فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:44-46].
ومن باب أننا نستفيد من ذلك النداء نستعرضه مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، فهل نحن ما أنعم الله علينا؟ بل نعمنا أجلُّ من نعمهم، فلم لا نذكر النعم، وننساها، ونتنكر لها؟ حتى لا نشكر الله عليها!
وقد قلت لكم: ينبغي أن تخلو بنفسك دقائق، وتستعرض حياتك، فسوف تقف على نعم كثيرة أنعم الله تعالى بها عليك، فإذا عيناك تدمعان، وأنت من الذاكرين الشاكرين.
وهل نحن ما أخذ علينا عهداً؟
قلت لكم: كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده وألا يعبد معه سواه، وألا يعترف بعبادة غير الله. من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وجب أن يعبد الله، وإلا ما معنى شهادته أنه لا معبود إلا الله وهو لا يعبده، ينافق أو يسخر ويستهزئ، فيجب أن يعبد الله.
ثانياً: أن يعبده وحده، فلا يشرك بعبادته غيره بحال من الأحوال، فمن أشير إليه أن عمله هذا من الشرك يجب أن ينتفض كالأسد ويقول: أستغفر الله. ولا يصر أبداً على الشرك، وإن كان به جاهلاً غير عالم.
ثالثاً: ألا يرضى بأن يعبد غير الله، أي: لا يرضى بالشرك. أما أن يداهن المشركين، ويوافقوهم، ويبتسم معهم فهذا قد غشهم من جهة ونقض عهده من جهة، وهو الذي يشهد بأعلى صوته أن لا إله إلا الله.
ثانياً: عهد آخر فمن شهد أن محمداً رسول الله وجب عليه أن يعظم رسول الله وأن يجله، ويكبره، ويحبه، ويمشي وراءه، لا عن يمينه ولا عن شماله ولا أمامه، بل لابد أن يتبع. والاتباع أن تأكل كما يأكل .. تشرب كما يشرب .. تلبس كما يلبس، وهكذا في كل شئونك، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ودعنا من الأكل والشرب، الصلاة والعبادات ينبغي أن نأتي بها على النحو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها، وإن كان المحبون كـابن عمر الذي كان يبحث عن المكان الذي جلس فيه رسول الله فيجلس فيه، ويبتسم ابتسامة رسول الله، وإذا نظر ينظر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاتباع هو الذي يورث حب الله عز وجل للعبد، واقرءوا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، المشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، فلا رأي، ولا ذوق، ولا منطق، ولا فهم، ولا علم يحملك على أن تتقدم رسول الله وتقدم رأيك وفهمك على رسول الله، فهذا مقتضى العهد الذي أعطيته بنفسك إذ قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قال تعالى: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7].
رابعاً: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] أيضاً: فلا نتقي سوى الله، بم نتقي الله؟ بالحصون العالية؟ بالأسوار الرفيعة؟ بالجيوش الجرارة؟ بم يتقى الله يا عباد الله؟ بالإسلام له، نسلم له أي شيء؟ الوجه والقلب، فأعط وجهك وقلبك لله، وبهذا تكون قد أسلمت لله عز وجل، وبالإسلام اتقيت سخطه وعذابه ونقمه وبلاءه، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41].
لا يصح في صغيرة ولا كبيرة، فلا نخلط أبداً بين الحق والباطل، الحق حق، والباطل باطل، وإن كنا لا نعلم فنفزع إلى كلمة: الله أعلم.
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، أي: ولا تكتموا الحق، وهل يجوز لنا أن نكتم الحق؟ قلنا: لو كان الحق تعلق بأبيك وتقطع يده أو يرجم بالحجارة يجب أن تقول، ولا تكتم الحق.
ومع الأسف حدث أن أصبحنا نتحيز لا للأقارب فقط بل حتى للبلاد: هذا من بلادنا، ويكتم الحق ويدافع عن الباطل؛ لأن هذا مواطن من مواطنينا، فهذه مظاهر الهبوط البعيدة المدى، فيشهد بالباطل؛ لأنه من بلاده أو موطنه.
وأمرهم كذلك بصلاة الجماعة فقال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فهل نحن مبرءون من هذه؟ هذا خاص ببني إسرائيل: صلِّّ في بيتك وفي رحلك؟ لا والله، فلا نتأخر عن صلاة الجماعة إلا لعلة المرض أو الخوف فقط، والمرض يشمل التمريض، فكونه يمرض مريض في بيته ككونه هو مريض، والخائف إما على نفسه في الطريق، أو على ماله يؤخذ منه، أو على بيته يدخل عليه ويسلب ماله في ظروف معينة فقط، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
إذاً: ما كان لهم هو لنا وزيادة، ونحن أحق بهذا.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، أي: بالخير، ولفظ البر شامل لكل خير، ويدخل فيه الإسلام بكل تعاليمه وشرائعه، إذ كان بعضهم يأمر العرب أن يدخلوا في الإسلام، ولم لا يأمرونهم أن يدخلوا في اليهودية؟ لا، لا. اليهودية غالية، ما يريدون شعباً غير شعب بني إسرائيل يدخل معهم.
وإلى الآن هل بلغكم أن اليهود فتحوا مكتباً للدعوة إلى اليهودية في أمريكا .. في بريطانيا .. في أي مكان؟ لا؛ لأنهم يحتفظون بكيانهم من أجل إقامة مملكتهم وسيادة العالم أجمع، فكان منهم من إذا استشاره الأنصار: الأوسي والخزرجي، قال له: لا بأس ادخل في الدين أحسن، وهو كذلك.
وفي نفس الوقت دخول العرب في الإسلام ينفعهم أكثر مما يبقى مشركاً، كافراً جاهلاً يتخبط.
وقد يسألون عن فضائل الأعمال فيرشدون: ادخل .. اعمل .. تصدق .. صل، وهذا حصل بالفعل.
وإلى الآن فيما أعلم أن اليهود المواطنين في بلاد العرب ما كانوا يأمرون الناس بالفسق والفجور، بل كانوا يأمرونهم بالتقوى والطاعة، وعندنا شواهد أنهم كانوا يفضلون المتقي على الفاجر؛ للشعور الديني في نفوسهم، وحسبنا خبر الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، ولفظ البر جامع لكل خير؛ لأن لفظ البِر مأخوذ من البَر الواسع، والبرية الواسعة، فكل خير يدخل تحت كلمة (بر).
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، فلا تأمرونها بالخير.
أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] توبيخ آخر.
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، مع الأسف والحال أنكم تقرءون كتابه الذي يأمر بالبر والخير، و أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، لو كنتم أميين جهلاء ما عندكم التوراة ولا فيها كلام الله قد تعذرون، لكن أنت تقرأ الكتاب، وتجد فيه الأمر بالخير وتأمر الناس به ولا تفعله؛ اتباعاً لشهوتك وهواك أو منصبك ودخلك المالي.
ونحن أيها المسلمون هل يليق بنا هذا؟!
يا فلان! صل وأمر أولادك بالصلاة، وهو لا يصلي ولا يأمر أولاده بالصلاة.
يا فلان! حرام عليك، عيب عليك تبيت والأغاني في بيتك والرقص، فتنهى المؤمن وأنت تبيت ترقص مع أهلك، كيف يكون ذلك؟!
يا فلان! اعف لحيتك، لا تحلق. وهو حالق.
يا فلان! التدخين لا يجوز وعيب، حرام، والسيجارة في جيبه.
هل هذا يليق بنا؟! أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
والشاهد عندنا: أن تفهموا أنه لما عرج به وأسري به ما شاهد العالم الثاني، ولما رجع عائداً مر بعالم الشقاء أو عرض عليه فشاهد أحداثاً عجاباً، ومن ذلك قوله: ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار )، ورأى أيضاً النساء العواهر معلقات من ثُديهن، ورأى العجب، والأحاديث الصحاح هنا وهناك.
( فرأيت رجالاً من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم )، كما هي الآية: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
نعم، وجد خطباء، فصحاء، بلغاء يأمرون بالبر على المنابر، ولا يأتونه خارج المنبر، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والرؤيا حق، ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي برجال تقطع شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار ) تقرض بمقاريض من نار ( فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ ) هو الدليل معه ( فقال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ).
ومعنى هذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! يا من يأمر بالبر! لا تنسَ نفسك إلا إذا عجزت وما قدرت، فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أما أنك تقدر على فعل هذا الخير وتتركه ناسياً نفسك، وتأمر به غيرك، فهذه مزلة ومعرة أيضاً، وصاحبها يستحق اللوم والعتاب، وهذا بلا خلاف بين أهل الإسلام، فإذا أمرت بخير كن السباق، وإذا نهيت عن منكر كن السباق أيضاً إلى تركه، فلا يليق بالمؤمن أبداً أن يأمر بمعروف وهو قادر على فعله ولا يفعله، ولا أن ينهى عن منكر .. عن باطل .. عن شر وهو قادر على تركه ويأتيه إيثاراً لشهوته أو أطماعه في الحياة.
وهنا يروى عن ابن عباس -وهو كلام معقول-: إذا كان لا يأمر بالمعروف إلا من يأتيه، ولا ينهى عن المنكر إلا من تركه، فما بقي إذن من يأمر ولا من ينهى.
لكن هنا لا تتخذ هذه رخصة، فاعلم أنك تأمر وتأتي بالمعروف والبر، لكن إن حدث مرة أنك ما فعلت لعجز قام بك فلا يمنعنك عدم عملك أن تأمر بالمعروف.
مثلاً: جاءت جماعة تشكو الفقر، يريدون طعاماً أو شراباً، فقمت أنت تخطب الناس وتحثهم، فمن الجائز أنك لا تملك ريالاً واحداً، فلا تقل: ما دمت أنا لا أشارك في هذا المعروف فلا أتكلم.
وقد تنهى عن منكر، وهذا المنكر في بيتك وعجزت عن مقاومته أو تغييره، فهل تقول: ما دمت أنا ما استطعت في بيتي فلا أنهى الناس عن المنكر؟ لا ينبغي، وهذا الموقف دقيق.
إذاً: يوبخ ويلام، ويعتب عليه، بل يعذب بعذاب الله إن لم يرحمه الله، فالذي يعرف المعروف ويحث الناس على فعله وهو يتركه مع قدرته عليه، فما تركه إلا لشهوة أو هوى أو لدنيا، كذلك الذي ينهى عن منكر وهو يأتيه ومتلبس به وهو قادر على التخلي عنه والبعد منه، ولكن خضوعاً للشهوة واتباعاً للهوى فلا يتركه، فإن هذا يقرع ويلام ويعتب عليه، وقد يكون من هؤلاء الخطباء.
وفي عرض آخر: ( فرأى النبي صلى الله عليه وسلم النار وفيها رجال تبقر بطونهم .. أمعاؤهم، هم الذين كانوا يأمرون الناس بالبر ولا يفعلون ). فلهذا هذه الآية ألصق بنا من اليهود: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ .
مع العلم أن العلم ضروري للمؤمن، وإلا ما أصبح ولياً لله، فالذي لا يعرف محاب الله، ولا مكارهه، ولا كيف يأتي المحبوب ويترك المكروه كيف تصح ولايته؟ هذا من قبيل المحال، فما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، فلابد للمؤمن والمؤمنة أن يعرف الله -أولاً- بأسمائه وصفاته، وأن يعرف -ثانياً- ما يحب من الاعتقاد والقول والعمل، وأن يعرف كيف يعمل العمل، وكيف يؤديه؛ حتى ينتج له الطاقة النورانية، أي: الحسنات، ولابد أن يعرف ما يكره الله من اعتقاد أو قول أو عمل؛ حتى يتجنب ذلك ويبتعد عنه.
خلاصة القول: ما دام اليهود يلامون، ويعتب عليهم، ويقرعون وهم يتلون الكتاب، فكيف لو كانوا لا يقرءون الكتاب وهم جهلة؟! فنحن أولى بأن نتلوا كتاب الله رجالاً ونساء، ونعرف كلام الله، ومراد الله منه، فليس اليهود بأفضل منا، ولا أقدر على العلم منا.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، على ماذا؟ ما هي الأعمال الشاقة التي تحتاج إلى عون؟ إنها التكاليف، فلن تستطيع أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تجد لك عوناً من الله، بل الظاهر في البلاد التي ليس فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يستطيع المواطن أن يأمر ولا ينهى، ما هناك من يعينه أو يساعده، لكن النفس والشيطان والهوى والدنيا -هذه الأربع- إذا لم يجاهدها عبد الله أو أمة الله يمزق ويخسر كل شيء.
وهل يجاهدها بالحديد والنار؟ لا، هذه معنويات: حب الدنيا .. حب الشهوة .. حب الحياة، ما هو شيء يوجد خارجاً، هو في داخل الإنسان، فبأي شيء تستعين على هذه، فتقهر نفسك وتذلها وتخضعها لطاعة الله ورسوله؟ استعن بالصبر والصلاة، هذا توجيه رباني من العليم الحكيم، العليم الخبير، هو الذي وجه عبده إلى أن يفي بالوعد، وأن يرهب الله ولا يرهب سواه، وأن يتقي الله ولا يتقي سواه، وأن يقول الحق ويظهره، ولا يقول الباطل، ولا يلبسه بالحق، فهذه المواقف يستعان عليها بأي شيء؟ بالصبر والصلاة.
لا تستطيع أن تأمر بالمعرف وتنهى عن المنكر إذا لم تجد عوناً لك من الله، وهو في الصبر والصلاة.
وإذا لم تصبر أن تأمر شخصاً فيسبك ويشتمك فما تعاود أبداً بعد ذلك تأمر ولا تنهى، فكيف إذا صفعك صفعة فلا ترجع بعد ذلك إلى قول المعروف، مع أن عيسى عليه السلام كان يوصي الحواريين يقول لهم: إذا صفعك في خدك الأيمن أعطه خدك الأيسر. أمرته فغضب فصفعك قل له: زد من فضلك، وأعطه الخد الثاني، فإن فعلت هذا ذاب أمامك، ولان لك، واتبعك بما تأمر وتنهى.
إذاً: هذا الموقف وكونك تأمر بالبر، وتدعو إليه، وتقوم به، وتسبق إليه، وأنت السابق، لابد من عون، وإلا ما تقدر، وهو أن تستعين بالصبر والصلاة.
وللصبر ثلاثة مواطن:
الموطن الأول: صبر على الطاعة، وهو ملازمة الطاعة، وعدم التخلي عنها بحال من الأحوال، طاعة من؟ طاعة الله، ورسوله، وأولي الأمر من المؤمنين، وهي مبينة في آية واحدة من النساء؛ لأن الله ورسوله وأمير المؤمنين لا يأمرونك إلا بما فيه خيرك وكمالك وسعادتك، وحاشاهم أن يأمروا بما يخزيك أو يذلك أو يشقيك أو يؤذيك، ثق في هذا، وأمير المؤمنين لا حق له أن يأمر إلا بأمر الله وأمر رسوله، فلهذا ما كرر الفعل، قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأنهم لا يأمرون وينهون إلا بأمر الله ونهيه، فأمرهم ليس استقلالياً حتى يقول: وأطيعوا أولي الأمر، هم فقط يأمرون بأمر الله، وينهون بنهي الله، وأمر رسول الله، ونهي رسول الله، فيجب أن يطاعوا، فهذه الطاعة تحتاج إلى عون وهو الصبر، فلا تتململ ولا تجزع ولا تتذمر، اثبت على العبادة.
الموطن الثاني: الصبر عن المعاصي.
اصبر عن المعصية، أي: ابتعد عنها، أي: احبس نفسك هنا والمعصية بعيدة عنك، فلا تسمح لنفسك أن تقرب معصية الله ورسوله، احبسها، إذ الصبر معناه الحبس، يقال: قتلوه صبراً، أي: حبسوه ثم قتلوه. فاحبس نفسك بعيداً عن مواطن الخبث .. عن مواضع الشر والسوء والباطل والفساد، ولا تسمح لها أن تدخل في تلك المواطن.
الموطن الثالث: الصبر على المصائب .. على المصاعب .. على النوائب .. على الكروب والشدائد، إذ أنت يا عبد الله عرضة لأن يمتحنك الله بفقد أعز ما عندك أو بأفضل ما تملك، أو .. أو.. امتحاناً لك، فإن صبرت وشكرت رفعك وأعلى شأنك، وإن أنت انهزمت، فضجرت، وسخطت على الله، وأنكرت حكمه وقضاءه، فكان من أول الأمر أنك لست بأهل للكمال، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، هذا الحسبان باطل، فلابد من الافتتان والفتنة، فقط كونك تغتسل في الليلة الباردة بالماء البارد إذ لم تجد ما تسخن به، هذا ابتلاء.
وكونك تدعى إلى أن تجاهد بنفسك ومالك إذا حل الجهاد ووجب، أليس هذا هو الابتلاء؟
كونك تغلق دكانك، وتأتي إلى بيت ربك لتشهد صلاة الجماعة، أليس هذا ابتلاء؟
تمر بك امرأة فتغمض عينيك ولا تفتحهما لتراها، أليس هذا ابتلاء؟
وهكذا.. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، هذا الحسبان والظن باطل، ولابد من الابتلاء.
إذاً الموطن الأخير من مواطن الصبر: هو الصبر على البلاء، فلا جزع أبداً، ولا سخط على الله، ويكفيك أن تقول: ما شاء الله كان أو حسبي الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو إنا لله وإنا إليه راجعون إذا كانت مصيبة موت، أما أن تظهر السخط والاستنكار: لم فعل الله بي هذا؟ لماذا كذا؟ فهذا معناه هزيمة كاملة، ما صبر.
من هم الذين يستعينون بالصلاة؟
اسمع يا هذا! الذي يستعين بالصلاة هو ذاك الذي إذا تطهر، واستقبل بيت الله، ووقف بين يديه، وقال: الله أكبر، نسي الحياة كلها، والله أحياناً لا يشعر بالدنيا عن يمينه وشماله، فلا يشعر أن عن يمينه شخصاً أو عن يساره، أو أمامه أو وراءه، ينسى هذا الكون كله، ويتصل بالملكوت الأعلى، وإذا العينان تذرفان الدموع، ويقشعر الجسم، وهو كأنه في غير هذه الحياة، وهذه الحال لا يبقى معها ألم، ولا تعب، ولا خوف، ولا هم، ولا كرب، ولا حزن، ولا ولا..
ولهذا قال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، كبيرة إلا على الخاشعين، وليس معنى هذا أني أويئسكم أيها الأبناء! لا والله، باب الله مفتوح، فقط لما تتوضأ تذكر: لم توضأت؟ لما تأتي إلى المسجد: لم أتيت؟ لما تقف في مصلاك، في بيتك أو مسجدك: لمن وقفت؟ اذكر الله ولا تنس أنك له، فإذا وقفت بين يديه وقلت: الله أكبر فقد انقطعت عن الحياة كلها، وأصبحت تتحدث مع الله في ركوعك .. في سجودك .. في تلاوتك.
هذه الحال التي تدوم للمؤمنين والمؤمنات؛ لأنهم في الصلاة دائماً خمس مرات رسمية في الأربع والعشرين ساعة، وقد قلت لكم: طاقة السيارة، وطاقة الطيارة، والباخرة أليست نوراً؟ أليست كهرباء؟ فإذا ضعفت تقف السيارة أو ما تقف؟ تقف، ادفعوها أيها الرجال، وكذلك هذه الآلات تندفع بهذه الطاقة، فعبد الله أو أمة الله إذا ضعفت هذه الطاقة من نفسه فشل، والله يعجز أن يأمر بكلمة معروف عجزاً كاملاً، لا يستطيع أن ينزع خاتم ذهب من يده، وهو لا ينفعه بشيء، والله لا ينفع بشيء، بل ينتفع به لو باعه واشترى خبزاً لأهله، لا يستطيع أن ينزع هذا الخاتم، والمؤمن الذي رآه الرسول في يده الخاتم فقال: ( أيعمد أحدكم إلى جمرة فيجعلها في أصبعه )، فنزع خاتم الذهب ورماه في الأرض، ومشى الرسول بعد ما أمر ونهى فقيل: ( يا فلان! خذ هذا الخاتم تنتفع به في بيتك، قال: والله ما كنت لآخذه وقد نزعه الرسول صلى الله عليه وسلم ).
ذاك الشاب الذي راود ابنة عمه في بني إسرائيل، فأبت تلك المؤمنة عليه سنة كاملة حتى ألجأتها الضرورة والجوع، فخافت أن تموت من شدة الجوع، وقد كانت المجاعة غير أيامكم هذه، فلما وقفت ذلك الموقف دعته ليأخذ حاجته منها، فلما جلس منها مجلس الرجل من زوجته نظرت إليه وقالت: أما تخاف الله، تفتض خاتماً بغير حقه. فقام ترتعد فرائصه، والدموع تذرف، وترك لها المال، وذهب بعيداً عنها. هذا من أعانه على هذا؟ الخشوع في الصلاة، الاستعانة بالصبر والصلاة.
ولا نذهب بعيداً إلى بني إسرائيل، هنا في مدينتنا هذه، ممكن أن يكون الآن داخل المسجد، كان في سوق التمر تمار يبيع، فجاءت امرأة مجاهد من الصحابة، ما وجدت من يشتري لها التمر لأولادها، فتلففت في خمارها وردائها وذهبت إليه، فقالت: أعطني صاع تمر أو إردب. فأعطاها وأخرجت الفلوس بيدها، وقد كان كفها أبيض، فالشيطان ألقى مسحة على ذلك الكف كأنه فلقة من قمر، وما شعر ذاك التمار -رضي الله عنه- إلا وقد أكب عليه يقبله، فنفضت يدها وقالت: أما تخاف الله؟! ففقد الرجل أعصابه، ومن السوق يصرخ بأعلى صوته ويحثو التراب على رأسه إلى أحد من غير شعوره، ثم عاد من أحد كذلك، ودخل المسجد قبل صلاة المغرب، فسأل عمر فطرده، فصبر حتى صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين المغرب، فقال الرجل كذا وكذا. فقال: ( هل صليت معنا صلاتنا هذه؟ قال: نعم. فقال: إن الحسنات يذهبن السيئات )، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، هذا الرجل ماذا فعل؟ زنى؟ لا والله، قتل مؤمناً؟ لا والله، سلب مالاً؟ لا أبداً، قبَّل هذه اليد في غير شعور، فالعدو غطاه وغشاه بالظلمة، فأكب يقبل هذه اليد، وهي لا تحل له.
وَاسْتَعِينُوا [البقرة:45]، أيها المجاهدون المحاربون للدنيا والهوى والشهوة العارمة والشيطان اللعين، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، هذا إرشاد الله عز وجل وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
ومن سمات الفائزين وآيات الناجحين: أن أحدهم لا ينسى الموت أبداً، تجده يأكل .. يشرب .. يبتسم .. يضحك وهو يذكر الموت، وقد جعل تعالى هذا ميزة للشرفاء وأهل الكمال إذ قال تعالى من سورة (ص): إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، قراءة نافع ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ ، أي دار هذه؟ في الرياض أو في جدة، ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بهذه الخصوصية وهي: ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، فما ينسى أحدهم الدار الآخرة أبداً، إذا كان هذا دائماً نصب عيني العبد لا يستطيع أن يكب على معصية ويباشرها، إلا ما قل وندر، حين الغفلة أو استغلال العدو لنسيانه.
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46]، راجعون أو لا؟ والله لراجعون، أحببنا أم كرهنا، وها نحن ندفن إخواننا كل يوم، واحداً بعد واحد، والله لا يبقى واحد إلا الواحد الأحد، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر