أما بعد:
في السنة السادسة كانت غزوة الحديبية، وتم صلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبين أعدائهم المشركين مدته عشر سنوات، إلا أن المشركين نقضوا عهدهم، والمعاهدات إذا نقضها أحد الجانبين انتقضت، ومن ثم غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة من هجرته عليه الصلاة والسلام.
قال: [وثاني عشر أحداثها:
غزوة خالد لبني جذيمة] بعدما فتح رسول الله مكة واستقر الأمر واستتب فيها بعث رجاله يدعون العرب المشركين إلى الدخول في الإسلام؛ لأن رايته ارتفعت ودولته ظهرت، ولم يبق من قتالٍ يقاتل به المشركون. هذا الذي بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ولما فتح الله تعالى على رسوله مكة] بلد الله، الذي أقسم به الجبار مرتين، فقال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1] واللام مزيدة، وقال عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]. وفيها لغتان: مكة وبكة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غزا مكة في رمضان بعشرة آلاف مقاتل، ومن عجيب ما تم أن القتل كان قليلاً جداً لا يذكر، وهو الأمر الذي لا يقع في التاريخ.
قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا حول مكة يدعون الناس إلى الإسلام] والسرايا: جمع سرية، وهي: مجموعة تسري بالليل أو النهار لأداء مهمة. وكان هذا في شهر رمضان حول مكة لا بعيداً عنها، بعد أن نصره الله وعلت رايته وسقطت عاصمة الشرك والباطل [ولم يأمرهم بالقتال] أي: لم يأمر السرايا بأن تقاتل، بل أمرهم بأن يدعوا فقط؛ إذ لم يبق للقتال معنى ما دامت عاصمة الشرك قد سقطت، إلا من ركب رأسه وأبى أن يقاتل فله أمره، أما مبدئياً فإنما طلب منهم الدعوة فقط.
[وبعث خالد بن الوليد ] سيف الله في أرضه، لقبه بهذا اللقب وتوجه بهذا التاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أردتم أن تعرفوا صورة لذلك فاذكروا غزوة مؤتة؛ إذ كان عدد المجاهدين فيها ثلاثة آلاف فقط، وكان عدد الروم ومن معهم من العرب المشركين مائتي ألف، فكيف يقاتل ثلاثة آلاف مائتي ألف؟ واستشهد في تلك المعركة خيرة الرجال، فاستشهد زيد بن حارثة مولى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وابن عمه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ثم رأى خالد أن الأمر صعب والموقف جد شديد، فتولى القيادة، واستطاع أن يستل ثلاثة آلاف من مائتي ألف، استلال الشعرة من العجين، وذلك بدهائه ومكره في القتال، وعندها لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بسيف الله في أرضه، وها هو ذا يبعثه [على رأس سرية داعياً ولم يأمره بالقتال، فنزل على الغميصاء (ماء من مياه جذيمة_ من جهة اليمن [وكانت جذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة عم خالد بن الوليد ] نزلوا في هذا الماء وكانوا يحملون تجارة فقتلتهم جذيمة وسلبت أموالهم كما هي سنة أهل الجاهلية.
قال: [كانا أقبلا تاجرين من اليمن فأخذت ما معهما] جذيمة [وقتلتهما، فلما نزل خالد بسريته ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح] لما نزل خالد برجاله ذلك الماء أخذت جذيمة سلاحها تريد أن تقاتل؛ لأنهم ما أسلموا بعد [فقال لهم خالد : ضعوا السلاح! فإن الناس قد أسلموا] أي: ما بقي حاجة إلى أن تقاتلوا، فقد أسلمت مكة [فوضعوا السلاح] على الأرض بعدما أشهروه [فأمر بهم خالد فكتفوا] من أيديهم وأرجلهم [ثم عرضوا على السيف فقتل منهم من قتل]، وما أصاب في هذا خالد بل أخطأ، ولكنه كان مجتهداً فعفي عنه ولم يؤاخذ.
[ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم] بعد أيام [رفع يديه إلى السماء] رفع يديه إلى الله [وقال: ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع
قال: [ثم أرسل علي بن أبي طالب ] ابن عمه وصهره زوج فاطمة رضي الله عنهم أجمعين [ومعه مال، وأمره أن ينظر في أمرهم] أي: أمر جذيمة، وما الذي حدث فيهم من قتل وغيره [فودى لهم الدماء] دفع لكل قتيل ديته إلى قومه أو لورثته [والأموال] التي أخذت منهم [حتى إنه ليدي ميلغة الكلاب] وهو إناء من خشب تشرب فيه الكلاب.
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أتباعه؟!
قال: [وبقي معه من المال فضلة] يعني: سددت الديات، ودفعت الأموال التي أخذت ثم بقي معه شيء زائد [فقال لهم: هل بقي لكم مال أو دم لم يود؟ فقالوا: لا. فقال: إني أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم] ولو كان منا لحوله إلى خزينته [ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (أصبت وأحسنت)] كلمة -والله- خير من الدنيا وما فيها، فقد أصاب الهدف وما أخطأ في تصرفاته ودفع الديات والأموال، وأحسن في عمله ذلك، ففاز بها ابن أبي طالب ، وكان أهلاً لذلك.
قال: [واعتذر خالد بعد أن دار بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام] وعبد الرحمن بن عوف هو الذي قتل أباه هناك [وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فقد رأى هذا الحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا رأها] هذا الحدث الذي سمعناه رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في منامه قبل أن يقع، وعبره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما عبر، ورؤيا الأنبياء وحي، والعجيب أن يهيئ الله الصديق -الصاحب الجليل- ليعبرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال: ( رأيت كأني لقمت لقمة من حيس )] والحيس: خبز يفت ثم يبل بالزيت أو العسل، ومنه قول الشاعر:
وإن تك كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
فالحيس أكلة معروفة، أمي كانت تعملها، وهي دقيق يشوى أو كذا .. ثم يصب عليه الزيت أو السمن والعسل، هذا هو الحيس.
قال: [( فتلذذت طعمها )] وجد لذاذتها في نفسه [( فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها )] اعترض منها في حلقه شيء آذاه [( فأدخل
[إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها في الأرقام التالية:
أولاً: وجوب مواصلة الدعوة إلى الإسلام بعد الفتح كما هي قبله] ولنذكر هنا ما قد يتألم له بعض الناس، وهو: لو شاء الله أن يواصل السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود فتحه؛ لفتح العالم الإسلامي، وكانت الخلافة، فلم يكن مقتصراً على الحجاز فقط، بل كان يتيامن إلى اليمن ليدخلها في رحمة الله، فينتهي ما كان فيها من شركيات وخرافات وضلالات، ويتشاءم إلى الشام فيدخلها في ديار الإسلام، وهكذا يزحف من بلد إلى بلد؛ لأنه لا وقوف بعد الفتح -وهل وقف الرسول وقال: انتهينا. بعد فتح مكة؟ لا، وإنما بعث سراياه يدعو إلى الله عز وجل- ولكن لم يرد الله لهذه الأمة خيراً، فلم تكن متأهلة، وإلا كان هذا هو الطريق، فقد طهر الله على يديه هذه الديار، ورفع فيها راية لا إله إلا الله، وكان المطلوب أن يواصل زحفه إلى جيرانه شرقاً وغرباً وشمالاً حتى تطهر بلاد المسلمين كلها.
ولطيفة أخرى: كان العالم الإسلامي مستعمرات أو ممالك، فالهند كانت مستعمرة، وكذلك ماليزيا وإندونيسيا إلى موريتانيا، فأوجد الله هذه الدولة -دولة عبد العزيز - لتكون آية من آيات الله، تقوم بها الحجة لله على خلقه، ولو لم تقم هذه الدولة لقال الناس: أيسنا من أن يكون للإسلام دولة وسلطان يقام فيه حدود الله، ويتحقق فيه الأمن والطهر والصفاء، وهكذا تبجح أهل الشرق والغرب، فأبى الله إلا أن يريهم آية من آياته في صحراء ليس فيها شيء، فقامت هذه الدولة دولة تُحكّم كتاب الله وسنة رسوله، على أسس وضعها الله في قوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
وهكذا فعل عبد العزيز ، أقام الصلاة بمعنى إقامتها، فلا يرى في الشارع مار مدبر عن المسجد والصلاة قائمة قط، وجبيت الزكاة -من رأس الغنم وصاع الشعير- إجابة لأمر الله بجبي الزكاة، ووضعت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرى والسهول والجبال، وتحقق -والله- أمن وطهر ما عرفته الدنيا إلا على عهد سلفنا الصالح في القرون الذهبية الثلاثة، ولا يقولن أحد: هذا الشيخ جاهل أو أحمق أو عميل أو ذنب! استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم! فوالله إني أتكلم على علم.
وهنا -لو كنا أهلاً للخير- ما إن قامت هذه الدولة واستقل إقليم عن فرنسا أو بريطانيا حتى يأتي رجاله إلى عبد العزيز قائلين: استقل الإقليم الفلاني، فابعث لنا قضاة يحكمون فينا بشرع الله، وكوّن هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ديارنا؛ ليصبح ذلك البلد قطعة من خلافة الإسلام ودياره، ويستقل الإقليم الثاني بعد عامين أو ثلاثة -كما علمنا- فما إن يستقل ويأخذ صك الاستقلال إلا ويأتي وفد من رجاله، ويقول: استقل الإقليم الفلاني عن فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا أو بريطانيا، فابعث لنا يا عبد العزيز قضاة يُحكّمون فينا شرع الله، فيقطعون يد السارق، ويرجمون الزاني -فيتحقق الأمن والطهر- ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ولو فعل المسلمون هذا لكان في خمس وثلاثين سنة دولة إسلامية عاصمتها مكة، وانتشر في العالم الإسلامي كله نور تهفو البشرية نحوه، تريد أن تدخل فيه، لكن ما إن يستقل إقليم حتى يرفع رأسه متكبراً، لا يسأل عن علم ولا علماء ولا شريعة ولا ملة ولا دين، فحصل الذي حصل، بذنوبنا فما نحن بأهل للخير.
إذاً -قلنا-: وجوب مواصلة الدعوة إلى الإسلام بعد الفتح كما هي قبله، فلا نقول: قد دخلت بريطانيا في الإسلام ويكفي، بل لا بد وأن نزحف إلى ألمانيا، فنحن مأمورون بنشر هذا النور في العالمين، والدليل: مواصلته صلى الله عليه وسلم الدعوة بعد فتح مكة.
[ثانياً: بيان خطأ خالد في اجتهاده فيما أقدم عليه، ولما كان متأولاً عفا عنه ولم يؤاخذ] اجتهد في ذلك التصرف -وهو قضاء وقدر، رآه الرسول قبل أن يقع- فأخطأ، ولما كان متأولاً عفي عنه، لا يكفّر ولا يؤثّم.
ومعنى هذا: أيما عالم يجتهد ويخطئ فلا يؤاخذ باجتهاده، ولكن يُصلَح ما أفسده، ويرد الحق إلى أهله، ويعفى عنه لأنه أراد الله ووجهه.
[ثالثاً: بيان أن رؤيا الأنبياء حق، ومعرفة الصديق بتأويل الرؤى] كان أبو بكر معروفاً بتفسير المنام. وهي آية من آيات الله.
[رابعاً: بيان فوز علي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أصبت وأحسنت )] فاز بها علي ؛ لأنه ولي الله، والله يهدي أولياءه إلى ما فيه رضاه.
معاشر المستمعين والمستمعات! أدعوكم إلى ما ندعو إليه دائماً وهو أن تجتمعوا بعد صلاة المغرب من كل ليلة في بيوت ربكم، نساؤكم من وراء الستار، وأطفالكم بين أيديكم كالملائكة، وأنتم بين يدي الله عز وجل، فيأتيكم من يعلمكم ليلة آية من كتاب الله تحفظونها وتفهمون مراد الله منها وتطبقونها وتعملون بها، وليلة أخرى حديثاً من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهكذا تصبح قراكم ومدنكم كأنها كواكب زهر في السماء، تنتهي منها مظاهر الخبث والغش والخداع والكبر والشرك والباطل .. فلا يبقى لها أثر، ومن حُرم المساجد جعل ذلك في بيته، فيجمع امرأته وأطفاله بعد صلاة العشاء ليقرءوا آية من كتاب الله أو حديثاً من أحاديث رسول الله يتعلمون منه الهدى ليسلكوه، هذا هو الطريق، وهذا هو سبيل النجاة، فالنجاة النجاة! نجانا الله وإياكم وسائر المؤمنين!
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر