وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! أحيي جميعكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سمعنا الله تبارك وتعالى والحمد لله أن أسمعنا كلامه، وجعلنا من أهل الإيمان به وطاعته، سنعير الآن طرف آذاننا من تلاوة هذا الحزب المبارك الكريم، سمعنا الله تعالى يقول بعد أن أقسم بأعظم قسم: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:1-4]، إنه لقسم عظيم، يقسم هذا القسم من أجلنا، وما نحن؟ ومن نحن؟ يقسم لنا حتى تطمئن قلوبنا إلى الخبر الذي سيلقيه علينا، فالحمد لله أن كنا بهذه المثابة، يقسم الله جل جلاله من أجل أن يلقي خبره مؤكداً؛ حتى لا يكون في نفوسنا ريب مما نسمع، أو شك مما نخبر به ونعلم، فما هو الخبر العظيم؟ على أي شيء أقسم الرحمن الرحيم؟
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]، أقسم الله عز وجل لنا؛ من أجل أن تسكن نفوسنا ولا تضطرب عند هذا الخبر العظيم، فهيا نتأمل ونتدبر، وقد عتب الله على أقوام لم يتدبروا كلامه، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ما زالت الغفلة تحوط بنا وتغشانا، الله الله! اللهم افتح علينا، وأزل هذه الغفلة من على قلوبنا.
الله، من هو الله؟ رب السماوات والأرض وما بينهما، رب كل شيء ومليكه، الذي نحن أثر من آثار رحمته وملكه، يقسم، ولم لا؟! بأي شيء أقسم؟ بأعظم قسم؛ ليقول لنا: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]، ما الذي وعدنا به؟ وعدنا -أولاً- بالتمكين نقرأ ذلك في قوله جل جلاله وعظم سلطانه من سورة النور من كتاب النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، هذا موعود، وُعِدَ به المؤمنون، وأنجز الله لهم ما وعد، كأنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ديار الطائف، وقد جاء يعرض الإسلام، بل ويعرض النصرة على خصومه وأعدائه، فيرد خائباً وقدماه تسيلان بالدماء، وصبيان الطائف وعبيده يرمونه بالحجارة ويزلقونه بها، فرجع شارداً يبكي، وما هي إلا سنيات لم تبلغ الربع قرن: خمساً وعشرين سنة، وإذا بالمملكة الإسلامية، حدودها في الشرق نهر السند، وفي الغرب بلاد الأندلس، وخمس وعشرون سنة لا تكفي لإنشاء مصنع حتى ينتج ويثمر، فيصل ظل الإسلام حتى يغطي نصف المعمورة، أنجز الله وعده.
وقد أقسم الله عز وجل أيضاً: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:1-11].. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18].
ارتاد رسول الله صلى الله عليه وسلم دار السلام، ووطئتها قدماه الشريفتان، ورأى فيها ما رأى، ورأى سدرة المنتهى؛ حيث جنة المأوى، هذه الجنة ماذا نعرف عنها؟ يعرف عنها الذي خلقها، فقد وصفها بما لا مزيد عليه، وإن كان وحياً تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من أوحي إليه رفع إليها ليشاهد الغيب وإذا هو شهادة، ذاك الذي كان يبشر به ويخبر عنه وكله ثقة فيما يخبر به ويبشر، رفعه الله إليه؛ ليكون الغيب شهادة، فرأى الجنة ونعيمها، رأى الجنة دار السلام، لو نقرأ فقط بعض الآيات.
يقول تعالى وقوله الحق في وصفها: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، سواء كان عربياً أو عجمياً، في الأولين أو الآخرين.
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].. ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48].. فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50].. فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52].. مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54].. فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، (فيهن) (فيهما) الأمر العجب.
الجنات فيها الحور العين، وماذا بعد أن يصفهن بقوله: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38]؟
إذاً: وصف الله ماءها، أنهارها الجارية فيها، طعامها، ظلالها، حورها، قصورها، أسواقها، وحسب رسول الله أن يقول مخبراً عن الله: ( يقول تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر )، مجرد خطور على القلب ما خطر على قلب إنسان، هذا فوق ما وصف.
إذاً: إِنَّمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:5] على لسان نبيكم، في سطور كتابكم: لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، لا كذب فيه، فكيف نتحرك؟
ذاكم الصحابي في غزوة بدر، الذي كان في كفه تمرات يأكلهن؛ فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجوم، وقبل اقتحام المعركة بأن من دخل هذه المعركة فقاتل في سبيل الله صابراً محتسباً فقتل دخل الجنة، والرجل الأنصاري في كفه تلك التمرات، فأكل بعضها ثم نظر إليها، وقال: إن صبرت وانتظرت حتى آكلها إنها لحياة طويلة، ورمى بتمراته في الأرض ودخل المعركة، لينتقل فوراً من عالم الأرض إلى عالم السماء؛ لأنه مؤمن بصادق وعد الله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5].
وفي أُحد ذاك الذي خرج من بيته بجنابته لم يغتسل، فخرج واقتحم المعركة إيماناً بصادق وعد الله، وما هي إلا جولة وإذا الملائكة تغسله من جنابته، ويلقب بهذا اللقب: غسيل الملائكة.
معشر المسلمين! إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، في دنياكم وفي أخراكم.
في دنياكم طهارة للأرواح، نظافة للأبدان، سعادة للأرواح، سعادة للأجسام، طهر وصفاء، حب وولاء، مودة وإخاء، لا تشاهد ما يعكر حياتك، ولا يؤلم قلبك، في بلد كله طهر وصفاء، يعمه السلام، أزقة المدينة وشوارعها لا تسمع فيها ليلك ولا نهارك إلا السلام، إذ كل مؤمن يلقى أخاه في منعطف بشوارع المدينة يقول له: السلام عليكم، بل كانوا يخرجون من بيوتهم ليسلموا على بعضهم، وإذا مررت بأزقة المدينة تسمع دوياً كدوي النحل من قراءة القرآن وترتيله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، لقد وعدهم وأنجز ما وعدهم، وعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، هذا عامل مدينة تونس للخلافة الرشيدة يكاتب الخليفة ويقول له: لقد كثرت عندنا الأموال، ما وجدنا من يقبلها، استغنى الناس، لا يرغبون بالدنيا، فماذا نعمل بهذه الأموال؟ فقيل له: اشتر عبيداً وأعتق في سبيل الله.
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، وعدنا الله عزة قعساء تناطح الجوزاء، وحقق ما وعد وأنجز، والله ما عرفت دنيا البشر كمالاً في الأرواح، ولا الأخلاق، ولا العقول، ولا الأبدان، كما عرفته في تلك الأعصر الذهبية التي كان المؤمنون فيها مؤمنين، وكان المسلمون فيها مسلمين بحق.
إن الأوروبية كانت إذا بكى طفلها تقول: العربي عند الباب! هذا صيت العرب لما كانوا مسلمين، تخوف طفلها بكلمة عربي، بمعنى: مسلم؛ لأن العرب هم الذين حملوا راية الإسلام وكتاب الإسلام وسيف الإسلام، ووصلوا به إلى أطراف المعمورة وبلغوه الأنام، يبكي الطفل فتخوفه أمه في باريس أو برلين: اسكت، عربي عند الباب، أية عزة بلغت هذا المكان؟!
هل تعرفون أن أحدث المخترعات العصرية ما هي إلا بفضل العرب المسلمين الأولين؟
أقول هذا لأني وإياكم سمعنا: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، أروني أين أخلفنا الله؟ أي مؤمن استقام على منهج الله وأخلفه الله؟ أذله؟ أو أهانه؟ ما كان ولن يكون؛ لأن الله غالب على أمره.
إِنَّمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:5] من العزة القعساء، والكرامة التي لا حد لها، والرزق الطيب الواسع، والهناء، والطمأنينة، والمحبة والإخاء و.. و.. قل ما شئت، ربك صادق فيه، وسوف يعطيه.
ومرة ثانية يقسم الجبار قسماً عظيماً فيقول: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6] أحببتم أو كرهتم الجزاء لابد منه، إنها سنن الله، الماء يروي، هل فيكم من قال بطل مفعوله ما أصبح يروي الظمآن؟ الطعام يشبع، سنة لا تتخلف، هل فينا من يقول: ما أصبح الطعام يقطع جوعتي؟ النار تحرق، هل تخلف مفعولها ما أصبحت تحرق؟ الحديد يقطع، فهل تخلف الحديد عن قطع ما يوضع عليه؟ ما تخلف.
واعلموا أن لصادق وعد الله أعمالاً نقدمها، وبها ينجز الله لنا ما وعد، كما أن الجزاء يكون على أعمالنا، كذلك هذا الجزاء له أعماله وأسبابه، ويتم بمقتضاها وموجبها، فما ذاك يا عبد الله؟
عندنا إيمان وعمل صالح، وعندنا شرك وكفر وعمل فاسد، ما هناك غير هذا، إيمان وعمل صالح، بهما يكون صدق الوعد الإلهي، وعندنا شرك وكفر ومعاص وبمقتضاها يكون الجزاء الحتمي الذي لا يتخلف، وإليكم صورة واضحة: لو أنتهر غلاماً في غضب وأصفعه لتغير وجهه تغيراً كاملاً إلى اسوداد وعبوس، حتى يصبح وجهه كريه المنظر، لم؟ نتيجة للسيئة التي ظهرت.
ولو أنني أضع في يده حفنة من الرطب أو الحلوى أو ريالات في جيبه لتغير وجهه إلى وجه مشرق وابتسامة تعلوه، وكأنه فلقة قمر، نتيجة للحسنة التي ظهرت.
هل تتخلف هذه السنن؟ الحسنة بريد دار السلام والسيئة بريد دار الهوان، أصحاب الحسنات يرفعون، وأصحاب السيئات يوضعون، فالناس صنفان اثنان: إما أعلى وإما أسفل، إما عليون وإما سجين، هل هناك وسط؟ اللهم لا وسط، حياة أو موت، عز أو مهانة، جوع أو شبع، طهر أو خبث، هذه الزوجية التي أعلن عنها القرآن قبل أن يعرف الناس معنى الزوج.
فلهذا صادق وعد الله يتوقف على الإيمان والعمل الصالح، الجزاء الحتمي الواقع: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6]، متوقف على الشرك والمعاصي، فهل يستطيع أحد أن يناقش القرآن في هذه القضية ويرد عليه، والله ما كان ولن يكون، فمن أراد صادق الوعد فليؤمن وليعمل الصالحات، بعد أن يتخلى عن الشرك والمعاصي؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان، ولا يمكنك أن تظفر بالملكوت الأعلى مع سلوكك الذي يقتضي منك الملكوت الأدنى، لابد من التخلي قبل التحلي.
يا عبد الله! إذا هيأت ثيابك النظيفة وأعددت عطرك الطيب إياك أن تلبس ثيابك وتتطيب وأنت متسخ الجسم، ادخل حمامك بصابونك وليفتك، واغسل جسمك وتأكد من تنظيفه، ثم البس ثيابك وتعطر بطيبك واجلس مجالس الصالحين.
أولاً: إيماناً افترضه وبينه وحدد معالمه.
ثانياً: عملاً صالحاً قننه تقنيناً وحدده تحديداً وجعله كما شاء في خلقه؛ جعل ذلك العمل الصالح لا يثمر المطلوب منه من الزكاة والطهر إلا إذا كان يؤدى أداءً كما بين الشارع وحدد، وإلا فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه، أما الجزاء فإنه لواقع، وقد وقع وشاهدنا.
فالإعراض عن ذكر الله وشكره والإقبال على غير الله هذا هو الذي يترتب عليه الجزاء الذي قال تعالى فيه: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6]، لا يتخلف ولا يرده راد.
معشر الأبناء والإخوان والمستمعات من المؤمنات! أما بلغكم أن الصحاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأخيه: تعال بنا نؤمن ساعة.
أما بلغكم أن الحسن البصري سأله سائل وقال له: يا حسن ! هل أنت مؤمن؟ -لم يقل له: أتشك في إيماني؟- قال: يا سائلي؟! إن كنت تعني الإيمان الذي ذكر الله تعالى في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، فـالحسن لا يدري أمؤمن هو أو غير مؤمن، وإن كنت تعني بالإيمان التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره فـالحسن مؤمن.
الإيمان طاقة موجهة، طاقة دافعة يعرف من خلال سلوك العبد، لو كانت السماء الآن تمطر، والمطر غزير، ويخبرني مخبر ويقول: أيها الشيخ! إن المطر غزير، خذ عمامتك ثم أخرج ورأسي عار مكشوف، فهذا يدل على أني ما آمنت، وما صدقت المخبر.
أيضاً شخص يعلمك أن وراء الباب من يترصدك ويريدك ليسفك دمك فأنت وتصديقك، فإن آمنت بالخبر وصدقته ما خرجت أبداً إلا على صورة تمكنك من النجاة، أما أن تسمع الخبر وتخرج وأنت تضحك وتبتسم هذا مجنون وإلا كافر بالخبر ما صدق به.
أعطوني شاباً مسلماً، أقول له: أسألك بالله لو عرض عليك تاج للمملكة العربية من الخليج إلى المحيط وغداً تتوج على أن تترك الصلاة تقبل أو لا؟
سيقول: لو أعطيت ملك الدنيا كلها -إن شاء الله- لا أقبل.
وأنا أقول: والله لو أعطينا مثل الدنيا سبعين مرة ما قبلناها مع ترك الصلاة، عرفتم هذه؟
والذين لا يصلون ما شأنهم؟ ماذا أعطوا؟ ما الذي أعطيناهم حتى تركوا الصلاة؟ فقط كفروا الله، ما آمنوا بما عند الله، ما آمنوا بما لدى الله، ما عرفوا الله؛ فلهذا ما صلوا.
وعلى هذا فليكن القياس، المؤمن بحكم إيمانه حي يسمع النداء ويبصر العظات والعبر، وينطق بالخير والمعروف، ويمشي إلى الهدى، ويأخذ ويعطي ما هو نافع وخير؛ لأنه حي، فالمؤمن حي، والكافر ميت، لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يأخذ ولا يعطي، وانظروا إليهم واسمعوا عنهم، ادعوا الكافر للحق والخير هل يستجيب؟ لا يستجيب.
فالإيمان إذا وجد دل على وجوده سلوك المؤمن، الإيمان هو الذي ينتج العمل الصالح، والعمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان، فاجتناب ما يكره، ما يبغض، ما هو شر، هذا ما هو إلا ثمرة من ثمرات الإيمان، فمن وقر الإيمان في نفسه إيمان علم ومعرفة وإيمان تقليد وتبعية، سنة الله في هذا الإيمان أنه يدفع إلى الخيرات والمنافسة في الصالحات، ويمنع ويحول دون الباطل والشر والفساد، ولا يقبلها أبداً، ويتمعر وجهه لرؤيتها ولذكرها أيضاً.
فيا من يرجون وعد الله الصادق! قدموا الإيمان الصحيح.
مؤمنة تسمع قول الله في الإذاعة وتسمعه في المحاضرة وفي الخطبة و.. و.. و.. وتخرج كاشفة عن وجهها، متبرجة في شوارع مدينتها وسوقها، هذا يدل على إيمانها؟ فهي إحدى امرأتين: إما كافرة مظلمة النفس، وإما مغرر بها بأن كشف الوجه يجوز، واحدة من اثنتين: إما أن تكون مؤمنة إذا سقط نصيفها من على رأسها تقع على الأرض: واكشفتاه! فكيف تزيح الخمار عن وجهها وتقابل الرجال في الشوارع؟!
فهي واحدة من اثنتين: إما أن قلبها مظلم ما عرفت شيئاً عن السماء والملكوت الأعلى، بهيمة ماشية على الأرض، وإما غروها وغشوها بكلمة: لا بأس بالوجه والكفين.
أنا ماذا أقول لكم يا أهل الإيمان؟!
أرأيتم لو أن أحدكم أذنب الليلة ذنباً؛ أخذ ريالاً حراماً، أسألكم بالله كيف ينام؟ كيف يكون عشاؤه الليلة؟ فكيف لو ضرب مؤمناً أو آذاه في جسمه أو عرضه، كيف يبيت يتقلب؟!
إذا بات كأنما على الجمر فاعلم أنه مؤمن، وإذا كان يؤذي مؤمناً في عرضه أو ماله أو جسمه ثم يبيت يضحك فقلبه ميت لا إيمان، وأين الإيمان؟! وقد عرفتم ما أنتم عليه، لو أن أحدكم يعطى ما في الأرض على أن يترك الصلاة ما تركها.
إذاً: الإيمان أعطيكم ميزانه، اسمع يا عبد الله! الإيمان: هو في حقيقته وجوهره ألا يكون لك مع الله حق الاختيار.
إذا كنت تريد أن تكون مؤمناً فعندما تدخل حظيرة الإيمان وتنتظم في سلك المؤمنين لم يبق لك حق الاختيار، وإذا بلغك أمر الله أو رسوله ما عليك إلا أن تطبق، وإن عجزت تبيت تتمرغ، وتظل تذرف الدمع على خديك، كلما ذكرت بأمر الله الذي فرطت فيه بكت عيناك واضطرب قلبك ووجلت بين يدي الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، خافت واضطربت.
يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36]، أي: ما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا حكم الله أو حكم رسول الله بإذن الله وقضى بقضية وقال: حلال أو حرام، لم يبق للمؤمن مجال للاختيار، فما عليه إلا أن يسلم لقضاء الله ويقدم ما طلب الله منه، أما مؤمنة تسمع مثل هذا الكلام، وتخرج سافرة بين الأنام، أتشك في كتاب الله أم في سنة رسول الله؟ أم ماذا؟
أقول: الحد الفاصل للإيمان أنك تكون خاضعاً منقاداً لحكم الله، لو طلب منك إحدى عينيك لقدمتها، لو طلب منك إحدى يديك لقدمتها، طلب منهم كلهم فأعطوه كلهم، الذين يسقطون شهداء في معارك الإسلام في أفغانستان أعطوا لله كل شيء، السمع والبصر واليد والرجل والعقل والنفس، أما أن يطلب الله منك شيئاً خفيفاً وتشح به وتبخل، وتؤثر سمعة أو شهرة أو تؤثر حالة مادية أو معنوية اجتماعية، وتعيش وأنت مطمئن وتضحك! ما أظن هذا يتفق مع الإيمان.
كلنا يذنب ولكن إذا أذنبنا بكينا، ودمعت العين، واحترق القلب، وتمزقت الكبد، وشعرنا بالمصيبة، ولو كان الذنب كلمة.
أما إذا كان العبد يترك الواجبات ويهمل الفرائض، ويغشى الكبائر، ويدخل في مساخط الله ورسوله ويظل يبتسم ويأكل ويشرب، هل هذا مؤمن؟ لا نخادع أنفسنا، وإن كنا نتسامح ونبشر ولا ننفر، ولكن الحقيقة هي هذه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36]، لما فرض الله الحجاب سلوا عائشة تخبركم رضي الله تعالى عنها، خرج نساء الأنصار وعلى رءوسهن الخمر السوداء، فقالت: (ما إن نزلت آية الحجاب حتى خرج نساء الأنصار وكأن على رءوسهن الغربان) جمع غراب أسود، نزلت الآية اليوم وتلاها المسلمون ودخلت بيوتهم وفرحوا بها، فخرجت نساء الأنصار وكأن على رءوسهن الغربان. هذا هو الإيمان.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش أم المؤمنين الأسدية بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خطبها لـزيد بن حارثة الكلبي مولاه، فلما عرفت أنها مخطوبة لمولى، قالت: لن يتم هذا الزواج ولن يكون أبداً، شرفي قبل كل شيء، والله ما إن نزلت هذه الآية حتى طرحت نفسها بين يدي رسول الله يزوجها لمن شاء، وفيها نزل هذا القرآن: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
ومعنى هذا: لم تحلق أنت وجهك؟ أما أنت بمأمور؟ أنسيت أن رسول الله أمر؟ أنسيت أنها أوامر حقيقية صادقة عاش عليها المسلمون عشرات بل مئات السنين؟ فما يرتابك؟ لم لا تعفي لحيتك، وتظهر في رجولتك وفحولتك وأنت عبد الله ووليه، والدنيا كلها تحت قدميك؟ من يساويك يا عبد الله؟ الأبيض أو الأصفر، النصارى واليهود والبوذيون والهندوس والمجوس، والله كلهم لو وضعوا في كفة ميزان لكان هذا المؤمن أرجح منهم وأثقل، هؤلاء نقلدهم ونجري وراءهم؟! قلدناهم لما غلبونا وداسونا بنعالهم، لما رفع الله تلك الأقدام المنتنة على رءوسنا، نبقى تابعين لهم نغضب الله ورسول الله من أجل أن نرضيهم؟
اللهم لا يرضون علينا، اللهم إنا نطلب رضاك، ونطلب سخطهم، ما نريدهم أن يرضوا علينا.
فالذي من أبنائنا ما بدأ بعد الشعر يظهر في لحيته، ماذا نطلب منه؟ دلل على إيمانك بالدموع، بالاستغفار، أما أن تسمع أمر الله ورسوله ثم لا تبالي به، أين رأسك؟ أنت تصلي إلى أي مكان؟ قضى رسول الله، فلم لا تنفذ أمر رسول الله، أرجأناك أسبوعاً، شهراً، أرجأناك سنة متى تتوب ومتى تعود؟! هذا مثال فقط، فالمؤمن يخطئ، ولكن مع الخطأ التوبة والشعور بالألم، وقد قلت لكم وتجدون في أنفسكم: صاحب الإيمان إذا أخطأ يبقى الليالي والأيام وهو متألم متضايق، أما أن يغشى الكبيرة والصغيرة ويرفع رأسه ويضحك ويأكل ويشرب، وينام ويلهو أيضاً! فمسكين هذا، أين الإيمان؟
إذاً: نريد الجزاء وننحرف ونعيش منحرفين وذنوباً كالجبال، ولا توبة ولا مراجعة، وقد يتجاوز أحدنا الخمسين والستين عاماً، فهذا معناه أننا نريد المحنة، والله الآن جاءت الفكرة، لو يستمر العرب والمسلمون على هذه الوضعية ليبتلون بشيء ما ابتلوا به أيام الاستعمار الغربي، والله إن لم يتدارك الله هذه الأمة بتوبة عاجلة لابد وأن يذيقها أشد مما أذاقها؛ لأن سنن الله لا تتبدل.
سلوا الأندلس الخضراء جنة الدنيا، أصبحت في خبر كان، نتيجة ماذا؟ نتيجة الأغاني؛ في المستشفيات يغنون للمرضى ليطربوهم، العلاج بالموسيقى، هذه الأندلس، وقل ما شئت من الترف، فلما رآهم الله غير أهل لولايته وكرامته سلط عليهم البرتغال والأسبان، بقي شيء اسمه الأندلس، أو تقولون هذه فلتة وقعت فقط؟
تعالوا بنا إلى الجمهوريات الإسلامية: بخارى، أين تلك الأمة التي البخاري أحد رجالها؟ أين هي؟ مسخوا، حتى الأسماء بدلت، كيف أصابهم الله بهذه المصيبة؛ لأنهم أغضبوه، فهل إغضابهم لله يجازيهم به وإغضابنا نحن لله لا يجازينا به؟ ما هي صلتنا بربنا؟ عندنا نسب غير نسبهم؟ ألسنا كلنا عبيد لله؟
لما تبجح كفار الطائف ومكة وقالوا ما قالوا، قال الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، دمرنا عاداً وثمود وأصحاب الأيكة وقروناً كثيرة؛ لأنهم كفروا بنا وكذبوا رسلنا، وأنتم كفركم ممتاز، لا يضر؟! أليس هذا كلام الله: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]؟
إذاً: توبوا وإلا تنزل المحنة، هذه سنن الله التي لا تتبدل، ولكن الغفلة ضاربة أطنابها، نعيش وكأننا سائمة الهوام، ما ذكرنا ولا تفكرنا أن الخطر يحدق بنا حتى نؤخذ، الإيمان قوة باطنية تدفع وتبعث إلى العمل الصالح، وإذا رأيت العبد ما أصبح يقوم بواجب ولا يتخلى عن مكروه، فاعلم أنه لا إيمان فيه مات، هذه السيارة بوقودها تدفعها فتمشي، وإذا نفد وقودها وانقطع ادفعها، اجعلها تمشي بكراهة لن تمشي، كذلك الروح تنتهي.
هذا هو الذي يريده الله من الإيمان، الإيمان أن تكون عبد الله مستعداً لاستجابتك لنداء الله عز وجل ورسوله، فتفعل المأمور وتترك المنهي، فإن عجزت ظللت تبكي وتستغفر، ولا تنام كما ينام الغافلون، بل تنام وأنت تستغفر الله، وتطلب منه السماح، وتطلب منه المعذرة، وتطلب منه وتطلب منه حتى يفتح باب التوبة وتتوب.
هذا الإيمان شرط يضاف إليه العمل الصالح، بل الإيمان ينتج العمل الصالح، وكل ما في الأمر أنه يجب أن نتعلم ما هو العمل الصالح، وبعبارة أكثر: ما هي الأقوال والمعتقدات والأفعال التي يحبها الله عز وجل فنفعلها ونقدمها له؛ لتكسبنا رضاه ولتؤمن حياتنا في الدنيا والأخرى من الخطر والأذى؟ العمل الصالح كلمة يشرعها الله تقال في وقت معين أو في وقت مطلق، هذه الكلمة شرعها الله عز وجل ومصدرها الكتاب والسنة، هذه الكلمة تسمى: العمل الصالح، إذا قالها العبد مؤمناً ممتثلاً أمر الله أو متقرباً بها إلى الله، وقالها كما علّم رسول الله، هذه تنتج له الحسنة التي تشرق لها الروح البشرية، تنتج له الطاقة التي تزيده طاقة وتحمله على أن يفعل ويترك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر