أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى الخطبة النبوية في حجة الوداع، تلكم الخطبة التي خطب النبي فيها المسلمين وواجههم بكل متطلبات حياتهم، فهيا نصغي إلى ذلكم الخطاب النبوي الكريم، والله نسأل أن ينفعنا به، وأن نتزود بما نسمع لنجتاز هذه العقبة من حياتنا، حتى نلقى الله تعالى وهو عنا راض.
قال صلى الله عليه وسلم: [( أيها الناس! )] فخاطبهم بلفظ يشمل أبيضهم وأسودهم، شريفهم ووضيعهم، فهو يتناول كل الناس، ولكن بصورة خاصة أهل ذلك الموقف [( اسمعوا قولي )] أي: الذي أقول لكم [( فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً )] ومن هنا سميت حجة الوداع، فكان بهذا يودعهم.
[(أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا )] فدماؤنا حرام علينا، لماذا نريقها، ونكسر عظام بعضنا بعضاً، ونمزق لحومنا؟!
قال: (إن دماءكم) ولو كانت قطرة، وقد علمنا أن المرء يجتاز الصراط، ويقف عند باب الجنة، وقبل الدخول يشار إليه أن ارجع، من أجل ملء كفه دماً أراقه ظلماً وعدواناً.
(وأموالكم) لِم السرقات، لم التلصص، لم الخيانة، لم الكذب، لم نسلب أموال بعضنا البعض، بأساليب الله منها بريء؟!
(وأعراضكم) أعراضكم أيها المسلمون محرمة عليكم، لا تنهش باللسان، ولا بالسب والتحريش، ولا بوقوع الفاحشة، فهي حرام عليكم، وعلى غيركم من باب أولى، لأنكم أولياء لله، وأولياء الله لا يُقتلون، ولا يضربون، ولا يسبون، ولا يشتمون، ولا تنتهك أعراضهم، ولا تسلب أموالهم، من يقوى على أن يؤذي ولياً من أولياء الله؟ والله يقول: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: أعلنت الحرب بيني وبينه.
فالذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات في أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، هؤلاء ما علموا أن حرباً بينهم وبين الله دائرة، وسينهزمون ويهلكون.
(إلى أن تلقوا ربكم) يعني: ليس هناك زمن يحل فيه هذه المحرمات أبداً.
(كحرمة يومكم هذا) وهو يوم الحج الأكبر، يوم عرفة (وشهركم هذا) شهر ذو الحجة أحد الأشهر الحرم.
[(وإنكم ستلقون ربكم)] وجهاً لوجه [(فيسألكم عن أعمالكم)] خيرها وشرها، حقها وباطلها، وهذا السؤال يترتب عليه الجزاء بحسبه [(وقد بلغت)] إي والله لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، لماذا -إذاً- نحن نتعامل بالربا ألا نريد الجنة وأهلها؟ لسان الحال يقول: دعنا نعش كما نعيش، إن الذين ينشئون البنوك ويفتحون أبوابها، ويتقبلون الأموال لتنمى وتُأخذ الفوائد عليها، هذا هو لسان حالهم وللأسف.
والذي أنا في حيرة منه: لماذا أهل القرية أو الحي لا يجتمعون في مسجدهم الجامع كل ليلة يصلون المغرب والعشاء، ويستمعون إلى الكتاب والهدى المحمدي، وينشئون صندوقاً ربانياً صافياً خالصاً، فيقول المربي: معاشر المستمعين! من زاد عن قوته درهم واحد فليودعه هذا الصندوق، وبعد ستة أشهر إذا بالصندوق يفيض، فينظرون في حال رجالهم -وكلهم صلحاء- فينشئون مزرعة تتناسب مع هذا الصندوق لتنمية هذا المال، أو ينشئون مصنعاً لإنتاج أي شيء، فينمو هذا المال ويباركه الله عز وجل، وبعد ذلك من أراد أن يستلف أو يستقرض من ذلك الصندوق، فليستقرض ويرد القرض بكل طمأنينة، وتنتهي فتنة الربا والبنوك اليهودية.
لماذا لا نعمل هذا؟ لأن قلوبنا غير سليمة، مغطاة بأوضار الجهل والآثام والذنوب، فلا ثقة، ولا طمأنينة، ولا حب، ولا صدق ..!!
لو كنا مؤمنين بحق -والله- لتحدينا اليهود، وأريناهم كيف تنمو الأموال، ويباركها الله عز وجل، وكيف ينتفع المؤمنون والمؤمنات بها في ديارهم، لا أننا نستجيب لدعوة اليهود -عليهم لعائن الله- حتى يقطعوا صلاتنا بربنا وننقطع عن مولانا، وندعوه فلا يستجيب لنا، لقد أشاعوا فينا هذا الربا، ومددنا أعناقنا له .. حال لا أسوأ منها.
[( وإن ربا
[( وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع )] لو تبنا إلى الله توبة صادقة سامحنا الله في الماضي، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عفا عن الدماء التي كانت في الجاهلية؛ لأنها ناتجة عن الجهل والكفر، ولما استنارت القلوب وعرفت الطريق لم يكن هناك حاجة للعودة إلى الوراء.
[( وإن أول دمائكم أضع دم
الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن واقع الآن، فهم لم يكن لهم صلة بالشيطان ومعرفته، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه الله، فأعلمهم أن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضهم أبداً، لكن لما زال النور المحمدي، وانسلخ ظل الإيمان والإسلام؛ عبد الناس الشياطين في الأرض.
فأحببت أن تفهموا أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( أيس أن يعبد ) أنه حق، ولكن يأس الشيطان مشروط بما شاهده من أنوار الإيمان، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، والقرآن يتلى، والأمة مقبلة، وليس معنى هذا أنه أبداً ييأس، فلو لاحت له أعمال أو أقوال مما يحب لفرح، وعادت إليه أمنيته.
وقد عبد الشيطان في مكة والمدينة بعد أن ذهب ذلك النور المحمدي، بعد ثلاثمائة سنة، وهي القرون الذهبية فحلت الجاهلية الجهلاء، وعبد الشيطان في كل مكان.
فلا يقولن قائل: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشيطان قد يئس) فلهذا لا يمكن أن يوجد من يعبد غير الله في هذه الديار، فالشيطان أيس عندما شاهد النور يلوح في كل مكان، لكن لما عبث بالقلوب، وسخر من النفوس وحولنا إلى أمة جاهلة، عادت إليه آماله، وعُبد.
فالذين يذبحون للجان أما عبدوا الشيطان؟
والذين يدعون غير الله، ويستغيثون بالناس أما عبدوا الشيطان؟
وقوله: (ولكن أن يطاع فيما سوى ذلك) أي: يطمع فيما سوى ذلك من الذنوب الأخرى كالزنا وما إلى ذلك ..
النسيء: هو التأخير، وقد كان زعماء قريش في الجاهلية يستطيعون أن يؤجلوا شهر محرم إلى شهر بعده، ليتمكنوا من الغزو في هذا الشهر، كما أنهم يستطيعون أن يستعجلوا الشهر الحرام أيضاً لمصلحة، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر الله تعالى به في سورة التوبة: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37].
[( وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان )] يقول تعالى في الآية الكريمة: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] وهي: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، وشهر مضر، أي: شهر رجب.
هذه الأربع، كان أهل الجاهلية يقدمون ويؤخرون فيها حتى اختلطت الشهور، فأصبح المحرم هو صفر، وأصبح -مثلاً- القعدة هو شوال، فلما اختلطت وفسدت بسبب جهلهم وتحريفهم، أخبر تعالى أن هذا العام بالذات قد استدار الزمان كهيئته يوم خلق السموات والأرض، وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاء الله أن تدور ثم ترسو على ما كانت عليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( إن الزمان قد استدار كهيئته الأولى يوم خلق الله السماوات والأرض ).
وقيل في رجب: مضر؛ لأن قبيلة مضر كانت تقدس هذا الشهر أكثر من غيرها، وهو الشهر الذي بين جمادى وشعبان.
إذاً: تستطيع الآن أن تحلف بالله أننا في جمادى الأولى أو في رجب ولا تحنث، فلا يمكن أن يكون الشهر قد تقدم أو تأخر، فمن يوم أن أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الزمان قد استدار، وعادت الشهور كما بدأت فهي إلى اليوم لم يتبدل فيها شيء، ولم يتغير.
قال: [( وتضربوهن ضرباً غير مبرِّح )] إذا لم تستجب، وقد هجرتها في فراشها، فاضربها ضرباً لا يكسر عضواً، ولا يشين جارحة [( فإن انتهين، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف )] هذا هو الحق، إن انتهين عن الفاحشة البينة، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فالكساء والغذاء والدواء تابع.
[( واستوصوا بالنساء خيراً )] أي: ليوصِ بعضكم بعضاً بالنساء خيراً؛ لأنهن ضعيفات في العقول والأبدان على حد سواء [( فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً )] والعوان جمع عان وهو الأسير [( وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟!!
إذاً قال صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة )، لماذا إذاً يذبحونه ويقتلونه؟ إذا بكوا في فلسطين يجب أن نبكي في المدينة، وإذا فرحوا في الأفغان وزالت دولة الباطل، وجاءت دعوة الله والقرآن نفرح معهم.
وقال: ( فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم )، فظلمك لأخيك ظلمك لنفسك لأنه منك وأنت منه.
[فقال الناس: اللهم نعم] أي: قد بلغت [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فاشهد )] يعني: على ما قالوا.
[( أيها الناس! إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه وإنه لا تجوز وصية لوارث )] ورثتك لا تختار منهم زينب أو عمران فتوصي له بشيء، لا يجوز هذا، فالورثة على حد سواء بنين وبنات كيفما كانوا [( والولد للفراش وللعاهر الحجر )] ممكن يدعي مدعٍ يقول: امرأة فلان ولدت، وذاك ولدي أنا، أنا فجرت بها وذاك ولدي، فلا يصدق ويرجم بالحجارة، والولد للفراش، أي: للزوج الذي كانت الزوجة تحته، ولو كان في الجاهلية، فهذه الدعوى باطلة ولا تقبل أبداً، ولا يدعي أحداً أن الولد الفلاني له، وهو غير زوج لتلك المرأة، بل يثبت الولد لصاحب الفراش.
[( ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)] يعني من قال: إن أبي فلان وهو ليس بأبيه، أو تبرأ من الموالي الذين يلونه من أقربائه وعشيرته وانتسب إلى قبيلة أخرى أو عشيرة، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف -أي: فرض- ولا عدل -أي: ولا نفل- هذه من كبائر الذنوب.
[ولما غربت الشمس ركب إلى مزدلفة فوصلها بعد العشاء جمعاً] بين المغرب العشاء، وصلى المغرب بأذان وإقامة، وصلى العشاء بإقامة [وبات بها] والأمة معه [ولما طلع الفجر صلى الصبح ووقف على جبل قزح] وهو موجود الآن كما هو في مزدلفة، وسميت مزدلفة بمزدلفة لأنها أقرب إلى الحرم، من الزلف بمعنى القرب من الحرم [وقال: ( وقفت هاهنا ومزدلفة كلها موقف )] فقف حيث أمكنك الوقوف، وإن أتيت جبل قزح وافقت الرسول فيما فعل.
قال: [ولما أسفر جداً] وقبل أن تطلع الشمس [أتى الجمرة فرماها، ثم المنحر فنحر ثم قال: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر )، ثم أفاض من يومه] أي: إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة [وعاد إلى منى، فبات بها ثلاث ليالٍ يرمي الجمرات الثلاث بعد زوال كل يوم] زوال الشمس يعني [يبدأ بالصغرى ويختم بالكبرى] التي تلي مكة [وخطب أيام منى، وعلم كل ما الأمة في حاجة إليه إلى يوم الدين، ولذا كانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ، كما تسمى حجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودّع أمته فيها، إذ لم يحج بعدها، فصلى الله عليه وسلم يوم ولد، ويوم دعا وجاهد، ويوم حج واعتمر، ويوم ودع ويوم مات، فالتحق بالرفيق الأعلى في جنة عرضها السماوات والأرض].
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً، نسجلها إزاء الأرقام الآتية:
أولاً: وقوع حجة الوداع بعد تطهير الحرم من الشرك والمشركين، دال على حصاد جهاد دام نيفاً وعشرين سنة] وقوع الحج في هذا العام بعدما طهرت مكة من الشرك والمشركين دال على حصاد جهاد دام نيفاً وعشرين سنة، وفي هذا عبرة لمن يعتبر.
[ثانياً: بيان أن وادي العقيق مبارك، وأنه ميقات أهل المدينة، إذ ذو الحليفة على شاطئه الأيمن.
ثالثاً: مشروعية الإهلال بأي نسك من الأنساك الثلاثة: الإفراد، والتمتع، والقران.
رابعاً: بيان أن الحائض لا يمنعها الحيض من الإحرام، إذ تفعل كما يفعل الحاج إلا أنها لا تطوف حتى تطهر وتغتسل.
خامساً: من مظاهر الرحمة المحمدية الإذن بفسخ الحج إلى عمرة؛ تيسيراً وتسهيلاً على الأمة] وهذه القضية فيها خلاف، وقد وقفنا عندها كثيراً.
من مظاهر الرحمة المحمدية لما جاء إخوان له محرمين بالإفراد أمرهم أن يحولوا الحج إلى العمرة؛ ليس لأنه لا يجوز ولكن رحمة بهم، فقد يجئ رجل من شوال، وهو محرم بالإفراد، فيبقى شهرين وهو محرم في مكة، وقد يكون في وقت الصيف، فلهذا أذن لمن جاء مفرداً أن يتحلل بعمرة ويبقى في مكة، وإذا جاء يوم التروية أحرم بالحج، ولما تململ بعض الإخوان أي: غضب، طيب نفوسهم بقوله: ( لولا أني سقت الهدي لما جعلت الحج وجعلتها عمرة )، ولكن ما دمت قد سقت الهدي فلا يحل التحلل.
[سادساً: مشروعية الحرص على مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، إذ كان المشركون يعدون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر] كان ممنوع عند الجاهليين أن تعتمر في أشهر الحج، ولكن دعه حتى تنتهي أشهر الحج.
[فلذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل والاعتمار، ولما تردد أصحابه في ذلك غضب حتى أذعنوا لأمره وتحللوا رضي الله عنهم.
سابعاً: بيان باقي المناسك عملياً، إذ كان يقول: ( حجوا كما رأيتموني أحج )] علمهم المناسك بالعمل.
[ثامناً: الإعلان عن حقوق المسلم وأنه محرّم الدم والمال والعرض] سواء كان أبيض أو أسود.
[تاسعاً: الإعلام عن تحريم الظلم والربا وكل عادات الجاهلية مطلقاً.
عاشراً: الإعلان عن حقوق النساء، والأمر بالاعتراف بها وأدائها، وكذا حقوق الزوج على زوجته.
الحادي عشر: تحريم الوصية للوارث، وتقرير قانون التوارث كما في القرآن الكريم.
الثاني عشر: حرمة التبني والانتساب إلى غير الموالي.
الثالث عشر: تقرير: أن الولد يُنسب إلى من ولد على فراشه، وأن العاهر لا حق له فيه، وإنما له الرجم بالحجارة إذا اعترف بالزنا].
أكثر الناس آيسون، يقول أحدهم: كيف أكون ولياً لله؟! ليس ممكناً؛ فالولي ذاك الذي ظهرت الكرامات على يديه فأحيا الموتى وأنبت الشجر اليابس، أما أنا فكيف أكون ولياً لله؟ ومعنى هذا: ليسرق بعضكم بعضاً، وليزنِ بعضكم بنساء بعض، فأنتم لستم بأولياء لله.
إن ولاية الله لو نقطّع ونحرّق ونصلّب لا نستطيع أن نقول: إننا لا نريدها، إذاً ماذا نريد؟ ولاية الشيطان! ثم ولاية الله عز وجل لا تكلفك انتحاراً، ولا أن تطلق رأسك من أعلى جبل أو أعلى منزل، ولا تكلفك أن تجوع أو تشبع، ولا أن تسكت فلا تنطق، ليس فيها أبداً ما لا يطاق ولا يقدر عليه، ولكن -فقط- آمن حق الإيمان.
لماذا لم يأتني طوال العام من يقول: يا شيخ! أريد أن أعرف: هل أنا مؤمن أم لا؟ هل حصل أنهم جاءوكم وقالوا: كيف نؤمن أو دلونا على الإيمان؟ ليس هناك اهتمام أبداً، فهذا غير مهم عندهم، صح الإيمان أم لم يصح!!
لن تخطو خطواتك الأولى لولاية الله حتى تؤمن حق الإيمان، وتعرض إيمانك على القرآن فيمضيه، ويقول لك: أنت مؤمن، أو تعرض على رسول الله وسنته فيشهد لك بأنك مؤمن.
وأخيراً: دائماً أمامكم شاشتان -وقد تعودتم النظر إلى الشاشات- ولكن هذه شاشتان قرآنيتان عظيمتان على كل مؤمن أن يستعرضها ليشاهد نفسه هل هو فيها، فإن وجد نفسه فيها قال: الحمد لله أنا مؤمن، وإن لم يجد نفسه فيها قال: دلوني كيف أومن بالله، فما أنا بالمؤمن إلى الآن.
ووالله! لو أن ذا عقل وبصيرة من أولئك الراغبين في ولاية الله، سمعني أقول: هناك شاشتان قرآنيتان، وينبغي أن تقرأ هذه الآيات وتنظر هل أنت فيها أم لا، لكان يقول: والله يا شيخ! لا تقم حتى تذكر لنا هذه الآيات، ودلنا في أي سورة هي؛ حتى نقف عليها!
وإليكم الشاشة الأولى من سورة الأنفال:
يقول تعالى في بيان المؤمنين بحق: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] وهذه صيغة حصر، أي: إنما المؤمنون بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، يعني: منسوب الإيمان يرتفع عندما تقرأ عليه الآيات؛ لأن الإيمان موجود وحي، فجاءت الطاقة ودفعته، أما أن تُقرأ عليه الآيات ولا يزيد فليس بمؤمن، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، عندما تقول له: أما تتقي الله يذوب، يتغير وجهه ويأسف ويبكي.
أما مَن تقول له: اتق الله، أو ألا تخاف الله؟! فيضحك! ويخرج لسانه، ويلوي رأسه مستهزئاً، فوالله ما هو بمؤمن.. والله ما هو بمؤمن.. والله ما هو بمؤمن! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، لا يتوكلون على المال، ولا على الأولاد، ولا على العشيرة، ولا على القبيلة، ولكن على رب العباد عز وجل.
هناك من تقول له: يا عبد الله! توكل على الله، وأغلق هذا البنك، ورد فلوس الناس إلى جيوبهم، وقل لهم: سامحوني وتوكل على الله. يقول لك: لا نستطيع، كيف نفعل هذا؟! أين التوكل على الله عند هذا الرجل؟!
أو تقول: يا فاتح صالون الحلاقة في المدينة، لا تحلق وجوه الرجال حرام عليك! فيقول لك: كيف أعيش؟
متوكل على ماذا هذا الرجل؟ على حلاقة الوجوه.
لا بأس بأن تحسن الوجوه، وتحلق شعر الرأس، ويعطيك الله القدر الذي يكفيك، لكن لا تبتدع بدعة تغضب الله ورسوله، فتحلق وجوه الرجال في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا توكل على الله!
وذاك يبيع الخيرات كلها في الدكان، فنقول له: لا تبع السجائر.. فيقول: إذا لم أبع السيجارة لا يشتري الزبائن!! إذاً: هو توكل على بيع السيجارة، والله تعالى يقول: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11].
إذاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:2-3] لا تفوته ركعة عن وقتها، فيصليها في بيوت الرب مع أوليائه خمس مرات، يتعهد بيت الله ويؤديها بكامل شروطها وآدابها، هذا معنى إقامة الصلاة.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] طوال العام يبذل ما استطاع أن يبذل مما أعطاه الله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] هذا حكم الله لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4].
ويبقى خطوة ثانية: أحبوا ما يحب الله، واكرهوا ما يكره تصبحون أولياءه.
وصلّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر