أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد اختار أحد الأبناء أن تكون الكلمة الليلة تحت عنوان: (كيف ندعو إلى الله؟) وأجبته إلى ذلك.
الدعوة إلى الله عز وجل هي عبارة عن رد الشاردين من عبيده الآبقين عن طاعته إلى طاعة الله، فالله جل جلاله ربنا وسيدنا وولي نعمتنا وولي أمرنا، ونحن عبيده، فقد يأبق من يأبق منا، ويشكر من يشكر، لعوامل كثيرة، ومن أظهرها أن هناك عدواً لله، كاشف الله بالعداوة وصارحه بها، وأقسم بربنا أن يضل عبيده ويغويهم ما أمكنه الإضلال والإغواء، فلا يشعر عبد الله إلا وقد أسر وأخذ، فترك خدمة سيده، وأصبح يخدم عدوه، تمرد على طاعة مولاه، وأصبح عبداً طيعاً يعبد ويخدم عدو الله، فالوساطة في هذا الشأن من أفضل الأعمال، أن يراك ربك تتوسط بينه وبين عبيده الشاردين العاصين المتمردين فتردهم إليه واحداً واحداً وجماعة بعد أخرى.
فلهذا شرف الدعوة إلى الله شرف عظيم.
والحمد لله ما منا إلا وهو مدعو باسم الله إلى أن يسهم في هذه الدعوة وأن يضرب فيها بنصيب، وهذا كتاب الله، يقول عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو شافع لرسول الله، منتظم في سلك أمة رسول الله، وعليه أن ينهض بما يستطيع أن ينهض به في هذه الدعوة، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول، فدعوة العبد لنفسه لتستقيم على طاعة الله، وتسير على منهاج هداه، هذا إسهام كبير يسهم به عبد الله في الدعوة إلى الله.
الانتقال من نفسه إلى من حوله من ذويه وأقربائه كالزوجة والولد والأخ والأخت كذلك يكون قد أسهم بسهم كبير، وتمتد السلسلة إلى أن تصل إلى أبعاد وآفاق بعيدة، والداعي دائماً يشعر بأنه يقوم بخدمة مولاه، برد عبيده الشاردين عنه إليه، ويتقاضى على ذلك أجراً عظيماً.
فأجر الدعوة إلى الله لا ينبغي أن يكون مالاً بيننا، ولا ينبغي أن يكون اكتساب شهرة فينا أو سمعة عندنا، أجر الداعي فوق ذلك؛ أجره عند الله، ولن يرضى الله عز وجل للدعاة أن يتقاضوا أجراً على دعوتهم إلى الله، والقرآن الكريم وآياته شاهدة: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، قالها نوح وقالها هود وقالها صالح وقالتها الأنبياء، وقالها وعني بها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
معشر الأبناء والإخوان! نلفت نظركم إلى هذه الحقيقة، وهي أن يكون عبد الله واسطة بينه وبين ربه وعبيده؛ لأن عبيد الله لا يسعدون ولا يكملون أبداً وهم آبقون شاردون من سيدهم؛ لا سعادة ولا كمال إلا في ساحة الله، فمن خرج عن ساحة الله وعاش بعيداً عن رضاه قد يصل بشقائه إلى أن يبلس ويصبح من المبلسين؛ أعداء الله عز وجل.
ومن هذا لأن تتصدق بكلمة طيبة تجلب بها عبداً شارداً تكون كلمتك خيراً من إطعام جائع وبلا مماثلة، حقاً الجائع يطعم من أجل أن يعيش ليذكر الله ويشكره؛ ليحفظ حياته لله، ولكن النافر، الشارد، الآبق عن طاعة الله رده إلى الخدمة والمساعدة على الطاعة فيه حياته أكثر من حياة الطعام والشراب.
ومن هنا انطلق أسلافنا الفاتحون، ومن هذا المنطلق شرقوا، وغربوا، وشمألوا، وتيامنوا حاملين راية الدعوة إلى الله، وسطاء بين الله وبين عبيده، إذ لا يمكن للعبد أن يسعد في غير دائرة رضا مولاه، ولا يمكن للعبد أن يكمل لا خلقاً ولا روحاً إلا إذا كان آخذاً بتعاليم مولاه.
وقد استطاع العدو أن يغزو البشرية وأن يجتاحها في كل ديارها، وأن يبعدها عن ساحة ربها، وأن يستعبدها شر استعباد وأن يستغلها أسوأ استغلال، فمن لهذه البشرية؟ لها الله مولاها، هو الذي يصطفي من يشاء، ويختار من يريد، ويبعث رسله وأنبياءه، وللرسل والأنبياء أصحاب وحواريون وتلاميذ؛ يقومون بهذه الدعوة؛ دعوة رد العبيد إلى سيدهم؛ ليكملوا ويسعدوا في ساحة مولاهم.
هل لي أن أذكركم بأن
أبا عبد الرحمن فروخ والد ربيعة الرأي المدني شيخ مالك بن أنس خرج شرقاً يغزو من ثغر إلى آخر، ومن فتح إلى فتح، فلم يعد إلا بعد خمس وعشرين سنة، فوجد ربيعة الرأي الذي تركه في بطن أمه أو رضيعاً؛ وجده في حلقة الدرس وحوله آلاف الناس يسمعون.
هذا الذي بذل السلف، وهذا هو العطاء الذي أعطوه، ولم يزد حالهم على أن فهموا أن أشرف الأعمال وأبركها وأفضلها أن تكون واسطة بين الله وبين عبيده الذين أخذهم عدوه، فتعمل أنت وتبذل ما تستطيع لتردهم إليه، يا لها من مكانة عالية!
فطريق الحب والحصول عليه هو منك، فابدأ أنت، ولا تطمعن أبداً أن يبادر الله إلى حبك وأنت لم تبادر، هذه الحقيقة تمثلت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله )، وهذه حقيقة لنقف عندها لحظة: لا تفهمن أبداً أن يكون الله هو البادئ، فأنت العبد، أنت المحتاج، أنت المفتقر إليه، فابدأ أنت.
ومن هذا قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فهم الذين يبدءون، إذاً: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً حقيقياً، مشياً وراءه، لا تتقدم عليه ولا تمشي عن يمينه أو عن يساره، بل تقتفي آثاره، وقد سابق الناس في هذا، وكانوا يتمثلون حياة رسول الله حتى في لحظه ونظره؛ يمشون وراءه حذو القذة بالقذة، طمعاً في أن يحبهم الله، وقد أحبهم الله، وإن سألت عن السر في ذلك فالسر واضح، فهل عرفت أن الله لا يحب إلا الطاهرين الطيبين؟ أمر مطلوب منه: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
فأصحاب الأرواح الخبيثة من أوضار الشرك والمعاصي العفنة المنتنة لم يأذن الله تعالى لها في مجاورته، بل ولا حتى في عروجها إلى السماء، وسواء كانت الروح روح قريب أو بعيد، وإن كانت نفساً لامرأة نبي، والقرآن شاهد، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ومن باب التدليل بالنصوص القرآنية على هذه القضية وقضايا مشتركة: وهي أن الله لا يقبل -فضلاً عن أن يحب- إلا من كان طاهراً، لا مجال للخبث أبداً في حب الله وولايته ومجاورته.
من أبرز الآيات في هذا الشأن آية الأعراف، إذ يقول تعالى وقوله الحق: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، والتكذيب مانع من اقتفاء آثار الرسول واتباع خطاه للحصول على تزكية النفس وتطهيرها: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] والاستكبار كالتكذيب مانع، لا يسمح لصاحبه أن يقتفي آثار رسول الله، فيجور ويفجر، فهو أبداً مستكبر.
إذاً: فحكم الله فيهم كما قال تعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ومتى كان البعير الأورق والجمل الأصفر يدخل في ثقبة إبرة الخياط؟ مستحيل هذا.
إذاً: صاحب الروح الخبيثة مستحيل أن يتبوأ الفراديس العلا، وأن يواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذه الحقيقة ينبغي أن تعلم.
ويقول تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، كهذا الجزاء؛ جزاء الحرمان من جوارنا نجزي كذلك المجرمين؛ لأنهم أجرموا على أنفسهم، أفسدوها، صبوا عليها ما صبوا من أطنان الذنوب والآثام، فأصبحت غير أهل لكرامة الله وجواره.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، الظالمون يجزون بهذا الحرمان لم؟ لأنهم ظلموا أنفسهم، صبوا عليها أطنان الذنوب والآثام، أخفوها، دسوها، عفنوها، ما أصبحت أهلاً للملكوت الأعلى، ولله سنن ثابتة كالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، فلا مجال للأمان أبداً ولا للأطماع الفارغة، مصيرك -يا بني- أنت الذي تقرره اليوم قبل يوم القيامة.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فالذي يهمل نفسه ويرميها في المهملات والمزابل، يأتي بها يوم القيامة منتنة عفنة من يدخلها الجنة؟!
ولما فرضت الهجرة رأينا كيف أن المهاجرين والمهاجرات يتسللون إلى المدينة النبوية اتباعاً، إيماناً بالله، طاعة لله، استجابة لنداء الله ورسول الله، وتخلف أناس آثروا الحياة الدنيا، أعجبه دكانه ومتجره، أعجبه منزله، أعجبته امرأته، عز عليه أن يغادر البلد الذي يسعد فيه إلى بلد يشقى به وفيه، قال تعالى وهذا هو الشاهد في عرض القرآن: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموها؟ لأنهم رضوا بفاني، ورضوا أن لا يعبدوا الله، إذ الأوضار المتسلطة عليهم تمنعهم، فبقوا فماتوا، جاءت الملائكة تأخذ تلك الأرواح: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، أي: بترك الهجرة التي ترتب عليها ترك عبادة الله عز وجل، لما تستدعى تلك الروح وتستخرج فإذا هي مظلمة، منتنة، عفنة، فتقول الملائكة: إنكم في مزبلة أو فيم؟ وتأملوا الاستفهام في كلمة (فيم)، فيم كنتم أنتم؟ هذه الأرواح المنتنة العفنة فيم كانت؟ كيف حصل هذا؟ لأنهم ما عبدوا الله، ممقوتون، أرواحهم تدست؛ أصيبت بالظلمة والعفونة والنتن، أنكرتها الملائكة، ما هذه الأرواح؟ أين كنتم؟ اعتذروا حيث لا ينفع الاعتذار: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ [النساء:97]، ويكون الرد الإنكاري التوبيخي: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، ونذكر أولئك المستضعفين المضطهدين وراء الأسوار في الاتحاد السوفيتي، مساكين مغلوبون على أمرهم، لا يستطيعون أن يسموا أطفالهم باسم محمد ولا إبراهيم ولا صالح، وننظر إلى المسلمين المتحررين وقد تركوا عبادة الله باختيارهم وإراداتهم وحرياتهم الكاملة، فكيف يكون الموقف؟ لا ضغط، ولا اضطهاد، ولا تعذيب، ولا صد لأحد من باب المسجد، ولا سلخت المرأة من حجابها، ولا ألزم رجل بتعاطي الأفيون ولا شرب الخمر، والمسلمون باختيارهم وإراداتهم معرضون عن عبادة الله!!
أمر يستدعي الاستغراب؛ لأنهم ما عرفوا الله، عرفوه معرفة سطحية لا قيمة لها، أما الذي عرف فإنه هرب وطلب النجاة، يتخطى الأسوار الحديدية ويهرب؛ وهذه يستدعيها المقام؛ لأننا نتكلم عن الدعوة إلى الله، فالذين يموتون في دار الحرية، لا صلاة، ولا زكاة، ولا طهر، ولا صفاء، يموتون على الخبث، فهؤلاء يرخص لهم؛ لأنهم في بلاد الحرية! ولا يرخص للمضطهدين المعذبين وراء الأسوار!! من يقول بالمساواة؟!
إذاً: قال تعالى في هذه الحقائق: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] السامون الأعلون: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فهم أطاعوا الله والرسول؛ لأن هذه الطاعة هي مزكيات الروح ومطهرات النفس، عملوا بها، زكت أرواحهم، طابت نفوسهم وطهرت، تأهلوا للملكوت الأعلى، والذين أهملوا نفوسهم وأعرضوا عنها واشتغلوا ببطونهم وفروجهم وتركوا أنفسهم، سوف تؤخذ وسوف تلام، سوف يقال: فيم كنتم؟ سيقولون: كنا في المدينة النبوية، بلاد الطهر والفضل، ما لهذه الروح منتنة عفنة؟! واقرءوا قول الله عز وجل من سورة الأنعام وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، هذه الآية جديدة النزول أم أنها قديمة؟ ما تعرضت للشرك ولا للكفر ولا للظلم، ذكرت الفسق والاستكبار، وقد أصبح طابعاً عاماً 75% من أمة الإسلام، فسبحان الله العظيم، إنه لقرآن عجب!
ولو ترى -يا بني- الملائكة وهي تتوفى وتميت وتستخرج أرواح الظلمة ماذا تقول؟ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93]؛ لأن الروح الخبيثة إذا شاهدت ملك الموت وأعوانه وقد بلغت الحلقوم فجأة تعود إلى الجسم وتلتصق به خوفاً من الخروج، ولهذا قال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، فتؤخذ بقوة وشدة أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
الشاهد: أن هذه الأرواح كانت تقول على الله غير الحق، ومعنى هذا أنها كانت تدعو إلى خلاف ما يدعو الله ورسوله إليه، ومعنى هذا: أن دعوتهم إلى الباطل، كانوا قد عاشوا على مقتضاها، فهم عاشوا على دعوة باطلة، فلم تزكُ أنفسهم، ولم تطهر، ولم تطب، وجزاكم الله خيراً.
قدم لـعمر رضي الله عنه لونان من الطعام أو ثلاثة، ولم يبلغوا ما يقدم لنا صباح مساء، فقال: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
عمر وما أدرانا ما عمر ومن عمر ؟ عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون لكان منهم
يا أبنائي! الحقيقة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بأدوات التزكية والتطهير وباعدها عما يدسيها نجا وفاز بالملكوت الأعلى وفتحت له أبواب الجنة، وواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
ومن أبى إلا تدسيتها بأوضار الشرك والمعاصي والإعراض عن كل مزكٍ لها ومطهر حتى كلمة لا إله إلا الله في إخلاص وإنابة فلا يلومن إلا نفسه.
أما أن يدعو وهو جاهل فإنه يتعب الناس ويحيرهم، ولا تقولن: ومن أين لنا العلم؟ العلم ميسور، سئل ابن عباس رضي الله عنه: بم نؤتى العلم يا حبر؟ قال: بلسان سئول وعقل عقول، بلسان سئول كثير السؤال، وعقول كثير العقل والضبط.
ولهذا أقول دائماً للمؤمنين في مثل هذه المجالس: لسنا في حاجة ماسة إلى مدارس ومعاهد وكليات أبداً، تلك للصناعات، أما بالنسبة إلى الطريق إلى الله والفوز برضا الله فلا نفتقر إلى كل هذا أبداً، اعمل بفأسك ومسحاتك طول النهار، وإذا أردت أن تعبد الله بشيء اسأل العالم: كيف أعمل لربي؟ فإذا قال: افعل كذا فعلت، ولم يحل بينك وبين الفعل الدنيا كلها، وقد ضربنا أمثلة لهذا، يجيء الرجل ويقول: (أي العمل أحب إلى الله يا رسول الله) في طرف الحلقة، فيقول: كذا وكذا، فلا يترك ذلك العمل حتى يموت.. (أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟) فيقول: كذا، فلا يقربه حتى يموت.
فعلومنا ومعارفنا الموصلة لأرواحنا، إلى ذلك الكمال لا تفتقر أبداً إلى هذه المدارس والكليات، وليس هذا تثبيطاً لعزائم الناس، ولكن نقول: ما هي بحاجة أبداً، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثرهم أميون، لم يعرفوا القلم ولم يكتبوا به، لكنهم أصدق هداة الأنام، مصابيح الدجى، أناروا الحياة؛ لأن هذا العلم ما يفتقر إلا إلى الإخلاص والصدق والتطبيق، ليست العلوم معارف فقط تتراكم، وأصحابها والعياذ بالله تعالى مقطوعو الصلة عن الله، لا يربطهم بالله رابط.
الدعوة تفتقر إلى العلم، من دعا إلى شيء يكون قد علمه وعرفه، هذه المعرفة حتى لا يخوف الناس ويقول: يجب أن تدرسوا وتترقوا وتتنقلوا من مدرسة إلى أخرى.. أبداً، اسألوا، تعلموا، تأتي بالرجل وتقول له: أي عبد الله! اقرأ علي القرآن، أسمعني كلام الله، فيقرأ آيات فتنطبع في نفسك، وتشع أنواره في قلبك، وإذا بك مزدهر النفس، مجرد أن يسمع فقط، أما قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] سمع وفهم وعرف، إن شاء الهداية اهتدى، وإن رضي بالضلال بقي على ضلاله، فهو السماع فقط.
فالذي يعوزنا أو ينقصنا هو الصدق، أما العلوم والمعارف فهي متوفرة والأعمال قلت، فمن هنا أقول: العلم يا من يدعو إلى الله! اعلم ثم ادع، كيف تعلم؟ اسأل، تعلم، جالس الصلحاء والعلماء وتعلم، عرفنا أميين ما قرءوا ولا كتبوا، يقول لك: الآية الفلانية في السورة الفلانية، والله العظيم، ولم يحمل القلم، ولم يعرف الألف ولا الباء.
واحذر من الجهل؛ فإن الجاهل بالشيء لا يستطيع أن يهدي به وهو جاهل به، ولا ينفع أبداً، فلابد من العلم، وطلب العلم فريضة، ليس على اختياري، كل مؤمن يجب أن يعرف الطريق إلى الله، يعرف محاب الله ومكارهه، يعرف الله أولاً بأسمائه وصفاته، فإذا عرف دعا.
ونستشهد له بمسألة عمر رضي الله عنه، فقد هجس في نفسه هاجس، وخطر بباله خاطر، وقال: نحن أميون لا نقرأ ولا نكتب، فكيف قبلنا الإسلام ودخلنا فيه بمجرد أن سمعناه؟! وأهل الكتاب جيراننا من اليهود والنصارى أهل كتاب يقرءون ويكتبون ويعرفون ولم يسلموا ولم يدخلوا في الإسلام؟ حقيقة، هذا هاجس سجية في النفس، كيف هم علماء وما قبلوا هذا الدين، ونحن أميون فقبلنا! أي سبب لهذا؟ وفي القرآن الجواب:
أولاً: قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]، تدخل في مساجدنا في البلاد الإسلامية يوم الجمعة قبل الصلاة، تجد الأمة تقرأ القرآن وفي أيديها مصاحف، فتظن أنهم علماء، وأنهم عارفون، وأنهم بصراء، فقهاء، يقرءون كتاب الله، وفي الواقع لا يعرفون شيئاً، إلا مجرد قراءة، كما كان أيضاً جيراننا بالمدينة من اليهود، لما يدخل عليهم في بيتهم ودارهم وإذا مصاحف التوراة بين أيديهم يدجلون ويهمهمون، قال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ، إلا قراءة، أحد وجهي التفسير، وأوضح من هذا: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [النساء:162]، وهذا هو الفرق بين صاحب القدم الراسخة وبين المعلومات الوهمية السطحية، وهذه حقيقة تأملوها وتدبروها، أما سمعنا الله يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، والرسول يقول: ( أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له وأشدكم خشية )، انتبهوا! فأيما عالم علمه سطحي ما تمكن من نفسه ولا استطاع أن يحول أو يغير غرائزه، فهذا العلم صاحبه ذلك أمي، فالعلم الحق هو الذي يغير نظريات الإنسان ومجرى سلوكه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، حتى قالوا: العلم الخشية، فمتى وجدت الخشية فالعلم حاضر، وهو كذلك والله العظيم، لو وجدت الأمي ترتعد فرائصه من خشية الله؛ يخشى أن ينظر نظرة لا ترضي الله، أو يعمل شيئاً يسخط الله، فاعلم أنه هو العالم، عرف أيقن بوجود الله وجماله وكماله، وما لديه وما عنده، وترى الرجل يتلو ما يتلو ويقرر ما يقرر ويتصرف في معارف العلوم ويمحو ويكتب، وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه ساعة، وتراه كالهمل في المعاصي والموبقات، فهل هذا عالم؟ ما علم، علمه سطحي، ما هو بيقيني.
وقد حضرت محاضرة للشيخ أمين الحسين الفلسطيني ألقاها في الجامعة الإسلامية أيام فتحها وبدايتها، وهي كلمة جديرة بأن يسمعها الأبناء ويعوها، وهي: أن هذا التنظيم التعليمي وبرامج التعليم ليست برامج إسلامية نبعت من فقهاء الإسلام ورجال العلم فيه، بل هي مستوردة من الغرب، نهايتها كبدايتها؛ بدايتها إزالة الأمية حتى يتفاهموا مع أناس غير أميين؛ لأن الغرب لا يعطونهم حقهم، ويقولون: نرقى بالمستعمرات أو بالشعوب المتخلفة الفقيرة التي تحت أيدينا إلى مستوى يتجاوزون به حد الحيوانية، حتى إذا خاطبناهم يفهمون عنا، وأوصلوا الناس إلى مستوى الذبذبة والحيرة.
فأوجدونا كما يعلمنا الله؛ علماء غير علماء، عارفين غير عارفين، أميين ولسنا بأميين، ولهذا أسوأ حال يعيشها المسلمون هي هذه، لمن يعمل أو يتقي؟ هذا تخطيط ليصبح العبد في مستوى الذبذبة، وينتهى به.
أيام كان يطلب العلم لله، ويعكف عليه طالبه، يجلسون عليه السنين لا يضطر للإجابة، إذ هم فقط يتعلمون ليعرفوا الله ويذكروه، ليستقيموا على المنهج الذي يعبدونه به، فلما أصبح التعليم شهادات تصل بالطالب إلى وظيفة، من هنا أصبح العلم -يقيناً- علوماً سطحية في آذان المسلمين، ما تعمقت ولا توصلت إلى وجدانهم، وإن رأيت أناساً صالحين فاعلم أنهم ما أخذوا هذا من العلم، أخذوه من المجاورة أو التربية أو المجالسة لآبائهم أو مشايخهم، أما العلم الذي تلقوه فما ينتج خشية ولا يولد التقوى؛ لعلة معروفة: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، لو تجتمع الدنيا كلها على نقض هذه القاعدة والله ما نقضوها، ولم يختلف الأمر أبداً: (لكل امرئ ما نوى).
فإذا كنا نطلب العلم للوظيفة فعلى العلم السلام، وعلى العمل كذلك السلام؛ لأننا أصبحنا ما نعبد الله بهذا العلم، وإذا هان هذا في الذكران فما بالنا في الإناث؟! الإناث يتعلمن ويتسابقن لأي غاية؟ ليعبدن الله؛ لتتمكن الخشية من قلب أمة الله فتخر صارخة إذا ذكر الله؟ اللهم لا، لأي شيء إذن؟ للتيهان والضياع، هل بلغكم أن من المتعلمات المتخرجات في العالم الإسلامي ربانيات كـالزهراء وعائشة ؟ لا؛ لأن العلم ما طلب لله؛ طلب إما لوظيفة أو لسمعة أو شهرة، وما لم يكن كذلك لا يكمل تقواه.
ومن هنا نقول: بعد العلم اليقين، يجب أن تكون علومنا يقينية، ما ندعو ونحن شاكون في الله، ما نخوف من عذاب الله ونحن غير مطمئنين إلى وجود هذا العذاب، ما نرغب في النعيم العلوي ونحن غير موقنين بأن هناك نعيماً، لا ندعو إلى الإصلاح عن طريق كتاب الله وسنة نبيه ونحن غير موقنين أن الإصلاح من طريقهما، لابد من مستوى اليقين، كما نقول: أقسم بالله الذي لا إله غيره، ما كمل إنسان ولا سعد في الدنيا والآخرة إلا على الإيمان وصالح الأعمال، إلا بعد أن يخلص من أوضار الشرك والمعاصي، لن يستطيع أحد أن يقنعنا أن شعباً أو أمة يمكنها أن تكمل أو تسعد على غير الإيمان وصالح الأعمال يقيناً، فلهذا إذا دعوت أنا فإنما أدعو النقيض وهو الشاك، فالذي يدعو وهو شاك ما ينفع، لابد من اليقين.
فلابد من الإخلاص والتجرد، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب؛ فإن الله ما كلفنا المستحيل ولا كلفنا شاقاً؛ بل التكاليف كلها وإن كانت من الكلفة والمشقة، ولكنها ميسورة وسهلة لمن استعان الله عز وجل، وطلب أن يعينه.
معاشر الأبناء! أطلت عليكم، والحديث ذو شجون، ولا شك أنكم عرفتم من المحاضرة شيئاً، وهو أن أشرف حال أن يكون عبد الله واسطة بينه وبين عبيده، كل واحد منا يظهر بهذا اللسان يرد إليه من شاء من عبيده وإمائه، حسبه هذا، ولابد أن يكون عالماً بربه ومحابه ومساخطه، لابد أن يكون موقناً يقيناً كاملاً كأنه يرى الله، ويرى جنته وناره؛ لأن حارث الأنصاري سئل عن إيمانه، فقال: آمنت وأصبحت معه كأني أنظر إلى ربي فوق عرشه، آمنت إيماناً أصبحت معه كأني أنظر إلى أهل الجنة وهم يتزاورون فيها، وكأني أسمع أهل النار وهم يتضاغون ويتصايحون فيها، قال: عرفت فالزم.
علم، يقين، إخلاص، الإخلاص: أن تنظر إلى ربك فقط؛ لأنك داع، وبهذه الخطوات يحصل المؤمن على هذا الشرف، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم من أهله.
الجواب: هذه أسئلة كثيرة، وتحوج إلى وقت أكثر، والجواب أن نقول: ليس شرطاً أبداً أن تكون أبا حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد ولا مالكاً ، والإحاطة بالعلم غير ممكنة، ولكن حسبك أن تعرف شيئاً عن الله فتبلغ، قلّ أو كثر، إيماناً واحتساباً، ولهذا كل مؤمن يسمع حديثاً أو يسمع آية ويعمل بها يجد لذاذتها في روحه يؤديها إلى محروم منها، أما اشتراط مستوى معين للدعوة إلى الله هذا في وزارات الإعلام والسياسة، أما بالنسبة إلينا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، فقط لا يحل لأحد أن يقول برأيه في دين، ولا أن يفتي الناس بهواه فيضل ويُضل، أولئك الضالون المضلون.
أما لو سألك أحدهم: من فضلك أين المسجد؟ وأنت تعرف المسجد، فتأخذ بيده وتأتي به إلى المسجد، لهذا الدرس، هذا ما يحتاج إلى علم، فليس شرطاً أن نحصل على علوم ومعارف نفخر بها ونتميز حتى نصبح دعاة، والطريق كما قدمنا: ابدأ بنفسك، انقل إليها الهدى، فإذا فاض عنها انقله إلى غيرها.
الجواب: هنا طريق شائك، وعقبة كئود تفتقر إلى مؤمنين صادقين، فتذل وتُذلل تلك الصعاب وتلك العقبات إيمان فقط، اسمعوا هذا الجواب واحفظوه: كيف الخروج من هذه المحنة أو الخلاص من هذه الفتنة؟ إننا نفقد كل يوم من بعضنا ومن أجسادنا العديد، لما تراكم علينا وتكالب علينا من الفتن، إذاً كيف المخرج؟
المخرج أن نعرف كما عرفنا الليلة أننا في حاجة إلى إنقاذ، أننا في وجه تيار عنيف يصرفنا عن الله بكل عنف، حتى نسقط كالحشرات لا خلق ولا دين ولا مروءة، إذ هذه أمنية الصهيونية العالمية، كيف نخلص من هذه الفتنة؟ وقد كتبت هذا ونشرته وقلته مئات المرات إن كنا جادين، الطريق هو أن نعتبر أنفسنا أننا أقليات، كأننا نعيش في لندن وباريس أقلية؛ لأن أهل الفسق والظلم والفجور أقوى، أما يشعر المسلمون بهذا الشعور ويبكون؟
الله يقول: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36]، ولو كان بيتاً واحداً، أهل كل حي إذا آمنوا يذهبون إلى مسجدهم في الحي منتبهين، يأتون ببناتهم ونسائهم في جانب المسجد وأطفالهم، وهم يشهدون الصلاة في الجانب الثاني، وكل ليلة وطول العام، ويتلقون العلم والمعرفة ما بين المغرب والعشاء، ويعرفون أنهم يواجهون أخطاراً أكثر من السيول العارمة والطوفان فيعتصمون ببيوت الله، أهل كل حي في كل مسجد كأهل كل قرية إذا عرفوا الطريق إلى الله منجاهم أن يفزعوا إلى ربهم، إذا ضيفت الشمس إلى الغروب ما يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يريد النجاة، مؤمن يتكلم باللسان، عرف أن الطوفان يجرفه، أراد أن ينقذ نفسه، تتغير الحياة في نظرنا.
إذا ضيفت الشمس للغروب، ومال كل أهل الحي فزعين إلى المسجد بنسائهم وأطفالهم، يجلسون الساعتين يصلون الوقتين، ويتعلمون الهدى كما نتعلم الآن، ويعودون شباعاً قد تغذوا، ينزلون بيوتهم لا فخر ولا عجب، إن احتاجوا إلى الطعام طعموا أو الشراب شربوا، وناموا ليستيقظوا آخر الليل يذكرون الله ويعبدونه؛ ليصلوا صلاة الصبح، ثم ينتشرون في أعمالهم؛ الفلاح، الكناس، الحداد.. كل في عمله، هذا هو طريق الإنقاذ، إذا شذ شاذ في الحي يستدعونه يروضونه كالجمل شيئاً فشيئاً، فإن استعصى وأبى شكوناه إلى حاكمه: هذا الشخص يؤذينا في حينا أبعدوه، وسوف يستجاب لهم ويبعد، وهنا طهرت الألسن، وطابت النفوس، وعرفنا الطريق، أما أننا نحن نحب الهوى ونتلذذ بالشهوات، ونريد أن نغني، وهمنا أن نأكل ونشرب وننكح، وبعد ذلك نقول: التيارات، ونقول: الحكومات، هذا الكلام لا يغني فتيلاً يوم القيامة عنا، إياكم أن تفهموا أنه يخلصكم أن وزارة الإعلام دمرتنا، ونحو ذلك، والله ما هو بحجة أبداً، ولا تقوم، الحجة تقوم على المستضعفين المعذبين في ذات الله إن لم يتمكنوا من الهجرة، فإن تمكنوا منها وأبوا فلا عذر لهم ولا حجة يوم القيامة كما قال تعالى ذلك، والمسلمون اليوم ما نستثني إلا رقعة صغيرة في العالم الإسلامي، نعم أهلهم مضطهدون، قطعوهم بالحديد والنار، وباقي المسلمين هم الذين أرادوا الفساد والشر، جروا وراءه وطلبوه، ما تحاشوا عنه أبداً، ولا بكوا ولا صرخوا، هم البادئون، والله الذي لا إله غيره.
فلهذا طريق النجاة أن نراجع الطريق، أن نفر كالفرار من الأسد وصاحب المرض المعدي، يفر المسلمون إلى مساجدهم، هذا هو الطريق، فإذا ظهر صلاحهم هيأ الله لهم الصالحين، ومن غير هذا الطريق كل المحاولات فاشلة وكاذبة.
الجواب: هذه الآية نزلت في اليهود، فالذي يدعو إلى الصلاة وهو لا يصلي مهزلة أو لا؟ يدعو إلى الحجاب وامرأته تخرج سافرة عاقل هذا أو مجنون؟ يقول: الربا حرام، وهو ساقط في معاملات ربوية .. ونحو ذلك كثير، فهي تنال كل من يدعو إلى خير وهو تاركه، شاك فيه أو كافر به: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ؟ الشيخ الآن يتعنتر عليك ويخطب، فإذا أذن العشاء خرج وما صلى، هذا أمر الناس بالبر وترك نفسه، الآن ندعو إلى الصدقة: أيها المنفقون، أيها المؤمنون، أخوكم مريض، يخطب الشيخ وجيبه ملآن ما يمد يده لريال واحد، هذا ممن تعمهم الآية، والآية وإن كانت نزلت في اليهود فهي عامة في كل الناس؛ لأن القرآن كله هداية إلهية.
وإذا كان العبد عاجزاً فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان لا يأمر بالمعروف إلا من يفعله كما قال ابن عباس ، ولا ينهى عن المنكر إلا من ينتهي عنه، فلن تكاد تجد من يأمر وينهى، لكن لا تكون الصفة الغالبة على الإنسان، أما الكمال المطلق فهذا ليس لنا، فالإنسان لابد أن يعمل ويشارك فيما يأمر به وينهى عنه، والكمال لا يتوفر في كل الناس.
الجواب: هذه دعوى، أنا أقول يا أبنائي! وقد عاشرت هذه الأباطيل وعشتها وجربتها، أقول لكم: لا تكفروا شيعياً ولا رافضياً ولا تواجهوه بالكفر، حسبنا أن نقول: الذي يعتقد أن أم المؤمنين ارتكبت الفاحشة فهو كافر؛ لأنه كذب الله ورسوله، الذي يطعن في أصحاب رسول الله ويسبهم ويكفرهم ويلعنهم، هذا كافر؛ لأن الله يقول: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، فمن أغاظ أصحاب رسول الله فهو كافر، الذي يعتقد أن جبريل خان أمانته ووضع الرسالة في غير موضعها وأعطاها محمداً دون علي فهو كافر لا نتردد في كفره، وليست القضية قضية شيعة فقط، بل أي رجل في مدينة الرياض، في المدينة النبوية، إذا قال كلمة الكفر يكفر، وإذا اعتقد الكفر كفر بكلمة، ما يشترط في الردة أن يكفر بكل شيء؛ إذ كيف يرتد الشخص؟ بكلمة يكذب الله فيها، أو يجحد معلوماً من الدين بالضرورة، فنقول لهم: الذين يعتقدون ما في كتب الروافض كفار، والذي ما يعتقد الحمد لله، ولي رسالة صغيرة عن الشيعة، قدمتها لهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى طريق الهداية، لما وصلتهم أغلقوا باب التوبة على أنفسهم، أعرضوا عن الهداية لأنفسهم واشتكوا للملك فيصل رحمة الله عليه، وجاءني إمام جامع طهران وإمام جامعة طهران إلى الجامعة الإسلامية، كيف نحل المشكل؟ أنت فلان؟ قلت: نعم، لم تكفرنا؟ قلت: معاذ الله، أنا لا أكفر أحداً، ولكن أقول: الذي يعتقد هذا الكلام يكفر، خذ هذا الكلام ليهودي أو نصراني من أي جنس، وقل له: هذا الكلام في الإسلام قائله يكفر، قال: نحن ما نعتقد هذا، قلت: الحمد لله، إذا كنتم لا تعتقدون هذا فأنتم والحمد لله مؤمنون.
إذاً: الحل ما هو؟ اكتبوا براءة مما جاء في كتاب الكافي وهو من أهم كتبكم وعمدة عندكم، وسأنشر الرسالة وأطبعها وأرجعها في الموسم المقبل، ونحن والحمد لله على وعدنا، فهل استطاعوا أن يكتبوا؟ ذهبوا ولم يرجعوا إلى الآن، فنحن لا ندخل معهم في صراع ولا نزاع، نقول الذي يعتقد الباطل مبطل، والذي يعتقد الحق محق، نحن لسنا أمناء على الخلق نكفر ولا نؤمِّن، الذي يعتقد الكفر يكفر والذي يعتقد الإيمان هو مؤمن، ومن طلب الهداية وجدها.
الجواب: الجماعات والأحزاب نوع من الخذلان والضلال، ضرب من الفتن، الجماعة الحقيقية هي جماعة المسلمين، جماعة المسجد، أهل الحي هم الذين يعالجون مرضاهم، ويداوون من به سقم بينهم؛ يطعمون الجائع ويكسون العاري، ويدفعون عنهم الظلم، أما أن فينا أحزاباً عامة فهذا نظام اليهود والنصارى.
الحقيقة ما قلت لكم وأقسم عليها بالله: الطريق للنجاة.. للإنقاذ هو أن أهل كل قرية يعرفون ربهم ويجتمعون على ذكره وطاعته، كل أهل حي لهم مسجد يجتمعون فيه مع إمام المسجد وواعظه ومدرسه ويتعاونون على البر والتقوى على إنقاذ أنفسهم من الفتن، حتى يفوزوا دنيا وأخرى، وغير هذا ما أعرف طريقاً سليماً أبداً.
الجواب: الكتب ذات الطابع الباطل أنهى الشاب أن يقرأها؛ لأنها تفسد عقله وقلبه، أما الكتب الإسلامية الهادفة التي هي فقه أو حديث أو سنة، كل كتاب ينتفع القارئ بحسب نيته ورغبته واستعداده للعمل بما فيه، ما هناك كتب معينة، الكتب الإسلامية الخالية من الشرك والخرافات والبدع، كالكتب الخالية أيضاً من النعرات والنزعات الفلسفية والسفسطة، كتب الإسلام كلها نافعة، كتاب الله وسنة الرسول هذا هو المنهج، أيما كتاب يحمل القرآن والسنة هو الهدى.
وأبشركم بأن تفسيراً تحت الطبع، وعما قريب سيخرج، وأرجو أن يكون سليماً واضحاً سهلاً، يضعه الإنسان في بيته كأنما وضع نوراً يهتدي به، هذا الكتاب إن شاء الله سوف يعمم بينكم، واقرءوه يغنيكم عن غيره.
الجواب: الطريقة المثلى أن تهاجر، فقد وجبت عليك الهجرة، مادام أهلك تأتيهم النار فأين البر، وأين الصلة، وأين الأخوة والأبوة؟ إذا أنت تعرف أن أهلك في قرية يعيشون على الضلال والانحراف، وأنت تؤمن بالعذاب وتتوقع أن يحل بهم فيجب أن ترحل إلى أهلك وذويك وأن تكون معهم كالصارخ بثمود، هذا هو الحل، تعود إليهم وتأكل الرغيف معهم وتبيت معهم، وتدعو أهلك وتنقذهم من النار، أما أن تعيش هنا وأهلك تأكلهم النار فلا، فهذا واجب وضروري عليك.
الجواب: الذي أقوله ولا أشوش به على الأبناء والمستمعين، ومستوانا ما هو ذاك المستوى العالي في هذا المجال، أنا أقول: الحديث أفاد فائدة جليلة عظيمة، أولاً: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، هنا يا أبنائي لو تعرفون الدس والمكر والكيد الذي يواجه المسلمين في هذه الجملة فقط، لقد مضى على المسلمين عشرات بل مئات السنين؛ قرون، ولا يعرفون من الأولياء إلا من مات وبني عليه قبر أو قبة، ومعنى هذا: ما بقي بين الأحياء ولي، كانوا يغزو بعضهم بعضاً ويأكل بعضهم بعضاً، وكل شيء مباح في قرون عديدة أصابت المسلمين، ولم يبق من ولي إلا الذي بني عليه قبر قبة وضريح، ولو تدخل إلى القاهرة على جلالتها، وتقول: أنا غريب من فضلك دلني على ولي من أولياء هذه المدينة، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن الولي هو الحي.
كلمة: (من عادى لي ولياً) هذه تجعل المؤمنين لا يمد أحدهم يده إلى أخيه المسلم، ولا يمد لسانه إلى أخيه بسوء، ولا بصره ولا سمعه؛ لأنه ولي الله، فمحوا منا هذه الصفة وجعلونا أعداء الله، وحصروا الولاية فيمن مات، وقد قلت لكم على علم: والله لو تدخلون القاهرة أو أي مكان وتقول: دلوني على ولي أنا غريب، لوصلوا بك إلى قبر، ولم يعرفوا أن أهل القرية فيهم ولي يعبد الله، لقد استبحنا دماءنا وأعراضنا وفعلنا العجب حتى سلط الله علينا الكفر فحكمنا الخسف من إندونيسيا إلى المغرب، كيف تهيأنا لذلك، والتاريخ مليء بهذا.
إذاً: أول شيء نعرفه: أن كل مؤمن يعبد الله هو ولي الله، ويحرم أذاه بأدنى أذى، لا في عرضه ولا في نفسه ولا في جسمه، وهذه قد غفلنا عنها.
ثانياً: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، نعم، دقيقة في الفريضة تعدل سبعين دقيقة في النافلة، ولهذا إذا أقيمت الفريضة فلا صلاة غير الفريضة، لماذا أنت مشغول بنافلة؟ ودقيقة في الفريضة تعدل سبعين دقيقة في النافلة، فالذي ما يؤدي الفرائض كيف يؤدي النوافل، الذي يهمل الفرائض ويضيعها ويفسدها أنى له أن يحافظ على النوافل؟ فالذي أدى الفرائض وأكملها على أحسن وجوهها، حينئذ ينتقل إلى مرحلة أخرى ليسابق وينافس في الكرامات والولايات: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي ) العام والعامين والثلاثة والأربعة حتى يحصل على الحب من الله، فلابد من منافسة، متى يكون هذا؟ لا نعلم، وضع الله لذلك علامة، أنت الآن بدأت تتقرب إلى الله يوماً بعد يوم بالنوافل: الصيام، الرباط، الجهاد، الصدقات، الذكر، الدعاء.. أنت مستمر، إلى متى؟ من يدرينا؟ يقول الله عز وجل: ( حتى أحبه )، حتى يجده، يا طالب الحب واصل حتى تجده، وهذا الحب أبلغنا رسول الله أن احتفالاً في السماء يتم لهذا، ( يقول تعالى: يا جبريل إني أحب فلان ابن فلان فأحبه، فيحبه أهل السماء ويلقى له القبول في الأرض )، كيف نعرف أن فلاناً أحبه الله؟ ما هي العلامات التي تدلنا على أن الله يحب فلاناً، وقد جاهد وصام كذا سنة، وهو يتملق إلى الله ويتقرب؟
نعرف ذلك: إذا ملك الله عليه سمعه؛ فأصبح لا يسمع إلا ما يحب الله ورسوله، ملك عليه بصره؛ فأصبح لا يفتح عينه فيما يغضب ربه، ملك عليه يده؛ فلا يحركها أبداً في معصية، ولا يتنفس ولا يأكل ولا يبقي إلا ما أذن الله فيه، حتى إن الرجل منا -والله- ليمشي إلى سهر باطل والشر والفساد ليسهر الليلة، ولا يريد أن يمشي خمس خطوات إلى المسجد.
إذاً: فكونه سمعه وبصره لا تفهم منها أكثر من أن الله ملك عليه حواسه وأصبح لا يستخدمها إلا في مرضاته، هذا هو المأخوذ من فقه الحديث، فإذا أردت أن تعرف أنك محبوب لله أو لا، تعرف ذلك إذا أصبحت تسمع المنكر فتمرض، إذا رأيت المنكر ما تفتح عينيك، لا تستطيع أن تمد يدك إلى حرام أبداً كأنها مشلولة، ما تستطيع أن تمشي خطوة إلى باطل أو شر، علمت أنك لله استخلصت ذلك: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، إذا بلغت مستوى أن الله مولاك، حتى إن الشيطان لا يطمع فيك أبداً، وهذا أنفع من حديث هذا الباب..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر