أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم. وبالأمس كان النداء يتضمن النهي أو التحريم لأمرين:
الأول: تحريم أموال المؤمنين وأكلها بغير حق، إلا أن تكون تجارة، وعن تراض بين البائع والمشتري.
والثاني: حرمة دماء المسلمين، فلا يحل لمؤمن أن يزهق روح مؤمن، ولو كانت روحه هو، والنداء نصه إن كنتم تذكرون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]. فعرف المؤمنون هذا، وعاشوا عليه قروناً، لا يأخذ مؤمن من مال أخيه إلا برضاه، أما السرقة .. أما الاغتصاب .. أما الغش .. أما الخداع .. أما ما يؤخذ من طريق الحيل فهذه الأموال لا يحل للمؤمن أن يأكلها، أو أن ينتفع بها أبداً، ودماء المؤمنين كأموالهم، واذكروا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات عام حجه، إذ قال: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ). الحديث.
وقد عرفتم أن الانتحار شائع اليوم، وقد امتلأت به بلاد العالم مع وجود الرخاء، ووجود الراحة، فالناس يطيرون في السماء، ويفجرون المياه في الجدران، ومع هذا ينتحرون، والمنتحر أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يعذب بما قتل به نفسه في النار خالداً مخلداً، سواء احتسى سماً أو طعن نفسه برمح أو أفرغ عليها رصاصة، فهو يعذب بنفس ذلك العذاب إلى يوم القيامة، ويوم القيامة أبداً ولا يخرج منه.
فهذا النداء مضمونه: حرمة الصلاة حال السكر، فمن كان سكران فلا يحل له أن يدخل في الصلاة؛ حتى يفيق ويذهب ما غشى قلبه وغطاه من السكر، وهذا كان قبل تحريم الخمر، وأما بعد تحريمها فلا سكر ولا من يسكر، وإن فسق فاسق وشرب الخمر وسكر فحرام أن يدخل في الصلاة في حال سكره.
وحرمة الصلاة والمكث في المسجد وهو جنب، فلا يصلي الجنب ولا يدخل المسجد الجنب، حتى يغتسل من جنابته، أو يتيمم إن كان معذوراً.
ومشروعية التيمم للعذر. وكل هذا تضمنته الآية الثالثة والأربعون من سورة النساء، فهيا بنا نحفظ هذا النداء وبجد؛ لأنه حوى هذه الأحكام.
قال: [ الآية (43) من سورة النساء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43] ]. وهذا النداء إن شاء الله نعيده غداً رجاء أن نحفظه حفظاً جيداً.
ونعيد الآية ونتأمل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، أي: حتى تفيقوا من سكرتكم، وهذا كان قبل تحريم الخمر، ومع هذا حكم الله باق، فإذا فسق فاسق وفجر فاجر وعصى الرحمن وزين له الشيطان فشرب الخمر وثمل وسكر فلا يحل له أن يصلي وهو سكران، لأنه قد يقول الكفر.
وَلا جُنُبًا [النساء:43]. فالجنب لا يصلي وهو جنب، اللهم إلا يمر بالمسجد، وقد كان الأصحاب رضوان الله عليهم لهم أبواب من بيوتهم داخل المسجد، فيضطر إلى الخروج من بيته على المسجد، فعفا الله عنهم، وأما أن تجلس وأنت جنب فلا، وأما المار فلا بأس للحاجة والضرورة.
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، أي: من الجنابة.
[ الشرح ] قال الشيخ غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم في شرح هذا النداء الإلهي الحاوي لحكم الجنب، وحكم الذي انتقض وضوءه، وحكم من لم يجد ماء، وحكم التيمم وبيانه، وهكذا يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذا النداء، قال: [ اعلم أيها القارئ الكريم! أن هذا النداء يحوي أحكاماً عدة ] أي: عدة أحكام [ ومعرفتها واجبة ] ولازمة ضرورية [ وها أنا ذا أفصلها لك تفصيلاً.
فاحفظ النداء أولاً، ثم أقبل على معرفة ما فيه من أحكام فقهية ضرورية ] أي: لا بد منها كالطعام والشراب، فإذا لم تأكل ولم تشرب فإنك تموت، فأكلك ضروري، ومعرفة هذه الأحكام ضرورية حتى تعرف كيف تعبد الله وتزكي نفسك [ واعمل بها وعلمها غيرك، تظفر بشرف العظمة في السماء ] فاحفظها واعلمها واعمل بها، وعلمها غيرك لتظفر وتفوز بشرف ولقب أنك عظيم في السماء [ لما رواه مالك ] صاحب هذا المسجد، وكان إماماً به في القرن الأول [ من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيماً ] وهذا مرفوع إلى الحضرة النبوية، أو إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام. فاعرفوا عظماء الرجال، فهم ليسوا نابليون ولا سقراط ولا بقراط ، ولا أنجاس البشر الذين عظمناهم، ورفعنا رءوسهم وهم أموات، ونسينا أن عظماء الرجال هم أطهار النفوس أزكياء الأرواح، الذين ما غشوا إثماً طول حياتهم، وليسوا الأنجاس الذين عظمناهم في التاريخ، وندرس أيضاً عنهم.
عمار
! أن تقول هكذا، وضرب الأرض بيديه، فمسح وجهه وكفيه ). وذلك لما تمرغ كالبهيمة، ثم أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذا وكذا، فقال: ( ياعمار
! إنما يكفيك أن تقول كذا وكذا ). وعمار بن ياسر هذا أبواه شهيدان، وهما سمية وياسر ، وهو شهيد، و(عمار
تقتله الفئة الباغية ). فقد كان مسافراً فلم يدر ما يفعل، فقام فتمرغ في التراب كالبهيمة جسمه كاملاً، فلما عادوا من السفر أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل عمار ؛ لأن الذين كانوا معه ما استساغوا هذا، ومنهم عمر بن الخطاب ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلت؟ قال: كذا وكذا، قال: ( إنما يكفيك ياعمار
! أن تقول هكذا، وضرب الأرض بكفيه، ومسح وجهه وكفيه ). فهذا والله يكفي. وهذه الدروس ما تلتزم بمذهب معين يشتت المسلمين ويمزقهم، بل الوارد عن الله والرسول نتعلمه، ولا نتعصب للمذاهب، بل نتأدب، فنذكر الحديث أولاً ثم ننظر، والمهم ألا نخرج عما كان عليه رسول الله وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. فهذه هي السلفية الحقة، والمرأة سلفية، والرجل سلفي، والسلفية طريقة، فكل من لم يكن سلفياً لن يدخل الجنة دار السلام، أحببتم أم كرهتم، وكل من يرغب عن السلفية المحمدية ويريد أن لا يكون من أهلها فالجنة محرمة عليه، وإذا عجبتم من هذا الخبر فاسمعوا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ونحن في مسجده على مقربة من حجراته الطاهرة- كان يعلم الكتاب والحكمة ويزكي، فيقول: ( لقد افترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ). وهذا صحيح، والآن اسأل اليهود يخبرونك، ( وافترق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ). وسلهم، فالإنجيل حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، ولما صاح الناس وانفضحوا اجتمعوا وحولوه إلى خمسة أناجيل، فكتاب الله أصبح خمسة! يعني: ما هو من الله خمس، والباقي كفر وضلال. ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ). وهذه الأمة التي تفترق كانت ما زالت جماعة بين يديه عندما أخبر بهذا بالغيب الإلهي الذي يعلمه الله، وها نحن قد افترقنا، ومن أراد أن يقف على هذه الفرق الضالة فعليه بتفسير القرطبي جامع البيان في تفسير آية آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]. فقد ذكر جداول وقوائم بهذه الثلاث والسبعين فرقة، فقولوا: صلى الله عليه وسلم، وليس بعد هذا شك في نبوته، فقد أخبر عن هذه الأمة قبل أن توجد أنه ستفترق، ووالله لقد افترقت إلى ثلاث وسبعين فرقة. ثم قال في بيانها: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة ). فكل هذه الثلاث والسبعين في النار إلا واحدة ففي الجنة، وهذه الواحدة ليسوا بنو هاشم، ولا آل النبي، ولا البيض ولا السود، ولا العرب ولا العجم، بل ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي ). فالفرقة الناجية هم الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عقائدهم .. في عباداتهم .. في أقضيتهم وأحكامهم .. في آدابهم وأخلاقهم.وأرسم لك صورة واضحة لعقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكيفية عباداتهم وطاعاتهم لربهم، فعش عليها لتكون من الناجين ومن الفرقة الناجية، وإذا اختلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقيدته .. في عبادته .. في أحكامه فلست من الفرقة الناجية.
فالإخوان المسلمون حرام عليهم أن يكونوا من الفرقة الناجية ألا أن يكونوا سلفيين، وأنصار السنة يجب أن يكونوا سلفيين، والدعاة والمبلغون يجب أن يكونوا سلفيين، والذي يقول: أنا لن أكون سلفياً فمعناه: أنه كافر، لا يريد الإسلام، ولا يريد أن يدخل الجنة.
وكلمة سلفية هذه محدثة، وليس عندنا كلمة سلفي أو سلفية إلا إذا أردنا أن نبين، والصحيح أننا يجب أن نعيش على ما كان عليه نبينا وأصحابه .. في العقيدة .. في العبادة .. في المعاملة .. في الآداب .. في الأخلاق، فنكون صورة طبق الأصل، ولا بد من هذا العزم والتصميم، فنعتقد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد، فهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: اللهم إني أسألك بحق إبراهيم، فلا تقل أنت: اللهم إني أسألك بحق فاطمة ، وهذا مثال، وكذلك لم يقل: اللهم إني أسألك بحق عبد القادر ، ولم يكن يحلف هكذا، بل كان يحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: والذي نفسي بيده، أو بالله الذي لا إله غيره، هذه هي أيمانه، وأنت تقول: وحق سيدي فلان، أو ورأس فلان. فلست على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: هذا الكبش على روح سيدي إبراهيم أو على جدي إسماعيل، ولم يفعل هذا والله، فلا تقل: هذا الكبش على روح سيدي البدوي ، أو سيدي عمار ، فمن أراد أن يكون من الفرقة الناجية فلينهج منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا مذهب نتعصب له، ولا طريقة ننشدها، وإنما فقط: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنصلي كما يصلون، ونتيمم كما يتيممون، ونجاهد كما يجاهدون، ونتعامل كما يتعاملون، ولا تقل: أنا كذا، فلا وطنية ولا قبلية ولا مذهبية.
ونحن الآن في ديار الحرية، وقد مضى وقت لو يقول هذا قائل فمصيره السجن مباشرة.
[ ودل على كيفية التيمم هذه قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43] ] وكل مؤمن يقرأ هذه الآية يعرف التيمم.
والمتعصبون يقولون: لو تيممت ولم تمسح ذراعيك فصلاتك باطلة، وآخرون يقولون: امسح باطن رجليك وإلا صلاتك باطلة؛ لأنه قرأ هكذا في كتاب فقهي، ولم يقرأ قال الله ولا قال رسوله، ولا جلس بين يدي مرب متحرر من القيود الأوهامية والوطنية.
وهذا النداء يحتاج إلى يومين. فنكتفي بهذا على أن نعود إليه غداً إن شاء الله.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللهم اقض عن هذا العبد دينه يا رب العالمين! اللهم اقض دين كل ذي دين. اللهم سدد دين كل من عليه دين من إخواننا المؤمنين الحاضرين والغائبين. اللهم اقض ديونهم، وسددها عليهم، وارفق بهم، والطف بهم يا رحمان! يا رحيم!
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر