أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة، ليلة السبت من يوم الجمعة في سالف أيامنا ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، ونظراً لقرب رمضان -قد يكون بعد غد- فرأينا أن نذكر أنفسنا بأحكام الصيام، وهي من الضروريات، يجب على من أراد أن يدخل في عبادة أن يعرفها ويعرف كيف يؤديها ويعرف فضائلها؛ حتى تنتج له زكاة نفسه وطهارة روحه.
هل نحن في حاجة إلى تزكية نفوسنا وتطهيرها؟
نعم، لقد صدر حكم الله على البشرية جمعاء أن من لم يزك نفسه خاب وخسر، ومن زكاها أفلح ونجا وفاز، وإن قلت: من أين لك هذا؟ قلت:
ألم تقرأ سورة: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]؟ أما قال تعالى بعد الأيمان الثمانية أو التسعة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؟ أبعد هذا تسأل؟
صدر حكم الله علينا -الأولون كالآخرين- أن من زكى نفسه وطيبها وطهرها فأصبحت كأرواح الملائكة دخل الجنة، ومن خبَّثها ولوثها بأدران الذنوب والآثام وكانت كأرواح الشياطين فهي في جهنم دار البوار.
ويجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذه الجملة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هذا حكم الله.
بم نزكي أنفسنا، وما هي مواد التزكية والتطهير؟
الإيمان والعمل الصالح، مع إبعاد النفس عما يدسيها من الشرك والذنوب والمعاصي، فكل عبادة سرها أنها تولد لك الطاقة النورانية لنفسك؛ فلهذا إن لم تخلص في العبادة لله بطل مفعولها، ووالله لا تنتج لك نوراً ولا إيماناً.
ثانياً: إن أديت على خلاف ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما تزكي نفسك، وهي باطلة، وعندكم فقهاؤكم قل له: يا شيخ! أنا صليت الصبح وزدت فيها ركعة؛ لأني فارغ ليس عندي ما يشغلني فزدت ركعة ثالثة؟ لن يقول لك: صلاتك صحيحة؛ لأنها عملية لتوليد النور المعبر عنه بالحسنات، فإذا أنت زدت فيها أو نقصت بطلت، أو قدمت أو أخرت بطلت؛ فلهذا يجب على كل من يريد دار السلام أن يزكي نفسه بالإيمان وصالح الأعمال، وبإبعادها عن أوضار الشرك والآثام.
فمن هنا بين أيدينا رسالة من رسائل الدعوة وهي: لماذا نصوم نحن المسلمين؟
أولاً: لماذا نصوم نحن المسلمين وغيرنا لا يصومون؟
ثانياً: كيف نصوم؟
لقد عرفتم أن العبادة عبارة عن عملية توليد النور وتزكية النفس، إن لم تكن مشروعة من قبل الله تعالى لم تنفع، يستحيل أن يقوم رجل أو مليون من علماء الأرض بإنتاج كلمة فقط من قالها زكت نفسه، أو إيجاد حركة طويلة أو قصيرة متعبة أو مريحة ثم يقولون: من فعل هذا زكت نفسه، والله ما كان ولن يكون؛ ولهذا العبادات شرعها الله في كتابه وبينها رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، فمن زاد فيها أو نقص منها أو قدم أو أخر بطلت، أي: لم تنتج الطاقة المفروضة، ولم تولد النور للنفس البشرية، واسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أعطيكم مثالاً محسوساً: لو تجتمع البشرية كلها هل تستطيع أن توجد لنا غذاء وهواء وماء غير ما خلق الله للحفاظ على الجسم البشري؟ مستحيل، فكذلك الروح يستحيل أن يوجد لها إنسان ما يزكيها أو يطهرها، إنه لا يقدر على ذلك.
لو قال لكم أحد: قوموا الليلة نطوف بالحجرة الشريفة سبعة أشواط من فعلها كان له كذا وكذا، والله لا يمكنه ولا حسنة واحدة، والله ولا أقل ما يكون من زكاة النفس وتطهيرها.
الآن عرفتم لماذا ندرس الصيام، لنتعلم كيف نصوم، وحتى ينتج صومنا لنا زكاة أرواحنا وطهارة نفوسنا، عملية للنفس ما هي للبدن.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وصحبه.
وبعد:
لماذا نصوم نحن المسلمون؟
نصوم لأننا مسلمون ]، أي: أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله، هذا هو الإيمان.
لم نصوم؟ قال: [ لأننا مسلمون، آمنا بالله رب العالمين رباً، وبالإسلام دين الله ديناً، وبمحمد رسول الله نبياً ورسولاً؛ فلذا نحن المسلمين نصوم تنفيذاً لأمر ربنا وطاعة له عز وجل ].
قال: [ نصوم تنفيذاً لأمر الله ربنا ].
وماذا؟
[ وطاعة له عز وجل حيث كتب على عباده المؤمنين الصيام وفرضه عليهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184] ].
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] من الأمم.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: ليعدكم لتقوى الله عز وجل، لعل هنا الإعدادية، تعد الصائمين لتقوى الله عز وجل وتساعدهم على ذلك.
وقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] ليست أعواماً ولا أشهراً عديدة.
أي: ما ينبني عليه.
قال: [ على خمسة أمور منها: الصيام ].
قواعد الإسلام خمس منها الصيام.
قال: [ فقد روي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس ) ].
أي: دعائم.
قال: [ ( شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ) ].
هذه هي الدعامة الأولى.
قال: [ ( وإقامة الصلاة ) ].
الثانية.
قال: [ ( وإيتاء الزكاة ) ].
الثالثة.
قال: [ ( وحج البيت ) ].
الرابعة.
[ ( وصوم رمضان ) ].
القاعدة الخامسة.
[ فلذا نحن نعتبر الصوم ركن الإسلام، وتاركه هادماً له ].
أي: للإسلام قال: [ غير مسلم ]؛ ولهذا قال: (نعتبر) نحن المسلمون، (الصوم ركن الإسلام وتاركه هادماً له)، لو أن شعباً أو قبيلة أو جماعة قالوا: لن نصوم فلن يبقى لهم إسلام؛ لأنهم هدموه، فالبناء إذا قام على خمس دعائم وسقطت دعامة يبقى.
فنتملق إليه بهذه العبادة؛ لعلمنا أنه عز وجل يحب الصوم والصائمين.
قال: [ فنصوم تزلفاً إليه سبحانه وتعالى وتحبباً ].
نصوم تقرباً إليه وتحبباً ليحبنا.
قال: [ فقد أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: قال الله عز وجل:.. ].
هذا من الأحاديث القدسية ليست من القرآن ولكن أوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كإيحاء القرآن، لكنها خارجة عن الكتاب الكريم.
قال: [ فقد أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ].
هذا الحديث يرفع درجة الصيام والصائمين.
قال: [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) ].
قوله: (لخلوف فم الصائم) أي: رائحته الكريهة من جراء عدم الأكل والشرب، تتغير الرائحة بالصوم، هذه الرائحة الكريهة أطيب عند الله من ريح المسك، والمسك هذا عطر معروف.
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
هذا المسك رائحة طيبة توجد في الغزلان في جبال التبت، تصاب الغزالة بخراج في بطنها فلما يؤذيها وتتآكل لحومها تأتي إلى الصخرة وتتمرغ عليها حتى تفقأها، فيأتي الهندي فيأخذ ذلك القيح، فالمسك هو قيح حقيقة كقيوح الجراحات عندنا، لكن شاء الله أن يكون في درجة الطيب ولا طيب أفضل منه؛ فلهذا قال الشاعر:
فإن تفقِ الأنام وأنت منهم
فلا عجب.
فإن المسك بعض دم الغزال
إذاً: رائحة فم الصائم تكون كريهة بعدم الأكل والشرب كذا ساعة، لكن هذه الرائحة الكريهة عند الله أطيب من ريح المسك، فكيف إذاً لا نتقرب بها إلى الله؟
وقال: [ ( للصائم فرحتان ) ].
قوله: (للصائم) ذكراً كان أو أنثى.
قال: [ ( فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ) رواه البخاري ].
قال: ( والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما ) الأولى: ( إذا أفطر فرح بفطره ) أوفيكم من لا يفرح؟ ترانا مسرعين إلى التمر والرطب، ( وإذا لقي ربه ) أي: يوم القيامة بعد أن يموت يفرح بالصوم.
لسنا دراويش أو بهاليل نصوم بلا معنى، إننا نصوم على علم؛ لأننا نكتفي بالعظائم من هذا الصيام.
ففي يوم القيامة حين نبعث من قبورنا نحن ومن مات من آبائنا وأجدادنا، ستأتي ساعة لا يبقى فيها على الأرض حي، ثم بعد ذلك تجري الترتيبات الإلهية ونبعث من قبورنا بنفخة واحدة، هذا يوم القيامة.
قال: [ فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد ) ].
يبقى هل يكفي صيام رمضان، أو لابد من صيام يوم بعد يوم، أو صيام الخميس والإثنين، أو صيام الثلاثة الأيام البيض؟
على كلٍ كلمة: (الصائمون)، (أل) هنا في لغة القرآن ذات أثر، أي: هم الصائمون بحق وبصدق وبكمال، وسواء كان رمضان أو غير رمضان، أما الصوم إذا لم يؤد على الوجه المطلوب فلا ينتج هذه النتيجة الطيبة؛ فلهذا قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان) مأخوذ من الري وهو ضد الظمأ والعطش، (يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل أغلق فلن يدخل منه أحد).
[ وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى ) ].
لا في سبيل أمور أخرى؛ لا للصحة ولا للشهرة .. ولا لأي شيء آخر لا يريد إلا وجه الله وأن يرضى عنه سبحانه.
قال: [ ( إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً ) ].
أي مسافة سبعين عاماً يبعد عن النار بصوم يوم واحد، الحمد لله، ولو كنا يهوداً أو نصارى لم نحصل على هذا، أو كنا هنادك أو بوذيين أو مجوساً أو شيوعيين لن نظفر بهذا الخير؟ فالحمد لله؛ فلهذا إن أحدنا يرضى أن يقطّع أو يصلّب أو يحرّق ولا يستبدل بالإسلام ديناً آخر.
قال: [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ترد دعوتهم ) ].
إذا دعوا الله وسألوه.
قال: [ ( الصائم حين يفطر ) ].
خذها جائزة لما يؤذن المؤذن وتتناول الرطب أو التمر قبل أن تأكل ادع دعوة فإنها مقبولة، وسواء كان الصيام صيام رمضان أو صيام تطوع ونافلة، وقبل أن تتناول كأس الماء أو اللبن أو التمر ادع الله عز وجل بما تحب، واسأل أفضل ما تريد أن تسأل، اسأل الحور العين في دار السلام.
قال: [ ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل ) ].
الإمام العادل لم يبلغ هذه الدرجة إلا لأنه النائب عن الله في تنفيذ أحكامه بعد بيانها والسهر عليها، ولهذا لم يهمله الله، فلم يسوّ بينه وبين غيره وهو نائب عنه في أحكامه القضائية التي يمثلها ويطبقها.
قال: [ ( ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) رواه أحمد والترمذي وحسنه ].
ومعنى هذا: إياكم أن تظلموا فقد يدعو عليكم مظلوم وأنتم لا تدرون، ( إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )، لا تظلم مؤمناً لا في دمه ولا في عرضه ولا في ماله، ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله ).
والذي نفسي بيده لقد ظُلِمْنا ودعونا الله وأرانا في الظالمين ما أرانا من العقوبات، ومن ثم أصبحنا لا ندعو على ظالم، والله العظيم إن دعوة المظلوم لا ترد ولو بعد حين، فإياي وإياكم أن نظلم أي مخلوق أبداً.
قال: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
لا نقصد هذا وحده، وإنما نقصد بعبادتنا أن يرضى عنا ربنا، وأن يفتح لنا أبواب الجنة وندخلها، ولكن هذه بركات وعطايا إلهية، منها: أن الصيام يساعدنا على حفظ أبداننا، تلك الأبدان التي بها نعبد الله عز وجل.
قال: [ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
ورسول الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان في المدينة النبوية، ولا يزال فيها قبره وبيته وحجرته الطاهرة المبارك فيها، وهذه نعمة عظيمة والحمد لله.
قال: [ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا ) ].
هذه تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرفون أنه لا يكذب وحاشاه، يقول الرب تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، فكل ما يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به إيمانك بلقاء الله.
واعلم أنه لا يخطئ، وكثيراً ما نقول: إذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم قضية في السياسة.. في السلم.. في الحرب.. في الصحة.. في أي مجال، والله لو تجتمع البشرية كلها ما نقضتها، ولا استطاعت أن تردها؛ لأن البشرية تتلقى معارفها من بعضها البعض وهي تخطئ وتصيب وتكذب وتصدق، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى معارفه من خالق المعارف، فكيف يخطئ؟
لو انعقد مؤتمر في باريس قالوا فيه: الصيام لن ينفع الجسم البشري، نصدق؟ والله لو اجتمع العالم كله ما ردوا عليه، إلا إذا لم يصح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فنعم، أما إذا صح الخبر وتواتر نقله فوالله لن نثق في واحد، ولا في البشرية كلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:1-5]، وشديد القوى جبريل.
هذه السورة لا تقرءونها على الموتى، فلهذا أكثرنا ما سمع آياتها.
يقسم الرب تبارك وتعالى ويحلف: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:1-13] أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18]، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا تغنموا).
أي: اغزوا المشركين والكافرين في عقر دارهم؛ لتنقذوهم من الشرك والظلم والخبث والفساد وتدخلوهم في رحمة الله، ومع هذا سوف تغنمون: (اغزوا تغنموا).
قوله: (وصوموا تصحوا) هذا الشاهد، فلم يقل: صوموا تمرضوا، وإنما قال: صوموا تصحوا.
قوله: (وسافروا تستغنوا)، السفر للتجارة، هذه إرشادات محمدية صلى الله على صاحبها وسلم تسليماً.
قال: [ وقال العدد الكثير من الأطباء قديماً وحديثاً: إن الصوم يفيد جسم الصائم فائدة صحية لم يكن ليحصل عليها إلا بالصوم؛ وذلك أن الصوم يطهر الأمعاء، ويصلح المعدة، وينظف البدن من الفضلات والرواسب، كما يخفف من وطأة السمن، وثقل البطن بالشحم ].
هذا معروف عند الأطباء.
إذاً: عرفتم لماذا نصوم. لسنا بهاليل أو دراويش يا أهل القرآن!
أي: ليعدكم للتقوى، وهل الصائم يزني.. يسرق.. يكذب.. يفجر.. يقول السوء والمنكر؟
لا؛ لأنه مع الله، فلهذا الصوم كان لله ليس فيه شيء لغير الله.
قال: [ وبالتقوى تشرق النفس وتطهر فتصبح ميالة إلى الطاعة والخير، منجذبة نحو الجميل والمعروف، تكره الفسوق والعصيان، وتبغض الفساد والباطل والشر ].
لعل بعض الناس لا يعرفون عن التقوى ما هي؟ التقوى حال تقيك عذاب الله عز وجل، شيء يقيك من عذاب الله، أي: يحميك.
بم نتقي عذاب الله وغضبه وسخطه؟ أبالأسوار العالية؟ أم بالخنادق تحت الأرض؟
نقي أنفسنا من عذاب الله بالتقوى، ما هي التقوى إذاً؟
التقوى هي: طاعة الله ورسوله بفعل ما أمرا به وترك ما نهيا عنه، وليس هناك شيء آخر، الله لا يتقى أبداً بأي وسيلة من وسائل المادة، إنما يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بفعل ما أمرا بفعله، وترك ما نهيا عن فعله، هذه التقوى فعل وترك.
والتقوى لها أسرار، فما سر التقوى هذه؟
سر التقوى تزكية النفس؛ لأن النفس الزكية هي التي يرضاها الله ويقبلها في جواره، والخبيثة المنتنة مطرودة ملعونة لا تفتح لها أبواب السماء، وهناك سر وراء ذلك: وهو أن تقوى الله تحقق للمتقين سعادة الدنيا والآخرة، وتقيهم المكروه، وتبعد عنهم البلاء والشقاء في دنياهم هذه؛ لأن الله لا يأمر إلا بما يسعد عبده، ولا ينهى إلا عما يشقي عبده في هذه الدنيا وفي الآخرة.
كيف تتقي؟ اسأل أهل العلم ما الذي يحب الله من العقائد والأقوال والأفعال، فإذا عرفت ذلك فقل لشيخك: كيف نفعل هذا؟ يعلمك كيف تفعل.
وإذا عرفت ما يحب الله وأصبحت تفعله بقي عليك معرفة شيء ثان: وهو ما يكرهه الله من أشياء فيجب أن تعرفها شيئاً بعد آخر من أجل أن تتركها فقط، لا كلفة ولا مشقة فإذا عرفت حرمة الخمر والكذب وتركتهما لم يكن في ذلك كلفة، أما الفعل فنعم فيه كلفة كالجهاد والصلاة والصيام.. والأعمال التي تحتاج إلى كيفية تؤديها عليها، أما ترك المحرمات فلا كلفه فيه، فعقوق الوالدين حرام، فلا تعق أمك ولا أباك، لكن الإحسان إليهما فيه كلفة، كأن تأخذ كأس الماء وتضعه في فم أبيك.
إننا نعظم رمضان ].
نسأل: لماذا معشر المستمعين والمستمعات نعظم رمضان ونجله ونكبره؟
قال: [ إننا نعظم رمضان ونجله ونكبره ونكبر من شأنه؛ لأن الله مولانا عظَّمه ].
الله عظَّم رمضان فكيف لا نعظمه؟ فما دام مولانا سيدنا ربنا جل جلاله قد عظَّم رمضان يجب أن نعظمه نحن بتعظيم الله؛ لأن الولاية التي نطلبها أن نحب ما يحب الله ونكره ما يكرهه الله.
الولاية تتحقق بالموافقة، فيا من يريد أن يكون ولياً لله وافق ربك تكن وليه، وموافقته بأن أحب ما يحب وأكره ما يكره، فالله عز وجل عظَّم رمضان ونحن نعظمه بتعظيم الله عز وجل له.
قال: [ قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، وزاده تعظيماً حيث خصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3] ].
نعظم رمضان لأن الله عظمه، فبم عظمه؟
أنزل الله فيه القرآن، فلم ينزله في شعبان ولا في شوال، بل اختار رمضان فأوحى فيه إلى رسوله كتابه عز وجل، أما قال عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، أما تعرفون قيمة القرآن؟ إنه كلام الله، قانون البشرية الهادي إلى السعادة والكمال.
القرآن كلام الله، ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، كل آية واحدة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما عرفتم وزن القرآن؟
اسمع: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] والله ما أتوا، وهذه كافية.
والعرب على فصاحتهم وبلاغتهم وبيانهم يقول تعالى لهم: ائتوا بسورة فقط، فعجزوا، سورة فقط والله ما استطاعوا: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]، إذاً فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] (ولن تفعلوا).
نضرب مثالاً: لو أن اليابان الصناعي أنتج اليوم آلة من الآلات فلا يمكنه أن يقول: نتحدى العالم الإنساني لمدة سبعين سنة أن ينتجوا مثل هذه، كذلك أمريكا عندما تنتج سيارة لا يمكنها أن تقول: نتحدى العالم الإنساني لمدة مائة سنة أن ينتجوا مثل هذه؟ والله ما يقولون؛ لأنهم يخافون، والله يقول: (ولن تفعلوا) كم سنة مضت على هذه الكلمة؟ لقد مضى ألف وأربعمائة عام، هل استطاعوا أم طأطئوا رءوسهم وخذلوهم؟ (ولن تفعلوا)، فلم يبق إلا أن تقوا وجوهكم من النار، أي: بالإيمان وصالح الأعمال.
قوله: (وزاده تعظيماً حيث خصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر).
ألف شهر كم عام فيها؟
ثلاث وثمانون سنة وربع أو ثلث.
إنها ليلة واحدة، وسر هذه الليلة أن النبي صلى الله عليه وسلم تقالّ أعمار أمته، الأمم السابقة كان أحدهم يعيش مائتي سنة.. ثلاثمائة سنة.. خمسمائة.. مائة وستين.. مائة وأربعين، أمة محمد في حدود الثلاث والستين كنبيهم يزيدون بقليل أو ينقصون، فقط.
فلما تقالّ أعمارهم أعطاه الله هذه الجائزة، فأيما مؤمن يدرك ليلة القدر بأخذ ثلاثاً وثمانين سنة كلها عبادة، وإذا أدركها في كل سنة في رمضان يصبح معه أكثر من نور، فإذا تحصل في كل رمضان على ليلة القدر وعاش أربعين سنة فاضرب أربعين في الثمانين.
قولوا: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
معاشر المستمعين نكتفي بهذا القدر، أتعبانكم، ونعود غداً إن شاء الله عز وجل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر