أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. سائلين الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، وأن يرضى عنا كما رضي عنهم. آمين.
النداء الذي درسناه أمس مضمونه وما مفاده والعلم الذي استقيناه وفزنا به هو: أننا عرفنا أنه لا يحل للمؤمنين أن يتناجوا- أي: يتساروا- بالكلام السر بينهم دون أخوهم، فإذا كانوا ثلاثة فلا يحل أن يتناجى اثنان دون الثالث، وإذا كانوا ثلاثة فلا يحل أن يتناجوا إذا كان الرابع بعيداً لا يدري عنهم ماذا يقولون، وهكذا الخمسة والستة. وهذا النهي لأن الله ولي المؤمنين، وهو لن يسمح ولن يأذن لأحد أن يؤذي وليه، فيدخل عليه هما أو غما، أو كرباً أو حزناً. وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث ). فإذا أردت أن تتحدث مع أخ لك وأخوك موجود معهم فأسمعه كلامك، ولا يتناجى اثنان دون الثالث، أو ثلاثة دون الرابع، أو أربعة دون الخامس؛ لأن هذا الذي لم يعلم ما يقولون يصاب بهم أو حزن؛ هذا والله لا يحل بيننا؛ لأننا أولياء الله.
قال ربنا -وقوله الحق- في الحديث القدسي كما في صحيح البخاري : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). ولا يجوز لنا أن ندخل الحزن والكرب على مؤمن بسبه وشتمه، أو بتعييره وتقبيح سلوكه، كما لا يجوز لنا أن نؤذي مؤمناً في جسمه بضربه وسحبه على الأرض، أو بتجويعه وتعطيشه، وكذلك لا يجوز لنا أن نؤذي مؤمناً في عرضه في ابنته وامرأته، ولا أن نؤذي مؤمناً في درهمه وديناره، فهذا والله لا يجوز، وإن دماءنا وأموالنا وأعراضنا حرام علينا إلى يوم القيامة.
المسلمون لم يعرفوا أن إيذاء المؤمن لا يجوز، ولم يسمعوا يوماً كلاماً كهذا، ولم يفتح أحدهم صدره له، ولم يعزم على أن يطبق ويعمل بما فيه.
والدليل والبرهان على هذا: واقعنا الذي نعيشه، فنحن أكثر من ألف مليون مسلم، وقد انتشر فينا الزنا والسرقة، والإجرام والقتل، وسفك الدماء، وحتى الحيوانات لا تعذب كتعذيبنا، ونحن ندعي الإيمان والإسلام، ونريد أن تفتح لنا أبواب السماء، وندخل الجنة دار السلام، ونحن نعيش على أوهام.
والله قد حكم الله فينا وقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. وقال: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]. والفجار هؤلاء ليسوا فرنسيين ولا إيطاليين، وإنما الفاجر منا هو الذي خرج وفجر عن نهج الله المستقيم، وعن طريقه المستوي، فترك الواجبات وأهملها، وأقبل على المحرمات وغشاها وتعاطاها.
والفاجر من فجر، كما يتفجر الماء من الأنبوب. فكل من يترك الواجبات ويستهين بها ولا يبالي فهو والله فاجر، وكل من يغشى المحرمات على علم ومعرفة ويتعاطاها وهو يعرف أنها محرمة بالكتاب والسنة فهو فاجر.
وحتى نخفف عن أنفسنا نقول: إن المسلمين منذ قرون لم يتربوا في حجور الصالحين، ولا جلسوا بين يدي المربين يربونهم على الأخلاق والآداب، ويزكون أرواحهم. وقد مضى أربعة قرون والمربون خرافيون استغلاليون، وكانوا يربون تحت شعار: التربية الصوفية، وكانت الأمة ما عدا أولئك همج يأكل بعضها بعضاً.
وأنا لم أبالغ في هذا، فقد استعمر العالم الإسلامي باستثناء هذه البقعة حماها الله، وقد حكمتنا بريطانيا وهولندا، وبلجيكا وفرنسا، وإيطاليا وأسبانيا، وفعلوا بنا العجب، ولو كنا مؤمنين حقاً فوالله ما سلط الله علينا أعداءه وأعداءنا، وحاش لله! وهو ولي المؤمنين أن يأذن لأعدائه أن يهينونا ويضلونا.
ولنقرأ قول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. والله لا يكذب، وتعالى الله عن الكذب. وإلى الآن فنحن ما زلنا في سكرة، بل نزداد هروباً، ونزداد تعرضاً لغضب الله، ووالله إن غضب علينا الجبار مرة ثانية فإنه سيسلط علينا ما لم يكن في الحسبان، فلنتأدب ولنرجع.
ونحن مازلنا مصممين على ألا نعود إلى الله، والبرهان والدليل على ذلك: أن دولنا من أندونيسيا إلى موريتانيا لم يبلغنا أن حكومة منها أصدرت قراراً ومرسوماً ملكياً جمهورياً سلطانياً بألا يتخلف مؤمن عن الصلاة أبداً إذا نادى المنادي، ولذلك لم يبلغنا أن دولة استقلت من شعوب العالم الإسلامي عربي أو أعجمي أصدرت مرسوماً جمهورياً: أنه لا بد من جباية الزكاة ومحاسبة المواطنين عليها بكل دقة؛ لأنها قاعدة الإسلام. فهذا لم يحصل، بل إنهم يجبون الضرائب الكافرة. ونحن لا نلوم المسئولين؛ لأنهم جهلة مثلي ومثلكم، فهم لم يجلسوا في حجور الصالحين، ولا تربوا بينهم. ولذلك فه لن يسموا ويكملوا ويرتفعوا.
وأذكركم بقول إسماعيل وإبراهيم وهما يبنيان البيت العتيق، فقد قالا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. واستجاب الله وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، فرباهم في حجره على الكتاب والسنة وزكاهم، فتخرج من بين يديه رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم في عدلهم واستقامتهم، وفي طهرهم وصفائهم، وفي علمهم ومعرفتهم. والبرهان على هذا: أنه في خمسة وعشرون سنة تجاوز الإسلام نهر السند شرقاً والأندلس غرباً. وحدث كل هذا بالعلم وليس بالجهل، وبالطهر والصفاء، وليس بالخبث والنجس.
الحيلة حتى نصبح مثل الصحابة: أن يبدأ كل شخص بامرأته وبناته وأولاده، ويستبدل بالتلفاز والفيديو كتاب المسجد وبيت المسلم. ويجتمعوا عليه، ويتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً طول العام، فيتغنون بالقرآن الكريم، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحول ذلك البيت إلى كتلة من نور؛ حتى ترحل الشياطين ولا تقيم فيه، فتعذب كلمات أهل البيت، وتطيب نفوسهم، فتنخفض أصواتهم، ويتلاقون على ذكر الله وحبه. ونحن لا نستطيع هذا، ولا نقدر عليه، وعلماؤنا كحكامنا فالكل والله قد قصر، ولم يؤدي واجبه. والعلة هي أننا تعلمنا العلم في حجور الدكاترة، وتعلمناه للشهادات وللوظيفة، وليس لله، وحتى النساء هكذا أيضاً، وهذا العلم لا ينفع. والعالم الذي يدخن أو يحلق لحيته أو إن امرأته في الشوارع تتجول لا يستطيع أن يربي، ولا أن يزكي، وكذلك الحاكم لم يعرف الله أبداً، ولم يحفظ من أسمائه سوى الله، ولذلك فهو لن يستقيم على منهج الله.
فهيا بنا نعود، وإذا أردنا العودة فلنبدأ من البيوت، فأهل كل بيت يجتمعون، ويتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً، وهكذا كل ليلة من المغرب إلى العشاء، أو من صلاة العشاء إلى أن يناموا، ولن يبقى من يقول البذاء، أو ينطق بالسوء، أو يشاهد عاهرة تغني، أو يسمع صوتها، أو يلهث ويجري وراء الدنيا، أو يتكالب عليها، بل تزكوا النفوس، وتطيب الأرواح، وتصبح البيوت كتلاً من النور هنا وهناك.
ونعود إلى نداء أمس، فهو يبين أنه لا يحل لمؤمن أن يتناجى مع آخر ويتركان أخيهما الذي معهما؛ لأن ذلك يصيبه بالكرب والهم والحزن، فلا نتناجى بالإثم والعدوان، ولكن إن تناجينا فنتناجى بالبر والتقوى، كما قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]. وأما أن نتناجى وأخونا وحيداً يفكر فهذا لا يجوز؛ لأنه يؤذي ولي الله. ومن آذى ولي الله فليتحمل الجزاء. ولا تقولوا: ليس هناك أولياء لله، بل يوجدون، ولكن فيهم ضعف في الولاية، وفي المراتب؛ لأن الولاية رتب كرتب الجنود من عسكري إلى جنرال، فهم ليسوا في مستوى واحد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلهم أبو بكر ، ولم يسامه البقية أو يحاذوه، بل كانوا دونه.
وكل مؤمن تقي فهو لله ولي، ولا يشترط لذلك بناء قبة، ولا وضع تابوت على قبره، بل نعترف لكل مؤمن يقيم الصلاة ويعبد الله بولاية الله، ومن ثم فلا نؤذيه ولو بنظرة شزرة، أو بصوتٍ عالٍ نزعجه به.
ونعيد تلاوة نداء أمس؛ تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10].
وبعض الحاضرين قالوا: نريد هذه النداءات، فقلنا: تعالوا بعد العصر إلى البيت، وكل واحد يأخذ نسخة، فلم يأت أحد، وقال: لا نعرف البيت، والذي لا يعرف يسأل، والقاعدة ربانية تقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وكذلك هذا النداء: في وجوب القيام من المجلس إذا أمر كذلك، كأن يقول المربي: قم يا فلان! فليقم، أو يقول: يا إخوان! تفسحوا لهذا المقبل؛ حتى يرد حياض العلم، فأنتم قد ارتويتم، وهم عطاش، فافتحوا لهم في المجال. وقد مر بنا في معركة اليرموك التاريخية أنه سقط الشهداء، وإذا بجريح يقتله العطش ولا ماء، فسمعه أحد الآخرين فجاء بالماء، وإذا بالآخر يقول: قتلني الظمأ، فقال: أعطه! ومات هو، ولما دنا من الثاني سمع آخر يقول: إنه عطشان، فقال: أعطه، حتى ماتوا كلهم، وكل واحد يؤثر أخيه على نفسه؛ ليسعد برضا الله. ولو كان هؤلاء مثلنا لما فتحوا دمشق، ولا دخلوا غيرها من البلاد، فنحن في وادٍ وهم في وادٍ، ونحن لسنا بشيء يذكر أبداً. ولكنهم ربوا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبنائه ورجاله، ونحن ربينا في المقاهي والملاعب.
وهذا الأمر بالتفسح في المجالس أو القيام منها لصالح وفائدة الدعوة الإلهية، ليعبد الله وحده، وتزكو نفوس عباده المؤمنين، وليس للريال ولا الدينار، ولا السمعة ولا الجاه، وإنما من أجل دعوة الله التي لها خلقنا.
وهيا نتغنى بهذا النداء.
قال: [ الآية (11) من سورة المجادلة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11] ] والمنادي في هذا النداء هو الله الذي خالقنا، وهو خالق كل شيء من الذرة إلى المجرة، وهذه المخلوقات تشهد بوجود خالقها، ولا يوجد منها شيء وجد من تلقاء نفسه والله، ووالله لا توجد ذرة بدون خالقها العليم الحكيم، فلا ننسى الله، فلولاه لما سمعنا أو أبصرنا أو فتحنا أفواهنا، ولولاه لما متنا ولا حيينا، فلا تجحدونه. وها هو ذا تعالى ينادي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:11]! فلنجبه: لبيك اللهم لبيك! وهو قد نادانا نحن المؤمنين، ولم يناد المشركين ولا الكافرين، وقد ناداهم في هذه النداءات الخاصة بأولياء الله المؤمنين ليهذبهم وليربيهم وليكملهم؛ لأنهم أولياؤه يحبهم ويحبونه.
وهذا النداء من سورة المجادلة الذي سبق أمس. وهذا النداء هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]. وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، وأهلها يتراءون غرفهم في دار السلام كما نتراءى نحن الكواكب الغابرة في السماء.
والله هو الذي يقول لنا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ [المجادلة:11]. والذي يقول هو المربي الذي يربيكم، فإذا أردتم الكمال وجلستم بين يديه فإذا قال: تفسحوا فافسحوا، كأن يأتي مجموعة من البدو أغراب يريدون أن يسمعوا فلا تتململ وتقول: لا، بل أفسح المجال، وإذا قيل: المكان قد ضاق، وليس هناك مجال للتفسح، فقد انضم بعضنا إلى بعض، فقال: قم يا فلان! ويا فلان! فعلمكم كافٍ، فأفسحوا المجال لهؤلاء، فلا نقول: لا؛ حتى لا نكفر، بل وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]. ومن قال: لن ننشز ولن نقوم فليس بمؤمن.
ومعنى قوله: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]، أي: يعطكم أكثر من عطائكم، فافسحوا يفسح الله لكم في أرزقاكم وأعماركم وعلومكم ومعارفكم وفي درجاتكم في السماء، فليس هناك شيء مجاناً، فأفسحوا يفسح الله لكم، وإذا قيل: ارتفعوا ارتفعوا؛ حتى يرفعكم الله أيها المؤمنون! ويرفع أولي العلم درجات أخرى. ولا إله إلا الله! فهذا هو الرب الرحيم، وهو الله ولي المؤمنين. وقد قرأ هذه الآية ملايين المسلمين منذ ألف سنة، ولم يعرفوا لها معنى، ولم يطبقوا منها شيئاً؛ لأنهم يقرءونها على الموتى، وأما الأحياء فلا يقرأ عليهم القرآن. والذي سن هذه السنة عدوكم اليهود والنصارى والمجوس.
ولا أخال واحداً لم يفهم هذه الآية.
ولا تقولوا: هذا عميل، أو هذا وهابي، أو هذا يريد المال، أو هذا عنده عمارات، وأعوذ بالله من الشياطين، فهم يقولون العجب؛ حتى لا يقبل شيء اسمه هدى. ولا إله إلا الله!
فبلغوا أن هذه النداءات يجب على كل من يقرأ ويفهم أن تكون عند رأسه، ولو يشتريها بوزنها ذهباً؛ لأنها نداءات ربه إليه، وإذا قال: لا، فأنا لست مؤمناً، ولا أعترف بهذا، فأبعدوه من سجل المؤمنين. ولا يوجد مؤمن عاقل لا يسمع لنداءات ربه، ولا يعرف السبب والغرض الذي ناداه من أجله، ولا ما هي فوائده. وقد كانت هذه النداءات مفرقة في القرآن الكريم، وفي ستة آلاف آية موزعة، وقد يعذر أحدنا إذا لم يعرفها، وأما الآن فقد جمعت كلها في سلسلة واحدة، وهي مبينة ومشروحة، فلنقرأها في البيوت وفي السيارات، وفي الطيارات، وخاصة الساسة والمسئولين والعلماء. ولنبك وللنتحب، فلسنا بأولئك، ونحن لا نقبل هذا، وهذا لسان الحال.
قال: [ فهو أمر ووعد أيضاً. ومن امتثل الأمر فاز بالوعد الإلهي الكريم، أما الأمر فهو وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]. ومعناه: إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيام حياته، أو قال من دونه بعد وفاته من عالم مربٍ أو واعظ مذكر، أو أمير حافظ للأمن والطهر للمؤمنين إذا قال لك: انشز، أي: ارتفع من مكانك أي: قم منه ليجلس مؤمن لحاجة تدعو إلى جلوسه؛ لما في ذلك من مصلحة الدعوة الإسلامية، أو قال: قم للصلاة، أو للجهاد، أو لفعل بر وخير، فقم لأمر الله تعالى بذلك، إذا قال لنا: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]، أي: ارتفعوا وقوموا. هذا أمر الله جل جلاله، وأما وعده الكريم فهو قوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة:11]، أي: درجات بالنصر والذكر الحسن في الدنيا، وفي غرف الجنة في الآخرة، ويرفع الذين أوتوا العلم منكم -أيها المؤمنون!- درجات عالية ] وذلك [ لجمعهم بين الإيمان والعلم والعمل. ومما يدل على أن رفع الذين أوتوا العلم درجات لعلمهم وعملهم بعد إيمانهم قول عمر رضي الله عنه في القصة الآتية ] ولو اجتمع كل المؤمنين في الأرض اليوم ما كانوا كـعمر أبداً، ولن يكونوا، وهيا نحاول أن نقتدي به، وأن نحبه، ونأتسي به، ونمشي وراء هدايته. وهناك من يلعنونه ويكفرونه. والله العظيم.
قال: [ وهي: أن عمر قد استخلف على مكة ] والياً وحاكماً [ نافع بن عبد الحارث ] فلما ولي عمر أمر المسلمين في الأقاليم عين لها ولاة، فعين على مكة هذا الصاحب، وهو نافع بن عبد الحارث [ فلقيه يوماً بعسفان ] وهو مكان بين مكة والمدينة قريب من مكة [ فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ أي: مكة ] ومكة تسمى بالوادي الأمين [ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا ] والموالي هم الذين كانوا عبيداً وتحرروا، فأصبحوا موالي لمن حرروهم [ فقال عمر : استخلفت عليهم مولى ] من موالي الناس؟ [ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاص، أي: محدث واعظ. فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ). رواه مسلم ] فخليفة العالم الإسلامي أقنعه واليه، فقد خرج من مكة لأمر ما واستخلف مولى. وعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي تسمعون به وتسبونه، وتقولون: إنه وهابي، وتكالبت عليه الدنيا كلها الكفار والمؤمنون، ولا إله إلا الله! فهذا الرجل أعزه الله بالقرآن الكريم، وأعلى درجته، وما زاد على أن حكم كتاب الله فقط، ولم يكن عنده فلسفة كاذبة، ولا علم قانون، ولا سحر ولا تدجيل، ولا غير ذلك، بل كان عنده قال الله وقال رسوله، وهذا في الوقت الذي هبطت فيه أمة الإسلام عن آخرها من إندونيسيا إلى المغرب، وآيسوا من أن القرآن سيسود أو يحكم أو يطهر بلداً، أو يرفع أهله أو يعزهم، ثم جاء الله بهذه الآية السماوية، فهذا رجل عامي تقريباً، ومع ذلك أقام دولة القرآن في صحار متباعدة، وكان الفقر يقتل أهلها، وحصل لهم من الأمن والله ما لم يحصل في العالم إلا أيام القرون الثلاثة، وحصل لهم كذلك طهر لم تعرفه الدنيا أبداً إلا في القرون الذهبية، وهذا لم يحصل بالبوليس ولا بالحرس ولا بالسحر، وإنما عن طريق هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصدق رسول الله عندما قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين ). فمن قرأه وعمل بما فيه رفعه الله، ومن أعرض عنه وتشاغل عنه هبطه الله. ولو عرف المسلمون هذا لكانوا أقاموا دويلات قرآنية لما استقلوا عن بريطانيا، وليس هناك مانع من أن يقيموا دولة إسلامية، وهم لم يطلبوا من عبد العزيز آل سعود أن يبعث لهم قضاة من قضاته، أو أن يكون لهم هيئة للأمر بالمعروف كالتي عنده، بل كان كل ما يستقل إقليم يتجبر، وينسى الله ورسوله والمؤمنين. وهذا هو الواقع، وهذا الكلام لا يقبله حتى السياسيون؛ لأنهم هابطون. وكان المفروض والواجب أنه أيما إقليم في أقصى الشرق أو الغرب استقل عن بريطانيا أو فرنسا أن يأتي رجاله إلى عبد العزيز آل سعود ، ويطلبون منه أن يبعث لهم قضاة يقضون بينهم، وأن يكون لهم هيئة للأمر بالمعروف وتطبيق شريعة الله. وهذا والله الذي لا إله غيره هو الواجب، ولكنهم لما أعرضوا أعرض الله عنهم، وأصابهم من البلاء ما لم تحلم به الدنيا.
ولو كان الإقليم لما يستقل يطبق الشريعة لأصبحنا كتلة واحدة وأمة واحدة، ولكننا أعرضنا عن هذا إعراضاً كاملاً، ورضي الله عنك يا عمر !
قال: [ كما أن الأمي إذا كان وراء الإمام في الصلاة وجاء ذو علم ونهى فإن على الأمي أن يتأخر، ويقوم العالم مقامه ] واليوم وراء الإمام العوام، وطلبة العلم غير موجودين، فإذا حاء العالم لم يفسح له الأمي، في حين أنه يجب أن يقوم له؛ حتى إذا سها الإمام أو أخطأ وأراد أن يستخلف على مائة ألف لم يستخلف عامي [ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) ] فإذا كنت تصلي وراء إمام وأنت أمي مثلي وجاء عالم فقم ودعه يجلس هو؛ لأن النبي علمنا هذا، فقد قال: ( ليليني أولو منكم الأحلام والنهى ). حتى إذا احتاج الإمام إلى واحد يخلفه يأخذ بيده ويقدمه، ليتم الصلاة بالناس، فالذي ليس عنده علم ليس من حقه أن يجلس وراء الإمام، فإن لم يوجد علماء جلس، ولكن إذا جاء العالم فيجب أن يتأخر حتى ولو كان في الصلاة. ولا تقولوا الشيخ يرفع صوته، فأنا والله ما رفعت صوتي إلا بينكم، ولا أرفع صوتي في البيت، ولا في الشارع، لكن أرفعه الآن لأبلغكم. هذا هو السبب؛ لأن التربية تحتاج إلى هذا.
ووالله لا يجوز أبداً أن تسمع هذا العلم الليلة وتتركه، فهذا حرام، وحرام أن تسأل غداً عن الولي ولا تعرف، وتقول: سيدي عبد القادر . فالولي هو المؤمن التقي، قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. وبذلك يصبح المؤمنون في القرية أولياء الله، فلا سرقة ولا كذب، ولا خيانة ولا زنا، ولا سب ولا شتم؛ لأنهم أولياء الله [ حقق الله تعالى لنا ذلك. آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر