إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
  6. شرح كتاب الإبانة - تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يجادلون بمتشابه القرآن

شرح كتاب الإبانة - تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يجادلون بمتشابه القرآنللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإصغاء إلى أهل البدع والأهواء؛ لأنهم يجادلون بمتشابه القرآن، ابتغاء الفتنة وابتغاء تحريفه، في حين أنهم يتركون المحكمات، وهذا مما يمحو نور آيات الله من قلب العبد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، وذلك لأن اللهجات العربية متعددة، وقد أنزله الله على سبعة أحرف رحمة بهذه الأمة، وكفى الله المؤمنين مئونة هذا الاختلاف بجمع عثمان رضي الله عنه له في مصحف واحد، وبقي اختلاف أهل الأهواء، فيرد عليهم العلماء.
    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أما بعد:

    فمع باب جديد وهو: [ باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن، وما يجب على الناس من الحذر منهم ].

    [ قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا [آل عمران:7] إلى آخر الآية ].

    من القراء من وقف على قول الله عز وجل: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على لفظ الجلالة، وهم جمهور القراء.

    فهكذا التقدير: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم استأنف: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].

    وكلتا القراءتين لها وجه، ولكن الذي عليه جماهير القراء -بل جماهير علماء الأمة- أن الوقف الأفضل هو الوقف على لفظ الجلالة، ثم استئناف علم الراسخين في العلم، وإلمام الراسخين في العلم: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7].

    فهنا إثبات أن في كلام الله عز وجل محكماً، وفي كلام الله عز وجل متشابهاً، فأما المحكم فلا إشكال فيه؛ لأنه محكم لا يستطيع أحد من أهل البدع أن ينازع فيه.

    وأما المتشابه وما ظاهره تعارض فإنه لا تعارض في كلام الله عز وجل: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فلما لم يكن فيه اختلاف البتة دل على أنه من عند الله عز وجل.

    فأما أهل البدع فإنهم يتجادلون بالمتشابه من كلام الله عز وجل، وكذا بما ظاهره التعارض من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

    أما الراسخون في العلم من أهل الإيمان والسنة، فإنهم يعملون بالمحكم بغير نزاع بينهم، ويؤمنون بالمتشابه ويمرونه كما جاء، ولا يردون على الله عز وجل شيئاً من كلامه، ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من كلامه كذلك.

    وسنعرف ما هو المحكم في كلام الله، وما هو المتشابه بإذن الله تعالى.

    بيان معنى قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه...)

    [ قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] إلى قوله الله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]؛ قال: (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل فاحذروهم).

    يعني: إذا رأيت واحداً يتجادل ويتماحل ويتخاصم بمتشابه القرآن، فاعلم أنه زنديق أو منافق أو ملحد، فاحذره وفر منه فرارك من الأسد.

    وفي نفس الآية يقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] أي: شك وضلال وحيرة وتيه ومرض فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] فهم دائماً لا يقصدون إلا المتشابه، ولا يسألون إلا عن المتشابه سؤال متعنت لا سؤال متعلم.

    قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ لماذا؟ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] أي: تحريفه، يعني: يطلبون الفتنة.

    ولقد رأيت أحد هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بالشفاعة، ثم أخذ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بعدة المرأة الحامل، وعدة المرأة المتوفى عنها، وبقية العدة في حق المرأة.

    وقال: هذا تضارب في قول الله عز وجل؛ مما يستبين معه للناقد البصير أن هذا الكلام ليس هو من عند الله عز وجل! هكذا تصور أنه ناقد بصير، فهو والله فقد بصيرته وبصره؛ لأن الكلام كلام الله عز وجل. [ قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (هم أهل الجدل في القرآن، وهم الذين عناهم الله عز وجل فاحذريهم يا عائشة !) ].

    [ وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه -أي: من القرآن- فأولئك ذكر الله عز وجل فاحذروهم) ].

    [ وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً في نفس الآية: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الراسخون في العلم الذين آمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه) ]، حتى تعلم علامات أهل الصلاح أنهم إذا جاءتهم آية محكمة عملوا بمقتضاها ومفهومها وظاهرها، وإذا أتتهم آية متشابهة فوضوا وسلموا أمرها إلى الله، مع الإيمان الجازم بأنها كلام الله عز وجل، والله تعالى لا يتكلم عبثاً.

    [ وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذي يجادلون فيه -أي: في القرآن- فهم الذي عنى الله عز وجل فاحذروهم).

    قال أيوب بن أبي تميمة السختياني : ولا أعلم أحداً من أهل الأهواء يجادل إلا بالمتشابه ].

    [ وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7].

    قال: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدود وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به ].

    فإذا كان الناسخ من المحكم فالمنسوخ من المتشابه، والناسخ محكم لأن الناسخ هو النص اللاحق للعمل به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة).

    فقول جرير أو جابر رضي الله عنهما: (أن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتوضأ مما مسته النار) يدل على أنه كان يتوضأ أولاً من كل طعام أعد في النار، ثم نسخ هذا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل مما مسته النار وطهي عليها ولم يتوضأ.

    وقد أعد العلماء كتباً للناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، والناسخ والمنسوخ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام.

    فالناسخ من المحكمات والمنسوخ من المتشابهات، كما أن من المحكمات أيضاً الحلال والحرام والحدود والكفارات، وما يؤمن به المرء إيماناً جازماً، وكذلك من المحكمات الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أمر بأن يعمل به.

    [ فأما الذين في قلوبهم زيغ من أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم ]، أي: يخلطون بين هذا وذاك، [ ويلبسون ] أي: على العامة، [ كلام الله عز وجل، فيلبس الله تعالى عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: آمنا به ]، مهما لبستم يا أهل البدع! فلن يعدو الإيمان الجازم بأن هذا الكلام من عند الله عز وجل منه الناسخ ومنه المنسوخ.

    [ فيقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)، محكمه ومتشابهه ]، أي: يقولون: المحكم من عند الله والمتشابه من عند الله.

    [ وعن الحسن في قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، قال: ابتغاء الضلالة ]، فالفتنة هنا: هي الزيغ والضلال.

    [ وعن أبي أمامة قال في قول الله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] قال: الخوارج وأهل البدع ]، أي: هم الذين يتبعون متشابه القرآن دون محكمه.

    [ وعن قتادة قال: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7] أي: ابتغاء الضلالة ]، كقول الحسن البصري تماماً بتمام.

    [ وفي قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] كان قتادة يحيل هذه الآية على الخوارج وأهل البدع ].

    [ وعنه ]، أي: عن قتادة [ في قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، قال: إن لم تكن الحرورية والسبئية فلا أدري من هم؟ ].

    وكأن الله تعالى عنى هؤلاء، لكن الآية عامة تشمل جميع أهل البدع والضلال.

    والحرورية: هم فرقة من فرق الخوارج، وسموا بذلك لأنهم نزلوا مكاناً يسمى حروراء فنسبوا إليه، أما السبئية فهم من غلاة فرق الشيعة، وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام وقال إن علياً هو الله، حتى جمعهم علي وحرق كثيراً منهم.

    قال: [ ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع ولكنه كان ضلالة فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافاً كثيراً، فوالله إن الحرورية لبدعة, وإن السبئية لبدعة ما أنزلت في كتاب ولا سنهن نبي ].

    قال: (ولعمري لو كانت الحرورية حق لاجتمعت ولكنها تفرقت). وهذا شأن أهل الضلال والإضلال والإلحاد: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]؛ لأن المسلمين اليوم يعتقدون أن اليهود والنصارى على قدم وساق يحبون بعضهم بعضاً! وفي الحقيقة أن اليهود لا يحبون أحداً قط؛ لأن قلوبهم سوداء حتى بعضهم البعض، فضلاً عن سواد قلوبهم تجاه النصارى، كما أن النصارى لا يحبون اليهود، ولا ينسون أبداً قتل اليهود لعيسى بن مريم على أصل معتقدهم في أن عيسى قتل وصلب، وأن الذي قتله وصلبه هم اليهود، فهم لا ينسون هذا الذنب لليهود، وبينهم من العداوة ما بينهم.

    ولذلك قال الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113] فكل أهل ملة منهم يعتقد أن الآخر على الضلال البين، فلا حب بينهم، وهم في الوقت نفسه لا يحبون المسلمين، ولكنهم وإن تظاهروا بالقوة والاعتقاد والاتحاد وغير ذلك فلابد أن تعلم أن كل قلب منهم لوحده، ليس منهم اثنان على قلب رجل واحد؛ لأن الله تعالى هو الذي قضى بذلك: تَحْسَبُهُمْ [الحشر:14] وهذا الكلام موجه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] أي: متفرقة ضالة متحيرة تائهة، لا تدري ماذا تفعل!

    [ وعن الربيع بن أنس في قول الله عز وجل: َأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ )[آل عمران:7] قال: شك ] .

    [ وعن مجاهد في قول الله تعالى: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]، قال: هي الحلال والحرام، وما سوى ذلك من المتشابهات يصدق بعضه بعضاً، وهو مثل قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، وقوله تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، وقول الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7].

    الشبهات: ما أهلكوا به ]، فاتباع الشبهة من شأنه الوقوع في الهلكة، [ والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون: آمنا به ].

    بيان أن صفات الله من المحكمات

    كثير من الناس يعتقد أن صفات الله عز وجل من المتشابهات؛ اغتراراً بقول كثير من السلف: نؤمن بها ونمرها كما جاءت دون خوض فيها بتأويل أو تحريف أو تمثيل أو تكييف، فقالوا: هذا القول يشعر أن الصفات من المتشابهات، فمثلاً: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، ذهب أهل التمثيل والتشبيه إلى أن لله يداً كيد المخلوقات؛ لأن الله تعالى ما خاطب العباد إلا بما يدخل في أفهامهم وتدركه عقولهم، فلما قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] دل على أن له يداً، وهذه اليد مثلوها بيد الإنسان. قلنا: هذا الكلام لا يستقيم لا من جهة النقل ولا من جهة العقل، والدليل على ذلك أن نقول: لم جعلنا يد الله تعالى كيد الإنسان خاصة؟ لم لا تكون كيد الحيوان أو الطير أو الحشرات؟ ولو سلمنا أنها كيد إنسان فهل يد كل إنسان كيد أخيه الإنسان؟ الجواب: لا، بل أحياناً تجد في يد الإنسان الواحد قصوراً في يد وطولاً في الأخرى، وضموراً في يد وسمنة في الأخرى.. وغير ذلك، فإذا كانت اليد في الشخص الواحد أحياناً تختلف، فكيف نقول بأن يد الله تعالى كالإنسان؟ فأي إنسان هذا الذي تشبه يده يد الله عز وجل؟! لابد أن نتوقف في الجواب.

    الأمر الثاني: أننا لا نستطيع تكييف الذات العلية لله عز وجل، ونعجز عن وصفها؛ لأنها لم تر لنا، وليس لها مثيل نقيس عليه، ولو أني قلت: هل رأى أحد منكم إبراهيم؟ تقولون: لا، أقول: إن إبراهيم يشبه محمداً في العين أو الفم أو الأنف أو الوجه أو اليد أو الساق.. أو غير ذلك، فإذا قلت: إن إبراهيم شبيه محمد فقد فهم المخاطب أوصاف محمد وأوصاف إبراهيم، ومحمد معلوم لدينا، لكن الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    فلما لم يكن له مثيل من خلقه ولا شبيه من خلقه ولا كفؤ من خلقه، فلا يمكن معرفة الله تعالى عن طريق القياس، ولا رأينا الله تعالى في الواقع، وإنما يراه المؤمنون في الآخرة، كما أنه كذلك لا يمكن قياس الذات العلية على ذوات المخلوقين فإذا عجزنا عن كيفية الذات، لابد كذلك أن نعجز عن كيفية الصفات؛ لأن الصفات لازمة للذات.

    والفريق الآخر المقابل للممثلة والمشبهة والمكيفة هم النفاة الذين قالوا في قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]: لا يصح أن يكون لله يد، وفي مقدمتهم الجهمية، قالوا: لأن إثبات اليد لله تعالى تستلزم المشابهة، والله تعالى منزه عن ذلك، فلابد من تحريف الكلم عن مواضعه، ولابد من تأويل اليد هنا، فأولوها بالقوة، فلما أرادوا تنزيه الله عز وجل وقعوا في شر مما هربوا منه، وهو التعطيل.

    لكن أهل السنة والجماعة اعتبروا أن الصفات من المحكمات؛ لأننا نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام، على المعنى اللائق بالله عز وجل.

    فالله تعالى أخبر أن له يداً وأخبر أن له قوة، فلا يستقيم قط أن أقول: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] أي: قوة الله فوق قوتهم؛ لأنني لو قلت ذلك وأولت وحرفت النص عن ظاهره، للزمني تعطيل صفة اليد، بل أنا أثبت اليد على المعنى اللائق بالله عز وجل، وأثبت القوة كذلك على المعنى اللائق بالله عز وجل؛ لأنها من صفات أفعاله، والله تعالى واحد في أفعاله، كما أنه واحد في ذاته، وواحد في أسمائه، واحد في صفاته، فإذا أثبتُّ أن له قوة أثبت القوة التي لا علاقة لها باليد التي هي من صفات الذات لله عز وجل، أما القوة فمن صفات الفعل لله عز وجل، وقوة الله تعالى لا تدانيها قوة ولا تضاهيها قوة، فأثبت اليد على المعنى اللائق بالله، وأثبت القوة على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولم يخض أهل السنة والجماعة في معرفة كنه الصفة أو تكييف الصفة، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ذاته ويعلم صفاته على الحقيقة.

    أما البشر فالواجب عليهم أن يؤمنوا بأن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف، وكذلك فعل رسوله عليه الصلاة والسلام، فيجب عليهم أن يؤمنوا بها ويمروها كما جاءت، يفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل، أما علمها وحقيقتها فإننا نؤمن إيماناً جازماً أن الله تعالى له أسماء وله صفات.

    فتبين بعد هذا العرض السريع أن صفات الله عز وجل من المحكمات وليست من المتشابهات، وهذه جزئية لو لم نخرج هذه الليلة إلا بها لكفى؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -بل أهل العلم الذين يصنفون كتبهم- يزعمون أن الصفات من الآيات المشتبهات، وليس الأمر كذلك.

    أما قول من قال: إن الصفات من المحكمات، فهو قول المحققين والمدققين من أهل العلم من المحدثين وغيرهم.

    تأديب عمر لصبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن

    قال: [ قال سليمان بن يسار : إن رجلاً من بني سعيد يقال له: صبيغ بن عسل قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث له وقد أعد له عراجين النخل -جريد النخل- فلما دخل عليه جلس فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ ، فقال عمر : وأنا عمر عبد الله، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين حتى شجه -أي: قطع لحم رأسه- فجعل الدم يسيل على وجهه فقال: حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي ].

    وهكذا كثير من الملاحدة، لكن لما لم يكن لدين الله عز وجل حماة في هذا الزمان، لا من الحكام ولا من المحكومين، لجأ أهل العلم الغيورون على دين الله عز وجل إلى الجدال ورد الشبهة، حتى إني لأعتقد أن كثيراً من المحاضرات والدروس وخطب الجمعة إنما هي رد فعل لكلام الملاحدة، على أية حال هو ضرب من ضروب العلم: لأن العلم أن أعلمك الشيء ابتداءً دون أن تسأل عنه حتى تعلمه، والوجه الثاني: أن تسأل عن شبهة طرأت عليك فأعلمك إياها وأردها عنك وأقيمك على الجادة، لكنه أمر مخجل جداً أن ينشغل أهل العلم الآن بالرد على هؤلاء الملاحدة، مما يدل على أن كل واحد من هؤلاء رفع عقيرته؛ لأن الراية الخضراء أمامه: افعل ما تشاء فهذا هو وقت استباحة المحرمات، ووقت الطعن في الثوابت التي تعلمها أطفال المسلمين قبل كبارهم!

    فنجد من ينازع في أصول الحج، وفي أصول الصلاة، وفي أصول الصيام، وفي أصول الزكاة، وهذه ثوابت لا يجوز زعزعتها من قلوب المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً أو كباراً، فنجد الآن من ينازع ويزعزع هذه الثوابت، حتى يأتي الرجل فيسأل عن شيء لا تملك أمامه إلا أن تضرب رأسك بالأرض أو بالحائط، كيف يسأل عن هذا؟! فيقول: الزنا قضية شخصية فلماذا حرمها الله عز وجل؟ فماذا تقول لهذا؟ هذا لا يصلح معه إلا عراجين النخل، لكن من يملك هذه العراجين الآن؟ لا أحد، فكأن حماة الدين في هذا الزمان يتامى لا أب لهم ولا أم، فقدوا كل سلطان على هؤلاء الملاحدة، بل لو غضبوا لله عز وجل وتمعرت وجوههم ولو مرة؛ لنسبوا إلى الجهاد والتطرف والتزمت.. وغير ذلك.

    وعلى أية حال هذه خطط ظنوها محكمة، لكنها بإذن الله تعالى أوهن من بيت العنكبوت، والله تعالى هو الذي يحمي دينه، وأنا أذكر بهذه المناسبة مقولة عبد المطلب في مواجهه أبرهة الأشرم حينما أتى ليهدم الكعبة، فأخذ الإبل والمتاع، فخرج إليه عبد المطلب وقال: أما الإبل فهي لي وأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه، نعم. فنقول: إن دين الله عز وجل هو دينه الذي ارتضاه وأنزله من السماء، وهذا الدين لا يزال ظاهراً، وطائفة قائمة يظهرونه إلى قيام الساعة، لا يضرها من خالفها من هؤلاء الملاحدة، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون، وهم على ذلك.

    إيجاد السبل في تعلم منهج السلف في الرد على الملاحدة

    قال: [ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سيأتي أقوام يجادلونكم بشبه القرآن، فجادلوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل ].

    أناس سيأتونكم يقولون: الله تعالى يقول مرة: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل:9]، ومرة يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]، ومرة يقول: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:40].

    فيقول: هل هناك مشارق ومغارب؟ هو مشرق واحد ومغرب واحد، إذاً: فما معنى مشارق ومغارب؟

    وإذا كانت المشارق والمغارب متعددة، فكيف يكون المشرق اثنين والمغرب اثنين؟

    ولو أن ملحداً سألك هذا السؤال فماذا تصنع؟ فلابد أن تجيب بكلام أهل العلم، فتكون قد قرأت في الكتاب الفلاني من كلام أهل العلم كيت وكيت وكيت، وهذا هو طالب العلم؛ ولخطورة هذا الباب الذي نحن بصدده أفضل أن ندرس كتيباً صغيراً، مقداره (40) صفحة من القطع الصغير، لكنه من أمتع ما يمكن أن تقرأ في المتشابهات وكيفية الرد على الملاحدة، وهو كتاب الرد على الجهمية، وصاحب هذا الكتاب هو الإمام أحمد بن حنبل ، وهو كتاب رائع، تقرأ فيه وأنت تبكي، من فرحتك برحمة الله بهذه الأمة أن جعل فيها هذا الإمام؛ لأن هذا الكلام كلام إنسان قد فتح الله عز وجل عليه يقينه.

    هذا نور إلهي بثه الله تعالى في قلب هذا العبد، ولذلك إن شاء الله تعالى في الدرس القادم سنتناول هذه الرسالة حتى نعلم حلاوة العلم، والتلذذ في طلبه، ونعرف كيف نرد على الملاحدة، وكيف يفكر الملاحدة؟ وما هي مادتهم؟ مادتهم المتشابهات، هي عندهم متشابهات لكنها عند أهل السنة من المحكمات، وسأبين هذا بإذن الله تعالى في الدرس القادم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087863490

    عدد مرات الحفظ

    774471521