أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا والحمد لربنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
ها نحن الليلة مع هذه الآيات الثلاث التي تضمنها [ النداء الثامن والخمسون ] من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وهي [ في وجوب الاستئذان على من يراد الدخول عليه في بيته، وعدم مشروعية الاستئذان على بيت غير مسكون للعبد حاجة فيه ]
وإليكم النداء، فاصغوا واستمعوا إليه.
قال: [ الآيات (27 - 29)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:27-29] ].
أولاً: أذكركم بأن فاحشة الزنا والعياذ بالله تعالى من أعظم الفواحش وأقبحها، وقد ذكرت مقرونة بقتل النفس والشرك بالرب تعالى، فقد قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68-69]... الآيات. ومن صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]. والحمد لله. فقد سمعتم وبلغكم أنه أقيم اليوم الحد على اثنين من الزناة في هذه المدينة المباركة حول المحكمة، وهذا من تطبيق شريعة الله عز وجل في هذه الديار. فاللهم احفظها، واحفظ ولي العهد فيها يا رب العالمين!
وكل ما من شأنه أن يصل بالعبد إلى هذه الفاحشة فهو حرام، وكل الأسباب التي تؤدي بالعبد إلى ارتكاب هذه الفاحشة فهي محرمة. ولنبدأ بالنظر، فهو حرام، فقد قال تعالى في النظر: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]. وقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31]. لأن النظرة تؤدي إلى الفاحشة.
ثانياً: حجب الله المؤمنات حجباً، ومنعهن عن الخروج والاتصال بالرجال، ومنعهن من ذلك، ولم يأذن إلا لعجوز غابرة لا يتأتى لها أن تفجر؛ من أجل أن لا تقع هذه الفاحشة. والأغاني التي تشيع هذه الفاحشة وتثيرها وتوجد غرائز النفوس فيها محرمة بالإجماع، ولا تحل أبداً.
فمن هنا لما كانت هذه قبيحة فرض الله تعالى على المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يدخل بيت أخيه أن يستأذنه، فإن أذن له دخل، وإن لم يأذن له رجع وهو غير غضبان ولا ساخط، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]. والاستئناس هو الاستئذان، أي: طلبك الإذن من صاحب البيت أن يأذن لك في الدخول؛ وقيل في الاستئذان: استئناس لأنه لا يكون إلا من الإنسان فقط، والحيوان لا يستأذن، فأنت بما أنك إنسان وإنسانيتك واضحة فلا تدخل كالحيوان بيت الناس بدون أن تطلب إذناً منهم، بل لا بد وأن تقف عن جانب الباب الأيمن أو الأيسر وتقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن لك دخلت وإلا رجعت، وترجع وأنت غير غضبان، ولا ترجع وأنت تلعنهم وتسبهم وتقول عنهم كذا وكذا. وقد ورد أن أحد الأصحاب رضوان الله عليهم طلب هذه الفضيلة أربعين سنة ولم يظفر بها، وهي أن يأتي فيستأذن ويسلم فلا يؤذن له ويرجع وهو راض، ولم يحصل على هذا، بل كلما استأذن أذن له، وكان يتعمد هذا، ويأتي بيوت المؤمنين ويستأذن ليقال له: ارجع؛ حتى يرجع ونفسه مطمئنة. فلم يحصل على هذا، وقد طلبه بجد.
وقد قال تعالى في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]. وتعرفون هذه الحقيقة.
وفاحشة اللواط لا نذكرها، فهي لم تكن تقع ولم تقع إلا مع قوم لوط، وقد قال فيها عبد الملك بن مروان على المنبر: والله لولا أن الله ذكرها في القرآن ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر أبداً. وما عرف العرب هذا قط، بل كانوا ينزون الحمار على الفرس، أي: يرفعونه عليه.
وحدثت حادثة اللواط على عهد أبي بكر وخلافته في رجل أعجمي في البحرين، واحتار الأصحاب كيف يحكمون، وكيف ينفذون حكم الله فيه؟ فقال علي : أرسلوه من أعلى جبل إلى الأرض وارجموه كما فعل الله بقوم لوط.
ثم يقول تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا [النور:28]، أي: في البيت، فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28] بالدخول. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].
ثم قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]. كأن يكون مقهى أو دكاناً أو فندقاً أو بيتاً ليس مسكوناً، فيجوز أن تدخلوه بدون استئذان. وأنت لا تستأذن عند الدخول إلى مقهى أو فندق أو حمام أو ما أشبهها، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، أي: مصلحة وحاجة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29]، أي: والله يعلم ما تبدونه وما تظهرونه، وما تخفونه وما تكتمونه، فراقبوا الله عز وجل فيكم.
ولنستمع إلى شرح هذا النداء من الكتاب؛ فإنه مفصل ومبين والحمد لله.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]، أي: مطلع على أحوالكم وأعمالكم، فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه، وعليه فأطيعوه فيه وفي غيره؛ تكملوا وتسعدوا ] في الدارين والحياتين.
قال: [ وذلك كالدكاكين والفنادق والأسواق وما إلى ذلك، فللمؤمن أن يدخل لقضاء حاجته المعبر عنها بالمتاع ] والمتاع بمعنى الحاجة التي تتمتعون بها، فيدخل [ بدون استئذان؛ لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات من عامة الناس. هذا في الاستئذان. أما السلام فهو سنة في حق كل مؤمن يدخل أو يمر على مؤمن، إذ ( يُسلم الراكب على الماشي، والواقف على القاعد، والصغير على الكبير ) ] فرخص لنا في الدخول بدون استئذان، وأما السلام فلابد [ فمن دخل دكاناً أو نزلاً أو مطعماً من السنة أن يسلم قائلاً: السلام عليكم ] فلا يجوز أن تدخل الفندق بدون أن تسلم، بل قل: السلام عليكم، وإذا دخلت الدكان فقل: السلام عليكم، والرخصة فقط في عدم قولك: أأدخل؟ فهذا لا معنى له؛ا لأن الباب مفتوح لكل أحد من أصحاب الحاجات، وأما السلام لابد. ويسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والصغير على الكبير، وهذا مبدأ هذه الأمة الذي تعيش عليه [ ويرد عليه من سلم عليه ] وجوباً [ قائلاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ] لقول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ [النساء:86] أو على الأقل رُدُّوهَا [النساء:86]. فالمسَلِّم يقول: السلام عليكم، والراد يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإن اكتفى بقول: وعليكم السلام يجزئه، ولكن فاته عشرون حسنة؛ لأن وعليكم السلام بعشر حسنات، ورحمة الله بعشر حسنات، وبركاته بعشر حسنات، فتكون ثلاثون حسنة. وقد استعملنا هذا أيام الشبيبة، وكنا من عند باب البيت إلى نهاية ما نريد الذهاب إليه نسلم، فنحصل على مائتين .. ثلاثمائة حسنة، ونسجل ذلك، وكذلك من باب المسجد إلى باب البيت نسلم: السلام عليكم، وإذا سلم علينا شخص ردينا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ونسجل، فنجد مائتين .. ثلاثمائة حسنة. فافعلوا هذا وجربوا، وسلم من باب المسجد وسجل، وستجد لك مائتين .. ثلاثمائة حسنة، والله يقول: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. وأحسن منها: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أولاً: اذكر أن سبب هذا النداء ] أي: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا [النور:27]. سببه [ هو أن امرأة من الأنصار ] أي: من سكان المدينة من أهل البلاد لا المهاجرين [ قالت: ( يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا ولد ولا والد، فيأتي الأب فيدخل علي، فإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي على تلك الحال، فكيف أصنع أنا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ) ] فهي اشتكت وقالت: أكون في بيتي وعلى حال، أي: يمكن أن أكون كاشفة عن فخذي أو عن رأسي، ويدخل أبوها أو يدخل ولدها أو يدخل غيرهما، فسألت ماذا تصنع وكيف تفعل؟ فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]. هذا سبب نزول هذه الآية. فانظر المرأة سألت فأجابها الله [ وقال أبو بكر ] فـأبو بكر سأل فأجيب، والحمد لله، فقد قال: [ ( يا رسول الله! أرأيت الخانات والمساكن في شرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ... [النور:29] ) ].
قال: [ وأن يرفع صوته بقدر الحاجة ] ومعنى بقدر الحاجة: بقدر ما يسمعه أهل البيت، فهو لا يؤذن، فيرفع صوته بقدر الحاجة [ وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً ] لا أن يطرقه بالعصا، بل يقرعه قرعاً خفيفاً [ وأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ] ويعيدها [ ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع ] ولا يرجع غضبان يشتم، بل يرجع راضياً مطمئن النفس.
[ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر