساً في ظلمات التيه والغواية.
    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    مع درس جديد من كتاب الإبانة لـابن بطة ، وهو: باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك.

    في أدلة هذا الباب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة -وهي أمة الخير- لابد أنها تنحرف عن سلوك طريق الخير وتركب طريق الشر، وطريق الشر إنما هو في التزام غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهو هدي الأمم السابقة وأخلاقها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أطلعه ربه على أن هذه الأمة لابد أن تنحرف عن المسار الطبيعي الذي خلقت له، حذر أمته من هذا البلاء العظيم، ومن فقدان هويتها؛ لأن لكل أمة هوية، فإذا فقدت أمة من الأمم هويتها فإنها تنسلخ من هديها تماماً وتذوب في بقية المجتمعات، حتى تتشبه ببقية هذه المجتمعات التي تخلقت بأخلاقها، أو سلكت سبلها واستنت بسننها.

    ولأجل هذا صرح النبي عليه الصلاة والسلام بخطورة ذلك، وأن ذلك تمييع للشخصية الإسلامية، وبالتالي هو ذوبان للمجتمع المسلم في بقية مجتمعات الكفر والضلال.

    حديث شداد بن أوس: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن ..)

    ولما كان هذا أخطر أمر وأعظم وباء يمكن أن ينزل في المجتمع المسلم بأسره؛ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث، ففي حديث [شداد بن أوس أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة)] يعني: لتتبعن سنن من كان قبلكم. أي: هديهم وأخلاقهم وطريقتهم في كل شيء مهما دق وجل، فإنكم تبحثون عنه وتنقبون عنه وتعملون به، وتتركون سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر زائد عن البدع، أي: هو فوق البدع بدرجات، فالتخلق بأخلاق الأمم السابقة لابد أنها أمم الكفر؛ لأنه ليس هناك أمة مسلمة على وجه الأرض بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: من الكفار.

    وفي رواية: (فارس والروم يا رسول الله؟! قال: ومن الناس إلا هم؟) يعني: هؤلاء الذين تقلدونهم أنتم، أما فارس فقد أسلموا على عوج، وأما الروم فأسلموا ثم خرجوا، حتى صارت الروم الآن دار كفر بعد أن كانت دار إسلام أو شبه دار إسلام لإسلام معظم أهلها في وقت من الأوقات، ولكنها رجعت دار كفر، كما كانت تركيا كذلك دار إسلام في يوم من الأيام، ولكنها بسقوط الخلافة العثمانية التي اتخذت تركيا مقراً لها ثم سقطت سنة (1924م)، ورجعت مرة أخرى تركيا دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.

    فالصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لتتبعن سنن الناس حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟)؛ لأن هاتين الدولتين أعظم مملكتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، قوة فارس وقوة الروم، وكانوا يقولون: هما قوتان لا تغلبان، والنبي عليه الصلاة والسلام، بل القرآن الكريم ذكر بأن هذه القوى قوى هشة لا تثبت أمام جحافل الإيمان وقد كان هذا غير مرة.

    فهنا لا أقول: فارس والروم الآن؛ لأن الروم الآن صارت ضعيفة أمام القوى العظمى، فقد كنا كذلك نقول: أعظم قوتين في العالم هم الروس والأمريكان، فسقطت الروس، وانشقت إلى دويلات كثيرة بعضها أضعف من بعض، حتى كاد زعيم الروس الأعظم أن يبحث عن عمل يتكسب منه قوت يومه.

    وما هذا إلا لتعلموا أن الأمور كلها تجري بمقادير الله عز وجل، وأن الله تعالى يذل من يشاء ويعز من يشاء، فهذه الدولة التي لم يكن أحد يتصور أنها تنهزم أو تضعف في يوم من الأيام، إذا بها تكون أمة ذليلة في ركاب أمريكا، ولا تزال القوة باقية في أمريكا، لكنها قوة تستند إلى الكفر كذلك، وتعتمد على الضلال، بل تقبل بالكفر والضلال والانحراف عن منهج الله سبيلاً لها، وأسطولاً لها، وسنة الله تبارك وتعالى الكونية أبت أن تكتب البقاء والنصر المؤبد لأمثال هؤلاء.

    فأمريكا في قبضة الله عز وجل، إذا شاء الله تعالى أن يذلها أذلها، في وقت لا يمكن لأحد أن يذكرها ولو بزلزال أو بركان، وهذا بإذن الله عز وجل، كما أن كل شيء بيده سبحانه وتعالى.

    فهذه القوة أنا أعتقد أنها قابلة للانهيار في أي وقت من الأوقات، كما أن من زار هذه البلاد أو هذه الولايات، ورأى ما فيها من فساد، علم يقيناً أن عمر أمريكا الافتراضي أوشك على الانتهاء.

    لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: إذا انهارت أمريكا كما انهارت روسيا من قبلها، بل وانهارت أوروبا كلها، فما هي الأمة القوية، وبأي شيء تتقوى؟ هل هي أمة الإسلام؟ أم تنهض أمم الكفر مرة أخرى؟

    الجواب: أن كل أمة رسمت لها الدساتير لتقوى بها، وقد قويت وقامت، وبين أيدينا دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكننا فرطنا فيه، ومعذرة إذا عبرت عن القرآن والسنة بالدستور وهو اللفظ الدارج وإن كنت لا أحبه.

    فهنا الأمة الإسلامية ملكت مقومات الحضارة، ومقومات السيادة والريادة، ولكنها تخلت إما بفعلها وإما رغماً عنها؛ ولذلك ترى الآن المسلمين حكاماً ومحكومين على السواء يأبون ويرفضون أن يحكموا وأن يساقوا بأحكام الشرع، ليس هذا في الحكام فحسب، وما دامت الدفة في صالحك فإنك تقبل الإسلام على العين والرأس، وإذا كان الإسلام حاكماً عليك فإنك تهرب منه مهما طالت حياتك، ومهما طال انتظارك للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية المزعومة.

    ولذلك وقع في الأمة من البلاء والفساد ما لا يمكن لعاقل أن يتصور معه تمكين هذه الأمة في يوم من الأيام، والله تعالى وعدنا، وقبل أن يعد شرط علينا: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ونصر الله تعالى بالتزام شرعه، وما دمنا أبعد الناس عن شرع الله فلن ننتصر، فاليهود والنصارى درسوا كتاب الله تعالى، ودرسوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما علموا أنه المنهج القويم الذي من تمسك به قام وثبتت أقدامه في الأرض، عملوا بالدين الإسلامي في الوقت الذي تخلينا نحن فيه عن دين الإسلام.

    ولذلك هم الآن رواد لنا، وكثير من المسلمين يعتبرون اليهود والنصارى -وإن شئت فقل بلاد الغرب- القدوة والأسوة والمثل الأعلى، بل يعتبرها كعبته وقبلته، وينظر إليها فيقلدها في الأخلاق وفي السلوك، وربما في العقائد، كذلك في طريقة البناء وفي طريقة المشي واللباس.. وغير ذلك، فترى الشباب -خاصة في الجامعات- إنما تصبو أعينهم، وتتوجه أفئدتهم وقلوبهم إلى تقليد الغرب في كل شيء، فلا تكاد تميز بين المسلم وبين الكافر إذا مشيا في طريق معاً.

    وهذا فقدان لهوية الأمة الإسلامية على العموم، كما أنه فقدان للشخصية الإسلامية لكل فرد على حدة.

    فهل يتصور في أمة ملكت مقومات الحياة الكريمة السعيدة، ولكنها ألقتها خلف ظهرها؛ أن تقوم وأن تسود وأن تكون صاحبة الريادة في العالم؟ لا يتصور ذلك قط، إلا أن ترجع إلى مقوماتها فتتمسك بها.

    ومقومات أي أمة دستور، وعندنا دستور السماء، كما أن من مقومات أي أمة عدد من الناس يحمل هذا الدستور، وكما يقولون: أعداد المسلمين شيء مهول، فليس أكثر منها أمة، وكذلك عندهم من مقومات حياتهم وسعادتهم أرض تحملهم، وعندنا من الأرض غير المعمورة أضعاف الأرض المعمرة مئات المرات.

    فالشاهد من الكلام: أن عندنا مقومات الحياة، وبإمكاننا أن نكون أقوى أمة على وجه الأرض، ونظل بهذه القوة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكننا تخلينا وفرطنا في ذلك كله، بل وجعلنا الله تعالى أهون الناظرين إلينا، فلابد أن نكون كذلك أهون الخلق على الله عز وجل، حتى صرنا أهون الخلق على اليهود والنصارى، وداسونا بنعالهم وأقدامهم.

    حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو واقد الليثي : (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين -أي: ناحية حنين- ومررنا بالسدر -شجرة- فقلت: يا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها)].

    ينوطون: أي يعلقون أسلحتهم على شجرة، فلما مروا بشجرة قالوا: يا رسول الله! اتخذ هذه لنا ذات أنواط، يعني: ائذن لنا أن نتخذ هذه الشجرة لتعليق سيوفنا عليها، وهذا أمر مباح؛ لكنهم قالوا: (كما للكافرين ذات أنواط)، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقطع العلاقة كلية بما هو خاص بأخلاق اليهود والنصارى.

    قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم)] يعني: هدي الذين من قبلكم وأخلاقهم.

    انظر إلى طلب الصحابة رضي الله عنهم، أن تكون لهم شجرة يعلقون عليها سيوفهم، وهذا أمر مباح، لكنهم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكافرين، أي: تشبهاً بهم ولو في الأمر المباح قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الله أكبر! ) وهو تكبير استنكار عليهم.. إنكم تقولون نفس مقولة بني إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].

    فالتشبه بالكافرين ربما أدى بكم في نهاية الأمر وتقادم العهد والزمان إلى أن تقولوا لأمرائكم وعلمائكم: اجعلوا لنا إلهاً كما كان لبني إسرائيل إلهاً.

    حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن بني إسرائيل...)

    قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو كان الرجل من بني إسرائيل دخل جحر ضب لتبعتموه)].

    فبنو إسرائيل كانوا أصحاب حضارة في ذلك الوقت، ودائماً الإنسان يتطلع إلى الحضارة ويظن أنها التقدم، لكن الحضارة الحقة والتقدم المتين هو التمسك بشرع الله وحبل الله، والاعتقاد بكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. هذا هو التقدم حقاً؛ لأن الغاية من التقدم هي السعادة في الدارين، ولا سعادة إلا في دين الله عز وجل والتمسك به، والاعتصام بحبله المتين.

    هب أن واحداً حاز على أعظم التقنيات، ولكنه كان كافراً ومات بعد هذه الاختراعات التي سعد بها غيره، فماذا له عند الله عز وجل يوم القيامة وقد مات على كفره؟ ليس له إلا النار.

    فقد شقي في حياته الدنيا ليسعد غيره، أما في الآخرة فليس هو من أهل الجنة، بل هو من المخلدين في نار جهنم.

    وأصل التقدم الحضاري والرقي الفكري والاجتماعي أن يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فأي شيء لا يؤدي إلى هذا الغرض لا يكون تقدماً في حقيقة الأمر، وإنما يراه تقدماً من لا بصر له ولا بصيرة، ويرى أننا متخلفون، ولذلك تجد كثيراً من الكتاب والصحفيين.. وغيرهم من المفتونين بما عليه أوروبا الآن وأمريكا من تقدم تكنولوجي متعلق بالحياة الدنيا، وسيزول هذا التقدم كله قبل قيام الساعة حتى يرجع الناس إلى الإبل والحمير، وإلى القتال بالعصي والسيوف والنبال، لابد أن تفنى هذه الحضارة، ويرجع العالم كله إلى ما كان عليه وقت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: لا يبقى إلا السعادة الحقة، وهي التمسك بالكتاب والسنة، هذا هو البحث الحقيقي عن مرضاة الله عز وجل.

    هذا يذكرني برجل كل همه أن يتزوج امرأة جميلة مهما كانت أخلاقها وسلوكها وديانتها، المهم أن تكون جميلة، وهذا الجمال يوماً ما لابد أنه سيزول، فإذا كان سوء الخلق باقياً وسوء المعتقد باقياً، وكل صفات المرأة باقية فإنه يزول جمالها، وهو الذي كنت تبحث عنه، فإذا كنت من الآن تبحث عن هذا التقدم فاعلم أنه زائل، وسيبقى لك شرار الصفات، وهي التخلق بأخلاق هؤلاء، وبحثك عن تقليدهم في كل كبير وصغير، في النقير والقطمير؛ حتى تذوب في أخلاقهم وفي سلوكهم وفي معتقدهم، وإذا بهم ينسلخون منك ويتبرءون منك يوم القيامة كما يتبرأ الشيطان من أتباعه؛ ولذلك كانت السعادة الحقة في التزام شرع نبينا عليه الصلاة والسلام.

    حديث أبي هريرة: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها ...)

    قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله! كما فعلت فارس والروم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ومن الناس إلا أولئك؟)].

    شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا خبر، أي: هذا خبر عن أمر مستقبل سيقع في الأمة، فلو أنك أتيت مثلاً وقلت لابنك: يا بني! أنت الآن ذاهب لتصلي الجمعة، فليس هناك داع لأن تلبس البدلة والكرفتة والبنطلون، وإنما يستحب لك في مثل هذا اليوم أن تلبس الثوب الأبيض، يقول: أنا أستحي من زملائي، وأستحي من المجتمع، وهذا الذي تعودت عليه، ويبدأ يناقشك واحدة واحدة، حتى يعتقد في المستقبل أن ما يلبسه أفضل مما يلبسه غيره. وهذا كلام خطير؛ لأنه يؤدي إلى ما هو أخطر منه؛ لكن ربما تهون هذه القضية أمام تخلقه بأخلاق غير المسلمين في الباطن، والشكل له تأثير في الجوهر، فالجندي الذي يلبس بدلة الجندية يشعر بالفتوة والشهامة والقوة، وكذلك الذي يتشبه بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهره يحجبه هذا الظاهر عن كثير من المعاصي.

    فإذا أراد أحد أن ينطلق بلا لوم في المعاصي حلق لحيته وغيَّر من منظره ومن زيه؛ لأنه يعلم أن الناس لا يدعونه بهذا الشكل، ولو تشكل بأشكال أخرى غير الشكل المطلوب لما لامه الناس، تصوروا لو أني في مثل حالتي هذه دخلت السينما، من الذي يأمرني وينهاني؟ الذي داخل السينما كلهم سينظرون إلي نظراً مزرياً، فيأتي إلي شخص ويقول لي: حرام عليك، اتق الله، ويذكرني بالله وهو معي في نفس المجلس؛ لأن منظري وشكلي لا يتناسب مع هذا، في الوقت الذي استجاز هو لنفسه أن يبقى في هذا المكان، وربما اصطحب معه عشيقته، لكن مجرد دخولي أنا السينما أمر منكر، أما بقاؤه هو في السينما أو في النادي أو غير ذلك ومعه عشيقته -والله أعلم بالمفاسد التي تتم بعد ذلك من شرب الخمر والسكر أمر لا ينكر على عامة الناس؛ لأنهم لم يعلنوا راية الالتزام، فكأنه أبيح لهم ما حرم على غيرهم، وهذا وضع طبيعي في الناس.

    ولذلك فإن الشكل له تأثير في القلب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، مع أن تسوية الصفوف أمر ظاهري، فما علاقة هذا الظاهر بالقلب؟ وجرب هذا بنفسك، لو أنك تعودت وفعلت ذلك تديناً وعبادة، ووضعت قدماً جوار قدم من يقف بجوارك، فكلما وضعت قدمك بقدمه ضم إليه قدمه، هل سيتغير قلبك عليه؟ نعم يتغير؛ لأنه لم يعنك على طاعة من الطاعات، ولم يلتزم سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، فلابد أن تخرج من الصلاة وأنت لا ترغب أن تنظر إلى وجهه، وهذا يدل على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وإن كان هو على شكل درجات ومراتب، ولكن في نهاية الأمر كل هذه الدرجات والمراتب داخلة في حد الإسلام، وفي حد الإيمان.

    قال: قال ابن تيمية: هذا خبر تصديقاً لقول الله تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69]، ولهذا شواهد في الصحاح والحسان، وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة ، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله على أحوال الناس، يعني: تكون أنت عالماً بالدين الذي أنت عليه، فإذا علمت دين الإسلام وما هو المراد منه، وما هو المطلوب منك تجاه هذا الدين، ثم أسقطت ما عندك من علم على واقع الناس؛ لوجدت أن الناس في واد وأن الدين في واد آخر، هكذا أراد شيخ الإسلام أن يقول.

    قال: وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس؛ لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطرفي الأمتين: المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك، والصادق مع نفسه يتوقف مع نفسه في كل قول وفعل ونية وغير ذلك، ويفهم الإسلام أولاً، ثم لابد هو مع هذا العلم سيجد أنه قد تخلق أو تشبه ببعض أخلاق اليهود والنصارى، وهذا أمر يجعل كل واحد منا يكون حريصاً على نفسه، يراقبها ويعاتبها ويلومها ويوبخها على كل مخالفة انحرف بها عن سلوك الشرع القويم.

    وانظروا إلى قوله: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، فهذا تشبيه المراد منه ملازمة التشبه بهم؛ لقوله: (شبراً بشبر) يعني: يمشي خلف اليهود خطوة بخطوة، أو يمشي المسلم خلف اليهودي حتى في طريقة المشي، إذا رفع رجله رفع رجله مثله ووضعها في أثر قدم اليهودي.

    قال: (وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب) أي: مع ضيقه، لكن اليهودي لو دخله لكان المسلم أحرص الناس على أن يدخله سلوكاً لسبيل اليهودي.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع قيل: يا رسول الله! كما فعلت فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هم؟).

    حديث حذيفة: (لتركبن سنن بني إسرائيل ...)

    قال: [وقال حذيفة]، وما أدراكم ما حذيفة ؟! أدرى الناس بالفتن في زمانه، عالم بأخبارها، كما أنه خبير بالمنافقين في زمنه، وكانت له اهتمامات خاصة بهذا الجانب، لكن شتان بين ما كان يهتم به حذيفة من الفتن وما يهتم به بعض طلاب العلم الآن من الفتن، فهذا باب وذاك باب آخر، أما حذيفة فكان حريصاً على أشراط الساعة، والفتن التي تكون بين يدي الساعة، يحددها ويصف لها الدواء، أما بعض طلاب العلم الآن فالفتنة خامدة أو مخمودة، ومع هذا هو أحرص الناس على إنشائها وإشعال نارها حتى تستفحل وتكبر ولا يكون لها دواء، ثم هو حينئذ يستريح.

    قال: [قال حذيفة : لتركبن سنن بني إسرائيل، حذو القذة بالقذة، وحذو الشبر بالشبر، حتى لو فعل رجل من بني إسرائيل كذا وكذا فعله رجل من هذه الأمة، فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير فهل يكون فينا هذا؟ قال حذيفة : وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير].

    قال: [وعن حذيفة قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وليصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087861409

    عدد مرات الحفظ

    774461898