أما بعد:
لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم نصلي عليه ونكرر الصلاة ونترضى عن آله وأصحابه، مع ما نكتسب من معرفة هي سبيل سعادتنا وكمالنا في الدارين إن شاء الله رب العالمين.
ما زلنا مع وقعة أو غزوة بدر التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثلاثمائة وأربعة عشر صحابياً رضوان الله عليهم أجمعين، وكانت في رمضان، بل في اليوم السابع عشر منه، واليوم نختمها إن شاء الله.
قال: [مثل رائع يضربه أبو العاص ] وأبو العاص هو زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليكم هذا المثل الرائع الذي يضربه هذا البطل، هذا المؤمن، هذا البصير، هذا الشريف، هذا الكريم ..
قال: [إنه لما قدم أبو العاص من الشام ومعه أموال التجارة واعترضته السرية قال له رجالها: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنها أموال المشركين؟] وأبو العاص كان قد خرج من مكة إلى بلاد الشام بأموال تجارية لأغنياء قريش، فلما خرجت سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم تتطلع وتتطلب بعض التجارات التي تأتي إلى قريش ليعترضوها ويأخذوها -مقابل أن قريشاً سلبتهم أموالهم وأخرجتهم من ديارهم- اعترضت أبا العاص ومعه أموال كثيرة، فلما حاصروه ووقف بين أيديهم عرضوا عليه أن يسلم فإذا أسلم حل له هذا المال كله، ويصبح بعد ذلك أغنى أغنياء تلك الديار [فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي] يعني: أي إسلام هذا إذا بدأت فيه بخيانة أمانتي؟ هذا وهو -والله- جاهل وكافر، ما درس في كلية ولا جامعة [فرفض المقترح] ورده على أصحابه، وهرب. وجروا وراءه فما استطاعوا أن يلقوا القبض عليه.
ولما جن الظلام ونام الناس دخل المدينة -وهذا سبق أن عرفناه- ونزل على بنت الرسول وزوجه زينب رضي الله عنها، وقال لها: أجيريني يا زينب ! فماذا تفعل بنت رسول الله؟ وقفت موقفاً لو أتيت بكل خريجات الجامعات اليوم والله ما وقفنه ولا عرفنه، فماذا فعلت؟ لما أذن المؤذن لصلاة الصبح والرجل محبوس عندها، بعد أن أمنته وأجارته -والإسلام يجيز إجارة المرأة كإجارة الرجل؛ لأن المسلمين سواسية كأسنان المشط يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم- وكبر الناس تكبيرة الإحرام ودخلوا في الصلاة قامت هي ورفعت صوتها وقالت: إني أجرت ابن فلان وسكتت.
فما إن سلم الحبيب صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من صلاة الصبح حتى استقبلهم وقال: سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. فقال: ( أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم ). الله أكبر! أين نساء أولئك الأقوام بالنسبة إلى نسائنا وقد هبطنا وهبطن معنا.
قال: [وكان الذي كان ...] أي: هذا الذي قصصناه [ووصل مكة وأدى أموال الناس وهي أمانات في ذمته، ثم أعلن إسلامه] في وسط المشركين لا يخاف إلا الله رب العالمين [فكان هذا مثلاً رائعاً في الوفاء يضربه ختن الحبيب صلى الله عليه وسلم أبو العاص بن الربيع ، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه، آمين].
قال: [كان بمكة رجل يدعى عمير بن وهب يمثل الشيطان في كيده وخبثه، آذى المؤمنين في مكة أذى كبيراً وكثيراً]، هذا الرجل يقال له عمير بن وهب يمثل الشيطان في كيده وخبثه [وُصف بأنه شيطان من شياطين قريش] معروف عندهم بأنه شيطان من شياطينهم، ونحن الآن لا نفهم معنى شيطان، وهم يفهمون، فما معنى شيطان؟ الشيطان معناه: الذي ينصر وينشر الخبث والظلم والشر والفساد بلسانه وأعماله. هذا هو الشيطان، أليس الشيطان هو الذي يوجد العداوات بين الناس ويعلن الحروب بينهم لتسيل الدماء؟!
قال: [جلس] هذا الشيطان [يوماً يتحدث مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر] بعد نكبة المشركين وهزيمتهم في بدر جلس عمير مع صفوان بن أمية وهو من كبار طغاة قريش [فذكر أصحاب القليب] والقليب هي بئر عميقة ليس فيها ماء، وأصحابها هم صناديد قريش، لما قتلوا في بدر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقائهم فيها [فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير] لما ذكّره برجالاته الذين قتلوا قال: والله ما في العيش بعدهم خير، أي: لا قيمة للحياة اليوم بعدهم [فقال عمير : صدقت والله] قال الشيطان: صدقت والله! ما في العيش خير بعد أولئك الرجال الذين ماتوا. وتلاحظون أنه حلف بالله فلم يحلف بسيدي إبراهيم، وما حلف بإسماعيل، فقد كانوا أعرف منا بالإسلام تقريباً لولا العناد والمكابرة.
[ثم قال: أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء] هذا الشيطان يقول [وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله] يقول: لولا دين علي .. ونحن نستدين ونأكل الدين ثم نلعن صاحبه ونقول: هذا عميل! فالمسلمون من أقصى الشرق إلى الغرب -إلا أفراداً- لا يعتبرون الدَّين شيئاً أبداً، المهم أنه حصل عليه، فيأكل ويغني. وهذا شيطان في الكفر يقول: لولا دين علي قضاؤه لفعلت كذا وكذا .. لكن لا أستطيع وعلي دين الناس!!
ومن شك فيما أقول فليذكر كيف وجد الربا وبنيت بنوكه وفتحت أبوابها في ديار المسلمين؟ هل فتحت بالحديد والنار؟ هل قهرتنا أوروبا عليه؟ هل ألزم حكام المسلمين الشعوب أن يفعلوا هذا؟ الجواب: لا والله، لا والله، وإنما المسلمون أقبلوا على هذا الباطل وتقحموا هذه الفتنة ليتأهلوا للبلاء والشقاء.
وسؤالي: كيف وقع هذا؟ والجواب: وقع لأننا ما أصبحنا نسلف ولا نقرض إخواننا، وأصبح إخواننا لا يردون قرضاً ولا سلماً ولا سلفاً، وقد كان المسلمون في صدر هذه الأمة الصالح يجيء الرجل لأخيه فيقول: تستطيع أن تجعل عندنا مالاً نتجر به من الشرق إلى الغرب، أو ننشئ مزرعة، أو نفتح دكاناً أو متجراً، فيأخذ أخوه -وكله أمل في الله عز وجل أن يستفيد ويفيد أخاه- ويحفظ له أمانته وماله، ويتجر أو يصنع أو ينشئ ما ينشئ ومال فلان محفوظ وهو مطمئن تمام الاطمئنان، وقد يكسبه فائدة اتفقا عليها كالنصف أو الربع أو الثلث.
ووجه آخر: وهو أن يقول شخص: عندي فلوس في جيبي أو في بيتي فماذا أصنع بها وقد زادت عن قوتي؟ فيبحث عمن يقرضه من المؤمنين؛ لينتفع بذلك ثم يرده عليه، وهو خير من أن تبقى عنده، فما الفائدة من بقائها وهو ليس في حاجة إليها، فيقرضها إخوانه، وإذا حل الأجل يأتون بين يديه ويقدمونها شاكرين داعين.
لكن انتكسنا وهبطنا وعبدنا الدينار والدرهم وأصبح هو الأمل، وحينئذ ما بقي من يقعد ويسلف ولا من يرد ويرجع، ولا من يضارب ويتجر ويربح، وأعطينا هذا لليهود والنصارى، فالأموال تُجمع في بنوك بلاد الإسلام ثم تباع لأمريكا واليابان والصين بأرباح.
معاشر المستمعين! عرفتم كيف سقطنا؟ وإن قلتم: يا شيخ! ما عوامل هذا؟ الجواب: إنه الثالوث الأسود، المكون من الأعداء الثلاثة: المجوس، واليهود، والنصارى، لما فشلوا في حربنا ومواجهتنا كادوا لنا ومكروا بنا، فأفسدوا قلوبنا بتمزيقنا وتشتيتنا، وإثارة العداوات والبغضاء بيننا، بعد أن أخذوا مادة الحياة من قلوبنا ألا وهي: القرآن العظيم، فأبعدونا عن مصدر حياتنا -القرآن الكريم- وحولونا إلى المقابر والمآتم ودور الموت، فلا يجتمع عليه اثنان يتدبرانه أو يتفكران في كلام الله أبداً. وهكذا علة تتولد عنها علة حتى وصلنا إلى ما نحن عليه.
[فقال له عمير : فاكتم شأني وشأنك] أي: لا تحدث أحداً؛ خشية أن ينتقل الخبر إلى المدينة ولا نتمكن من قتل محمد [قال صفوان : أفعل] أي: لن يسمع أحد بهذه القضية وامش. ولكن سبق الوحي ..! [فأمر عمير بسيفه فشحذ له وسم] وشحاذ السيوف صانع خاص، وسممه: أي دهنه بالسم فإذا ضرب به جسم لا يعيش صاحبه، وهذا ذاهب ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة [ثم انطلق حتى أتى المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر] كما يتحدثون في مكة كانوا يتحدثون في المدينة، فالحدث جلل في أيامه الأولى [إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف].
وهل تعرفون عمر يا زوار؟ يقول عنه ولده عبد الله : "والله ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما ظن" لقد أعطي رضي الله عنه فراسة نورانية، فسبحان العظيم! كيف حصل عليها؟ حصل عليها بيقينه وبإقباله على ربه، وبإعراضه عن أوساخ الدنيا وقاذوراتها، وهذا الفرقان الإلهي بين أيدينا لو كنا أهلاً له، إذ أعلن تعالى ذلك إعلاناً رسمياً، ومن يرغب في هذا فليتفضل، وأحق بهذا رجالات الحكم والدولة، رجالات الأمن والسياسة؛ حتى يكونوا كـعمر بصراء يعرفون الحق من الباطل والنافع من الضار، يقول تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فقط اتقي الله ويجعل الله لك الفرقان. وكيف هذا؟!
إن تقوى الله هي عبارة عن خوف من الله وحب فيه يحملك على أن تطيعه في أمره ونهيه، ففعل الأمر يزكي النفس ويطهرها فتشرق وتلألأ بأنوارها، وترك المعاصي يقعدها عن التلوث والتخبث والعفن والنتن، فتبقى كلها أنوار، وصاحب هذا النور إذا نظر وقال كذا .. كان كما قال. فيا من يقود ويسود أنت أحق بهذا النور، وإذا لاحظنا وجدنا أن هذا النور عند المسلمين نادر، فباب الله مفتوح، من أراد أن يدخل قرع الباب ودخل، ولا يرد الله أحداً أبداً.
ونعود فنقول: إن هذا الشيطان قبله الله، ونحن نترضى عنه الآن، رغم أنه أقبل على أكبر جريمة وهي قتل نبي من الأنبياء.
[فقال] عمر [هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب والله ما جاء إلا لشر] ما إن شاهد عمر الرجل ينيخ ناقته متوشحاً سيفه حتى قال ما قال، ووالله ما أخطأ [ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم] حارس أمين عمر [فقال: يا نبي الله! هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه] يعني: انتبه! [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أدخله علي )] إذاً: عمر كان بواباً، ومن لا يرغب في أن يكون بواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا ليتنا كنا كناسين [فأخذ عمر بحمالة سيفه في عنقه ولببه بها] جعل حمالة السيف في عنقه ولببه بها وجره، قال: تعال لا تدخل متعنتراً، ولكن ادخل ذليلاً يا عدو الله!
[وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من الخبيث؛ فإنه غير مأمون] لما قدمه قال لبعض الأنصار: ادخلوا أنتم واجلسوا وانتبهوا لهذا الخبيث فإنه غير مأمون، فقد عرف أنه جاء لمهمة [ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ( أرسله يا
[فقال عمير : أما والله يا محمد! إن كنت بها لحديث عهد] يعني: أنعم صباحاً [قال: ( فما جاء بك يا
تجلت الأنوار المحمدية! قال: ( فقهوا أخاكم في الدين ) هذا أولاً، ثم ( أقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره ) [ففعلوا وعاد عمير إلى مكة وقام بالدعوة إلى الإسلام بنفس القوة التي كان يدعو بها ضد الإسلام وأوذي كثيراً في ذلك، وقد دخل بدعوته في الإسلام خلق كثير] وهل نحن قائمون بهذا الواجب؟!
وهناك رسالة عنوانها: (اعلم يا أخي تنجو وتسعد) أي: اعلم يا أخي! البريطاني والصيني والروسي والياباني أنك تنجو من عذاب النار والخلود فيها وتسعد بدخول الجنة، هذه الرسالة بفضل الله أعاننا على تأليفها وكتابتها ونشرها -ولا يقول لكم أبو مرة إنما هو شيخ يعمل في دعاية لكتبه، احذروا والعنوه فإنه كاذب- قلت فيها:
ليعلم وزراء الأوقاف وأغنياء العالم الإسلامي أن ترجمة هذه الرسالة إلى اللغات الحية للناطقين بها كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والفارسية والأوردية واليابانية والصينية ونشرها بين أفراد تلك الدول من أوجب الواجبات على المسلمين، ألا فلنذكر هذا ولنعمل على تحقيقه، والله المستعان! وقد ذكرني بها موقف الحبيب الآن، فما إن أعلن عمير عن إسلامه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقهوه في الدين وأقرئوه القرآن )، فمن يقوم بهذا الواجب الآن؟ إن هذه الرسالة تكشف عوارنا الآن، فقد طبعنا منها ووزعنا عشرة آلاف نسخة، وكانت كأنما توضع على القبور، لم يتحرك لها عالم ولا غني ولا حاكم أبداً، وهي تمضي كما مضت عشرات الرسائل من قبل، تماماً كأننا نوزعها على القبور، فهل الميت يقرأ أو يعمل؟ ولو أراد الله حياتنا والعودة بنا إلى سماء كمالاتنا -والله- لاختطفت وأصبحت حديث العلماء والمسئولين والأغنياء في العالم الإسلامي، وفجأة ما تمضي ثلاثة أشهر إلا وهي توزع في العالم بلغاته، ولا يكلف ذلك شيئاً، فقط يرفعنا إلى مستوى أهلنا الله له كهداة للبشرية ودعاتها للخير والهدى. وتحسسوا بعد شهرين أو ثلاثة أو سنة هل حدث شيء؟ ولا شيء. إذاً: كأنما وزعناها على القبور، فلا عالم يتكلم ولا غني يقول: أنا أولى بهذا، ولا حاكم يقول: أوزعها على السفراء والقناصل، أبداً، وإذا أراد الله الحياة فإننا في خلال أربعين يوماً سنسمع أنها ترجمت إلى لغة كذا وأنها توزع في كذا.
ولا يقول قائل: هذا كلام لا معنى له في الدرس! فإذا قال قائل هذا الكلام فإن معناه: أننا ما زلنا أمواتاً، فهذه دعوة الله، وهذه مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال: [وهكذا بعدما كان عمير بن وهب شيطاناً أسلم فأصبح داعية إسلامياً وهدى الله على يديه خلقاً كثير] فرضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثوانا ومثواه، [وهنا تتجلى آية النبوة المحمدية، والحقيقة الإيمانية، وهي أن من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له] وآية النبوة المحمدية هنا أنه كيف تم الكلام في مكة سرياً لا يعرفه إلا صفوان وعمير ثم يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرف الواحد، هل هناك لا سلكي؟ كيف تم هذا؟ تم بالوحي الإلهي، إذاً: والله إنه لرسول الله.
قال: [أهل بدر هم المؤمنون الذين خرجوا من المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاعتراض عير قريش القادمة من الشام، ثم لما نجت العير] وسلمت والتحقت بمكة [تصدوا لقتال كفار قريش في وادي بدر، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً على عدة قوم طالوت ] والذين يقرءون سورة البقرة على الأحياء لا على الموتى يعرفون طالوت ، فـطالوت بطل اختاره الله عز وجل لحمل رسالة الجهاد؛ وإنقاذ بني إسرائيل، فخرج معه أربعون ألفاً وامتحنهم الله في الطريق فرجعوا خاسرين أجمعين إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً.
وكان امتحانهم بأن قال لهم طالوت : في الساعة الفلانية سوف نمر بنهر الأردن وأنتم عطاش، ولم يسمح الله تعالى لكم أن تشربوا منه إلا من اغترف غرفة واحدة بيده، فما إن وصلوا حتى أكبوا كالإبل الظمأى على النهر فقال لهم: عودوا إلى بلادكم ما أنتم بأهل للجهاد، واستخلص منهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وخاض المعركة بهم وانتصر، ولاحت هناك أنوار داود إذ هو الذي بارز جالوت وهزمه وانتصر الحق، قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خرجوا من المدينة وهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً فقط ليواجهوا ألف رجل من صناديد قريش.
قال: [هؤلاء هم أهل بدر الفائزون بأكبر فضل وأعظم شرف، تدل لذلك الأخبار النبوية التالية]:
ولكن لا تنتفخوا وتعلنوا قتال بعضكم البعض، قائلين: الجهاد! الجهاد! فوالله ما هو جهاد الرحمن هذا، وإنما جهاد الشيطان. هل تعرفون الجهاد ما هو؟ أن إمام المسلمين وقائدهم يرسو بسفنهم على شاطئ دولة كافرة ويراسلها بثلاثة أمور: تدخلون في الإسلام تكملون وتسعدون، أو تسمحون لنا أن ندخل لنعلّم إخوانكم وأبناءكم دين الله؛ ليسلموا ويكملوا ويسعدوا. أو القتال بيننا وبينكم، ونحن مضطرون إلى هذا إنقاذاً لكم.
فإن قالت الدولة الكافرة: مرحباً نحن أولى بالإسلام منكم ودخلوا في رحمة الله تجاوزوهم إلى إقليم آخر، وإن قالوا: لن نبدل دينناً بدين آخر أبداً، ولكن ادخلوا ونحن في ذمتكم، فندخل نعلم ونربي وأنوار الإسلام تتجلى في رجالاتنا: الحياء، والأدب، والكرم، والوفاء، والصدق، والشجاعة، فيغمرهم ذلك النور ويدخلون في دين الله جماعات جماعات وبيوتات بيوتات.
وإن قالوا: لا ذا ولا ذاك، فليس لنا إلا المعركة، وينصرنا الله، ونقتل الكافرين المقاتلين، ويدخل النساء والأطفال في رحمة الله، هذا هو الجهاد، وليس الجهاد أن نقول للحاكم: أنت كافر! أو للحكومة أنت كافرة! أو للعلماء أنتم كفار؛ لأنكم تداهنون الحكومة، وكل من يسكت كافر! فهيا إلى الجهاد! ثم نأخذ في الاغتيالات، وتتصدى لنا الحكومة باسم الأمن وتحقيقه .. اضرب ودمر واقتل وشرد حتى ينطفئ نور الله، ولا يبقى من يريد الله ولا الإسلام.
قال: [فهذا الخبر -وإن كان في شهداء بدر- فإنه دال على فضل أهل بدر من استشهد منهم ومن لم يستشهد].
ولو أن واحداً منا -من الدعاة- اليوم يتنازل عن كلمة كهذه في أوروبا أو الصين لفائدة الإسلام -والله- لكفرتموه ولعنتموه، ولم تقولوا: مؤمن هذا أبداً!! آه ماذا فعل بنا الجهل؟!!
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اكتب هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله ) فقال سهيل : لا، لو عرفنا أنك رسول الله ما قتلناك، ولكن اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله، وهنا كاد عمر أن يتمزق فقال الرسول: اكتب! أنا رسول الله. وهذا من أجل أن يحقق أمناً للمسلمين أن يتنقلوا في تلك الديار غير خائفين ولا فزعين، ومن أجل أن تنتشر دعوة الله فلا تطارد هنا ولا هناك، فهل عرف ساسة الإسلام ورجاله هذا المعنى؟ أنى لهم ذلك وما قرءوا ولا علموا؟! وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ولهذا كنت أقول للعرب من أربعين سنة -وهم يسخرون-: صالحوا اليهود، ارحموا إخوانكم الفلسطينيين، إلى متى وهم مشردون، موزعون في الأقاليم يهانون؟! اصطلحوا وأعطوهم قطعة أرض، ونموا قدرات إخوانكم وطاقاتهم وأمدوهم بالعلم والمال ليكونوا درعاً حصيناً لكم، فقالوا: هذا عميل لليهود!! وكيف نصطلح مع اليهود؟ فقلنا لهم: إنهم ينقضون العهد فلا تخافوا، فإذا عاهدتموهم لن تستمر المعاهدة إلى يوم القيامة؛ لأنهم كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، فاغتنموا هذه الفرصة -فقط- عاماً أو عامين أو ثلاثة، وتقووا وسينقضون هم العهد، واضربوهم بحق يومئذ. فيسخرون ويضحكون ويقولون: أيش هذا الكلام؟! وبعد مضي ثلاثين سنة أصبحوا يبحثون عن الصلح، ولما تم الصلح أصبحوا غاضبين ساخطين، قالوا: كيف نجري معاهدة على الأرض؟!. والمعاهدة لا قيمة لها، فنحن نريد أن يُعبد الله، فأمنوا لإخوانكم الأرض ليتمكنوا من الصيام والقيام وعبادة الله التي خلقوا من أجلها، أما الطين والتراب فلا قيمة له عند الله، ولا وزن في ميزان الله أبداً.
ثم قالوا: إذا نحن اصطلحنا معهم نخشى أن ينتشر فينا الزنا والجرائم وغيرها .. فقلنا: يا بهاليل! لم أنتم لا تنقلون إليهم أنوار الإيمان بصدقكم وصفائكم وطهركم وصلاتكم وعباداتكم؟! ألا تؤثرون أنتم وتخافون أن يؤثروا فيكم؟ أهذا كلام يقوله ذو دين أو عقل؟! فما دمنا اتصلنا بهم واتصلوا بنا لم لا نورد الإسلام عليهم بصدقنا وكرامتنا وعهدنا ووفائنا وطهرنا، فينجذبون إلى رحمة الله؟ يقولون: لا. نخاف أن ينقلوا إلينا العهر والباطل والشر، وهل نحن أبقار من أتى صب فينا الفساد؟ إي نعم! فلقد متنا!
إذاً: فـحاطب بن أبي بلتعة ليس عنده من يحمي أسرته في مكة؛ لأنه لاجئ أو مولى من الموالي ليس بأصيل، فرأى أن يكتب كتاباً سرياً يبعث به إلى قريش؛ حتى تُحفظ أسرته عند التقاء الحرب.
وأوحي إلى الرسول بالأمر، وبعث من بعث من رجالاته وقال: في روضة خاخ تجدون امرأة تركب ناقة، وفي عقاصها الكتاب، ومشى علي والزبير يجرون على إبلهم يوماً أو يومين حتى وصلوا روضة خاخ، ووجدوا المرأة، وقالوا لها: هاتي الرسالة! فقالت: ما عندي رسالة!. لأنها عربية أمينة!. فقالوا لها: اسمعي أخرجيها وإلا نسلخ عنك ثيابك!. ولأنها عربية شريفة لا تستطيع أن تكشف عورتها أخرجتها من شعرها في عقاصها، وكان فيها: من حاطب بن أبي بلتعة إلى فلان فإن الرسول سيخرج إليكم، وهذه عهدتنا فاحفظوا لنا أسرتنا معكم، وفيه نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1] الآيات.
وبما أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه كان من أهل بدر عفا الله عنه، واعترف له بتلك الفضيلة، [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو قد غفرت لكم ) فدمعت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم.
هذا بيان شرف أهل بدر وفضلهم، ولا يسعنا نحن إلا أن نترضى عنهم، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا معهم بفضل منه ورحمة إنه بر رحيم وجواد كريم].
لقد عشنا هذه الساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت من بيوت الله وبين أوليائه ووالله إنها لخير من الدنيا وما فيها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر